بسم الله الرحمن الرحيم
الحلبي يؤصل من قبل ثلاثين عاماً أصولاً ضد منهج السلف في الجرح والتعديل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد اطلعتُ على مقال لعلي الحلبي نُشر في منتديات ما يسمى زوراً بـِ"كل السلفيين".
عنوانه " تقريري الواضحُ الـمُستبين لأُصول ( علم الجرح والتعديل )-الأَمين- وَفْقَ قواعد الأَئِمة والمحدّثين –قبل سنواتٍ ثلاثين!".
فرأيتُ أنه لا بد من التعليق عليه وبيان ما في ظواهره وخوافيه.
ومن الله أسأل العون والتوفيق والسداد.
قال الحلبي: " ثم يأتِي –اليومَ!- بعضُ (إخواننا!) الغُلاةِ المُتربِّصِين -هداهُم اللهُ رَبُّ العالمِين-؛ لِيَنْسُبُوا إليَّ –تعدّياً وافتراءً- وبناءً على عبارةٍ مِنِّي –قلتها في مجلسٍ علميٍّ!- لَمْ يَفْهَمُوهَا! وكلمةٍ عنِّي-هم طاروا بها وطيّروها!- لَمْ يَعُوها!-: أنِّي أنفِي دلائلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ على عِلْمِ الجَرْحِ والتَّعديل!!
وهذا-كلُّه- باطلٌ مِن التَّقَوُّل والتَّقويل! لم يخطر لي على بال !ولم يَسنح لي على خيال!!".
أقول:
1- اتق الله -إن كنتَ تخشاه وما أظن ذلك- من هذا التلاعب والتكذيب للصادقين ورميهم بالغلو.
فأنت الذي قلتَ بالحرف وبصوتك: "علم الجرح والتعديل لا هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة"، واعترفتَ بهذا عند ربيع وغيره، ثم قلتَ مهوناً من شأن هذا الخطب الجلل: إنه خطأ لفظي، فقال لك ربيع: بل إنه جوهري، فأصررتَ على أنه لفظي.
2- ثم كم هوشتَ على الجرح المفسر، وعلى أخبار الثقات.
3- ومَنْ غيرك قال محارباً لمن يُبدِّع أهل الضلال:
" ثم موقف عامة الطلبة إذا أجمع أهل العلم على تبديع واحد لا يسعهم أن يخالفوه".
فاشترطتَ إجماع أهل العلم لقبول هذا الجرح.
ومَنْ سبقك إلى هذا أيها المخترع.
4- ومَنْ غيرك اشترط اتفاق العلماء لاعتبار كلمة غثائية سباً، تلك الكلمة الخبيثة التي أطلقها بعض أخدانك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمَنْ سبقك إلى هذا الاشتراط الموغل في المكابرة والتمييع والتضييع؟؟
وهل ذاك وذاك تأصيل لعموم قواعد المحدثين أو أنهما مناوأة وهدم لقواعد المحدثين؟
ومع هذا الهدم والتلاعب تدَّعي الآن أنك قد قرّرتَ أصول علم الجرح والتعديل وفق قواعد الأئمة والمحدثين قبل سنوات ثلاثين، فهل هذه الدعوى صحيحة، أو هي خاطئة كاذبة قبيحة؟
سيرى القارئ مآل في هذه الدعوى العريضة.
أعتقد أنه لا يوجد لك نظير في التلاعب والتلون.
قال الحلبي: " وفي كتابي «منهج السَّلَف الصَّالح في أصول النَّقد والجرح والنَّصائح» (ص133-140)-المطبوع قبل سنوات- بيانٌ مُفصَّل، وشَرْحٌ مُؤصَّل ، وتأييدٌ أمثل ، وتقريرٌ أطول".
أقول: كتابك هذا إنما هو منهج الخلف الطالح، وهو إنما استهدفتَ به الفتن والشغب على منهج السلف الصالح.
وقد بيّنَ الدكتور أحمد بازمول ما فيه من الأباطيل، فأصررتَ على هذه الأباطيل كما هو شأن أهل الأهواء.
