فتوى
شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله
في السماع البدعي
( الأناشيد )
نُقل من مجموع فتاوى شيخ الإسلام إبن تيمية الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله
في السماع البدعي
( الأناشيد )
نُقل من مجموع فتاوى شيخ الإسلام إبن تيمية الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئِلَ شيخ الإسلام : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن تيمية الحرّاني رحمه الله :
عن جماعةٍ يجتمعون على قصد الكبائر ( من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر ....وغير ذلك من الأمور المحرمة ) ثم إن شيخاً من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السُنّة قصد منع المذكورين من ذلك , فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية وهو بدف بلا صلاصل وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابه فلما فعل هذا تاب منهم جماعة وأصبح من لايصلي ويسرق ولا يزكي .. يتورع عن الشبهات ويؤدي المفروضات ويجتنب المحرمات . فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح مع أنه لايمكنه دعوتهم إلا بهذا ؟
فأجاب رحمه الله :
الحمد لله رب العالمين أصل جواب هذه المسألة وما أشبهها أن يعلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأنه أكمل له ولأمته الدين.
كما قال الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).
وأنه بشّر بالسعادة لمن أطاعه وبالشقاوة لمن عصاه
فقال تعالى ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ).
وقال تعالى ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ).
وأمر الخلق أن يردوا ماتنازعوا فيه من دينهم إلى مابعثه به
كما قال تعالى ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا ).
وأخبر أنه يدعوا إلى الله وإلى صراطه المستقيم
كما قال تعالى ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ).
وقال تعالى ( وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم صراط الله الذي له مافي السماوات ومافي الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ).
وأخبر أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث كما قال تعالى ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون الذين يتّبعون الرسول النبي الأٌميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون ).
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل معروف ونهى عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث وثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :" مابعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير مايعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ".
وثبت عن العرباض بن سارية قال :" وعظنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قال فقلنا يارسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى إختلافاً كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالة ".
وثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال :" ماتركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وحدثتكم به ".
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها بعدي إلا هالك ".
وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب " كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة ".
كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما ( فمن إعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين وكان السلف كمالك وغيره يقولون : السنة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق .
وقال الزهري : كان من مضى من علمائنا يقولون: الإعتصام بالسنة نجاة .
إذا عُرف هذا فمعلوم أنما يهدي به الله الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وإلا فأنه لو كان مابعث الله به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لايكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصاً محتاجاً تتمة وينبغي أن يُعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو إستحباب والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.
والعمل إذا إشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه بل نهى عنه كما قال الله تعالى ( كُتِبَ عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون ) .
وقال الله تعالى ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ولهذا حرمهما الله بعد ذلك.
وهكذا مايراه الناس من الأعمال مُقرِباً إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكيم لايهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين مايقربهم إلى رب العالمين .
إذا تبين هذا فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يُتوِّب المجتمعين على الكبائر فلم يمكنه ذلك إلا من الطريق البدعي يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي يتوب بها العصاة أو عاجز عنها فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.
فلا يجوز أن يقال : إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه مايُتّوب به العصاة فإنه قد عُلم بالإضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ماذكر من الإجتماع البدعي , بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة تابوا إلى الله بالطرق الشرعية لا بهذه الطريقة البدعية وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه وفعل مايحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لابهذه الطرق البدعية.
فلا يمكن أن يقال إن العصاة لاتمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية بل قد يقال : إن في الشيوخ من يكون جاهلاً بالطرق الشرعية عاجزاً عنها ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ويسمعهم إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية إما مع حسن قصد إن كان له دين وإما أن يكون غرضه الترؤس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل.
كما قال الله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ).
فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل أو عجز أو غرض فاسد وإلا فمن المعلوم فإن سماع القرآن هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين .
قال الله تعالى في النبيين ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا ).
وقال الله تعالى في أهل المعرفة (وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ).
وقال الله تعالى في أهل العلم ( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ).
وقال الله تعالى في المؤمنين ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا ).
وقال الله تعالى ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله).
وبهذا السماع هدى الله العباد وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد وبه بُعث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبه أُمر المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
وعليه كان يجتمع السلف كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اجتمعوا أمروا رجلاً منهم أن يقرأوهم يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ أبوموسى وهم يستمعون.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته وقال " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " وقال مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً " أي لحسنته لك تحسينا.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لابن مسعود " إقرأ عليّ القرآن فقال : أقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل فقال : أني أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية
:( فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً )
قال لي : حسبك فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء ".
وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال " خير القرون الذين بُعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".
ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا لابالحجاز ولا باليمن ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك وقد مدح الله أهل هذا السماع المقبلين عليه وذم المعرضين عنه وأخبر أنه سبب الرحمة
فقال تعالى ( وإذا قُرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ).
وقال تعالى ( والذين إذا ذُكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صُماً وعُمياناً ).
وقال تعالى ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ).
وقال تعالى ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ).
وقال تعالى ( فمالهم عن التذكرة لمعرضين كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة ).
وقال تعالى ( ومن أظلم ممن ذُكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ).
وقال تعالى ( فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ).
ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس بإتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة ويأمرهم بسماع ذلك.
وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين : في المغرب والعشاء والفجر.
قال الله تعالى ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ).
وبهذا مدح عبدالله بن رواحه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروفٌ من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقناتٍ إنما قال واقع
وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله من وجل القلوب ودمع العيون واقشعرار الجلود وإنما حدث سماع هذه الأبيات بعد هذه القرون فأنكره الأئمة حتى قال الشافعي ـ رحمه الله ـ خلفت ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يزعمون أنه يرقق القلوب يصدون به الناس عن القرآن.
وسُئل الإمام أحمد عنه فقال : مُحدث فقيل له: أنجلس معهم فيه فقال: لايجلس معهم.
والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم من أمثل أنواع السماع وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المُحدث مثل [ الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداداني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم ].
ولا أكابر الشيوخ المتأخرين مثل [ الشيخ عبدا لقادر والشيخ عدي والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان والشيخ أبي القاسم الحوفي والشيخ علي بن وهب والشيخ حياة وأمثالهم ].
وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه .
وسُئل الجنيد عنه فقال : من تكلف السماع فُتن به ومن صادفه السماع إستراح به .
فبين الجنيد إن قاصد هذا السماع صار مفتوناً وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس.
فإن النهي إنما يتوجه إلى الإستماع دون السماع ولهذا لو مرَّ رجل بقومٍ يتكلمون بكلامٍ محرم لم يجب عليه سد أذنيه لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إبن عمر بسدِ أذنيه لما سمع زمارة الراعي لأنه لم يكن مستمعاً بل سامعاً.
وقول السائل وغيره : هل هو حلال أو حرام لفظ مجمل فيه تلبيس يشتبه الحكم فيه حتى لايُحسِن كثير من المفتين الجواب فيه وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين :
أحدهما : أنه هل هو محرم أو غير محرم بل يفعل كما يفعل سائل الأفعال التي تلتذ بها النفوس وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله
والنوع الثاني : أن يفعل على وجه الديانة والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العباد لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات لامن جنس اللعب والملهيات.
فيجب التفريق بين سماع المتقربين وسماع المتلعبين وبين السماع الذي يفعله الناس بالأعراس والأفراح ونحو ذلك من العادات وبين السماع الذي يُفعل لصلاح القلوب والتقرب إلى رب السماوات فإن هذا يُسأل عنه هل هو قربة وطاعة وهل هو طريق إلى الله وهل لهم بُدّ من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم ونحو ذلك من المقاصد التي تُقصد بالسماع .
كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة لا على وجه اللهو واللعب.
إذا عُرف هذا فحقيقة السؤال : هل يباح للشيخ أن يجعل مثل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قُربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله ويُتَوّب العاصين ويرشد الغاوين ويهدي به الضالين؟
ومن المعلوم أن الدين له ( أصلان ) فلا دين إلا ماشرع الله ولا حرام إلا ما حرمه الله والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرّموا مالم يحرِّمه الله وشرعوا ديناً لم يأذن به الله .
ولو سُئل العالم عمّن يعدو بين جبلين : هل يباح له ذلك قال : نعم .فإذا قيل إنه على وجه العبادة كما يُسعى بين الصفا والمروة قال : إن فعله على هذا الوجه حرام منكر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قُتل.
ولو سُئل عن كشف الرأس ولبس الإزار والرداء : أفتى بأن هذا جائز. فإذا قيل إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج قال : إن هذا حرام منكر.
ولو سُئل عمن يقوم في الشمس قال : هذا جائز فإذا قيل إنه يفعله على وجه العبادة قال : هذا منكر كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
" أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال: من هذا قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه " فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح لم ينهه عنه لكن لما فعله على وجه العبادة نُهي عنه.
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحْرُم عليه ذلك ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما كانوا يفعلون في الجاهلية كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف فنُهوا عن ذلك
كما قال تعالى ( ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها )فبين سبحانه أن هذا ليس ببر وإن لم يكن حراماً فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصياً مذموماً مبتدعاً والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن العاصي يعلم أنه عاصي فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لايعده من صالح العمل ولا يرجوا به الثواب وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه ديناً وإذا نُهي عنه كان كمن نُهي عن دينه ورأى أنه قد انقطع من الله وحُرم من نصيبه من الله تعالى إذا تركه, فهؤلاء ضُلاّل باتفاق العلماء المسلمين ولا يقول أحد من أئمة المسلمين إن إتخاذ هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى أمر مباح بل من جعل هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى فهو ضال مُفترٍ مخالف لإجماع المسلمين ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلاً متكلماً في الدين بلا علم .
