بيان مافي كتاب تنقلات الأنوار لشيخ الاسلام ابن تيمية
إن كتاب [ تنقلات الأنوار ] المنسوب إلى أحمد بن عبد الله البكري من أعظم الكتب كذبًا وافتراء
على الله ورسوله وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد افتري فيه من الأمور من
جنس ما افتراه المفترون في سيرة دلهمة والبطال ، وسيرة عنترة ، وحكايات الرشيد ووزيره جعفر
البَرْمَكِي ؛ وحكايات العيارين . مثل : الزئبق المصري ، وأحمد الدنق ، ونحو ذلك . لكن هؤلاء
يفترون الكذب على من ليس من الأنبياء ؛ وصاحب الكتاب الذي سماه [ تنقلات الأنوار ] يفتري
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه ، ويكذب عليه كذبًا لا يعرف أن أحدًاكذب
مثله في كتاب ، وإن كان في بعض ما يذكره صدق قليل جدًا ، فهو من جنس ما في سيرة عنترة
والبطال ، فإن عنترة كان شاعرًا فارسًا من فرسان الجاهلية ، وله شعر معروف ، وقصيدته إحدى
السبع المعلقات ، لكن افتروا عليه من الكذب ما لا يحصيه إلا الله ، وكل من جاء زاد ما فيها من
الأكاذيب .
وكذلك أبو محمد البطال كان من أمراء المسلمين المعروفين ، وكان المسلمون قد غزوا القسطنطينية
غزوتين :
الأولى : في خلافة معاوية ، أمر فيها ابنه يزيد ، وغزا معه أبو أيوب الأنصاري ، الذي نزل النبي
صلى الله عليه وسلم في داره لما قدم مهاجرًا إلى المدينة ، ومات أبو أيوب في تلك الغزوة ودُفن إلى
جانب القسطنطينية ، وقد روي البخاري في صحيحه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم ، أنه قال : ( أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له ) .
والغزوة الثانية : في خلافة عبد الملك بن مروان ، أَمَّرَ ابنه مَسْلَمة أو خلف الوليد ابنه ، وأرسل
معه جيشًا عظيمًا وحاصروها وأقاموا عليها مدةً سنين ، ثم صالحوهم على أن يدخلوها ، وبنوا فيها
مسجدًا ، وذلك المسجد باقٍ إلى اليوم ، فجاء الكذابون فزادوا في سيرة البطال وعبد الوهاب من
الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله ، وذكر دلهمة والقاضي عَقِبه ، وأشياء لا حقيقة لها .
والبكري صاحب [ تنقلات الأنوار ] سلك مسلك هؤلاء المفترين الكذابين ، لكن كذبه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه -أفضل الخلق بعد النبيين- أكثر ، وفيه من أنواع الأكاذيب
المفتريات ، وغرائب الموضوعات ما يجِلُّ عن الوصف ، مثل حديث السبع حصُون ، وهضام بن
جحاف ، ومثل حديث الدهر ، ورأس الغول ، وكلندجة ، وغير ذلك من كتبه ، وغير ذلك من ذكر
أماكن لا وجود لها ، وغزوات لا حقيقة لها ، وأسماء ومسميات لا يعرفها أحد من أهل العلم ،
ورواية أحاديث تخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ، وتخالف ما تواتر عن النبي صلى
الله عليه وسلم .
وفيها من الأقوال والأفعال المضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما برأه الله منه ، وهي
من جنس أحاديث الزنادقة النصيرية وأشباههم ، الذين يختلقون ما فيه غلو في على وغيره ، وفيه
من القدح في دين الإسلام والإفساد له ما يوجب إباحة دم من يقول ذلك ، وإن كان جاهلًا استتيب ،
فإن تاب وإلا قتل .
وأقل ما يفعل بمن يروي مثل هذا أن يعاقب عقوبة تردعه عن مثل ذلك ، وكذلك يستحق العقوبة من
يكْرِيها لمن يقرأها ويصدق ما فيها ، ومن ينسخها أيضًا كذلك .
ويجب على أهل العلم إظهار ما يعلمون من كذب هذه وأمثالها ، فكما يجب بيان كذب ما نقل عنه في
الأحاديث كأحاديث البخاري يجب بيان كذب ما كذب عليه من الأحاديث الموضوعة التي يعلم أنها كذب
، كما بين أهل العلم من حال من كان يكذب عليه من الرواة وبيان ما نقل عنه من الكذب الذي
يعلمون أنه كذب ، وكثير من الموضوعات إنما يعلم أنها موضوعة خَوَاصُّ أهل العلم بالأحاديث ،
وأما مثل ما في [ تنقلات الأنوار ] من الأحاديث فهو مما يعلمه من له أدني علم بأحوال الرسول
ومغازيه أنه كذب . وعلى ولاة الأمور عقوبة من يروي هذه أو يعين على ذلك بنوع من أنواع
الإعانة ، ولولي الأمر أن يحرقها ،فقد حرق عثمان رضي الله عنه كتبًا هذه أولى بالتحريق منها ،
والله أعلم .
مجموع فتاوي ابن تيمية