وقبل هذا المنهج الباطل تقيأت هذه الفتنة والتأصيل الباطل في تقرير لك سجلتَه في شريط لك معروف، فبيّنَ ضلالاتك أحد السلفيين ناصحاً لك، فرفضتَ تلك النصائح لتستمر في تخبطاتك في ظلمات الباطل والجهل.
قال الحلبي: " وهاكم-رعاكم الله ، ووفّقكم- نصَّ كلامي في مقدمة كتابي"ثلاث رسائل في علوم الحديث"-المطبوع في مدينة (الزرقاء)-الأردنية-قبل ثلاثين عاماً!-وهو الآن-بحمد الله-يُطبع طبعة جديدة-.
قلتُ:
" علوم الحديث، نشأتها وتطورهـا:
يُلاحظُ الباحثُ الـمُتفحِّصُ، والناظرُ المدقِّقُ: أنّ الأسسَ والأركانَ الهامَّةَ لعلوم الحديث والرواية ونقل الأخبار مذكورةٌ في كتاب اللهِ -سبحانه وتعالى-، وفي سنَّة نبيِّه –صلى الله عليه وسلم-.
1- فقد جاء في كتاب الله –سبحانه–: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: 6].
وفي قراءة حمزةَ والكسائي: (... فَتَثَبَّتُوا).
وشبيهُ ذلك -في سُنّة رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلَّم- قولُه: "نَضَّر اللهُ امرَءاً سمعَ منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع ... ".
وصحَّ عنه -صلّى اللهُ عليه وسلَّم- قولُه: "إذا حَدَّثتُكم حديثاً، فلا تزيدُنَّ عَلَيَّ... ".
ومثلُه قولُه -عليه السلام-: "مَن حَدَّث عنِّي بحديث يُرى أنه كذبٌ؛ فهو أحدُ الكاذِبَيْنِ"".
أقول:
1- لكنك لستَ بالباحث المُتفحِّص ولا بالناظر المدقِّق، وسيعلم القارئ أنك مهول ممخرق.
2- ولذا لم تعمل بمقتضى هذه الآية الكريمة، ولا بما قرره العلماء بياناً لمعناها ، بل عملتَ بضد معناها، وضد ما قرره العلماء في بيان معناها.
فمنطوقها يفيد أنه يجب التثبّت من أخبار الفاسقين.
ومفهومها يدل على أنه لا يشرع التثبّت في أخبار الثقات، وعلى رأسهم الصحابة الكرام، وعلى هذا علماء السنة.
وأنت أكثرتَ من التشكيك في أخبار الثقات، بما فيهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ودعوتَ إلى التثبّت من أخبارهم، وجعلتَ هذا الدمار محوراً لمقالك الظالم المظلم: " أَلَـمْ يَأْنِ لكم أنْ تسمعوا منّا.. ولا تَكتفوا (!) بالسماع عنّا..".
ونقلتَ وقررتَ في المقال المذكور آنفاً أنه لا بد من التثبّت من أخبار الثقات، ثم وسّعتَ دائرة هذا التشكيك حتى أدخلتَ فيها أخبار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأشعرتَ الناس أن هذا أدب نبوي([1]).
3- الحديثان الآخران لا حجة لك فيهما على التثبّت من أخبار الثقات الأمناء.
وإنما فيهما تحذير من النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكذب عليه.
وليس فيهما حث على التثبّت من أخبار الصحابة ولا من أخبار الثقات.
قال الحلبي: " ففي هذه الآيةِ الكريمة، وهذه الأحاديثِ الصحيحة مبدأُ التثبُّت في أخذِ الأخبارِ، وكيفيةُ ضبطها بالانتباه لها، ووَعْيُها، والتدقيقُ في نقلِها للآخَرين، والحرصُ على التأكُّد من المرويَّات دونما زيادة ولا نقصان".
أقول:
لقد قرر الحلبي قبل ثلاثين عاماً ما يصادم أصول الجرح والتعديل، ويدَّعي باطلاً أن تأصيله وفق قواعد المحدثين.
والحق والواقع أن تأصيله يخالف قواعد المحدثين، فها هو يقول:
" ففي هذه الآيةِ الكريمة، وهذه الأحاديثِ الصحيحة مبدأُ التثبُّت في أخذِ الأخبارِ، وكيفيةُ ضبطها بالانتباه لها، ووَعْيُها، والتدقيقُ في نقلِها للآخَرين، والحرصُ على التأكُّد من المرويَّات دونما زيادة ولا نقصان".
