• If this is your first visit, be sure to check out the FAQ by clicking the link above. You may have to register before you can post: click the register link above to proceed. To start viewing messages, select the forum that you want to visit from the selection below.

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

توضيح الإشكالات حول الحكم على الظاهر وضابط البينات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • توضيح الإشكالات حول الحكم على الظاهر وضابط البينات








    توضيح الإشكالات
    حول الحكم على الظاهر وضابط الب
    تقديم فضيلة الشيخين

    أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني حفظه الله
    أبو عبد الله زايد بن حسن العمري الوصابي حفظه الله


    تأليف الفقير إلى الله:
    أبي فيروز عبد الرحمن بن سوكاني الإندونيسي
    بدار الحديث بدماج


    




    جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
    اسم الكتاب: توضيح الإشكالات حول الحكم على الظاهر وضابط البينات
    اسم المؤلف: أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي.
    مقاس الكتاب: 17 x 24 سم.
    عدد صفحات الكتاب: (100) صفحة.
    الطبعة: الأولى /1433 هـ.

    
    تقديم فضيلة الشيخ
    أبي عبد الله محمد ابن حزام البعداني
    حفظه الله

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
    فقد قام أخونا الفاضل الداعي إلى الله عز وجل أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي حفظه الله ووفقه على كل خير بتأليف كتاب مفيد سماه: «توضيح الإشكالات حول الحكم على الظاهر وضابط البينات» .
    وقد بذل فيه جهدا مباركا وأورد فيه نقولات مفيدة لأهل العلم، فجزاه الله خيرا ونفع به وبكتابه، وثبتنا الله وإياه على دينه حتى نلقاه.

    كتبه
    أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني
    يوم الخميس الموافق 20 جمادى الأولى 1433 هـ

    
    تقديم فضيلة الشيخ
    أبي عبد الله زايد بن حسن الوصابي
    حفظه الله

    الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
    فلقد تصفحت رسالة «توضيح الإشكالات حول الحكم على الظاهر وضابط البينات» لأخينا الفاضل أبي فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي حفظه الله ووفقه، فرأيتها رسالة مفيدة طيبة، أسأل الله تعالى أن يبارك فيه وفي علمه، وأن ينفع به.

    كتبه
    أبو عبد الله زايد بن حسن بن صالح الوصابي
    بتاريخ 15 جمادى الثانية 1433 هـ

    

    مقدمة المؤلف

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه
    وآله وسلم، أما بعد:
    فإن أهل الباطل عند ضعفهم كتموا أباطيلهم وأظهروا موافقتهم للحق مكرا وذرا للرماد في أعين من غفل، مع تربص فرصة للسع المخدوعين. قال الإمام البربهاري رحمه الله: مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون . ("طبقات الحنابلة"/2/ص 44/ترجمة الإمام حسن بن علي البربهاري/دار المعرفة).
    وقد نجحوا في بعض الأماكن بسبب ضعف تيقظ أهلها وقلة فقههم.
    ولكن الله بلطفه قد نصب للأباطيل أمارات وعلامات يستدل بها عليها أهل الحق والفطنة. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالمنافق لا بد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره،... إلخ ("مجموع الفتاوى" / 14 / ص 110).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه وتبينه. قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون﴾. [النحل: 15، 16]
    ونصب على القبلة علامات وأدلة، ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة، -إلى قوله:- والآية مستلزمة لمدلولها لا ينفك عنها فحيث وجد الملزوم وجد لازمه فإذا وجدت آية الحق ثبت الحق ولم يتخلف ثبوته عن آيته وأمارته فالحكم بغيره حينئذ يكون حكما بالباطل. وقد اعتبر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه من بعده العلامات في الأحكام وجعلوها مبينة لها. ("الطرق الحكمية"/ص 116/دار الأرقم).
    فما أحسن هذا القول، وما أنفعه، فالناس يحتاجون إلى معرفته وتطبيقه حتى توضع الأمور مواضعها فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
    ولكن بعض الناس لقلة انتباهه أسرع ما ينخدع بالمتسترين من أهل الباطل تحت ستار: (الحكم على الظاهر). إن القاعدة حق، ولكن المصيبة العظيمة حصلت عند التطبيق، حيث اقتصر على النظر إلى حلاوة الأقوال ولم يعتبر بقبح الأفعال، فمثله كمثل رجل ضربه شخص مراراً قائلا: (إني أحبك كثيرا)، فقال وهو تحت الضرب: (هذا الرجل يحبني).
    إن هذا ليخالف الشرع والعقل، فلا بد من توضيح هذه القاعدة الشرعية لينزل كل إنسان منزلته بلا شطط ولا وكس، والتوفيق من عند الله، وأمرنا بإفراغ الطاقة في التسديد والمقاربة ما استطعنا.
    ثم إن بعض أهل الأهواء يزعمون أن السلفيين في كثير من القضايا لا يأتون بالبينات على اتهامهم شخصا بالبدعة. ولم يقبلوا بيان أهل السنة المؤيد بالبينات والبراهين. فلا بد لي من الكلام في تعريف "البينة" وضابطها لأن أناسا قصروا في فهمها فحصروا دائرتها فيردون بسببه الحق وينصرون من أجله الباطل وهم لا يشعرون. وألحقت البحث بالرد على بعض الناس الذين قالوا: (إن حديث: «الرجل على دين خليله» وكذلك قاعدة: "الطيور على أشكالها تقع" ليس على إطلاقه!) حماية لمن أصرّ على مجالسة أهل الأهواء بعد النصائح.
    فأسأل الله عز وجل أن ينفعني وغيري بهذه الرسالة القصيرة، في ميادين العلم والحياة، وأن يجعلها من خير ما يدخر لصاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إنه غفور شكور.
    وأشكر شيخنا الفاضل أبا عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني حفظه الله ورعاه على الاهتمام في تحسين هذه الرسالة.
    وأشكر شيخنا الفاضل أبا عبد الله زايد بن حسن العمري الوصابي حفظه الله ورعاه على بذله بذله الجهد والنصح في تقويم هذه الرسالة.
    وأشكر شيخنا الفاضل أبا حمزة محمد بن الحسين العمودي حفظه الله ورعاه على مراجعته لهذه الرسالة.
    ثم أشكر لإخوتنا الفضلاء أبي عمر أحمد رفاعي، وأبي صالح مصلح الجاوي، وأبي يوسف رضوان الأمبوني الإندونيسيين حفظهم الله ووفقهم على عونهم.
    وإلى الموضوع:

    الباب الأول:
    قاعدة: الحكم على الظاهر


    إن بعض الناس يتساهلون في معاملة أهل الأهواء، وإصغاء الأسماع إلى أقوالهم، ومجالستهم بعلة أنهم أظهروا خيرا، والحكم( ) على الظاهر. ويجعلون هذه القاعدة( ) ترسا في الإعراض عن بيان بعض السلفيين الذين جاءوا بالبراهين على قبح أفعال أهل الأهواء. فلا بد من توضيح هذه القاعدة لننزل الأشياء منازلها.
    الفصل الأول: تعريف الظاهر
    فالظاهر لغة: هو الواضح( ). وظاهر الشيء هو المرتفع منه وأعلاه( ).
    الظاهر ضدّ الباطن، وهو المراد في هذه القاعدة: "الحكم على الظاهر". قال الإمام النووي رحمه الله: وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك، ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر. ("شرح صحيح مسلم"/12 /5).
    والظاهر في اصطلاحنا هنا هو ما قاله الشيخ أحمد بن محمد الزرقا رحمه الله: وأما الظاهر: وهو الحالة القائمة التي تدل على أمر من الأمور. ("شرح القواعد الفقهية" /للزرقا/1/ص 51).
    وهذه الحالة تختلف باختلاف بانيها من العلامات والقرائن. قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق وما يضاف إليه الكلام. ("شرح القواعد المثلى" /القاعدة الرابعة/ص192/دار الحديث).
    فقلنا – وبالله التوفيق-: فكذلك ظاهر الإنسان هو ما يتبادر منه إلى ذهن المتأمل من المعاني، وهو يختلف بحسب أقواله، وأفعاله، وأحواله. فالقرائن والعلامات والأمارات( ) تبني الظاهر وتدل عليه.
    الفصل الثاني: أقسام الظاهر
    اختلفت عبارات العلماء في ضوابط الظاهر وأقسامه، وإنما نتكلم في هذا الموضوع فيما يتعلق بقاعدة: "الحكم على الظاهر". ولما كان الظاهر المراد في هذه القاعدة هو الأمر الواضح ضدّ الباطن، فوضوح هذا الظاهر ينقسم على قسمين: ما بلغ حد الجزم واليقين( )، وما بلغ حد الظن فقط. فالظواهر تختلف على حسب قوة القرينة( ) التي تبنيها.
    قال الشيخ أحمد بن محمد الزرقا رحمه الله في أقسام الظاهر: فهو قسمان: القسم الأول هو ما لم يصل في الظهور إلى درجة اليقين. والقسم الثاني هو الذي وصل فيه إلى درجة اليقين. ("شرح القواعد الفقهية" /للزرقا /1 / ص 51).
    القسم الأول: الظاهر الذي بلغ درجة الظن
    هذا يتناول ما ذكره بعض الأصوليين: ما يحتمل معنيين أو أكثر مع رجحان أحدهما. وهو الذي قاله الإمام برهان الدين محمود بن أحمد ابن مازه البخاري (المتوفى سنة 616 ) رحمه الله: الظاهر لا يخلو عن نوع احتمال وشبهه. ("المحيط البرهاني" /لمحمود البخاري /8/ص 557).
    وهذا الظاهر ظني، ينبني عليه الحكم إذا لم يوجد ما هو أقوى منه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والظني لا يدفع به النص المعلوم لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن ويقدم عليه الظن الذى هو أقوى منه. ("مجموع الفتاوى"/19/ 268).
    ومثاله ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن ذلك: أن الناس - قديما وحديثا - لم يزالوا يعتمدون على قول الصبيان المرسل معهم الهدايا، وأنها مبعوثة إليهم، فيقبلون أقوالهم، ويأكلون الطعام المرسل به، ويلبسون الثياب، ولو كانت أمة لم يمتنعوا من وطئها، ولم يسألوا إقامة البينة على ذلك؛ اكتفاء بالقرائن الظاهرة.-إلى قوله:- ومن ذلك: أنه إذا استأجر دابة، جاز له ضربها إذا حرنت في السير، وإن لم يستأذن مالكها. ومن ذلك: أنه يجوز له إيداعها في الخان، إذا قدم بلدا، وأراد المضي في حاجته، وإن لم يستأذن المؤجر في ذلك. ومن ذلك: إذن المستأجر للدار لأصحابه وأضيافه في الدخول والمبيت، وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة، ومن ذلك: غسل الثوب الذي استأجره مدة معينة إذا اتسخ، وإن لم يستأذن المؤجر في ذلك. ("الطرق الحكمية"/ص44-47/دار الأرقم).
    نعم، الظواهر التي لم تبلغ درجة القطع لا تكون حكماً على إراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ولكن تجوز في معرفة عقيدة شخص وديانته، على حسب قوة الدلالة.
    قال فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله في رده على أبي الحسن المأربي: فلا يجوز لأحدٍ أن يستبيح دم إنسانٍ على مفهوم( ) قول لا يدري ما نية صاحبه فيه، ولا على كلام محتمل يحتمل أكثر من معنى، فلا يجوز في مثل هذا إزهاق روح القائل أو سفك دمه أو بتر عضو من أعضاءه بسبب من هذه الأسباب، وإنَّ القتل الذي هو إزهاق النفس، واستباحة الدم لايجوز إلاَّ على أمرٍ واضحٍ غاية الوضوح.
    أمَّا الاستدلال عليه بما فهم من حاله أي من فحوى كلامه أو غير ذلك من العلامات، والقرآئن بأنَّه منافق أو بأنَّه مبتدع، فهذا لا مانع منه، وما موَّه به أبو الحسن في شرح حديث أسامة ليدافع به عن أصحاب المناهج المبتدعة الذين يدعون متابعة السنة، والمنهج السلفي، وهم كاذبون في ذلك، فهو باطل لما بينته، والأخذ بالدلائل والقرآئن المفهومة من فحوى الكلام أو من حالة العبد أيًّا كانت فهي مأخوذة في الاعتبار، ودالة على صدق التهمة إذا فهم صدقها بالقرائن، لكن لا يستباح بذلك إزهاق نفسه ولا قطع عضوٍ منه كالسارق مثلاً إذا عرف بالقرائن أنَّه سرق، لكن لَم يعترف بذلك صراحة، ولَم يثبت ذلك عليه ببينة، فإنَّه لا يستباح منه قطع اليد بمفهوم كلامٍ أو احتمال فيه أو قرينة كما وضحته، وبالله التوفيق( ) اهـ. ("الفتاوى الجلية"/2/ص207-209/دار المنهاج).
    هذا البيان كاف في الرد على بعض أهل الأهواء الذين قالوا لأهل السنة: (إنما اتبعتم ظنا!). بل الظن المبني على علامات قوية جائز الاستدلال به ما لم يعارضه ما هو أقوى منه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فقد تبين أن الظن له أدلة تقتضيه، وأن العالم إنما يعلم بما يوجب العلم بالرجحان لا بنفس الظن إلا إذا علم رجحانه. وأما الظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز اتباعه وذلك هو الذي ذم الله به من قال فيه: ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾ فهم لا يتبعون إلا الظن ليس عندهم علم. ("مجموع الفتاوى"/13/ص 120).
    وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: إن الظن الذي ذمه الله هو الظن الذي لم يبن على قرائن، ولهذا لم يجعل الله الظن كله إثما، بل قال: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12] –إلى قوله:- لأنه ليس كل مسألة يمكن فيها الوصول لليقين، وإذا لم يمكن اليقين فلا ندع عباد الله بلا حكم من شريعة الله. ولكن نحكم بما يغلب على الظن ، ونحن في هذا لم نتبع الظن، بل أخذنا بقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وهذا وسعنا. ("شرح الأصول من علم الأصول"/79-80/دار ابن الهيثم).
    وهذا الذي رجحه الإمام مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله، ونقل كلام الإمام محمد الصنعاني رحمه الله( ): ... وذلك لما تقرر في الفطرة، وقررته الشريعة أن لا عمل إلا براجح يستفاد من علم أو ظن. وأما الظن الذي بمعنى الطرف الراجح فهو متعبد به قطعا، بل أكثر الأحكام الشرعية دائرة عليه، وهو البعض الذي ليس فيه إثم المفهوم من قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12] –إلى قوله:- فهذا كله عمل بالظن الراجح الصادر عن أمارة صحيحة. ("المصارعة"/للإمام الوادعي/233-234/مكتبة صنعاء الأثرية).
    القسم الثاني: الظاهر الذي يبلغ درجة اليقين
    إن بعض الدلالات يبلغ بها الظاهر إلى مستوى الجزم( ) فلا يبقى فيه الريب. هذا هو العلم المثمر لليقين( ).
    مثال الظاهر الذي يبلغ حد اليقين ما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهل يشك أحد في أن كثيرا من القرائن تفيد علما أقوى من الظن المستفاد من الشاهدين بمراتب عديدة. فالعلم المستفاد من مشاهدة الرجل مكشوف الرأس( ) وآخر هارب قدامه وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة، فالعلم بأن هذه عمامة المكشوف رأسه كالضروري، فكيف تقدم عليه اليد التي إنما تفيد ظنا ما عند عدم المعارضة. وأما مع هذه المعارضة فلا تفيد شيئا سوى العلم بأنها يد عادية فلا يجوز الحكم بها البتة. ولم تأت الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها البتة. ("بدائع الفوائد"/3 /635).
    وقال أيضا رحمه الله: وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مـسرجة ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبه في العادة، ووراءه أمير ماش، أو من ليس من عادته المشي، فإنا نقطع بأن يده مبطلة. وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه، وليس من أهلها كما إذا رئي معه القماش والجواهر ونحوها، مما ليس من شأنه، فادعى أنه ملكه وفي يده: لم يلتفت إلى تلك اليد. ("الطرق الحكمية"/ص135-136/دار الأرقم).
    وقال رحمه الله: كـمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب، مع عدم سطوته وشوكته، فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق - وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة. هذا مذهب أهل المدينة مالك وأصحابه، وهو الصواب. ("الطرق الحكمية"/ص136/دار الأرقم).
    وقال رحمه الله: وهل يشك أحد رأى قتيلا يتشحط في دمه، وآخر قائما على رأسه بالسكين: أنه قتله؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينا أن ذلك الرجل قتله، ثم قال مالك وأحمد: يقتل به. وقال الشافعي: يقـضى عليه بديته. ("الطرق الحكمية"/ص33/دار الأرقم).
    هذه الظواهر لقوتها تثمر اليقين عند مَن شهدها أو سمعها، ولكن ليس بمعنى أنها الحق المطابق للواقع عند الله، وإنما نحن ملزمون بإجراء الحكم على الظاهر الأقوى الذي وجدنا. والله أعلم.
    الفصل الثالث: من أدلة الحكم بالظاهر
    من أدلة( ) هذه القاعدة: "الحكم بالظاهر"، وتسليم سرائر الناس إلى الله تعالى، قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَالله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِن﴾ [النساء: 25].
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله: ﴿وَالله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي: هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور. ("تفسير القرآن العظيم/2 /260).
    وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار﴾ [الممتحنة/10]
    قال الإمام محمد بن أحمد القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿الله أعلم بإيمانهن﴾ أي هذا الامتحان لكم، والله اعلم بإيمانهن، لانه متولي السرائر. ﴿فإن علمتموهن مؤمنات﴾ أي بما يظهر من الإيمان. ("الجامع لأحكام القرآن"/18/63).
    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله». (أخرجه البخاري (25) ومسلم (22)).
    قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه أن الأحكام تجري على الظاهر والله تعالى يتولى السـرائر. ("شرح صحيح مسلم"/1 / ص 212).
    وعن أم سلمة رضي الله عنها: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها». (أخرجه البخاري (2458) ومسلم (1713)).
    قال الإمام الشافعي رحمه الله: ففي كل هذا دلالة بينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقض إلا بالظاهر فالحكام بعده أولى أن لا يقضوا إلا على الظاهر، ولا يعلم الـسرائر إلا الله عز وجل. ("الأم"/ 1/ص 297).
    وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: ولعل السر في قوله: «إنما أنا بشر» امتثال قول الله تعالى: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم﴾ أي في إجراء الأحكام على الظاهر الذي يستوي فيه جميع المكلفين. ("فتح الباري" /13/ص 175).
    وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثين ومائة فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «هل مع أحد منكم طعام». فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: «بيعا أم عطية -أو قال:- أم هبة»( ). قال: لا بل بيع، فاشترى منه شاة. الحديث (أخرجه البخاري (2475) ومسلم (5485)).
    قال المهلب رحمه الله: وقوله عليه السلام للـمشرك: «أبيعا أم عطية أم هبة؟» فإنما قال ذلك على معنى أن يثيبه لو كانت هدية، لا أنه كان يقبلها منه دون إثابة عليها، كما فعل عليه السلام بكل من هاداه من المشركين، -إلى قوله:- وفيه: أن ابتياع الأشياء من مجهول الناس ومن لا يعلم حاله بعفاف أو غيره جائز حتى يطلع على ما يلزم الورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة أو غير ذلك، قال ابن المنذر: لأن من بيده الشـيء فهو مالكه على الظاهر، ولا يلزم المشتري أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد. ("شرح ابن بطال"/11/ص 352).
    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة ذي الخويصـرة الخارجي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم». الحديث (أخرحه البخاري (4351) ومسلم (1064)).
    قال النووي رحمه الله: معناه: أني أمرت بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، كما قال صلى الله عليه و سلم: «فإذا قالوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» وفي الحديث: «هلا شققت عن قلبه»( ). ("شرح النووي على مسلم"/7 / ص 163).
    والأدلة على الحكم على الظاهر كثيرة. بل قد نقل الإجماع على ذلك. قال الإمام ابن عبد البر الأندلسي رحمه الله: وقد أجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن السرائر إلى الله عز وجل. ("التمهيد"/10/ص 157).
    وقال الإمام ابن بطال رحمه الله: وقد أجمعوا أن أحكام الدين على الظاهر، وإلى الله السرائر. ("شرح ابن بطال" /16 / ص 122).
    وقال الإمام القرطبي رحمه الله: وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل. ("الجامع لأحكام القرآن" /12 / ص 203).
    وقال الإمام ابن حجر رحمه الله: وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر وقد قال صلى الله عليه و سلم لأسامة: «هلا شققت عن قلبه». ("فتح الباري" /12 / ص 273).
    الفصل الرابع: من أمثلة تطبيق الحكم على الظاهر
    قد مر بنا في أدلة الحكم على الظاهر بعض الأمثلة، وكذلك في أقسام الظاهر. وسيأتي شيء من المزيد على ذلك.
    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله». وفي رواية: «اعتبروا الرجل بمن يصاحب ، فإنما يصاحب من هو مثله».
    (أخرجه عبد الرزاق في "مصنف" رقم(7894)، والبيهقي في "شعب الإيمان" رقم (8994)، وابن بطة في "الإبانة الكبرى" رقم (504-505)، والأثر بمجموع طرقه جيد).
    نحن لا نعرف باطن الإنسان، ولكن السلف الصالح أرشدنا إلى النظر إلى صاحبه، لأن الرجل لا يصاحب إلا من هو يناسبه. وهذا مأخوذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». (أخرجه مسلم (2638)، والبخاري في "الأدب المفرد" (901) عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه البخاري معلّقاً في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، ووصله في "الأدب المفرد" (900)).
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». (أخرجه أبو داود (4835) والترمذي (2552) وهو حديث حسن. وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (1272)).
    وعلى هذا نهج السلف رضي الله عنهم أجمعين. فعن الأوزاعي رحمه الله قال: من استتر عنا ببدعته لم تخف ألفته. ("شرح أصول اعتقاد" (للالكائي/رقم (257)/ ص132)، و"الإبانة" (لابن بطة/2/ص475)، والأثر حسن).
    وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكون مجلسك لا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، قال: وقال الفضيل: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، قال: وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه ، قال : وقال الفضيل : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة اهـ. (أخرجه ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى" /رقم 443/إسناده حسن إن شاء الله).
    وعن سيار بن جعفر رحمه الله قال: سمعت مالك بن دينار يقول: الناس أجناس كأجناس الطير الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبطّ مع البطّ، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله. قال: وسمعت مالك بن دينار، يقول: من خلط خلط له، ومن صفى صفي له، وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم. ("الإبانة الكبرى" /رقم 517/حسن).