فالسؤال عن مثل هذا أن يقال: هل ما يفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا وهل يثابون على ذلك أم لا وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله ففعلوه على أنه قربة وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى هل يحل لهم هذا الإعتقاد وهذا العمل على هذا الوجه.
وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقول إن هذا من القرب والطاعات وأنه من أنواع العبادات وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعوا به هؤلاء إليه ولا أنت مما أمر الله تعالى به عباده لا أمر إيجاب ولا أمر مستحب ومالم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محموداً ولا حسنة ولا طاعة ولا عبادة بإتفاق المسلمين .
فمن فعل ماليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب لاسيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقاً يقدمونه على سماع القرآن وَجداً وذوقاً وربما قدموه عليه إعتقاداً فتجدهم يستمعون القرآن بقلوب لاهية وألسن لاغية وحركات مضطربة وأصوات لاتُقبل عليه قلوبهم ولا ترتاح إليه نفوسهم فإذا سمعوا المكاء والتصدية أصغت القلوب واتصل المحبوب بالمحب وخشعت الأصوات وسكنت الحركات فلا سعلة ولا عطاس ولا لغط ولا صياح وإن قرأوا شيئاً من القرآن أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به ولا فائدة له فيه حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك وأقبلوا عليه وعكفت أرواحهم عليه.
فهؤلاء جند الشيطان وأعداء الرحمن وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى ويُبغض ما أبغضه الله تعالى ويوالي أولياء الله ويُعادي أعداء الله وهؤلاء يُحبون ما أبغض الله ويُبغضون ما أحب اله ويوالون أعداء الله ويُعادون أولياءه ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله وجند الشيطان .
فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائرٌ به , ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم , وفيهم من يحضر طعاماً وإداماً ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك , فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين ومن يُمَيِز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل.
وقد بسطنا الكلام على مسألة السماع وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع وبالله التوفيق والله أعلم وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
عن جماعةٍ يجتمعون على قصد الكبائر ( من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر ....وغير ذلك من الأمور المحرمة ) ثم إن شيخاً من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السُنّة قصد منع المذكورين من ذلك , فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية وهو بدف بلا صلاصل وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابه فلما فعل هذا تاب منهم جماعة وأصبح من لايصلي ويسرق ولا يزكي .. يتورع عن الشبهات ويؤدي المفروضات ويجتنب المحرمات . فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح مع أنه لايمكنه دعوتهم إلا بهذا ؟
فأجاب رحمه الله :
الحمد لله رب العالمين أصل جواب هذه المسألة وما أشبهها أن يعلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأنه أكمل له ولأمته الدين.
كما قال الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).
وأنه بشّر بالسعادة لمن أطاعه وبالشقاوة لمن عصاه
فقال تعالى ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ).
وقال تعالى ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ).
وأمر الخلق أن يردوا ماتنازعوا فيه من دينهم إلى مابعثه به
كما قال تعالى ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا ).
وأخبر أنه يدعوا إلى الله وإلى صراطه المستقيم
كما قال تعالى ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ).
وقال تعالى ( وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم صراط الله الذي له مافي السماوات ومافي الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ).
وأخبر أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث كما قال تعالى ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون الذين يتّبعون الرسول النبي الأٌميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون ).
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل معروف ونهى عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث وثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :" مابعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير مايعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ".
وثبت عن العرباض بن سارية قال :" وعظنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قال فقلنا يارسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى إختلافاً كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالة ".
وثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال :" ماتركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وحدثتكم به ".
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها بعدي إلا هالك ".
وشواهد هذا الأصل العظيم الجامع من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب " كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة ".
كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما ( فمن إعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين وكان السلف كمالك وغيره يقولون : السنة كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق .
وقال الزهري : كان من مضى من علمائنا يقولون: الإعتصام بالسنة نجاة .
إذا عُرف هذا فمعلوم أنما يهدي به الله الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وإلا فأنه لو كان مابعث الله به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لايكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصاً محتاجاً تتمة وينبغي أن يُعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو إستحباب والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.
والعمل إذا إشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه بل نهى عنه كما قال الله تعالى ( كُتِبَ عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون ) .
وقال الله تعالى ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) ولهذا حرمهما الله بعد ذلك.
