إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد
فإن الرد على المخطئين فيما أخطئوا به وبيان حالهم بما تقتضيه الأدلة الشرعية هو من أعظم النصيحة للمسلمين عامةً وللمخطئ خاصة
وهو من أكبر النصرة –له- بالحق فإن انتشار خطأ المخطئين واتباع الناس لهم على ضلالهم يحملهم أوزاراً فوق أوزارهم ويضيف إليهم آثاماً فوق آثامهم
قال الله تعالى {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
وقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلًا .
وأخرج أبوداود في سننه –وقد سكت عنه- من حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ».
والمقصود أنه متى ما عرف الناس انحرافه واستبان لهم بطلان أقواله تركوا القول بباطله وبالتالي يخفف عنه ما كان يحمل وهذا لا شك أنه خير له في الآخرة والأولى .
وقد ذُكر عن يوسف بن أسباط أنه تكلم في رجل فقال : أما تخشى الله في الكلام فيه ؟ قال : ويحك نحن أبرّ بهم من آبائهم وأمهاتهم نحن نرد الخطأ عنهم حتى لا يتبعهم غيرهم .
والرد عليه –أي المخطئ- من أكبر النصرة له وإيصال الخير إليه .
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا .
فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟
قَالَ : تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ
وأخرج الإمام أحمد في الزهد –كما في المطالب العالية- بإسناد صحيح عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ الْمُسْلِمَ مِرْآةُ أَخِيهِ يُرِيهِ مِنْهُ مَا لَا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ .
وانطلاقاً مما تقدم أقول قد أرسل أحد الإخوة لي تعليقاً للأخ محمد العنجري –هداه الله- قام بنقله عنه المدعو سلطان السبيعي –تلميذه- في أحد (تغروداته) يقول سلطان فيها : قال شيخنا أبوعثمان محمد العنجري : الحق والعدل لا يقاس بالعقل ولكن يقاس بموافق (1) الشرع وبما أنزل على النبي عليه الصلاة والسلام . ا. هـــ
فأقول –هذا النقل إن كان ثابتاً- فهو غير صحيح ألبته ، فإن ظاهر قوله (العدل لا يقاس) أنه يريد بذلك : أي لا يعرف بدليل سياق كلامه فإنه قال بعد ذلك (يقاس بموافق الشرع) أي يعرف بموافقة الشرع فقط دون العقل (!)
وإن كان يريد معنىً آخر فاللفظ (( على أحسن أحواله )) مجمل محتمل ومن طريقة أهل الحق الوضوح في القول والفرقان في التعبير .
وعلى كل إن أراد المعنى الأول –كما هو ظاهر السياق- فقوله باطل ومخالف لما عليه معتقد أهل السنة وموافق لقول الأشعرية وبيان ذلك :
أن القول في العقل وأنه لا يعرف به العدل –والعدل من معاني الحسن(2)- قول الأشعرية فإنهم زعموا أن التحسين والتقبيح مرجعه إلى الشرع وحده فلا يعرف حسن الأشياء ولا قبحها ألبته إلا بما ورد في الشريعة وبناءاً على ذلك فهؤلاء يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين ، ويقولون لو أمر الله بالشرك لكان حسناً ولو نهى عن التوحيد لكان قبيحاً لأن مرد ذلك إلى الشرع (!)
ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر ولا بين الصدق والكذب ولا بين السفاح والنكاح إلا أن الشارع حرم هذا وأوجب هذا (!)
فمعنى حسنه كونه مأمورا به لا أنه منشأ مصلحة ومعنى قبحه كونه منهيا عنه لا أنه منشأ مفسدة ولا فيه صفة اقتضت قبحه
ومعنى حسنه أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة ولا فيه صفة اقتضت حسنه .(!)
وهذا القول قول باطل مخالف لما كان عليه السلف الكرام ، بل الحسن والقبح يثبتان بالعقل والشرع ولكن العقوبة والعذاب متوقفة على بلوغ الشريعة كما نص على ذلك الأئمة ، وذلك بدلالة الكتاب الكريم وإجماع سلف الأمة ..
قال الله تعالى { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون}
قال شيخ الإسلام الثاني -ذاك العالم الرباني- العلامة ابن القيم في المدارج (1-233) : فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشة قبل نهيه عنه وأمر بإجتنابه بأخذ الزينة والفاحشة ههنا هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء غير قريش ثم قال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء أي لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطر ولو كان إنما علم وإنه لا معنى لكونه فاحشة إلا تعلق النهي به لصار معنى الكلام إن الله لا يأمر بما ينهى عنه وهذا يصان عن التكلم به آحاد العقلاء فضلا عن كلام العزيز الحكيم وأي فائدة في قوله إن الله لا يأمر بما ينهى عنه فإنه ليس لمعنى كونه فاحشة عندهم إلا أنه منهي عنه لا أن العقول تستفحشه !
وقال تعالى { قل أمر ربي بالقسط}
قال ابن القيم أيضاً : والقسط عندهم هو المأمور به لا أنه قسط في نفسه فحقيقة الكلام قل أمر ربي بما أمر به .
وقال تعالى { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }
قال ابن القيم : دل على أنه طيب قبل التحريم وأن وصف الطيب فيه مانع من تحريمه مناف للحكمة ....
إلى أن قال رحمه الله : وكم في القرآن من مثل عقلي وحسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه
فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى ولكان إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي دون ضرب الأمثال وتبيين جهة القبح المشهودة بالحسن والعقل
والقرآن مملوء لهذا لمن تدبره
كقوله تعالى {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون}
يحتج سبحانه عليهم لما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه ولا يرضى بذلك فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي
وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك
وكذلك قوله تعالى {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون}
احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له فهل يصح في العقول استواء حال العبدين فكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق لا يستويان .ا.هــ المراد
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (6-611) : هم (أي الأشاعرة) نفوا التحسين والتقبيح العقلي وجعلوا أحكام الأفعال لا تتلقى إلا من الشرع فإنه بين بذلك تعظيمهم للشرع واتباعهم له
وأنهم لا يعدلون عنه ليثبت بذلك تسننهم
وهذا الأصل هو من الأصول المبتدعة في الإسلام لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها أن العقل لا يحسن ولا يقبح أو أنه لا يعلم بالعقل حسن فعل ولا قبحه بل النزاع في ذلك حادث في حدوث المائة الثالثة ... ا.هــ
وقال أيضاً رحمه الله في المجموع (8-433) عن قول الأشاعرة أنه : قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ: {إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقَالَ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَعَلَى قَوْلِ الْنُّفَاةِ: لَا فَرْقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ الْآخَرِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالْمَعْقُولِ .
وقال رحمه الله في الدرء (4-332) : (وقالت طائفة) بل هي (أي الأعمال) متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم ولكن لا يعاقب أحدا إلا بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وفي قوله : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }
وقال تعالى لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }
وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم ...
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم . ا.هــ
فنفي معرفة (العدل=الحسن) بالعقل هو من لوثات الأشعرية فليتنبه إلى ذلك .
وليُعلم أيضاً أن العقل الصريح لا يخالف أبداً النقل الصحيح وقد بسط ذلك شيخ الإسلام هذه المسألة في ذاك السفر العظيم (درء تعارض العقل والنقل) فليراجعه من شاء .
هذا وصل اللهم على محمد وصحبه
[يتبع إن شاء الله]
______________________________
(1) كذا قال
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع (8-434) : كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعَدْلَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ وَالظُّلْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَسَادِهِمْ فَهَذَا النَّوْعُ هُوَ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ وَقَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ قُبْحُ ذَلِكَ ... أ.هــ المراد
تعليق