أقول:
ليس في الآية الكريمة ولا في الأحاديث الصحيحة مشروعية التثبّت من أخبار الثقات الأثبات، فلا تحملها ما لا تحتمل.
وحديث " نَضَّر اللهُ امرَءاً سمعَ منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع ".
إنما فيه دعاء وحث للصحابة والثقات الأثبات من أمته أن يبلِّغوا عنه ما شرعه الله وأوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- يدل على ثقته في أصحابه -رضوان الله عليهم- واعتقاده فيهم أنهم ثقات أمناء ضابطون، وأنهم جديرون أن يبلِّغوا ما سمعوه منه كما سمعوه، وقد كانوا والحمد لله كما اعتقده فيهم، فبلّغوا عنه القرآن والسنة على أكمل وجوه التبليغ.
ومثل هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"([2]).
فهذا الحديث فيه حث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على التبليغ الدقيق عنه وتحذير شديد من الكذب.
فكانوا لتقواهم شديدي الخوف والحذر من الوقوع في الكذب من حيث لا يدري أحدهم، فعن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"([3]).
وعن عبد العزيز بن صهيب قال: قال أنس -رضي الله عنه-: " إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"([4]).
وقد بلّغ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة نبيهم، ولم يُعْرَفْ لأحد منهم كذبة في كلمة، ولمعرفتهم ويقينهم بهذا الواقع لا يتوقف أحد منهم في قبول أحاديث أخيه لثقة بعضهم ببعض.
وكذلك التابعون لهم بإحسان، كانوا يتقبلون أحاديث سلفهم من الصحابة بكل ثقة وحفاوة لقوة ثقتهم في أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعرفون ما يدعو إليه أهل البدع والضلال من وجوب التثبّت في أخبار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحفظ دينه وتبليغه.
فالحلبي المسكين يفهم من الآية والأحاديث الصحيحة مبدأ التثبّت من أخبار الثقات، بل ومن أخبار الصحابة الأتقياء الأثبات.
ولا يُفرِّق بين الفساق والكذابين والمتهمين والمجهولين وبين الثقات العدول الضابطين، بل ولا بين الصحابة الأكرمين.
وهذا الفهم الأرعن يعد من الكذب على رب العالمين، وعلى رسوله الصادق الأمين، ومخالف لمنهج الفقهاء والمحدثين.
فهو يسير على قواعد أهل البدع الجاهلين في التعنّت واختراع الشروط الباطلة تجاه أخبار الثقات لردها، والتستر بتلك الشروط الباطلة التي لم يشرعها الله ولا رسوله.
3- قال الحلبي قبل ثلاثين عاماً([5]):
"- وامتثالاً لأمر اللهِ –تعالى–، ورسولهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون في نقل الأخبار وقَبُولها، لا سيَّما إذا شكُّوا في صِدْقِ الناقل لها، وهَا هُو ذَا الإمامُ الذَّهَبيُّ -رحمه الله- يقول في ترجمة أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: ».. وكان أوَّلَ مَنِ احتاط في قَبولِ الأخبار ...".
وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "... وهو الذي سَنَّ للمُحدِّثين التثبُّتَ في النقل، وربما كان يتوقّفُ في خبر الواحدِ إذا ارتاب ...".
وقد ثبتَ عن عليٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-، قال: كنتُ إذا سمعتُ مِن رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حديثاً؛ نفعني اللهُ بما شاءَ منه، فإذا حدّثني عنه غيرُه استحلفتُه، فإذا حَلَفَ لي صَدَّقْتُهُ، وإنَّ أبا بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- حدثني -وصدق أبو بكر- أنه قال ....
وهكذا كان سائرُ الصحابة..".
قولك: "وامتثالاً لأمر اللهِ –تعالى–، ورسولهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون في نقل الأخبار وقَبُولها".
أقول:
نعوذ بالله من التقوّل على الله تعالى، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة الكرام.