    وقال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: لما قدم سفيان الثـوري البصرة: جعل ينظر إلى أمر الربيع، يعني: ابن صبيح، وقدره عند الناس، سأل: (أي شيء مذهبه؟) قالوا: (ما مذهبه إلا السنة) قال: (من بطانته؟) قالوا: (أهل القدر) قال: (هو قدري). ("الإبانة الكبرى" لابن بطة / رقم 426/حسن).
    وعن معاذ بن معاذ رحمه الله يقول: قلت ليحيى بن سعيد: يا أبا سعيد الرجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا جليسه. ("الإبانة الكبرى"/رقم ( 514) بسند صحيح).
    وعن محمد بن عبيد الله الغلابي رحمه الله يقول: كان يقال : يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة. ("الإبانة" /رقم 515/حسن على أقلّ حاله).
    وقال أبو حاتم الرازي رحمه الله: وقدم موسى بن عقبة الصوري بغداد، فذكر لأحمد ابن حنبل، فقال: انظروا على من نزل، وإلى من يأوي. ("الإبانة الكبرى"/ لابن بطة/ رقم (46)/والسند صحيح).
    وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: فانظروا رحمكم الله من تصحبون، وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه. ("الإبانة الكبرى" /تحت رقم (46)).
    وقال فضيلة الشيخ أحمد بن يحيى النجمي رحمه الله : وقد قال بعض السلف: (من أخفى عنا عقيدته لم تخف عنا ألفته) يعني الجماعة الذين يألفهم ما يخفون عنا إذا كان يذهب ويجيء مع الحزبيين إذاً هو حزبي مثلهم. ("الفتاوى الجلية" /ص 86/دار الآثار).
    هذه من أمثلة تطبيق الحكم على الظاهر. فمن كان مصاحبا لصاحب هوى فإنه على عقيدته. ولكن ذلك الحكم يكون بعد إقامة النصائح فأصرّ وعاند. قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه قال: لا أو تعلِّمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة فإن ترك كلامه فكلمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود: المرء بخدنه( ). ("طبقات الحنابلة"/1 / ص 160/دار المعرفة/سنده صحيح إلى أبي داود).
    وقال الإمام البربهاري رحمه الله: وإذا رأيت الرجل يجلس مع أهل الأهواء فاحذره واعرفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه فإنه صاحب هوى. ("شرح السنة"/للبربهاري/ص44/دار الآثار).
    نعم، هو منهم وإن قال إنه من أهل السنة، لأن ظاهر الحال أقوى من ظاهر القال، كما سيأتي بيان ذلك.
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله فيمن انحاز إلى التتار: وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم. ("مجموع الفتاوى" /28 /530).
    وقال ابن حجر رحمه الله: لأن ما قارب الشيء يعطي حُكمه. ("فتح الباري"/لابن حجر العسقلاني /3 /207).
    الفصل الخامس: التعارض بين النصّ والظاهر
    إذا حصل التعارض بين النص القرآني أو النبوي وبين الظاهر، لا شك أن النص مقدم عليه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه. قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد عهد إلي فيه. فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي كان قد عهد إلي فيه. فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة». ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر». ثم قال لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجبي منه» لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله. (أخرجه البخاري (2053) و(1457)).
    فظاهر الشبه يدل على أن الولد لعتبة بن أبي وقاص، ولكن النص: «الولد للفراش» مقدّم على هذا الظاهر. قال الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله: ... لتقدم النص على الظاهر. ("مغني المحتاج"/2 / ص 482).
    وفي حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه:... فقال قائل منهم: أين مالك بن الدخيشن أو ابن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله». قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله». (أخرجه البخاري (425) ومسلم (263)).
    والمراد بالنفاق في هذا الحديث نفاق اعتقادي، فمن أجل ذلك قابله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر (لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، ولم يقابله بذكر الصدق ولا الأمانة ولا الوفاء.
    إن مالك بن الدخشن رضي الله عنه اتُّهم بالنفاق الاعتقادي لأنه ظهر منه ما يدعوهم إلى القول: (فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين)، فلم يخطئهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في استدلالهم بهذه المظاهر، لأنه قد استقر في الشرع أن النصرة والميل والقرب يدل على المحبة والموافقة والموالاة. لو كان الشخص يبغض المنافقين لابتعد منهم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والولاية ضد العداوة وأصل الولاية المحبة والقرب وأصل العداوة البغض والبعد اهـ. ("الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"/ص 3/الرسالة).
    ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي فعلم أن مالكا رضي الله عنه ممن قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله، فبرئ من النفاق الاعتقادي بهذا النص. قال بدر الدين العيني رحمه الله: وهذه شهادة من رسول الله بإيمانه باطنا وبراءته من النفاق. ("عمدة القاري"/6/ 443).
    ومما يقوّي أن مالك بن الدخشن رضي الله عنه برئ من النفاق عدم تخلفه الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذله ما عنده في سبيل الله. قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله: لم يختلفوا أنه شهد بدراً وما بعدها من المشاهد. وهو الذي أسر يوم بدر سهيل بن عمرو. وكان يتهم بالنفاق –إلى قوله:- لا يصح عنه النفاق، وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه. ("الإستيعاب في معرفة الأصحاب"/1/ص 420).
    نعم، إن المصاحبة والمجالسة مع المنافقين أمارات السوء، ولكن الله عز وجل علم ما في قلبه رضي الله عنه من صدق الإيمان. ويكفيه أنه من بدر تزكية له، فكيف بحضور جميع مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في ساعة العسرة؟ وقد حضر رضي الله عنه غزوة تبوك التي من لم يحضرها بلا عذر يتهم بالنفاق.
    قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وإنما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر مالك بن الدخشن؛ لأنه لم يعرف عنده بما يخشى عليه من النفاق، ولم يثبت ذلك ببينة، وإنما رمي بذلك، بخلاف الثلاثة الذين خلفوا؛ فإنهم اعترفوا بما يخشى عليهم منه النفاق؛ ولهذا عذر المعتذرين ووكلهم إلى الله ، وكان كثير منهم كاذبا. ("فتح الباري"/لابن رجب/رقم (425)).
    وأما ما يُذكر منه أنه يُرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، فذلك لشدة تسترهم أمامه فلم يتبين له نفاقهم. ولا شك أن له رضي الله عنه عذرا عند الله. قال بدر الدين العيني رحمه الله: لعل كان له عذر في ذلك كما كان لحاطب بن أبي بلتعة وهو أيضا ممن شهد بدرا. ولعل الذي قال بالنظر إلى الظاهر. ألا ترى أن النبي كيف قال عند قوله هذا: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» وهذا إنكار لقوله هذا. ("عمدة القاري"/6/ص436).
    خلاصة الكلام: أن الظاهر المبني على العلامات القوية معتبر وينبني عليه حكم ما لم يأت ما يخالفه مما هو أقوى منه، فإذا جاء ما يخالفه ما هو أقوى منه -إما ظاهر ثان أقوى منه، وإما نص ممن لم ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى- فالحكم مع ذاك الأقوى.
    قال الإمام الشوكاني رحمه الله: وقد تقرر في علم الأصول أن الظاهر يوجب الحكم قطعا كالنص على أحد معنيي القطعي، وهو ما يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل ، إلا أن التفاوت بينهما : أي بين الظاهر والنص إنما يظهر عند التعارض فيقدم النص على الظاهر عنده. ("فتح القدير"/21 / ص 458).
    وقال ملّا علي بن سلطان القاري رحمه الله: ولا شك أن الصريح مقدم على الظاهر في الاستدلال. ("شرح الوقاية"/5 / ص 345).
    هذا عموم الأدلة الصريحة، فكيف بالصريح الذي جاء من تنصيص القرآن أو السنة كما في الأمثلة السابقة؟
    الفصل السادس: التعارض بين الظاهرين
    لا شك أننا نحكم على الظاهر، ولكن إذا عثرنا على علامة قوية دالة على خلافه، فالحكم قد يتغير إلى الظاهر الثاني لقوة تلك العلامة، وقد لا يتغير لغلبة الأول على الثاني، ولكن الظاهر الثاني له وجه من الاعتبار في الحكم.
    مثال ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْخَائِنِين﴾ [الأنفال: 58].
    قال الإمام ابن العربي رحمه الله: إن قيل : كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة ، والخوف ظن لا يقين معه ، فكيف يسقط يقين العهد بظن الخيانة فعنه جوابان : أحدهما : أن الخوف هاهنا بمعنى اليقين ، كما يأتي الرجاء بمعنى العلم ؛ كقوله : ﴿لا ترجون لله وقارا﴾.
    الثاني: أنه إذا ظهرت آثار الخيانة، وثبتت دلائلها وجب نبذ العهد، لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هاهنا بالظن للضرورة. ("أحكام القرآن"/4/ص153).
    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته». (أخرجه البخاري (391)).
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه إن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك. ("فتح الباري"/1/ص 496).
    وقال مثل ذلك بدر الدين العيني رحمه الله ثم قال: فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطن غير أنه عليه زي المسلمين حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك. ("عمدة القاري" /6 / ص 337).
    هذا يدل على أن من أتى بهذه الشروط، فإنه يحكم عليه الإسلام ظاهرا. ولكن إذا ظهرت منه علامة الخلاف كإتيان ناقض من نواقض الإسلام، فالظاهر الثاني أقوى من الأول فيحكم عليه بالردة، بعد إقامة الحجة( ). وسيأتي المزيد على هذا إن شاء الله.
    قال الإمام ابن العربي رحمه الله: والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله، والله أعلم. ("تفسير القرطبي" /2 / ص 185).
    وقال الإمام أبو بكر محمد السرخسي رحمه الله: والبناء على الظاهر واجب، ما لم يعلم خلافه اهـ. ("المبسوط" /1 / ص 245).
    وقال مثل هذا ابن عابدين رحمه الله. ("حاشية رد المحتار" /2 / ص 140).
    وهذا يدل على أن الظاهر الأول إذا عارضه ظاهر آخر أقوى منه، فالحكم مع الثاني.
    فعلى هذا: لا يجوز قبول قول قائل بأنه سني سلفي، مع وجود أمارة قوية دالة على أنه حزبي مبتدع. ولا يجوز التمسك بمجرد ظاهر قوله مع ثبوت خلافه. قال الإمام أبو بكر السرخسي رحمه الله: ولا معتبر بالظاهر إذا تبين الأمر بخلافه. ("المبسوط" /6 / ص 144).
    ومما يدل على أن لسان الحال أقوى من لسان القال حديث أبي هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك . فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما . فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله. هو ابنها. فقضى به للصغرى». (أخرجه البخاري (6769)) ومسلم (1720)).
    إن إقرار الصغرى بأن الولد ابن الكبرى هو لسان القال، ولكن لسان حالها -وهي: عظم شفقة الصغرى بالولد ما لم توجد عند الكبرى- يدل على أن الولد للصغرى، فحكم بذلك نبي الله سليمان عليه السلام، وأقره الله، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإقرار.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فأى شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة. فاستدل برضا الكبرى بذلك وأنها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فقد ولدها وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك على أنها هي أمه وأن الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها فإنه حكم به لها مع قولها هو ابنها وهذا هو الحق. ("الطرق الحكمية"/ص31/دار الأرقم).
    وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: فإن العمل يشبه التنصيص بالقول بل قد يكون أبلغ منه في مواضع. ("الاعتصام"/1/ص 371).
    وقال الإمام الألباني رحمه الله: فلسان الحال أنطق من لسان المقال. ("التصفية والتربية"/له/ص22-23/مكتبة المعارف).
    ومما يقوِّي ذلك: عن عبد الله بن عتبة، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا، أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة. (أخرجه البخاري (2641)).
    هذا يدل على أن الحكم في الدنيا يجري على الظاهر، وأن من كان ظاهر أعماله سيء فإن الرجل غير أمين وإن قال بأن باطنه صالح. هذا كلام الصحابي، وكلامه المؤيد بالأدلة الشرعية معتبر.
    قال الإمام الصنعاني رحمه الله في شرح هذا الأثر: وكأن المصنف أورده وإن كان كلام صحابي لا حجة فيه؛ لأنه خطب به عمر وأقرّه من سمعه فكان قول جماهير الصحابة؛ ولأن هذا الذي قاله هو الجاري على قواعد الشريعة. ("سبل السلام"/4/ص200/دار المعرفة).
    فليس مجرد قول اللسان بكافٍ إذا خالف فعلَه وحالَه. ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها بإتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين. ("مجموع الفتاوى"/28 /ص510-511).
    وقال أبو بكر ابن المعلى الحصني رحمه الله نقلا عن فقهاء عصره (ت: 829 هـ): من ألقى مصحفا في القاذورة كفر وإن ادعى الإيمان، لأن ذلك يدل على استهزائه بالدين. ("كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار" /ص382).
    مثال آخر في تغير الظاهر لوجود ظاهر آخر أقوى منه: قال الإمام العلامة أبو بكر السرخسي رحمه الله في مسألة نفي الرجل نسبة الولد إليه: أنه إذا وطئها ولم يعزل عنها وحصنها فله أن يدعي نسب ولدها، وليس له أن ينفيه فيما بينه وبين ربه ؛ لأن الظاهر أنه منه. والبناء على الظاهر واجب فيما لا تعلم حقيقته. فأما إذا عزل عنها أو لم يحصنها فله أن ينفيه ؛ لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر. ("المبسوط"/9/ص 167).
    ومثال آخر ما سبق ذكره من قصة تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة رضي الله عنهما في الطفل. (أخرجه البخاري (2053) و(1457)).
    قال الإمام ابن بطال رحمه الله: وأما حديث ابن وليدة زمعة فإنه عليه السلام حكم فيه بالولد للفراش لزمعة على الظاهر، وأنه أخو سودة على سبيل التغلب لا على سبيل القطع أنه لزمعة عند الله - عز وجل - ثم أمر سودة بالاحتجاب منه؛ للشبهة الداخلة عليه وهي ما رأى من شبهه بعتبة فاحتاط لنفسه وذلك فعل الخائفين لله عز وجل إذ لو كان ابن زمعة فى علم الله فى حكمه هذا لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها. ("شرح ابن بطال"/11/ص 198).
    هذا يدل على أن الظاهر الأول –وهو كون ابن وليدة زمعة في فراشه- هو الغالب والمقدم، ومع ذلك لم يلغ النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر الثاني –وهو الشبه البين بين هذا الولد وبين عتبة بن أبي وقاص- فأمر صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة رضي الله عنها بالاحتجاب عن الولد.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب فإنما ذاك إذا لم يقاومه سبب أقوى منه. ولهذا لا يعتبر مع الفراش، بل يحكم بالولد للفراش وإن كان الشبه لغير صاحبه كما حكم النبي صلى الله عليه و سلم في قصة عبد بن زمعة بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش، ولم يعتبر الشبه المخالف له. فأعمل النبي صلى الله عليه و سلم الشبه في حجب سودة حيث انتفى المانع من إعماله في هذا الحكم بالشبه إليها، ولم يعمله في النسب لوجود الفراش. وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح تقتضى اعتبار الشبه في لحوق النسب. ("الطرق الحكمية"/ص225/دار الأرقم).
    إن الأصل –كما سبق-: وجوب الأخذ بالظاهر وعدم العدول إلى غيره بأي تأويل إلا إذا عارضه ظاهر آخر أقوى منه. قال ابن حزم رحمه الله: وإذا كنا لا نعلم إلا ما علمنا فترك الظاهر الذي علمناه وتعديه إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر حرام وفسق ومعصية لله تعالى. وقد أنذر الله تعالى وأعذر، فمن أبـصر فلنفسه ومن عمي فعليها. ("الإحكام في أصول الأحكام"/1 / ص 372).