وهكذا مايراه الناس من الأعمال مُقرِباً إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكيم لايهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين مايقربهم إلى رب العالمين .
إذا تبين هذا فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يُتوِّب المجتمعين على الكبائر فلم يمكنه ذلك إلا من الطريق البدعي يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي يتوب بها العصاة أو عاجز عنها فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.
فلا يجوز أن يقال : إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه مايُتّوب به العصاة فإنه قد عُلم بالإضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية التي ليس فيها ماذكر من الإجتماع البدعي , بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة تابوا إلى الله بالطرق الشرعية لا بهذه الطريقة البدعية وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه وفعل مايحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لابهذه الطرق البدعية.
فلا يمكن أن يقال إن العصاة لاتمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية بل قد يقال : إن في الشيوخ من يكون جاهلاً بالطرق الشرعية عاجزاً عنها ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ويسمعهم إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية إما مع حسن قصد إن كان له دين وإما أن يكون غرضه الترؤس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل.
كما قال الله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ).
فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل أو عجز أو غرض فاسد وإلا فمن المعلوم فإن سماع القرآن هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين .
قال الله تعالى في النبيين ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا ).
وقال الله تعالى في أهل المعرفة (وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ).
وقال الله تعالى في أهل العلم ( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ).
وقال الله تعالى في المؤمنين ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا ).
وقال الله تعالى ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله).
وبهذا السماع هدى الله العباد وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد وبه بُعث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبه أُمر المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
وعليه كان يجتمع السلف كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اجتمعوا أمروا رجلاً منهم أن يقرأوهم يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ أبوموسى وهم يستمعون.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته وقال " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " وقال مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً " أي لحسنته لك تحسينا.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لابن مسعود " إقرأ عليّ القرآن فقال : أقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل فقال : أني أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية
:( فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً )
قال لي : حسبك فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء ".
وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال " خير القرون الذين بُعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".
ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا لابالحجاز ولا باليمن ولا بالشام ولا بمصر والعراق وخراسان والمغرب وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك وقد مدح الله أهل هذا السماع المقبلين عليه وذم المعرضين عنه وأخبر أنه سبب الرحمة
فقال تعالى ( وإذا قُرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ).
وقال تعالى ( والذين إذا ذُكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صُماً وعُمياناً ).
وقال تعالى ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ).
وقال تعالى ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ).
وقال تعالى ( فمالهم عن التذكرة لمعرضين كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة ).
وقال تعالى ( ومن أظلم ممن ذُكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ).
وقال تعالى ( فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ).
ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس بإتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة ويأمرهم بسماع ذلك.
وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين : في المغرب والعشاء والفجر.
قال الله تعالى ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ).
وبهذا مدح عبدالله بن رواحه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروفٌ من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقناتٍ إنما قال واقع
وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله من وجل القلوب ودمع العيون واقشعرار الجلود وإنما حدث سماع هذه الأبيات بعد هذه القرون فأنكره الأئمة حتى قال الشافعي ـ رحمه الله ـ خلفت ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يزعمون أنه يرقق القلوب يصدون به الناس عن القرآن.
وسُئل الإمام أحمد عنه فقال : مُحدث فقيل له: أنجلس معهم فيه فقال: لايجلس معهم.
والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم من أمثل أنواع السماع وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المُحدث مثل [ الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداداني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم ].
ولا أكابر الشيوخ المتأخرين مثل [ الشيخ عبدا لقادر والشيخ عدي والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان والشيخ أبي القاسم الحوفي والشيخ علي بن وهب والشيخ حياة وأمثالهم ].
وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه .
وسُئل الجنيد عنه فقال : من تكلف السماع فُتن به ومن صادفه السماع إستراح به .
فبين الجنيد إن قاصد هذا السماع صار مفتوناً وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس.
فإن النهي إنما يتوجه إلى الإستماع دون السماع ولهذا لو مرَّ رجل بقومٍ يتكلمون بكلامٍ محرم لم يجب عليه سد أذنيه لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إبن عمر بسدِ أذنيه لما سمع زمارة الراعي لأنه لم يكن مستمعاً بل سامعاً.
وقول السائل وغيره : هل هو حلال أو حرام لفظ مجمل فيه تلبيس يشتبه الحكم فيه حتى لايُحسِن كثير من المفتين الجواب فيه وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين :
أحدهما : أنه هل هو محرم أو غير محرم بل يفعل كما يفعل سائل الأفعال التي تلتذ بها النفوس وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله
والنوع الثاني : أن يفعل على وجه الديانة والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العباد لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات لامن جنس اللعب والملهيات.