أ- انظر إليه كيف يدعو إلى التثبّت من أخبار الصحابة والثقات الأثبات، ويقبل الأخبار الضعيفة بسهولة ويحتج بها، ويريد أن يبني عليها وعلى فهمه الهزيل لها ولغيرها منهجاً، يدَّعي أنه وفق قواعد الأئمة والمحدثين.
ولو اقتنع بقواعد السلف لما احتاج إلى اختراع أصول ، ثم يزعم لها أنها وفق قواعد الأئمة.
ب- هذا الكلام يتضمن كذباً على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة الكرام، فمتى وأين أمر الله بالتثبّت من أخبار الثقات، ولا سيما أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
ومتى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتثبّت من أخبار الثقات؟، ولا سيما صحابته الكرام، أصدق الناس بعد الأنبياء وأعدلهم وأكرمهم، والصحابة ما كانوا يشكون في صدق إخوانهم النبلاء.
وهل كان الصحابة يشك بعضهم في صدق بعض؟، وهل كان التابعون يشكون في صدق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل تأصيلك هذا تأصيل أمين على وفق قواعد الأئمة والمحدثين؟
جـ- قوله نقلاً عن الذهبي من ترجمة أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-:
"وكان أوَّلَ مَنِ احتاط في قَبولِ الأخبار ...".
أقول: قال الذهبي هذا مستدلاً بخبر نقل عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب:
"إن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً وما علمتُ أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة، فقال: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد؟، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه" "تذكرة الحفاظ (1/2).
أقول: إن هذه القصة لم تثبت عن أبي بكر -رضي الله عنه-؛ لأن فيها انقطاعاً بين قبيصة وأبي بكر -رضي الله عنه-، إذ أن قبيصة لم يدرك أبا بكر -رضي الله عنه-، فروايته عنه ضعيفة للانقطاع الحاصل بينه وبين أبي بكر -رضي الله عنه-.
قال الحافظ ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم العراقي في "تحفة التحصيل" (ص262):
" ع قبيصة بن ذؤيب، ولد عام الفتح على الأصح، وقيل أول سنة من الهجرة ،وفي التهذيب أن روايته عن أبي بكر وعمر مرسلة.
قلت: جزم في التهذيب بأن روايته عن أبي بكر مرسلة، وقال في روايته عن عمر: يقال مرسل انتهى".
وضعّفه العلامة الألباني –رحمه الله- في "إرواء الغليل" (6/124-125) حديث (1680)، ونقل عن ابن عبد البر أنه لا يصح سماع قبيصة من أبي بكر -رضي الله عنه-، ونقل الألباني عن ابن حزم أنه أعله بالانقطاع، وأن عبد الحق قد تابع في ذلك ابن حزم.
وضعّفه العلامة الألباني -أيضاً- في ضعيف ابن ماجه (595).
وضعيف الترمذي له، حديث (370).
فالحلبي يريد أن يثبت من هذا الحديث الضعيف شك أبي بكر -رضي الله عنه- في صدق الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، وهيهات له، هيهات.
قال الحلبي: " وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "... وهو الذي سَنَّ للمُحدِّثين التثبُّتَ في النقل، وربما كان يتوقّفُ في خبر الواحدِ إذا ارتاب ...".
أقول: إن عمر -رضي الله عنه- لم يسن للمحدثين التثبّت في أخبار الثقات، وحاشاه أن يسنَّ منهجاً لم يشرعه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد شرع الله التثبّت من أخبار الفساق، ويلحق بهم الكذابون والمتهمون، ومن عُرِفوا بالضعف في ضبطهم.
وحذّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب عليه، فلم يعرف الكذب عن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا على غيره، حاشاهم.
ولم يأمر الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته الكرام بالتثبّت من أخبار الثقات.
وهذا عمر -رضي الله عنه- يقبل أخبار من يحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يتثبّت ولا يرتاب فيما يخبره به.
قال عمر –رضي الله عنه- من حديث طويل:
" ...وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النـزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك..."([6]).