    وقال الإمام برهان الدين محمود بن أحمد ابن مازه البخاري رحمه الله: والبناء على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه. ("المحيط البرهاني"/9/ص 756).
    والدليل الذي يدل على خلافه هو الظاهر الثاني. قال رحمه الله: والبناء على الظاهر واجب ما لم يعارضه ظاهر آخر. ("المحيط البرهاني"/8 / ص 557).
    لما كانت الظواهر تتفاوت فالحكم مع الأقوى منها، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: وإنما رددنا الحكم بالظاهر لظاهر حكم أحق منه. ("الأم" /8/ص 8).
    ومثال آخر: قال الإمام الصنعاني رحمه الله: فإن قلت: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال: (لا إله إلا الله) كما هو معروف في كتب الحديث والسير، قلتُ: لا شك أن من قال: "لا إله إلا الله" من الكفار حقن دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصة محلم بن جثامة آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا﴾ الآية [4 : 94] فأمرهم الله تعالى بالتثبت في شأن من قال كلمة التوحيد، فإن تبين التزامه لمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. وإن تبين خلافه فلم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ. وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبين لم تنفعه هذه الكلمة بمجردها، ولذلك لم تنفع اليهود ولا نفعت الخوارج مع ما انضم إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد»( ) وذلك لما خالفوا بعض الشريعة وكانوا شر القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث، فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك من قالها لارتكابه لما يخالفها من عبادة غير الله. ("تطهير الاعتقاد"/ص 89-91/دار ابن حزم).
    ذكر نحو هذا أيضا الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمه الله بكلام أوسع، وقال: ...وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: (لا إله إلا الله) وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها ، -إلى قوله:- أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه ، إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك. ("كشف الشبهات"/ ص 32-33/ط. الصالح).
    فانظر –وفقك الله-: ظاهر الإسلام في شخص منتقض بوجود ظاهر آخر أقوى منه: ناقض من نواقض الإسلام.
    وعلى هذا، فلا ينبغي لأحد أن يقبل ادعاء شخص بالسنة، ولا يبالي بوجود ظاهر آخر أقوى منه -وهو معاداة أهل السنة، وتخذيلهم في وقت الحاجة، مع موالاة الحزبيين وغير ذلك، وقد بُذلت له النصائح ولم ينتصح-. بل عليه إلغاء الظاهر الأول والتمسك بالثاني، لأن الثاني هو الظاهر الراحج المعتبر.
    فائدة: سئل شيخنا الناصح الأمين يحيى بن علي الحجوري حفظه الله: السني إذا كان يدافع عن أهل البدع والأهواء أمثال القرضاوي، والزنداني، وغيرهم من أهل البدع هل يبقى سنيا أم يلحق بمن دافع عنهم؟
    فأجاب حفظه الله: هم في ذلك مختلفون، فمنهم من يدافع عن جهل، هذا يصبر عليه، ويعذر بجهله، ومنهم من يدافع عن عقيدتهم ومبدأهم ومعرفة بما هم عليه، فهذا منهم. ويدل على ذلك حديث عتبان بن مالك أن الصحابة رضوان الله عليهم استدلوا على أن مالك بن الدخشم منافق يدافع عن المنافقين، وقالوا: إننا نرى ودّه وحديثه للمنافقين، حتى زكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومالك رضي الله عنه ليس بمنافق. وهذه قرينة استدل بها الصحابة رضي الله عنهم وفيهم أسوة، وإنما شاهدنا أن الذين كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس استدلوا بذلك الفعل على أن مالكا منهم، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مالك بن الدخشم مؤمن، وأنه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، وهذا يكون عن طريق الوحي. أما ما نحن عليه من بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال عمر: من أظهر لنا خيرا أمناه وقبلناه، من أظهر غير ذلك لم نؤمنه ولم نقبله وإن قال: سريرته حسنة. فلنا الظاهر، من رأيناه مع هؤلاء يدافع عنهم فهو منهم، إلا إذا كان عن جهل ولم يبين له، ولم يعرف ما هم عليه، فهناك أدلة العذر بالجهل تنطبق عليه اهـ. ("الكنز الثمين"/4/ص448-449/دار الكتاب والسنة).
    ومثال آخر: رجل سقط في بئر، فطلب وليه من صاحب البئر الدية. فسقوط الرجل في البئر ظاهر، ولكن لا يحكم له على صاحب البئر بهذا الظاهر حتى ننظر إلى الأمارات. فالحكم مع من أيدته الأمارات المرجِّحة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس». (أخرجه البخاري (1499) ومسلم (1710)).
    قال الإمام القاسم بن سلام رحمه الله: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية، فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد. وكذلك لو حفر بئرا في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير. وكذا لو استأجر إنسانا ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان. وأما من حفر بئرا في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفارة في ماله. وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور. ("فتح الباري" /لابن حجر/12/ص 255).
    هذا يدل على أن الظاهر الأقوى مقدم على الأضعف، وأن الظاهر الأقوى هو الأحقّ أن يكون ظاهرا حقيقيا في شخص أو في قضية.
    وكذلك في الجرح والتعديل، إن المعدل يرى حسن ظاهر الشخص فعدّله. فإذا جرحه الجارح المعتبر قُدِّم الجرح على التعديل لأن الجارح رأى ما لم يره المعدِّل من أسباب الجرح، فيكون الظاهر الثاني أقوى من الأول، فالحكم مع الأقوى. قال الإمام عبد الله بن أحمد ابن قدامة رحمه الله: ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل يتضمن ترك الريب والمحارم. والجارح مثبت لوجود ذلك. والإثبات مقدم على النفي، ولأن الجارح يقول رأيته يفعل كذا، والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل. ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بأن يراه الجارح يفعل المعصية، ولا يراه المعدل فيكون مجروحا. ( "المغني" /لموفق الدين ابن قدامة/11 / ص 415).
    ولا تنس قصة المسيح الدجال المدعي الربوبية. قد تواترت الأدلة على خروجه في آخر الزمن نستغني عن ذكرها في هذا المقام لطولها وشهرتها، ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من احياء الميت الذى يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته. (انظر قول القاضي عياض رحمه الله كما في "شرح النووي على مسلم"/18/58).
    مع هذه الظواهر المخيفة، أظهر الله في جسم الدجال ظواهر أخرى تبطل دجله. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الدجال مع ذلك دلالة بينة لمن عقل على كذبه، لأنه ذو أجزاء مؤلفة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر مع ظهور الآفة به من عور عينيه. فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوِّي خلق غيره ويعدّله ويحسّنه، ولا يدفع النقص عن نفسه. فأقلّ ما يجب أن يقول: (يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض، صوّر نفسك، وعدّلها، وأزل عنها العاهة. فإن زعمت أن الرب لا يحدث في نفسه شيئا فأزل ما هو مكتوب بين عينيك. ("فتح الباري"/13 /103).
    الفصل السابع: من حِكَم شرعية الحكم على الظاهر
    إن الله تعالى حكيم ذو الحكمة البالغة فوضع كل شيء موضعه، وله غاية محمودة في فعله وشرعه، قال تعالى: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: 10].
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فهو عليم بخلقه وأمره، ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلى والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة. ("طريق الهجرتين"/ص164).
    وقال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قول الله تعالى : ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ]البقرة: 220[: وهو حكيم في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً. ("جامع البيان"/4/ 361).
    فلا يشرع شيئا إلا لمصالح العباد، فيقرّب إليهم به ما ينفعهم ويُبعد منهم به ما يضرهم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة. ("إعلام الموقعين"/3/ ص5).
    وكذلك شرعية الحكم على الظاهر، لها حكمة عظيمة لمصالح العباد حيث إن الله عز وجل إنما كلفهم بالحكم على ما يظهر لهم فيعاملون الناس على حسب المظاهر فيستريح بالهم، واطمأنت قلوبهم، ولا تعتريهم كثرة الوساوس.
    قال الإمام الشنقيطي رحمه الله: فهذا الحكم الرباني على الظاهر. ولذلك ترتاح القلوب، وتبتهج النفوس بزوال الوساوس، ولو فتح باب هذه الظنون اليسيرة لما استطاع رجل طلق امرأته أن تعود له زوجته من كثرة الشكوك والحكم بالأدلة الضعيفة. فالحكم بناءً على الظاهر، والظاهر مرتبط بأصول شرعية، إذا وجدت حكم بالحكم الشـرعي كما هو، وإذا تخلفت حكمنا بالأصل الذي حكم الله عز وجل به، ولا شك أن هذا هو عين العدل والحكمة، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ("شرح زاد المستقنع"/ للشنقيطي /13/ص 17).
    وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: نحن لا نكلف إلا بالظاهر، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا ألا نحكم إلا بالظاهر؛ لأن الحكم على الباطن من الأمور الشاقة، والله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها. فمن أبدى خيراً؛ عاملناه بخيره الذي أبداه لنا، ومن أبدى شراً؛ عاملناه بشره الذي أبداه لنا، وليس لنا من نيته مسؤولية، النية موكولة إلى رب العالمين عز وجل، الذي يعلم ما توسوس به نفس الإنسان. ("شرح رياض الصالحين"/تحت رقم (395)/دار السلام).
    الفصل الثامن: أن الشريعة لا تتوقف على ظاهر الألفاظ فقط
    ولا بد أن نعلم أن الشريعة لا تتوقف على ظاهر اللفظ فحسب، بل أمرنا الشارع أن نتدبر الكلام حتى نعلم مراد المتكلم، فلا نغلط من أجل ظواهر ألفاظ المتكلم مع بروز العلامات الدالة على أن المراد خلاف ذلك، أو أعمّ من ذلك أو أخصّ.
    وهي طريقة الصحابة رضي الله عنهم. قال عنهم الإمام أبو شامة (عبدالرحمن بن إسماعيل، ت 665 هـ) رحمه الله: ... وعاينوا المصطفى، وفهموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فيما خاطبهم بقرائن الأحوال. (مختـصر كتاب "المؤمل في الرد إلى الأمر الأول"/ص26/المكتبة الإسلامية).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: العبرة بالإرادة لا باللفظ. وهذا أمر يعمّ أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة، فإذا دعي إلى غداء فقال: (والله لا أتغدى) أو قيل له: (نم) فقال: (والله لا أنام) أو (اشرب هذا الماء) فقال: (والله لا أشرب) فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر والألفاظ ليست تعبدية. والعارف يقول: (ماذا أراد) واللفظي يقول: (ماذا قال) كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿يقولون ماذا قال آنفا﴾ وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: ﴿فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا﴾( ) فذم من لم يفقه كلامه. والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه. وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم -إلى قوله:- والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته. ("إعلام الموقعين"/1/ص 175-176/دار الحديث).
    هذا يدل على أن اللفظ العام إذا قام دليل على أن المتكلم أراد ما هو أخص، خص بذلك.
    ومثال اللفظ الخاص الذي صار عامًّا بقيام الدليل على أن المتكلم يريد أنه شامل لجميع أشباهه: حديث سلمان رضي الله عنه أنه قيل له: قد علمكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الخراءة. فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. (أخرجه مسلم (262)).
    قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ولنا : أنه استجمر ثلاثا منقية بما وجدت فيه شروط فأجزأه، كما لو فصله ثلاثة صغارا واستجمر بها، إذ لا فرق بين الأصل والفرع إلا فصله، ولا أثر لذلك في التطهير. والحديث يقتضي ثلاث مسحات بحجر دون عين الأحجار، كما يقال: (ضربته ثلاثة أسواط) أي: ثلاث ضربات بسوط. وذلك لأن معناه معقول ومراده معلوم، ولذلك لم نقتصر على لفظه في غير الأحجار، بل أجزنا الخشب والخرق والمدر، والمعنى من ثلاثة حاصل من ثلاث شعب أو مسحه ذكره في صخرة عظيمة بثلاثة مواضع منها أو في حائط أو أرض. فلا معنى للجمود على اللفظ مع وجود ما يساويه من كل وجه. ("المغني"/1 /ص202/دار الحديث).
    و هذا الذي رجحه الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله وقال: وذلك لأن الـشرع معاني لا مجرد ألفاظ. ("شرح الممتع"/1/ص181/مكتبة الأنصار).
    مثال آخر: ذكر الإمام الشنقيطي رحمه الله اختلاف العلماء رحمهم الله في عقد المساقاة على أقوال، وقال: والحنابلة نظروا إلى نص الحديث ومعناه، ومذهبهم أقوى وأرجح إن شاء الله، وهو أن المساقاة تُشرَع وتجوز على كل المزروعات التي لها ثمرة تُؤْكَل.
    وإذا أردت أن تُجري السبر والتقسيم في الأوصاف المعتبرة في النص فإنك تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على سقي النخل، ولا شك أن العنب كان موجوداً؛ فيكاد يحصل الجزم على أن أرض خيبر كان فيها العنب، وهذا أمر لا يمكن لأحد أن ينكره، ولذلك فالغالب أنه ساقاهم على النخل وغيره، وذُكِر النخل فقط؛ لأنه أغلب، وإلا فقد كانت المزروعات موجودة، وكل ذلك كان معروفاً-إلى قوله:- فالقول بكونها خاصة بالنخل جمودٌ على الظاهر، والـشريعة تعتبر الظاهر والمعنى. ("شرح زاد المستقنع"/ للشنقيطي/9/ص 8-10).
    الفصل التاسع: من عواقب إهمال العلامات الدالة على مراد المتكلم لاقتصاره على ظاهر الألفاط
    فمن قصر النظر إلى مجرد ظاهر الألفاظ ولم يبال بالعلامات الدالة على مراد المتكلم يتخبط. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له: (لا تسلم على صاحب بدعة) فقبّل يده ورجله ولم يسلم عليه. أو قيل له: (اذهب فاملأ هذه الجرة) فذهب فملأها ثم تركها على الحوض، وقال: (لم تقل ايتني بها). وكمن قال لوكيله: (بع هذه السلعة) فباعها بدرهم وهي تساوي مائة. ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع ويلزم به الموكل. وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع. وكمن أعطاه رجل ثوبا فقال: (والله لا ألبسه) لما له فيه من المنة فباعه وأعطاه ثمنه فقبله. وكمن قال: (والله لا أشرب هذا الشراب) فجعله عقيدا أو ثرد فيه خبزا وأكله. ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحدّ من فعل ذلك بالخمر وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه( ) –إلى قوله:- وهذا حق فان استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا. ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه. فهب أن المرابي لم يسمه ربا وسماه بيعا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها. وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل المسكر من غير عصير العنب وقال: (لا أسميه خمرا وإنما هو نبيذ) وكما يستحلها طائفة من المجان إذا مزجت ويقولون: (خرجت عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق) وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدا ويقول: (هذه عقيد لا خمر). ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة. فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور عن ذلك. وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله. وأما استحلال السحت باسم الهدية وهو أظهر من أن يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة ومعلوم قطعا أنهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية. وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رشوة. ("إعلام الموقعين"/3 /ص88-89/دار الحديث).
    وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه، ألا ترى قوله: ﴿وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون﴾ [النحل: 78] . وفي الأخرى: ﴿قليلا ما تشكرون﴾ [السجدة: 9] .