فيجب التفريق بين سماع المتقربين وسماع المتلعبين وبين السماع الذي يفعله الناس بالأعراس والأفراح ونحو ذلك من العادات وبين السماع الذي يُفعل لصلاح القلوب والتقرب إلى رب السماوات فإن هذا يُسأل عنه هل هو قربة وطاعة وهل هو طريق إلى الله وهل لهم بُدّ من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم ونحو ذلك من المقاصد التي تُقصد بالسماع .
كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة لا على وجه اللهو واللعب.
إذا عُرف هذا فحقيقة السؤال : هل يباح للشيخ أن يجعل مثل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قُربة وعبادة وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله ويُتَوّب العاصين ويرشد الغاوين ويهدي به الضالين؟
ومن المعلوم أن الدين له ( أصلان ) فلا دين إلا ماشرع الله ولا حرام إلا ما حرمه الله والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرّموا مالم يحرِّمه الله وشرعوا ديناً لم يأذن به الله .
ولو سُئل العالم عمّن يعدو بين جبلين : هل يباح له ذلك قال : نعم .فإذا قيل إنه على وجه العبادة كما يُسعى بين الصفا والمروة قال : إن فعله على هذا الوجه حرام منكر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قُتل.
ولو سُئل عن كشف الرأس ولبس الإزار والرداء : أفتى بأن هذا جائز. فإذا قيل إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج قال : إن هذا حرام منكر.
ولو سُئل عمن يقوم في الشمس قال : هذا جائز فإذا قيل إنه يفعله على وجه العبادة قال : هذا منكر كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
" أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال: من هذا قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه " فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح لم ينهه عنه لكن لما فعله على وجه العبادة نُهي عنه.
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحْرُم عليه ذلك ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما كانوا يفعلون في الجاهلية كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف فنُهوا عن ذلك
كما قال تعالى ( ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها )فبين سبحانه أن هذا ليس ببر وإن لم يكن حراماً فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصياً مذموماً مبتدعاً والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن العاصي يعلم أنه عاصي فيتوب والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لايعده من صالح العمل ولا يرجوا به الثواب وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه ديناً وإذا نُهي عنه كان كمن نُهي عن دينه ورأى أنه قد انقطع من الله وحُرم من نصيبه من الله تعالى إذا تركه, فهؤلاء ضُلاّل باتفاق العلماء المسلمين ولا يقول أحد من أئمة المسلمين إن إتخاذ هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى أمر مباح بل من جعل هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى فهو ضال مُفترٍ مخالف لإجماع المسلمين ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلاً متكلماً في الدين بلا علم .
فالسؤال عن مثل هذا أن يقال: هل ما يفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا وهل يثابون على ذلك أم لا وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله ففعلوه على أنه قربة وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى هل يحل لهم هذا الإعتقاد وهذا العمل على هذا الوجه.
وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقول إن هذا من القرب والطاعات وأنه من أنواع العبادات وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعوا به هؤلاء إليه ولا أنت مما أمر الله تعالى به عباده لا أمر إيجاب ولا أمر مستحب ومالم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محموداً ولا حسنة ولا طاعة ولا عبادة بإتفاق المسلمين .
فمن فعل ماليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب لاسيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقاً يقدمونه على سماع القرآن وَجداً وذوقاً وربما قدموه عليه إعتقاداً فتجدهم يستمعون القرآن بقلوب لاهية وألسن لاغية وحركات مضطربة وأصوات لاتُقبل عليه قلوبهم ولا ترتاح إليه نفوسهم فإذا سمعوا المكاء والتصدية أصغت القلوب واتصل المحبوب بالمحب وخشعت الأصوات وسكنت الحركات فلا سعلة ولا عطاس ولا لغط ولا صياح وإن قرأوا شيئاً من القرآن أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به ولا فائدة له فيه حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك وأقبلوا عليه وعكفت أرواحهم عليه.
فهؤلاء جند الشيطان وأعداء الرحمن وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى ويُبغض ما أبغضه الله تعالى ويوالي أولياء الله ويُعادي أعداء الله وهؤلاء يُحبون ما أبغض الله ويُبغضون ما أحب اله ويوالون أعداء الله ويُعادون أولياءه ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله وجند الشيطان .
فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائرٌ به , ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم , وفيهم من يحضر طعاماً وإداماً ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك , فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين ومن يُمَيِز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل.
وقد بسطنا الكلام على مسألة السماع وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع وبالله التوفيق والله أعلم وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أقول وبالله التوفيق ماأشبه الليلة بالبارحة أين هم الذين ألصقوا الأناشيد بالإسلام فأسموها إسلامية زوراً وبهتاناً أين هم من هذا الكلام والتفصيل الدقيق نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبتنا على كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.