فواضح أن عمر يقبل أخبار صاحبه، ولا يذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسأله عن ما حدثه به صاحبه الأنصاري، ولا يسأل غيره من الصحابة عن هذه الأحاديث، وكذلك صاحب عمر -رضي الله عنه- لا يتثبّت من الأخبار التي ينقلها عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهل صدق الحلبي في قوله: " وامتثالاً لأمر اللهِ –تعالى–، ورسولهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون في نقل الأخبار وقَبُولها، لا سيَّما إذا شكُّوا في صِدْقِ الناقل لها"؟
وقد قبل عمر -رضي الله عنه- حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وحده، في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من مجوس هجر.
ونصه، عن بجالة بن عبدة، قال: "كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ"([7]).
وقبلَ خبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن الفرار من الطاعون، وعن دخول البلد التي وقع بها([8]).
وقبلَ خبر الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم الضباني.
عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر كان يقول : "الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً"، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها"([9]).
وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.
فانظر إلى عمر -رضي الله عنه- كيف قبل خبر الضحاك بن سفيان، ورجع عن رأيه، وكيف قبل العلماء خبر الضحاك وعملوا به.
وكما يقول الحافظ ابن حجر: " وعدة أخبار من أخبار الآحاد في عدة من الوقائع".
وانظر هذه الأحاديث في كتاب "النكت" للحافظ ابن حجر (1/246)، حيث ردَّ بها على إبراهيم بن إسماعيل بن علية الجهمي الضال، وعلى الجاحظ، و أبي علي الجياني وكلاهما من عتاة المعتزلة.
فالحلبي يحذو حذوهم في التعنّت في قبول أخبار الثقات([10]).
ويخالف الكتاب والسنة، وما أجمع عليه أهل السنة من فقهاء ومحدثين.
وأما قول الذهبي –رحمه الله- عن عمر -رضي الله عنه-: "وربما كان يتوقّفُ في خبر الواحدِ إذا ارتاب".
فلا يُسلّم له.
ثم أقول: رحم الله الذهبي، لعل الذي حمله على هذا القول قصة أبي موسى مع عمر –رضي الله عنه- في الاستئذان، وهذا والله أعلم لم يحصل لعمر إلا مرة واحدة.
وليس هو منطلقاً من مبدأ التثبّت في أخذ الأخبار...الخ، كما يهول الحلبي.
وقد عاتب عمرَ –رضي الله عنه- فيها أُبيُّ بن كعب -رضي الله عنه- قال له: "يَا عُمَرُ لاَ تَكُنْ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَكُونُ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
وفي رواية لأبي داود: "فَقَالَ عُمَرُ لأَبِى مُوسَى: إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَدِيدٌ".
انظر سنن أبي داود "كتاب الأدب" حديث (5181)، (5183).
فعمر -رضي الله عنه- لم يتهم أبا موسى -رضي الله عنه-، ولا سنَّ للناس التثبّت الذي يدّعيه الحلبي وأسلافه.
وقد أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى -رضي الله عنه- إلى اليمن داعياً ومعلماً، مبلغاً عن رسول الله ما حفظه من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العقائد والعبادات والحلال والحرام والأخلاق، كما بعث أفراداً من أصحابه إلى عدد من الجهات لتبليغ رسالته ثقة منه -صلى الله عليه وسلم- بصدقهم وأمانتهم، وهذا كله بخلاف ما يعتقده الحلبي ويقرره من الباطل على طريقة أهل الأهواء.
ثم كم لأبي موسى -رضي الله عنه- من الأحاديث في دواوين الإسلام، ولم يتثبّت منه أحد.
وكم وكم للصحابة من الأحاديث، ولم يتثبّت الناس من أحاديثهم؛ لأنهم فوق الثقات.
وكم لثقات التابعين وأتباع التابعين من الأحاديث وتلقاها العلماء الناصحون بالقبول والاحتفاء.
وأما حديث عليّ في أنه كان يستحلف من حدّثه.
فلم يروه عنه إلا أسماء بن الحكم الفزاري، وهو مجهول، لم يرو عنه إلا راو واحد، وهو علي بن ربيعة، ومن هنا لم يوثقه غير العجلي، وهو متساهل في توثيق المجهولين.
قال ابن أبي حاتم في ترجمته (2/325):
" أسماء بن الحكم الفزاري، روى عن علي، روى عنه علي بن ربيعة الوالبي، سمعت أبى يقول ذلك".