    والشكر ضد الكفر؛ فالإيمان وفروعه هو الشكر، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد؛ فهو الذي فهم المراد من الخطاب، وحصل باطنه( ) على التمام، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط؛ فهذا خارج عن المقصود، وواقف مع ظاهر الخطاب؛ فإن الله قال: ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد﴾ ثم قال: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾ [التوبة: 5]
    فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم؛ فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا، وتركوا المقصود من ذلك، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة، فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره؛ فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول؛ فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير، عودا عليه بالمزيد؛ فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك، كيف يكون شاكرا للنعمة؟ وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى: ﴿فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾ [البقرة: 229] حتى يجري على معنى قوله تعالى: ﴿فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا﴾ [النساء: 4] .
    وتجري ها هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى؛ لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير. ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود؛ اقتحم هذه المتاهات البعيدة.
    وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ كما قال الخوارج لعلي: إنه حكم الخلق في دين الله، والله يقول: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ [الأنعام: 57، ويوسف: 40، 67] . وقالوا: إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين فهو إذًا أمير الكافرين. وقالوا لابن عباس: لا تناظروه؛ فإنه ممن قال الله فيهم: ﴿بل هم قوم خصمون﴾ [الزخرف: 58] ، -إلى قوله:-
    فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله: ﴿يحكم به ذوي عدل منكم﴾ [المائدة: 95] ، وقوله: ﴿فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها﴾ [النساء: 35] ، لعلموا أن قوله: ﴿إن الحكم إلا لله﴾ [الأنعام: 57] غير مناف لما فعله علي، وأنه من جملة حكم الله؛ فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده، فكذلك ما كان مثله مما فعله علي.
    ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده؛ لما قالوا: إنه أمير الكافرين. ("الموافقات"/3/ص247-249/المكتبة العصرية).
    انظروا رحمكم الله إلى سوء عواقب من لم يميز بين ظاهر الكلام الحقيقي وبين ظاهر اللفظ. فظاهر الكلام الحقيقي هو ما أقام المتكلم علامات تدل على مراده ومقصده. قال العلامة محمد الـزركشي رحمه الله: والظاهر : ما سبق مراده إلى فهم سامعه . ("البحر المحيط"/2 /ص106).
    وقال الإمام أبو اسحاق الشيرازي رحمه الله: الظاهر: لفظ معقول يبتدر إلى فهم البصير بجهة الفهم منه معنى. ("البرهان في أصول الفقه"/1 /ص280).
    فمن لم يراع هذه العلامات يقع في أخطاء كثيرة، والله الموفق. قال الإمام محمد بن عثيمين رحمه الله: ...أن الإنسان قد ينخدع بظاهر الإنسان، وهذا شيء واقع، قد ينخدع بعض الناس برجل متخرج من الشريعة ظاهره الصلاح، فإذا سبرت أحواله ومعاملاته والأشياء التي تعتبر محك للإنسان وجدته على خلاف ظاهره. لكن هذا لا يعني أن كل الناس كذلك، الأصل أن الباظن موافق للظاهر. (شرح "السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية"/لابن عثيمين/ص164/دار ابن حزم).
    فكيف حتى لا ننخدع؟ أُمرنا بالحكم على الظاهر، ولم نؤمر بنقب صدور الناس، ولكن إذا أظهر الله تعالى لنا بعض الأمارات القوية –من اقواله أو افعاله، أو حجج رجل ثقة فيه-، اعتبرنا بها، لأنها هي التي تبني الظاهر الحقيقي، والله أعلم.
    هذا كله رد على من ترك اعتبار القرائن والعلامات بالكلية تحت ستار هزيل: "القرائن لا ينبني عليها الحكم!" فعمّم في موضع التفصيل. وقد ذكرتُ في هذا الكتاب بعض أدلة العمل بالقرائن القوية. وذكرت أيضا قبل ذلك أدلة أخرى في أواخر كتاب "التجلية لأمارات الحزبية". وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم﴾ [التوبة/73]. كيف نمتثل بأمر الله بجهاد المنافقين إذا لم نعتبر بقرائن النفاق التي عندهم؟ فما فائدة ذكر القرآن أوصاف النفاق المتكاثرة لئن لم يكن لاعتبار أن من كانت في هذه الأوصاف كان من المنافقين المأمور بجهادهم؟ قال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: والحكمة من ذكرهم بالأوصاف دون الأعيان؛ أن ذلك يكون للعموم، يعني لكل من اتصف بهذه الصفات. ("شرح رياض الصالحين" /تحت رقم (394)/دار السلام).
    فهذه الأوصاف هي الميزان إلى يوم القيامة لمعرفة المنافقين. إن الإمام ابن القيم رحمه الله بعد أن سرد علامات المنافقين في القرآن قال: (وهذه عادتهم في كل زمان). ثم سرد بقية العلامات. (راجع "طريق الهجرتين"/ ص 499-504/دار ابن رجب).
    فإذا وجدنا هذه العلامات الخبيثة في قوم، فماذا نعمل؟ فهل نغضّ الأبصار ونقول: (القرائن لا ينبني عليها الحكم)؟ بل نقول كما قال الله تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون/4].
    الفصل العاشر: النظر إلى مقاصد المتكلم لا يخالف الحكم بالظاهر
    بالبيان السابق فَهِمَ من وفقه الله أن النظر إلى مراد المتكلم ومقصده لا يخالف الحكم على الظاهر، لأن معاملة المتكلم على وفق قصده المكشوف هو العمل بالظاهر الحقيقي. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له فلا بد من إرادتين إرادة التكلم باللفظ اختيارا وإرادة موجبه ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ فإنه المقصود واللفظ وسيلة. هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام. –إلى قوله:- وقال أبو حنيفة: (من أراد أن يقول كلاما فسبق لسانه فقال أنت حرة لم تكن بذلك حرة). وقال أصحاب أحمد: (لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق، وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة لم تطلق لأنه ليس مختارا للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره). قالوا: (فلو نوى موجبه عند أهل العربية لم يقع أيضا لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه). وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر. وفي "مصنف وكيع": أن عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها: (سمني) فسماها الطيبة فقالت: (لا) فقال لها: (ما تريدين أن أسميك؟) قالت: (سمني خلية طالق) فقال لها: (فأنت خلية طالق) فأتت عمر بن الخطاب فقالت: (إن زوجي طلقني) فجاء زوجها فقصّ عليه القصة فأوجع عمر رأسها وقال لزوجها: (خذ بيدها وأوجع رأسها) وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان وإن تلفظ بصريح الطلاق. وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يرِده. والمكره على كلمة الكفر أتى بـصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته. ("إعلام الموقعين"/2 /ص50/دار الحديث).
    فليس الأمر كما زعمه أهل الأهواء أن أهل السنة لا يقتنعون بظاهر ألفاظ المتكلم بل يتكلمون في نواياهم( ). وهذا يدل على جهل أهل الأهواء سبل الهدى –فاتباع الهوى من أسباب البعد عن الحق والهدى-. إنهم لا يعلمون أن أهل السنة يفصلون القضايا على وفق الأدلة. نعم، إن الأحكام الشرعية تجري على الظاهر. فمن عُلم قصده، عومل بحسبه.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم. فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ولا على مجرد ألفاظ، مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علما بل تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به. وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه. فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم هذه قاعدة الشريعة. وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار. فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة. ورحمة الله تعالى وحمكته تأبى ذلك. والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه. والتكلم به مكرها وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه. فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة. فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده. وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين. فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به. –إلى قوله:-
    فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول: الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونياتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام:
    أحدها: أن تظهر مطابقة القصد للفظ. وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم به وغير ذلك، كما إذا سمع العاقل والعارف باللغة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤيتها»( ).
    فإنه لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقة( )، وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذه ولو اقترح على أبلغ الناس أن يعبر عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه. وعامة كلام الله ورسوله من هذا القبيل فإنه مستول على الأمد الأقصى من البيان.
    القسم الثاني: ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه( ) وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه. وهذا القسم نوعان: أحدهما: أن لا يكون مريدا لمقتضاه ولا لغيره. والثاني: أن يكون مريدا لمعنى يخالفه. فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران.
    والثاني كالمعرض والمورى والملغز والمتأول.
    القسم الثالث: ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته غيره ولا دلالة على واحد من الأمرين واللفظ دال على المعنى الموضوع له وقد أتى به اختيارا .
    فهدة أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها. وعند هذا يقال: إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره. والأدلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضعافها كلها إنما تدل على ذلك. وهذا حق لا ينازع فيه عالم. والنزاع إنما هو في غيره.
    إذا عرف هذا فالواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاظب ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك. ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه.
    قال الشافعي: وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهره بت، ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء فهو ملبوس عليه، ملبّس على الناس. فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط، وبطلت فائدة التخاطب وانتفت خاصية الإنسان وصار الناس كالبهائم بل أسوأ حالا، ولَماَ علم غرض هذا المصنف من تصنيفه. وهذا باطل بضرورة الحس والعقل، وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجها مذكورة في غير هذا الموضع.
    ولكن حمل كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي صرفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض( ) ولحن الخطاب( ) والتورية( ) وغير ذلك. وهذا أيضا مما لا ينازع في العقلاء. وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكما بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها، أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟
    وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته. بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريما فيصير حلالا تارة، وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافها. وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذ ذبح لغير الله. وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم. وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوى أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوى أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد.
    وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد. وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصره بنية أن يكون خلا أو دبسا جائز وصورة الفعل واحدة. وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان. وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة.-إلى قوله:- وكذلك قوله: (أنت عندي مثل أمي) ينوي بها الظهار فتحرم عليه، وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه.-إلى قوله:- ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له وإنما لامرئ ما نوى.
    ولو أمسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن صائما. ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا ولو أعطى الفقير هبة أو هدية( ) ولم ينو الزكاة( ) لم يحسب زكاة ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له. وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته او أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام. ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به( )، ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته. وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه. ("إعلام الموقعين"/3 /ص81-85/دار الحديث).
    وإذا قال قائل: إن الأحكام تجري على الظواهر، ونحن لا ندري ما في النفوس من النوايا والمقاصد.
    قلنا –وبالله التوفيق-: نعم، إذا لم يُعلم قصد العامل ونيته، فالحكم على ظاهر عمله. وأما إذا قام دليل دل على ما في قلبه، عومل بحسب قصده المكشوف. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فلأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه. ("إعلام الموقعين"/3/ص 100/دار الحديث).
    ويُعلم ما في الباطن –بإذن الله- بقرائن أحوال صاحبه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»( ) فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد. فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح. والقلب المؤمن صالح، فعُلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمنا، حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلا بد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولا بد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه كما قال عثمان . وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قط فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان . وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا يستقرّ شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن. ("مجموع الفتاوى"/14/ص 121).
    وقال الإمام أبو الفداء إسماعيل ابن كثير رحمه الله: أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس. ("تفسير القرآن العظيم"/7/ص365/دار الحديث).
    وقال رحمه الله في تفسير ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ أي: فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول. ("تفسير القرآن العظيم"/7/ص324/دار الحديث).
    الفصل الحادي عشر: أنواع العلامات والقرائن الدالة على مراد المتكلم ومقصده
    إذا كان ظاهر الكلام –الذي هو مراد المتكلم- هو ما يتبادر إلى الذهن من المعاني، وهذه المعاني تختلف باختلاف الدلالات والأمارات، فما هي أنواع العلامات والقرائن الدالة على مراد المتكلم ومقصده؟ بعض العلماء يأتي باجتهاده في تقسيم القرائن.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله:... أن اللفظ لا بد أن يقترن به ما يدل على المراد به. والقرائن ضربان: لفظية ومعنوية. واللفظية نوعان: متصلة ومنفصلة. والمتصلة ضربان: مستقلة وغير مستقلة. والمعنوية إما عقلية وإما عرفية. والعرفية إما عامة وإما خاصة. وتارة يكون عرف المتكلم وعادته، وتارة عرف المخاطب وعادته. (كما في "مخـتصر الصواعق"/ص324/دار الحديث).