ولم يزد على ذلك.
وقال البخاري في "تأريخه الكبير" (2/54) في ترجمة أسماء بن الحكم هذا، راوي هذا الحديث عن علي –رضي الله عنه-.
قال: " ولم يرو عن أسماء بن الحكم إلا هذا الواحد وحديث آخر ولم يتابع عليه، وقد روى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضهم عن بعض فلم يحلف بعضهم بعضا".
وإذا قالت حذام فصدقوها، والقواعد مع مَنْ يُضعِّف هذا الحديث، ومنهم البخاري.
تأمل عبارات الحلبي: " وقد ثبتَ عن عليٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-".
وقوله: " وهكذا كان سائرُ الصحابة..".
أي أنهم كانوا لا يقبلون الأحاديث من إخوانهم الصحابة إلا بعد أن يستحلفوهم.
أقول: وهكذا يكون العلم، وهكذا يكون التأصيل!!!
فمن أين لك أن الصحابة يشك بعضهم في صدق بعض، ويستحلف بعضهم بعضاً؟
فما هو حكم السلف على من يجازف بمثل هذه التقريرات، والدعاوى الفارغة، والتأصيلات المدمرة؟
قال الحلبي: "3- فظهرت -بناءً على هذا -كُلِّه- أهميةُ الإسناد وقيمتُه في قَبول الأخبار، أو رَدّها".
يريد بقوله: "بناء على هذا كله" الآية والأحاديث التي ذكرها.
وليس فيها التثبّت من أخبار الصحابة، ولا من أخبار الثقات الأمناء.
وهو قد ساق الآية وحديث عمر -رضي الله عنه- وحديث علي -رضي الله عنه- للاستدلال بها على التثبّت من أخبار الصحابة، فيا لها من كارثة، فكيف مصير أخبار الثقات عنده؟
ومن هذا الاعتقاد الباطل، ومن هذا التأصيل القديم الراسخ في نفسه شكك بوقاحة وجلد في أخبار الصحابة الكرام وأخبار الثقات في مقاله الموسوم بـِ " أَلَـمْ يَأْنِ لكم أنْ تسمعوا منّا ولا تَكتفوا بالسماع عنّا.."([11]).
قال الحلبي من قبل ثلاثين عاماً:
" فطبّق التابعون -رحمهم اللهُ- تعالى- ذلك بقوَّة:
قال سفيانُ الثَّوْري: الإسنادُ سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاحٌ، فبأيِّ شيءٍ يقاتل ؟!
وقال ابنُ المبارك: الإسنادُ –عندي– من الدين، لولا الإسنادُ لقالَ مَن شاءَ ما شاءَ.
وقال ابنُ سيرين: كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعتِ الفتنةُ؛ سألوا عن الإسناد، لِكَيْ يأخذوا حديثَ أهلِ السنة، ويَدَعوا حديثَ أهل البدع".
أقول:
أ- سفيان الثوري وابن المبارك إنما هما من أتباع التابعين، وهذا من البدهيات عند طلاب الحديث، فكيف تعدهما من التابعين؟
ب- إن هؤلاء الأئمة الذين ذكرتهم ليؤمنون بأهمية الأسانيد المسلسلة بالثقات الأثبات، ويبنون عليها دينهم وفقههم في العقائد والأحكام، ولا يشككون فيها، ولا يشككون في أخبار الصحابة -رضي الله عنهم-.
وهذا أمر مغاير لما تهدف إليه وتقرره، وتستدل له بما يشكك في أخبار الصحابة، ويوجب التثبّت من أخبارهم، على طريقة أهل الأهواء الذين يتبعون المتشابهات، ولا يلتزمون ولا يسلمون بالمحكمات.
والحاصل أن الحلبي يريد أن يتظاهر للناس في هذا المقال بأنه يقرر أصول الجرح والتعديل على وفق منهج الأئمة والمحدثين من قبل سنوات ثلاثين، وأنه لا يزال على هذا المنهج.
والواقع أن تأصيله مضاد للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة الكرام، من قبل ثلاثين سنة إلى يومنا هذا.