    وقال الإمام ابن الوزير رحمه الله: الإشارة إلى القرائن الدّالّة على التجوّز في الكلام وهي ثلاث: عقلية وعرفية ولفظية.مثال العقلية: قوله تعالى: ﴿وسئل القرية التي كنّا فيها والعير﴾ [يوسف/82] فإنّ العقل يدرك أنّ سؤال القرية والعير لا يصح فيفهم أنّ المراد أهلهما( ).
    ومثال العرفيّة: قول القائل: بنى السلطان سور المدينة، فإنّ مباشرة السلطان لنقل الحجارة والتّراب غير محال في العقل ولكنّه ممتنع في العادة والعرف، فيفهم من ذلك: أنّ السلطان أمر بذلك. وما يجري مجراه، ومنه قوله تعالى: ﴿يا هامان ابن لي صرحاً﴾ [غافر/36] أي: مُرْ من يبني، لأنّه لم يكن ممن يباشر مثل ذلك.
    وأمّا اللّفظية: فمثل: أسد شاكي السّلاح، أو حسن الثّياب، أو نحو ذلك. -إلى قوله:- فاعلم أنّ القرينة العقلية إنّما يصحّ الاستدلال على التّجوّز بها متى كان العقل يقطع على أنّ المتكلّم ممّن لا يصح منه إرادة ظاهر كلامه، فلهذه النّكتة يختلف الاستدلال بها: فيصح في مواضع فيما بين النّاس ولا يصح مثله في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ("الروض الباسم"/ لابن الوزير /1 /ص84-85).
    قول الإمام ابن الوزير رحمه الله: (التجوز بها)، أي: التجوز بها عن أصل المعنى أو أصل الوضع. وقوله رحمه الله: (فإنّ العقل يدرك أنّ سؤال القرية والعير لا يصح فيفهم أنّ المراد أهلهما)، فيه حصر معنى (القرية) إلى مبانيها فقط، وحصر معنى (العِير) إلى الجِمال فقط، وهذا كلام مرجوح. فالصواب في (القرية) أنها سكانها مع مساكنهم فيها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: بل القرية موضوعة للجماعة الساكنين بمكان واحد، فإذا أطلقت تناولت الساكن والمسكن. ("مختصر الصواعق"/ص 351).
    وكذلك الصواب في (العير) يطلق على الركبان والمراكب. قال العلامة الراغب الأصبهاني رحمه الله: العِيرُ: القوم الذين معهم أحمال الميرة، وذلك اسم للرّجال والجمال الحاملة للميرة، وإن كان قد يستعمل في كلّ واحد من دون الآخر. ("المفردات"/ص 596).
    ومع وجود الاختلاف في أنواع القرائن وأمثلتها، علمنا أن المتكلم عُرف قصده بالقرائن التي تحفّ كلامه.
    الفصل الثاني عشر: تكافؤ الظاهرين على حد سواء
    ولو حصل تكافؤ الظاهرين حتى سبق إلى الذهن التساوي بينهما، مثل أن شخصا يجالس أهل السنة، ويصاحب أهل البدعة، فما حكمه؟ فالجواب: لعل هذا الشخص لا يدري، فلا بد أن ينبّه عليه بأن الرجل الثاني هو صاحب البدعة فلا تجوز مصاحبته، وعليه أن يكتفي بمجالسة أهل السنة. فإن قبل النصيحة والتنبيه، وإلا يلحق بأهل البدعة، كما قاله الإمام أحمد ابن حنبل والإمام البربهاري رحمهما الله.
    ومن عَلم أن الرجل الأول سني، والثاني بدعي، فاختار مصاحبتهما على حدّ سواء فإنه منافق. عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» .(أخرجه مسلم /كتاب صفات المنافقين/2784/دار ابن الجوزي).
    وقال مبشر بن إسماعيل الحلبي: قيل للأوزاعي: إن رجلا يقول: أنا أجالس أهل السنة، وأجالس أهل البدع، فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل( ).
    قال الإمام ابن بطة رحمه الله: صدق الأوزاعي، أقول: إن هذا رجل لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، ووردت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ﴿وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم﴾. ("الإبانة الكبرى" /رقم (435) /دار الكتب والوثائق).
    وعن مردويه، وهو عبد الصمد بن يزيد الصائغ قال: سمعت الفضيل بن عياض رحمه الله: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي صاحب بدعة إلا من النفاق( ) اهـ.
    بهذا علمنا أن من جالس أهل السنة وجالس أهل البدعة مع العلم، حكم عليه الأئمة بأنه منافق.
    مثال آخر في تكافؤ الظاهرين: حديث عن عقبة بن الحارث، رضي الله عنه قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت لي: إني قد أرضعتكما، وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال: «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك». (أخرجه البخاري (5104)).
    فنكاحهما ظاهر، وشهادة المرأة السوداء بإرضاعهما ظاهر آخر. فما حكمه؟ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإن أصل الأبضاع على التحريم، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية، وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله أو أقوى منه وهو الشهادة، فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له، فهذا الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عين الصواب ومحض القياس، وبالله التوفيق. ("إعلام الموقعين"/1/ص261/دار الحديث).
    الفصل الثالث عشر: هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لمجرد الحكم على الظاهر؟
    يظن بعض الناس أن ظاهر القال أقوى من ظاهر الحال، استدلالا برفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين. وهذا الكلام يحتاج إلى تفصيل: فمن أظهر الإسلام ولم يتبين منه النفاق وما يوجب الحدّ، قُبل منه ذلك وله حكم المسلمين. ومن أظهر الإسلام وثبت بالبينة ارتكابه لما يوجب الحد حُدّ. ومن أظهر الإسلام وظهرت طعوناته للنبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم تأليفا لقلوب الناس. وأما هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم إلا إقامة الحدّ على من طعن في نبيهم صلى الله عليه وسلم.
    قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير﴾ [التوبة: 73].
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة. وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشـركين ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾ [التوبة: 5]، وسيف لكفار أهل الكتاب ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ [التوبة: 29]، وسيف للمنافقين ﴿جاهد الكفار والمنافقين﴾، وسيف للبغاة ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ [الحجرات: 9] ( ) وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق. وهو اختيار ابن جرير.
    وقال ابن مسعود في قوله تعالى: ﴿جاهد الكفار والمنافقين﴾ قال: بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه( ). وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم( ). وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم( ). وعن مقاتل( ) والربيع( ) مثله. وقال الحسن( ) وقتادة( ): مجاهدتهم إقامة الحدود( ) عليهم. وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال، والله أعلم. ("تفسير القرآن العظيم"/4/ص192-193/دار الحديث).
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا رسول الله أعلم الخلق والله يقول له: ﴿وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين﴾ فأولئك إنما كان النبي صلى الله عليه و سلم يحكم فيهم كحكمه فى سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلى عليها، ولم يكن منهيا عن الصلاة إلا على من علم نفاقه. وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم وهذا لا يقدر عليه بشر.
    ولهذا لما كشفهم الله بسورة براءة بقوله: (ومنهم ومنهم) صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك، فإن الله وصفهم بصفات علمها الناس منهم. وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم وإن كان بعضهم يظن ذلك، وبعضهم يعلمه، فلم يكن نفاقهم معلوما عند الجماعة بخلاف حالهم لما نزل القرآن. ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق وما بقى يمكنهم من إظهاره أحيانا ما كان يمكنهم قبل ذلك. وأنزل الله تعالى: ﴿لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يحاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾ فلما توعدوا بالقتل إذا أظهروا النفاق كتموه.
    ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق، فقيل يستتاب واستدل من قال ذلك بالمنافقين الذين كان النبى صلى الله عليه و سلم يقبل علانيتهم ويكل أمرهم إلى الله. فيقال له: هذا كان في أول الأمر، وبعد هذا أنزل الله: ﴿ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا﴾ فعلموا أنهم إن أظهروه كما كانوا يظهرونه قتلوا فكتموه.
    والزنديق هو المنافق، وإنما يقتله من يقتله إذا ظهر منه أنه يكتم النفاق. قالوا: ولا تعلم توبته لأن غاية ما عنده أنه يظهر ما كان يظهر، وقد كان يظهر الإيمان وهو منافق. ولو قبلت توبة الزنادقة لم يكن سبيل إلى تقتيلهم والقرآن قد توعدهم بالتقتيل.
    والمقصود: أن النبي إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر الذى علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن سعدا لما شهد لرجل أنه مؤمن، قال: «أو مسلم» وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأمة وزيادة، فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس فى الدنيا وبين حكمهم فى الآخرة بالثواب والعقاب. فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنا فى الباطن بإتفاق جميع أهل القبلة –إلى قوله:-
    وكذلك المنافقون الذين لم يظهروا نفاقهم يصلى عليهم إذا ماتوا ويدفنون فى مقابر المسلمين من عهد النبى. والمقبرة التي كانت للمسلمين فى حياته وحياة خلفائه وأصحابه يدفن فيها كل من أظهر الإيمان وإن كان منافقا فى الباطن، ولم يكن للمنافقين مقبرة يتميزون بها عن المسلمين في شيء من ديار الإسلام كما تكون لليهود والنصارى مقبرة يتميزون بها. ومن دفن فى مقابر المسلمين صلى عليه المسلمون. والصلاة لا تجوز على من علم نفاقه بنص القرآن، فعلم أن ذلك بناء على الإيمان الظاهر، والله يتولى السرائر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليهم ويستغفر لهم حتى نهى عن ذلك وعلل ذلك بالكفر، فكان ذلك دليلا على أن كل من لم يعلم أنه كافر بالباطن جازت الصلاة عليه والإستغفار له وإن كانت فيه بدعة وإن كان له ذنوب.
    وإذا ترك الإمام أو أهل العلم والدين الصلاة على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجرا عنها لم يكن ذلك محرما للصلاة عليه والإستغفار له، بل قال النبي فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغال وقاتل نفسه والمدين الذى لا وفاء له: «صلوا على صاحبكم»( ). ("مجموع الفتاوى" /7 /ص214-217).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ويكل سريرته إلى الله ويجري عليه حكم الظاهر ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره اهـ. ("زاد المعاد"/3/ص 501).
    وقال الطبري رحمه الله: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهرَ منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا مَنْ إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخِذ بها، أنكرها ورجع عنها وقال: "إني مسلم"، فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه، أن يحقِنَ بذلك له دمه وماله، وإن كان معتقدًا غير ذلك، وتوكَّل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحثَ عن السرائر. فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه بهم وإطْلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صُدورهم، كان يُقِرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبَه الحرب على الشرك بالله، لأن أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنه قد قال قولا كفر فيه بالله، ثم أخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله، عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قولٍ كان نطقَ به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميرِه الذي لم يبح الله لأحَدٍ الأخذ به في الحكم، وتولَّى الأخذَ به هو دون خلقه. ("جامع البيان"/14/ص 360).
    ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وقدم المدينة، جاءه المتخلفون من المنافقين يعتذرون اعتذار كذب، فقبل منهم علانيتهم، كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه( ). وأما المتخلفون الذين ثبت ذنبهم وليس عندهم عذر، عاقبهم، كما في قصة الثلاثة الذين خلفوا –وليسوا منافقين، رضي الله عنهم- حتى تاب الله عليهم وأثبت صدقهم وطهّرهم من ذنبهم وبرأهم من النفاق.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومنها : ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثا تأديبا له وزجرا لغيره فإنه صلى الله عليه و سلم لم ينقل أنه رد على كعب بل قابل سلامه بتبسم المغضب. ("زاد المعاد" / 3 / ص 501).
    ثم فضح الله الصنف الأول –من المنافقين- وذكرهم بِشَرِّ ذكر.
    وفي الجملة: أن من ثبت قبح حاله، مع حسن كلامه، فظاهر الحال أقوى من ظاهر القال. فالحكم مع الأغلب والأقوى. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك عقوبة المنافقين الذين قد ظهر قبحهم لا من أجل ترجيح ظاهر قولهم على ظاهر حالهم، ولكن من أجل ألا يقول الناس: (إن محمدا قتل أصحابه!).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: و مما يوضح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم حتى قال: «لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت»( ) حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم و الاستغار لهم و أمره بالإغلاظ عليهم فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام و ما يعاملهم من الصفح و العفو و الاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له: ﴿ولا تطع الكافرين و المنافقين ودع أذاهم﴾ [الأحزاب: 48] لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم و خشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم و قد صرح صلى الله عليه و سلم لما قال ابن أبي: ﴿لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ [المنافقين: 8] و لما قال ذو الخويصرة (اعدل فإنك لم تعدل) و عند غير هذه القصة : «إنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ( ). فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدا من أصحابه قد قتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام و إذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله و تعلو كلمته فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى.
    فلما أنزل الله تعالى براءة و نهاه عن الصلاة على المنافقين و القيام على قبورهم و أمره أن يجاهد الكفار والمنافقين و يغلظ عليهم نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم ولم يبق إلا إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله في حق كل إنسان. ("الصارم المسلول"/ص 243).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: نفاق عبد الله بن أبي وأقواله في النفاق كانت كثيرة جدا كالمتواترة عند النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وبعضهم أقر بلسانه وقال: إنما كنا نخوض ونلعب وقد واجهه بعض الخوارج في وجهه بقوله : إنك لم تعدل، والنبي صلى الله عليه و سلم لما قيل له : ألا تقتلهم ؟ لم يقل ما قامت عليهم بينة بل قال : «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».
    فالجواب الصحيح إذن أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي صلى الله عليه و سلم مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه و سلم وجمع كلمة الناس عليه وكان في قتلهم تنفير والإسلام بعد في غربة ورسول الله صلى الله عليه و سلم أحرص شيء على تأليف الناس وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته. وهذا أمر كان يختص بحال حياته صلى الله عليه و سلم. وكذلك ترك قتل من طعن عليه في حكمه بقوله في قصة الزبير وخصمه : أن كان ابن عمتك( ). وفي قسمه بقوله : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله( ). وقول الآخر له : إنك لم تعدل. فإن هذا محض حقه له أن يستوفيه وله أن يتركه. وليس للأمة بعده ترك استيفاء حقه بل يتعين عليهم استيفاؤه ولا بد اهـ. ("زاد المعاد"/3/ص 496).
    انتهى هذا الباب الأول الذي يبين وجوب تطبيق الحكم على الظاهر، ويبين أن الظواهر مبنية على العلامات والأمارات. فالثقة الذي يحكم على شخص بقرائن وعلامات قوية، فإنه إنما يجري على تلك القاعدة، لأنه بنى الحكم على الظاهر الحقيقي.