ثم هو يحاول ويحاول أن يغطي هذه السوأة، فتأبى عليه رياح الهوى إلا كشفها وهتكها.
أيا حلبي لو كان لك قلب سليم من الأهواء لأعلنتَ توبتك من كل أقوالك الباطلة ومراوغاتك الفاشلة وتأصيلاتك الفاسدة، التي تتخبّط في أوحالها من قبل ثلاثين سنة.
وإني لأسأل الله أن يتوب عليك، وأن يرزقك الصدق في الأقوال والأفعال، وفي الولاء والبراء، ومراقبة ربك في السراء والضراء.
قال الحلبي:
" ولا أدري (!) أين كان-عند كتابة هذه التأصيلات-قبل كل هذه السنوات!- (أكثرُ) أهل التقوّل والافتراءات؟!
نسأل الله الثبات".
أقول: إن الذين انتقدوك بحق فيما كتبتَه من التأصيلات الأخيرة لا يعلمون الغيب، فانتقدوك فيما اطلعوا عليه من تأصيلاتك الباطلة والتي أطلعهم الله عليها.
ولما أظهرتَ ما كتبتَه قبل ثلاثين عاماً -ظاناً- أنه يخلصك مما جنته يداك، فتصدى له فوراً من يحترم أصول السلف وبيَّنَ ما فيه من الضلالات المضادة للكتاب والسنة وأصول السلف، فما زادك إبرازه إلا إدانة وخيبة وخساراً.
وكشف الله للناس بهذا الرد وما قبله أنك من ألد أهل التقوّل على الله ورسوله وأصول السلف، ومن أهل الافتراء، فكيف تسأل الله الثبات على الضلالات والافتراءات؟
واعلم أن الشرفاء لا يكذبون.
(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).
وسوف أزيد السلفيين الشرفاء الصادقين بإذن الله ما يزيدهم قوة وثباتاً من أقوال العلماء المتضمِّنة لبيان الأصول الصحيحة التي أجمع عليها فقهاء الأمة وأهل الحديث، والمدمرة لأصول أهل الضلال السابقين واللاحقين، ومنها أصول علي الحلبي المحارب لأهل السنة وأصولهم .
وهذه نبذة من أقوال وتقريرات فحول العلماء الموضحة للمنهج الحق في التعامل مع أخبار الثقات، أقدمها للقراء الكرام ليضعوها نصب أعينهم، ولا يلتفتوا لأقوال أهل الأهواء.
1- قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- في "التمهيد" (7/207)، وهو يشرح حديث أم سلمة -رضي الله عنها-:
" وفيه من الفقه أيضاً، إيجاب العمل بخبر الواحد الثقة، ذكراً كان أو أنثى، وعلى ذلك جماعة أهل الفقه والحديث أهل السنة، ومن خالف ذلك فهو عند الجميع مبتدع، والدليل على ما قلنا من العمل بخبر الواحد من هذا الحديث قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: "ألا أخبرتيها؟" فأوضح بذلك أن خبر أم سلمة يجب العمل به، وكذلك خبر المرأة لزوجها، ولو كان خبر أم سلمة لا يلزم المرأة وخبر المرأة لا يلزم زوجها لما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة "ألا أخبرتيها؟" لأنها كانت تقول: وكيف كنت أخبرها عنك وحدي وأي فائدة في نقلي عنك وحدي؟ أو كيف تنقل المرأة الخبر وحدها إلى زوجها، وهذا بين في إيجاب العمل بخبر الواحد، وقبوله ممن جاء به إذا كان عدلاً والحجة في إثبات خبر الواحد والعمل به قائمة من الكتاب والسنة ودلائل الإجماع والقياس".
2- وقال النووي –رحمه الله- في "شرحه لصحيح مسلم" (1/130-131) مؤيداً لكلام الإمام مسلم -رحمه الله- في وجوب قبول خبر الواحد الثقة:
" هذا الذي قاله مسلم -رحمه الله- تنبيه على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع وهو وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها، وقد أطنب العلماء -رحمهم الله- في الاحتجاج لها وإيضاحها، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي -رحمه الله- وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه".