    الباب الثاني:
    ضوابط البينة


    زعم بعض أهل الأهواء أن السلفيين في كثير من القضايا لا يأتون بالبينات على اتهامهم شخصا بالبدعة. ومنشأ هذا الزعم الخاطئ قصور أهل الأهواء في معرفة ضابط البينات، فلا بد من توضيحها، يستفيد به جميع طلاب الحق، إن شاء الله تعالى.
    الفصل الأول: تعريف البينة
    البينة لغة كما قاله الراغب الأصبهاني رحمه الله: يقال بان كذا أي انفصل وظهر ما كان مستترا منه –إلى قوله:- وبان الصبح ظهر. ("المفردات"/1 / ص 67-68).
    واصطلاحا، قال رحمه الله: والبينة الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة وسمى الشاهدان بينة لقوله عليه السلام: «البينة على المدعى واليمين على من أنكر»( ) وقال سبحانه: ﴿أفمن كان على بينة من ربه﴾ وقال: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة﴾. ﴿جاءتهم رسلهم بالبينات﴾ والبيان الكشف عن الشيء، وهو أعم من النطق مختص بالإنسان، ويسمى ما بين به بيانا. ("المفردات"/ص 68-69).
    ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن جمهور علماء الملة: والبينة عندهم اسم لما يبين الحق. ("مجموع الفتاوى"/35/ص 392).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وبالجملة : فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره. ومَن خصّها بالشاهدين ، أو الأربعة ، أو الشاهد لم يوف مسماها حقه. ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان( )، مفردة مجموعة. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» المراد به: أن عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، لدلالة الحال على صدق المدعي. فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد. والبينة، والدلالة، والحجة، والبرهان، والآية، والتبصرة( )، والعلامة، والصفة: متقاربة في المعنى اهـ. ("الطرق الحكمية" /ص 37/دار الأرقم).
    فالبينة في الشرع هي اسم لما يبين الحق ويظهره. فما هو الحق؟ قال ابن منظور رحمه الله: والحق: صدق الحديث. والحق: اليقين بعد الشك. ("لسان العرب"/2/ص528/دار الحديث).
    وقال الإمام السفاريني رحمه الله: قال العلماء: الحق هو الحكم المطابق للواقع. وقد يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابل الباطل. ("لوائح الأنوار السنية"/2/ص267-268).
    الفصل الثاني: دائرة البينات
    إن البينة تشتمل على أشياء كثيرة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والبينة التي هي الحجة الشرعية تارة تكون بشاهدين عدلين( ) رجلين، وتارة رجل وإمرأتين، وتارة أربع شهداء، وتارة ثلاثة عند بعض العلماء من أصحاب أحمد وبعض أصحاب الشافعي، وهو دعوى الإفلاس فيمن علم أن له مال –إلى قوله:- وتارة تكون الحجة شاهدا ويمين الطالب عند جمهور فقهاء الإسلام من أهل الحجاز وفقهاء الحديث، وتارة تكون الحجة نساء، إما إمرأة عند أبي حنيفة وأحمد فى المشهور عنه، وإما إمرأتين عند مالك وأحمد فى رواية، وإما أربع نسوة عند الشافعي، وتارة تكون الحجة غير ذلك، وتارة تكون الحجة اللوث( ) واللطخ( ) والشبهة( ) مع أيمان المدعى خمسين يمينا وهي القسامة. ("مجموع الفتاوى"/35 / ص 394-395).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ...أن البينة في الشرع اسم لما يبين الحق ويظهره، وهي تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة بالنص في بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهدا واحدا، وامرأة واحدة، وتكون نكولا( ) ويمينا، أو خمسين يمينا، أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال في الصور التي ذكرناها وغيرها. اهـ ("الطرق الحكمية"/ص48/دار الأرقم).
    وسيأتي بعض الأمثلة الدال على سعة البينة في الشريعة.
    الفصل الثالث: وجوب قبول الكلام المؤيد بالبينة
    قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيل﴾ [الأعراف/105]
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أي: بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به،...إلخ. ("تفسير القرآن العظيم"/3/ص 454).
    وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِه﴾ [الأنعام/57] وقال سبحانه: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ [آل عمران/183].
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: قال الله تعالى: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالحجج والبراهين ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ أي: وبنار تأكل القرابين المتقبلة ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنكم تَتّبعُونَ الحق وتنقادون للرسل. ("تفسير القرآن العظيم"/ 2 / ص 177).
    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر( ) ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» قال: فقال الأشعث: فيّ والله. كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة؟» قلت: لا. قال: فقال لليهودي: «احلف» قال: قلت: يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي. فأنزل الله تعالى: ﴿إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا﴾ إلى آخر الآية. (أخرجه البخاري (2416) ومسلم (373)).
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا القسم لا أعلم فيه نزاعا، أعني أن القول فيه قول المدعى عليه مع اليمين إذا لم يأت المدعى بحجة شرعية وهي البينة. ("مجموع الفتاوى"/35/ص394).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا كان في جانب المدعي بينة شرعية قدِّم، لقوة الظن في جانبه بالبينة. ("إغاثة اللهفان"/الباب الثالث عشر/ص341/دار ابن الهيثم).
    فمن تكلم بشيء أو ادعى شيئا ويأتي ببينة على صدق قوله أو ادعائه وجب قبوله، إلا إذا جاء خصمه بحجة أقوى فينقضها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فلا يجوز لحاكم ولا لوال رد الحق بعد ما تبين وظهرت أماراته لقول أحد من الناس. والمقصود: أن البينة في الشرع اسم لما يبين الحق ويظهره. ("الطرق الحكمية"/ ص 48/دار الأرقم).
    ذلك لأن الله تعالى قد أنزل ما ثبت بالبينة منزلة العلم، وقد أوجب عباده اتباع العلم. قال الإمام السـرخسي رحمه الله: الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة( ). ("المبسوط"/29 / ص 407).
    حتى وإن كان كثيرا من البينات لا تفيد إلا ظنّاً راجحاً، وجب العمل بها ما لم يعارضها ما هو أقوى منها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وبالجملة: فمبنى الحكم في الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة، ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة أو بدونها. وهذا كله مما يبين الحق ظاهرا فهو بينة. وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص. وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق. فمن كان ظنُّ الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى. ("إغاثة اللهفان"/الباب الثالث عشر/ص341/دار ابن الهيثم).
    وقال المناوي رحمه الله في معنى (لكن إنما أقضي على نحو ما أسمع) ( ): لبناء أحكام الشريعة على الظاهر وغلبة الظن. ("فيض القدير" /2 / ص 564).
    الفصل الرابع: التعارض بين البينتين
    الكلام في التعارض بين البينتين كالكلام في التعارض بين الظاهرين، وهو أن الحكم مع الأرجح منهما. فلما كانت البينة هي: كل ما يبين الحق ويظهره، فما كان للحق أقوى بيانا كان أرجح وأحقّ لأن يتبع.
    وقد مرّ بنا حديث أبي هريرة رضى الله عنه في قصة نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام مع المرأتين المتنازعتين في طفل. إن إقرار الصغرى بأن الولد ابن الكبرى بينة( )، ولكن هذه البينة تخالفها بينة أقوى منها وهي: عظم شفقة الصغرى بالولد ما لم توجد عند الكبرى الدالة على أن الصغرى هي أم الطفل حقيقة، فالحكم مع الصغرى.
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فدعا بالسكين ليشقه بينهما ، ولم يعزم على ذلك في الباطن، وإنما أراد استكشاف الأمر ، فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدال على عظيم الشفقة ، ولم يلتفت إلى إقرارها بقولها هو ابن الكبرى لأنه علم أنها آثرت حياته ، فظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى - مع ما انضاف إلى ذلك من القرينة الدالة على صدقها - ما هجم به على الحكم للصغرى. ("فتح الباري"/تحت رقم 3427).
    مثال آخر: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكذلك إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس وليس ذلك عادته وآخر هارب قدامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف –إلى قوله:- وأنت تعلم في مسألة الهارب وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى وآخر حاسر الرأس خلفه علما ضروريا أن العمامة له وأنه لا نسبة لظهور صدق صاحب اليد إلى هذا العلم بوجه من الوجوه. فكيف تقدم اليد التي غايتها أن تفيد ظناما عند عدم المعارض على هذا العلم الضروري اليقيني وينسب ذلك إلى الشريعة. ("الطرق الحكمية"/ص 33 و35/دار الأرقم).
    ومن ذلك ما يستفاد من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: جاء أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما يلتقطه فقال: «عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك بها، وإلا فاستنفقها». الحديث. (أخرجه البخاري (2427) ومسلم (1722)).
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فجعل وصفه لها قائما مقام البينة بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة. ("الطرق الحكمية"/ص35/دار الأرقم).
    وعلى هذا، إذا اختصم الرجلان في لقيط، كلّ واحد يدعي أن اللقيط ولده، وكل واحد يصفه ببعض الأوصاف، فكلاهما أتى ببينة. فلمن اللقيط؟ فالجواب: للشخص الذي أتى بوصف خفي في جسم الولد، لأن ذلك بينة قوية على أن ذلك الشخص والده حقا، والوالد أعرف بولده من غيره غالبا. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكذلك اللقيط إذا تداعاه اثنان ووصف أحدهما علامة خفية بجسده حكم له به عند الجمهور. ("الطرق الحكمية"/ص36/دار الأرقم).
    ولو فرض أن البينتين المتعارضتين متساويتان في قضية مالية أو نحو ذلك مع تعذر الترجيح، يعمل بهما أو يتساقطان. قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: بل إذا تعذر الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما. إذا ثبت هذا فإننا إذا قلنا إن البينتين تسقطان أقرع بينهما فمن خرجت له قرعته حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة وإن قلنا يعمل في البينتين ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين. ("المغني"/14/ص 202/دار الحديث).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فإذا تعارض سببا ظنٍّ وكان كل واحد منهما مكذبا للآخر تساقطا، كتعارض البينتين والأمارتين. وإن لم يكن كل واحد منهما مكذبا للآخر عمل بهما على حسب الإمكان، كدابة عليها راكبان، وعبد ممسك بيديه اثنان ( )، ودار فيها ساكنان( )، وخشبة لها حاملان، وجدار متصل بملكين، ونظائر هذا. ("إغاثة اللهفان"/الباب الثالث عشر/ص343-344/دار ابن الهيثم).
    الفصل الخامس: التعارض بين البينة وبين ظاهر القال أو الحال
    إن الحكم مع الظاهر، فمن أظهر خيرا حكم له بالخير، فإذا أتى رجل ثقة ببينة على قبح الشخص فالحكم مع من أتى بالبينة. قال الإمام السرخسي رحمه الله: والبناء على الظاهر واجب وعلى من يدعي خلاف الظاهر إقامة البينة فإن أقام البينة ؛ أخذ بذلك. ("المبسوط"/19 / ص 411).
    قـال علي بن أبي خالد: قلت لأحمد بن حنبل –رحمه الله -: إنّ هذا الشيخ – لشيـخ حضر معنا – هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حارث القصير – يعني حارثاً المحاسبي – وكنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي: لا تـجالسه، فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احمرّ لونه، وانتفخـت أوداجه وعيناه، وما رأيتـه هكـذا قط، ثم جعل ينتفض، ويقول: ذاك؟ فعل الله به وفعل، ليـس يعـرف ذاك إلا من خَبَره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه، ذاك لا يعرفـه إلا من قد خبره وعرفه، ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان، فأخرجهم إلى رأي جهم، هلكوا بسببه، فقال له الشيخ: يا أبا عبـد الله، يروي الحديث، ساكنٌ خاشعٌ، من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبد الله، وجعـل يقول: لا يغرّك خشوعه ولِينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سـوء ذاك لا يعرفه إلا مـن خبره، لا تكلمـه، ولا كرامة لـه، كل من حدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلـس إليـه؟! لا، ولا كـرامة ولا نُعْمَى عـين، وجعل يقول: ذاك، ذاك. ("طبقات الحنابلة"/1/ص 234 ).
    فالسكون والخشوع ووجود العلم في شخص من ظواهر الخير، ولكن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله أتى ببينة قوية على قبح عقيدة الحارث المحاسبي، فالقول قول الثقة الذي أتى بالبينة ( ).
    وقد مر بنا قول يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: لما قدم سفيان الثوري البصرة: جعل ينظر إلى أمر الربيع يعني ابن صبيح، وقدره عند الناس، سأل: (أي شيء مذهبه؟) قالوا: (ما مذهبه إلا السنة) قال: (من بطانته؟) قالوا: (أهل القدر) قال: (هو قدري). ("الإبانة" لابن بطة / رقم 426/حسن الأثر).
    إن الربيع بن صبيح أظهر السنة أمام الناس، فشهدوا له بالسنة. ولكن هذا الظاهر خالفها بينة أقوى منه وهي صحبة القدريين، فحكم عليه الإمام الثوري رحمه الله بأنه قدري.
    وكما سبق في بداية الكتاب، أن الظواهر قد تبلغ حد اليقين لقوة العلامات الدالة على العلم. وبعض الظواهر يبلغ حد الظن لأن العلامات تدل على ذلك. فإذا كان كذلك، قد يكون الظاهر المستفاد من العلامات أقوى من بعض أنواع البينات لقوته في الدلالة على الحق الواقع. راجع كلام ابن القيم رحمه الله في هذا الموضوع في بداية هذا الكتاب في الظاهر الذي يبلغ درجة اليقين.
    قال ابن القيم رحمه الله في قصة رسول الله يوسف عليه السلام: وقد حكى الله سبحانه فى كتابه عن الشاهد الذى شهد من أهل امرأة العزيز. وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام. وكذب المرأة بقوله: ﴿إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرِ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: 26 - 28] .
    وسمى الله سبحانه ذلك أية، وهى أبلغ من البينة، فقال: ﴿ثُمَّ بِدِا لهَمُ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ليسجُنَنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾( ) [يوسف: 35] .
    وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به. ("إغاثة اللهفان"/ص344-345/ دار ابن الهيثم).
    وهذا الفصل ليس بمعنى أن العمل بالبينة يخالف العمل بالظاهر، بل العمل بالبينة يعتبر العمل بالظاهر. قال الزرقاني رحمه الله في شرح حديث: «وإنما أقضي على نحو ما أسمع» لبناء أحكام الشريعة على الظاهر. –إلى قوله:- وتمسك به أحمد ومالك في المشهور عنه أن الحاكم لا يقضي بعلمه لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يحكم إلا بما سمع في مجلس حكمه ولم يقل: (على نحو ما علمت) اهـ. ("شرح الزرقاني على موطأ مالك"/7 / ص 145).
    ومن يقبل إقرار المقرّ فقد قبله عملا بالظاهر. قال في "المجموع شرح المهذب" (15/ص 425): مدار الأحكام على الظاهر فلا يترك إقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله اهـ.
    وقد علمنا أن الإقرار من أنواع البينة. وكذلك الشهادة من أنواع البينة، وقبولها من العمل بالظاهر. قال محمد بن أحمد الحنفي رحمه الله: ومبنى البينات على الظاهر لأن الشاهد يخبر عن فعل غيره لا عن فعل نفسه ، فجاز أن يكون الحال في الواقع على خلاف ما ظهر عنده بهزل أو تلجئة أو غير ذلك. ("العناية شرح الهداية" /11 / ص 327).
    وقال علاء الدين ابن عابدين رحمه الله: لأن البينة إنما قامت على الظاهر. ("تكملة حاشية رد المحتار"/2/ص 210).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات، والأقارير، وشواهد الأحوال. وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط أمر لا يقدح في كونها طرقاً وأسباباً للأحكام. ("إعلام الموقعين"/2/ص10/دار الحديث).
    الفصل السادس: من عواقب حصر دائرة البينة
    بهذا البيان انجلى الأمر بأن البينة لا تنحصر على الشاهد ولا الشاهدين ولا صوت مسجل في الشريط، بل البينة واسعة شاملة على كل ما يبين الحق. فمن ثبت فيه قبح –بأية بينة كانت- حكم عليه بذلك، إلا أن يوجد معارض أقوى منها. فمن ضيق دائرة البينات يخشى عليه أن يضيع حقوقا كثيرة، وقد يعين المجرمين في جرائمهم.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص ونذكر من ذلك مثالا واحدا وهو ما نحن فيه من لفظ البينة فإنها في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات﴾ ]سورة الحديد: 25[، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَات﴾ [النحل/43، 44]، وقال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَة﴾ [البينة/4]، وقال: ﴿قل إني على بينة من ربي﴾ ]سورة الأنعام: 57[، وقال: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه﴾ [هود/17] ، وقال: ﴿أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه﴾ ]سورة فاطر: 40[ وقال: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾ [طه/133] . وهذا كثير لم يختص لفظ البينة بالشاهدين بل ولا استعمل في الكتاب فيهما البتة إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي «ألك بينة» وقول عمر: البينة على المدعي( ) وإن كان هذا قد روى مرفوعا المراد به (ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة) فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يردّ حقا قد ظهر بدليله أبدا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه. فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد( ). فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة، ولا يضيع حقا يعلم كل أحد ظهوره وحجته، بل لما ظنا هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين، وصار الظالم الفاجر ممكنا من ظلمه وفجوره فيفعل ما يريد، ويقول: (لا يقوم عليّ بذلك شاهدان اثنان) فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده وحينئذ أخرج الله أمر الحكم العلمي عن أيديهم وأدخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى ويحصل به العدوان تارة والعدل( ). أخرى ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعدوان. ("إعلام الموقعين"/ما هي البينة؟/1/ 78-79/دار الحديث).
    هذا كله رد على بعض أهل الأهواء القائلين: (ليست لديكم بينة على ما تدّعون، وإنما الذي عندكم مجرد العلامات، والعلامات لا ينبني عليها الحكم!).

    الباب الثالث:
    "الرجل على دين خليله" ليس على إطلاقه؟



    بعد أن بيّنّا حقيقة قاعدة الحكم على الظاهر، وسعة دائرة البينات، شرعنا في حل الإشكال على قاعدة: (من جالس جانس)، و(الصاحب ساحب)، و(الطيور على أشكالها تقع). وقد ثبت أن هذه القواعد لها أصل في السنة وهو: حديث أبي هريرة أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». (أخرجه أبو داود (4835) والترمذي (2552) وهو حديث حسن).
    وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». (أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة/باب الأرواح جنود/(2638)/دار السلام)، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (901)).
    ورواه البخاري معلّقاً في "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، ووصله في "الأدب المفرد" رقم (900).
    فالحكم على الظاهر، فمن صاحب شخصا فإنه على ملته، ومن جالس قوما فإنه منهم. هكذا فهْم السلف رضي الله عنهم كما مر بنا ذكر بعض أقوالهم.
    والإشكال هو: قول بعض المعترضين: يمكنني أن أجالس أهل الأهواء لأن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، وقد صاحبت آسية بنت مزاخم فرعون وليست على دينه. وهاتان امرأتا نوح ولوط –عليهما السلام- كانتا تحتهما وليستا على ملتهما. وقد مال مالك بن الدخشون رضي الله عنه إلى المنافقين ليس منهم. فليس كل من صاحب شخصا أو جالس فلانا فإنه على ملته!
    فالجواب عن هذه الشبهات ما يلي:
    الجواب الأول: قد ثبت دليل قرآني على أن من يتولى قوما ألحق بهم.
    قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51]
    قال الإمام الطبري رحمه الله: فإنه لا يتولى متولً أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه، انتهى المراد. ("جامع البيان"/10 / ص 400).
    هذه الآية شاملة لجميع الناس، وليس للمعترضين دليل على أنهم خرجوا من هذه الشمولية. ومجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم دليل على ولائهم، فهم منهم.
    الجواب الثاني: قد ثبت دليل نبوي على أن التقارب يدل على موافقة القلوب.
    والدليل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». (أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة/باب الأرواح جنود/(2638)/دار السلام).
    قال الإمام الخطابي رحمه الله: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد، وأن الخير من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر فإذا اتفقت تعارفت وإذا اختلفت تناكرت. ("فتح الباري"/ لابن حجر/6/ص 369).
    وقال المناوي رحمه الله: والتعارف هو التشاكل المعنوي الموجب لاتحاد الذوق الذي يدرك ذوق صاحبه فذلك علة الائتلاف كما أن التناكر ضده ولذلك قيل فيه :
    ولا يصحب الإنسان إلا نظيره . . . وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد
    ("فيض القدير"/1 /ص 552).
    هذا الحديث عام شامل لجميع الأرواح منها أرواح المعترضين، وليس لهم حجة على أن أرواحهم خرجت من هذا الحكم العام.
    الجواب الثالث: قد ثبت في منهج السلف أن الرجل اعتبر بصاحبه. وقد مر بنا عدد من أقوال السلف رضي الله عنهم في ذلك، فمن قال بقول المعترضين فهو محجوج بمنهج السلف. فمن اتبع السلف نال الحق والهدى والفضل. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل. ("مجموع الفتاوى"/3/ ص103).
    ومن خالف السلف ضل طريق الهدى والسنة، فوقع في البدعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة. فعلم أن شعار أهل البدع: هو ترك انتحال اتباع السلف. ("مجموع الفتاوى"/4/ص 155).
    قال الإمام الوادعي رحمه الله: وبقدر خروجه عن السلف وعن طريق السلف رضوان الله عليهم تكون البدعة. ("غارة الاشرطة"/2/ص17/مكتبة صنعاء الأثرية).
    الجواب الرابع: قد اتضح دليل إلهي على وجوب التميز من أهل الباطل. قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين﴾ [المائدة: 25].
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: بالتمييز أي: ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب. ("الجامع لأحكام القرآن"/6 /128).
    وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ [الأنعام: 68]،
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. ("الجامع لأحكام القرآن"/7/ص12).
    وقال رحمه الله: قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد( ): من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة( ). ومثله عن أيوب السختياني( ). ("الجامع لأحكام القرآن"/7/ص13).
    وقال الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].
    قال الإمام القرطبي رحمه الله: فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عزوجل: ﴿إنكم إذا مثلهم﴾. فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
    وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية ﴿إنكم إذا مثلهم﴾( ) أي إن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم.
    وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، كما قال: * فكل قرين بالمقارن يقتدي * وقد تقدم. وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والاهواء أولى. ("الجامع لأحكام القرآن"/5 /ص418).
    وقال تعالى: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ [المؤمنون: 93، 94]. وقال تعالى عن إبراهيم: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: 48، 49]
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها [من دون الله] –إلى قوله:- يقول: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب. ("تفسير القرآن العظيم"/ 5 /236).
    وغير ذلك من الأدلة. فالمعترضون بمجالستهم أهل الأهواء محجوجون بهذه الأدلة. فليس على أهل السنة لوم إن رموا أهل الأهواء بسهام الجرح فأصابت المعترضين. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من جلس مع صاحب بدعة فاحذره( ). ("شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"/ للالكائي/ رقم (1149)/دار الآثار).
    وقال رحمه الله: المؤمن يقف عن الشبهة. ومن دخل على صاحب بدعة فليست له حرمة( ). ("شرح أصول الاعتقاد" /للالكائي /1/ص 140).
    الجواب الخامس: قد ثبت دليل نبوي على مشروعية مفارقة أهل الفساد. كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة رجل قتل مائة نفس فسأل عن أعلم أهل الأرض –فذكر الحديث:- فدُلّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. الحديث (أخرجه البخاري (3470) ومسلم (2766)).
    قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء فى هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التى أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين( ) ومن يقتدى بهم وينتفع بصحبتهم وتتأكد بذلك توبته. ("شرح النووي على مسلم"/17 /83).
    وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم». قالت: قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم». (أخرجه البخاري (2118). وأخرج نحوه مسلم برقم (7421) عن أم سلمة، وبرقم (7423) عن حفصة رضي الله عنهما).
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث أن الأعمال تعتبر بنية العامل والتحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطر إلى ذلك ويتردد النظر في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة هل هي إعانة لهم على ظلمهم أو هي من ضرورة البشرية ثم يعتبر عمل كل أحد بنيته. ("فتح الباري"/لابن حجر /4 /ص341).
    هذا من شؤم مقاربة أهل الباطل، أنه يجري عليه حكم أهل الباطل حكما ظاهرا. قال محمد المبارك فوري رحمه الله: وما قارب الشيء يعطي حكمه. ("تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي"/4 /396).
    فلما كانوا مستوين في الحكم الظاهر، فإذا نزل العذاب على أهل الباطل نزل عليه وعلى مقاربيه.
    ومن شؤم مقاربة أهل الباطل أيضا: انتشار أفكاره الخبيثة بين مقاربيه. عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات ». (أخرجه أبو داود" رقم (4311) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم ( 1019)).
    بعد ذكر الحديث قال الإمام ابن بطة رحمه الله: هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحدا منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: (أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه)، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار، والردّ عليهم ، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم اهـ. ("الإبانة الكبرى" /تحت رقم (480)).
    وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة». (أخرجه البخاري (5534) ومسلم (2628)).
    قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. ("شرح صحيح مسلم" /16/ص 178).
    ثم إن تكثير سواد أهل الباطل حرام. قال أبو الأسود رحمه الله: قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة فأخبرته فنهاني أشد النهي ثم قال: أخبرني ابن عباس: أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهم فيرمى فيصيب أحدهم فيقتله أو يضـربه فيقتله فأنزل الله تعالى: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم﴾. (أخرجه البخاري (7085)).
    قال الحافظ رحمه الله: وفيه تخطئة من يقيم بين أهل المعصية باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلا، أو رجاء انقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر كما وقع للذين كانوا أسلموا ومنعهم المشركون من أهلهم من الهجرة ثم كانوا يخرجون مع المشركين لا لقصد قتال المسلمين بل لإيهام كثرتهم في عيون المسلمين فحصلت لهم المؤاخذة بذلك. ("فتح الباري"/ابن حجر /13 /ص56).
    فمن تعمد صحبة الأشرار فقد عرض نفسه للهلاك، إما بعذاب من الله، وإما بسهام الجرح من أهل الحق. وقد مر بنا كلام الفضيل بن عياض رحمه الله : لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة اهـ. (أخرجه ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى" /رقم 443/إسناده حسن).
    الجواب السادس: ومن أصول السنة التي قد اتفق السلف عليها: مجانبة أهل الهوى. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء، والجدال، والخصومات في الدين اهـ ("أصول السنة للإمام أحمد"/شرح الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله/ص7/ط. دار الإمام أحمد).
    وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: ... مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة – إلى قوله:- ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئا مما ذكرناه وهجرانه، والمقت له، وهجران من والاه ونصره وذب عنه وصاحبه، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة. ("الـشرح والإبانة" /لابن بطة العنكبري/ص65/دار الآثار).
    وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل ابن عبد الرحمـن الصابوني - رحمه الله - حاكياً مذهب السلف أهل الحديث: واتفقـوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. ("عقيدة السلف وأصحاب الحديث" /ص 114/دار المنهاج).
    والسنة هي الإسلام، فمن تعمد مخالفة أصول هذا الدين فقد ضلّ. قال الإمام أبو المظفر السمعاني رحمه الله: كل ما كان من أصول الدين فالأدلة عليها ظاهرة باهرة والمخالف فيه معاند مكابر والقول بتضليله واجب والبراءة منه شَرْعٌ. ("قواطع الأدلة" /5/ص13).
    وكذلك من تعمد مخالفة الإجماع المذكور بعد علمه بذلك فقد ارتكب محرما وعاند الحق. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة. ("مجموع الفتاوى/20/ص10).
    وقال رحمه الله: والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه –إلى قوله:- وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره. ("مجموع الفتاوى"/19/ص270).
    وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: الإجماع على ضربين: أحدهما: إجماع الخاصة والعامة، وهو مثل: إجماعهم على القبلة أنها الكعبة، وعلى صوم رمضان، ووجوب الحج، والوضوء، والصلوات وعددها وأوقاتها، وفرض الزكاة، وأشباه ذلك.
    والضرب الآخر: هو إجماع الخاصة دون العامة، مثل ما اجتمع عليه العلماء من أن الوطء مفسد للحج، وكذلك الوطء في الصوم مفسد للصوم، وأن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وأن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، وأن لا وصية لوارث، وأن لا يقتل السيد بعبده، وأشباه ذلك. فمن جحد الإجماع الأول استتيب، فإن تاب وإلا قتل، ومن رد الإجماع الآخر فهو جاهل يعلم ذلك، فإذا علمه ثم رده بعد العلم، قيل له: أنت رجل معاند للحق وأهله. ("الفقيه والمتفقه"/1/ص 434/مكتبة التوعية الإسلامية).
    الجواب السابع: ظهر عندي أن المعترضين –في مدة معاملتي معهم- يتزينون بأصول الفقه. فأنا أقول: إن قولهم (ليس على إطلاقه) في هذا الباب ليس جيداً، لأن تلك الأدلة جاءت بصيغة العموم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»، «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»، (من جالس جانس)، و(الصاحب ساحب)، و(الطيور على أشكالها تقع).
    وتعريف المطلق هو: المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه. ("مذكرة في أصول الفقه"/للإمام الشنقيطي/ص277/مكتبة العلوم والحكم).
    وتعريف العام هو: كلام مستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد بلا حصر دفعةً. ("مذكرة في أصول الفقه"/للإمام الشنقيطي/ص243/مكتبة العلوم والحكم).
    قال الإمام الشنقيطي رحمه الله: فخرج بقوله: (مستغرق لجميع ما يصلح له) ما لم يستغرق نحو : (بعض الحيوان إنسان). وخرج بقوله: (دفعة) النكرة في سياق الإثبات كرجل، فإنها مستغرقة ولكن استغراقها بدلي لا دفعة واحدة . وخرج بقوله : (بلا حصر) لفظ عشرة مثلا لأنه محصور باللفظ فلا يكون من صيغ العموم على رأي الأكثرين. وخرج بقوله : (بحسب وضع واحد) المشترك كـ: (العين) فلا يسمى عاما بالنسبة إلى شموله الجارية والباصرة، لأنه لم يوضع لهما وضعاً واحدا، بل لكل منهما وضع مستقل. ("مذكرة في أصول الفقه"/للإمام الشنقيطي/ص243-244).
    إذا كان كذلك، فليست القاعدة المذكورة مطلقة، ولكنها عامة شاملة لجميع أهل الأرض –ومنهم المعترضون- دفعة واحدة، ولا يخرج منها إلا ما خصّه الدليل.
    فمن باب تجويد العبارة: إذا رأى المعترضون خروج آسية، وامرأتي نوح ولوط ومالك بن الدخشون من هذه القاعدة، فليقلوا: (ليست تلك الأدلة على عمومها) أو (ليست تلك القاعدة على عمومها)، ولا يقولوا: (ليست تلك القاعدة على إطلاقها).
    الجواب الثامن: هل الدليل العام إذا خُصّ بدليل آخر -فخرج منه بعض الأفراد القليلة- ملغى جملة فلا عمل له في بقية أفراده؟ فهل هذه الأدلة المتكاثرة ذهب أثرها جملة من أجله تخصيصها في بعض الأفراد؟ وهل القاعدة العامة الجامعة منهدمة بسبب خروج بعض الصور النادرة من دائرتها؟ إن اعتقد المعترض هذا الاعتقاد فقد أخطأ خطأ فاحشا.
    قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: العام إذا دخله التخصيص يبقى حجة فيما لم يخص عند الجمهور. وقال أبو ثور وعيسى بن أبان: (لا يبقى حجة لأنه يصير مجازا فقد خرج الوضع من أيدينا ولا قرينة تفصل وتحصل فيبقى مجملا). ولنا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بالعمومات. وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص إلا اليسير، كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] و: ﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ [الأنفال: 75] فعلى قولهم لا يجوز التمسك بعمومات القرآن أصلا، ولأن لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع. فالمخصص صرف دلالته عن البعض، فلا تسقط دلالته عن الباقي كالاستثناء. وقولهم: (يصير مجازا) ممنوع. وإن سلم فالمجاز دليل إذا كان معروفا لأنه يعرف منه المراد، فهو كالحقيقة. وقولهم: (لا قرينة تفصل) قلنا: ليس كذلك، وإنما يجعل اللفظ مجازا بدليل التخصيص فيختص الحكم به دون ما عداه. ("روضة الناظر"/ص 238-239).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في العام المخصوص: لا نزاع بين الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة أنه حجة، ومن نقل عن أحد منهم أنه لا يحتج بالعام المخصوص فهو غلط أقبح غلط وأفحشه، وإذا لم يحتج بالعام المخصوص ذهب أكثر الشريعة وبطلت أعظم أصول الفقه. (كما في "مختصر الصواعق"/ص318/دار الحديث).
    وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: أنه حجة في الباقي، وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين، وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، لأن اللفظ العام كان متناولا للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية. فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به. ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور وهو محال. وأيضا المقتضى للعمل به فيما بقي موجود وهو دلالة اللفظ عليه. والمعارض مفقود فوجد المقتضى وعدم المانع فوجب ثبوت الحكم. وأيضا قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع. وأيضا قد قيل أنه ما من عموم إلا وقد خص، وأنه لا يوجد عام غير مخصص. فلو قلنا أنه غير حجة فيما بقي للزم إبطال كل عموم. ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما يثبت بعمومات. ("إرشاد الفحول"/1 /ص600-601/دار الفضيلة).
    وهذا البيان كاف في هدم قول المعترضين، والحمد لله.
    الجواب التاسع: أنتم –أيها العترضون- وسائر الناس داخلون في عموم الألفاظ العامة (الأرواح جنود مجندة) (الرجل على دين خليله) (اعتبروا الناس بصاحبه). فلما أُخرج منها آسية (إحدى نساء العالمين)، ومالك بن الدخشن الصحابي، وكذلك امرأتا نوح ولوط الكافرتان بالنصوص، فلماذا أخرجتم أنفسكم من عموم تلك الأدلة والقاعدة؟ أأنزل نص من السماء على أنكم من أهل الاستثناء؟ أم أجمع الأمة على خروجكم من هذه القاعدة العامة؟ فما بقي إلا القياس.
    فهل أنتم قستم أنفسكم على آسية أو مالك بن جعشم؟ أم أنكم قستم أنفسكم بـ"امرأتي نوح ولوط الكافرتين"؟ فما أفسد هذه الأقيسة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والغلط فى القياس يقع من تشبيه الشيء بخلافه وأخذ القضية الكلية باعتبار القدر المشترك من غير تمييز بين نوعيها، فهذا هو القياس الفاسد. ("مجموع الفتاوى" /6/ص 299-300).
    وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد، -ثم ذكر أمثلة إلى قوله:- فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد. ("إعلام الموقعين" /ص 319/دار الحديث).
    الجواب العاشر: في قضية آسية امرأة فرعون، نقول: إنها كانت في الجاهلية على دين فرعون، فتشاكلها وتنسب إليها. فلما جاء رسول الله موسى عليه السلام أسلمت فتنافرت روحها وروح فرعون فلا تشاكل روحها روحه، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ [التحريم: 11].
    انظروا إلى تبرئها منه –مع ضعفها وعجزها عن الخلوص من فرعون-. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ﴿وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ أي: خلصني منه، فإني أبرأ إليك من عمله، ﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. ("تفسير القرآن العظيم"/8 /172).
    وأما المعترضون لم يتبرأوا من أهل الأهواء، بل جالسوهم وصاحبوهم باختيارهم. فروح آسية نفرت من أهل الأهواء، وأما أرواح المعترضين تقرب منهم.
    وقال القرطبي رحمه الله: الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة. ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها ثم أنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها. ("فتح الباري"/ لابن حجر/6 / ص 370).
    الجواب الحادي عشر: الاستدلال بقضية مالك بن الدخشن رضي الله عنه على هذا الصنيع ممتنع، لأن مالكا رضي الله عنه إنما خدع بالمنافقين المتسترين الذين لم يظهروا له حقيقة دينهم. وقد نص الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على أن مالكا رضي الله عنه مؤمن وليس من المنافقين. وأما المعترضون فإنهم قد علموا أن الذين صاحبوهم هم أصحاب الأهواء. ولم ينزل الله تعالى لهم ضماناً أنهم معصومون من شؤم أصحاب الأهواء. راجع تفاصيل قضية مالك بن الدخشن رضي الله عنه في الباب الأول فصل التعارض بين النص والظاهر.
    وهذه الأجوبة المختصرة كافية في حلّ الإشكال بإذن الله تعالى.
    فالخلاصة: أن من جالس أهل الأهواء ولم يرفع بالنصائح رأسا فإنه منهم، لأن الحكم على الظاهر، وأن الصنيع الظاهر المختار يدل على ما في قلبه، فصحبته إياهم دليل على تشاكل أرواحهم وتجانسها وإن قال إن سريرته حسنة.


    خاتمة الرسالة


    لقد بان لمن وفقه الله أن الحكم بالظاهر لا يدل على إهمال العلامات والأمارات، بل هذه الدلائل هي التي تبني الظاهر فيعطى كل شخص بحسب ما يستحقه من الحكم بناء على ظاهره الحقيقي. وإعطاء الحكم على حسب الظاهر المبني على تلك العلامات القوية لا يقال بعدم البينة، بل البينة هي كل ما دل على حقيقة الشيء بأية طريقة كانت. هذه هي الطريقة الصحيحة في هذا الباب الموافقة للكتاب والسنة ومنهج السلف.
    ولكن لا بد من الاحتراز من التساهل في إعطاء الحكم على شخص، ولا يجوز بناء الحكم على مجرد الظنون العارية عن القرينة القوية، لأن الخطب جسيم. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].
    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ... وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ الله رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ». (أخرجه أبو داود (3592)، وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" (755)).
    والله تعالى أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين.
    كتبه أبو فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي وفقه الله
    بدماج، 27 ربيع الثاني 1433 هـ


    فهرس الرسالة

    تقديم فضيلة الشيخ أبي عبد الله محمد ابن حزام البعداني حفظه الله 3
    تقديم فضيلة الشيخ أبي عبد الله زايد بن حسن الوصابي حفظه الله 4
    مقدمة المؤلف 5
    الباب الأول: قاعدة: الحكم على الظاهر 8
    الفصل الأول: تعريف الظاهر 8
    الفصل الثاني: أقسام الظاهر 10
    الفصل الثالث: من أدلة الحكم بالظاهر 15
    الفصل الرابع: من أمثلة تطبيق الحكم على الظاهر 19
    الفصل الخامس: التعارض بين النصّ والظاهر 22
    الفصل السادس: التعارض بين الظاهرين 25
    الفصل السابع: من حِكَم شرعية الحكم على الظاهر 35
    الفصل الثامن: أن الشريعة لا تتوقف على ظاهر الألفاظ فقط 37
    الفصل التاسع: من عواقب إهمال العلامات الدالة على مراد المتكلم لاقتصاره على ظاهر الألفاط 39
    الفصل العاشر: النظر إلى مقاصد المتكلم لا يخالف الحكم بالظاهر 44
    الفصل الحادي عشر: أنواع العلامات والقرائن الدالة على مراد المتكلم ومقصده 53
    الفصل الثاني عشر: تكافؤ الظاهرين على حد سواء 55
    الفصل الثالث عشر: هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين لمجرد الحكم على الظاهر؟ 58
    الباب الثاني: ضوابط البينة 67
    الفصل الأول: تعريف البينة 67
    الفصل الثاني: دائرة البينات 69
    الفصل الثالث: وجوب قبول الكلام المؤيد بالبينة 70
    الفصل الرابع: التعارض بين البينتين 73
    الفصل الخامس: التعارض بين البينة وبين ظاهر القال أو الحال 76
    الفصل السادس: من عواقب حصر دائرة البينة 79
    الباب الثالث: "الرجل على دين خليله" ليس على إطلاقه؟ 82
    خاتمة الرسالة 98
    فهرس الرسالة 99



يعمل...
X