3- وقال ابن حزم –رحمه الله- في " الإحكام في أصول الأحكام" (1/133):
" واستدركنا برهاناً في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعاً، وهو خبر الله تعالى عن موسى -عليه السلام- إذ جاءه (رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فخرج خائفا يترقب ) إلى قوله تعالى، (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) إلى قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ....)، إلى آخر القصة، فصدق موسى -عليه السلام- قول المنذر له، وخرج عن وطنه بقوله، وصوّب الله تعالى ذلك من فعله، وصدّق قول المرأة إن أباها يدعوه فمضى معها، وصدق أباها في قوله إنها ابنته واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده وصوّب الله ذلك كله، فصحَّ يقيناً ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقيناً، والحمد لله رب العالمين".
4- وقال العلامة الألباني -رحمه الله- في رسالته " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" (ص28-37):
"بناؤهم عقيدة ( عدم الأخذ بحديث الآحاد ) على الوهم والخيال :
وإن من أعجب ما يسمعه المسلم العاقل اليوم هو هذه الكلمة التي يرددها كثير من الخطباء والكتاب كلما ضعف إيمانهم عن التصديق بحديث، حتى ولو كان متواتراً عند أهل العلم بالحديث كحديث نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان، فإنهم يتسترون بقولهم : " حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة "، وموضع العجب أن قولهم هذا هو في نفسه عقيدة، كما قلت مرة لبعض من ناظرتهم في هذه المسألة، وبناء على ذلك، فعليهم أن يأتوا بالدليل القاطع على صحة هذا القول، وإلا فهم متناقضون فيه، وهيهات هيهات، فإنهم لا دليل لهم إلا مجرد الدعوى، ومثل ذلك مردود في الأحكام فكيف في العقيدة ؟ وبعبارة أخرى : لقد فروا من القول بالظن الراجح في العقيدة، فوقعوا فيما هو أسوأ منه وهو قولهم بالظن المرجوح فيها، ( فاعتبروا يا أولى الأبصار )! وما ذلك إلا بسبب البعد عن التفقه بالكتاب والسنة، والاهتداء بنورهما مباشرة، والانشغال عنه بآراء الرجال.
الأدلة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة :
إن هناك أدلة أخرى أخص في الدلالة مما سبق على وجوب الأخذ بخبر الواحد في العقيدة أرى أنه لا بد من التعرض لذكر بعضها، وبيان وجه دلالتها.
الدليل الأول : قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.
فقد حض الله تبارك وتعالى المؤمنين على أن ينفر طائفة منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتعلموا منه دينهم ويتفقهوا فيه . ولا شك أن ذلك ليس خاصاً بما يسمى بالفروع والأحكام بل هو أعم . بل المقطوع به أن يبدأ المعلم والمتعلم بما هو الأهم فالأهم تعليماً وتعلماً ومما لا ريب فيه أن العقائد أهم من الأحكام ومن أجل ذلك زعم الزاعمون أن العقائد لا تثبت بحديث الآحاد فيبطل ذلك عليهم هذه الآية الكريمة فإن الله تعالى كما حض فيها الطائفة على التعلم والتفقه عقيدة وأحكاما حضهم على أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما تعلموه من العقائد والأحكام و ( الطائفة ) في لغة العرب تقع على الواحد فما فوق . فلولا أن الحجة تقوم بحديث الآحاد عقيدة وحكما لما حض الله تعالى الطائفة على التبليغ حضا عاما معللا ذلك بقوله : { لعلهم يحذرون } الصريح في أن العلم يحصل بإنذار الطائفة فإنه كقوله تعالى في آياته الشرعية والكونية : { لعلهم يتفكرون } { لعلهم يعقلون } { لعلهم يهتدون } فالآية نص في أن خبر الآحاد حجة في التبليغ عقيدة وأحكاما.
الدليل الثاني : قوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } أي لا تتبعه ولا تعمل به ومن المعلوم أن المسلمين لم يزالوا من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون بها الأمور الغيبية والحقائق الاعتقادية مثل بدء الخلق وأشراط الساعة بل ويثبتون بها لله تعالى الصفات فلو كانت لا تفيد علما ولا تثبت عقيدة لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ( مختصر الصواعق - 2 / 396 ) وهذا مما لا يقوله مسلم.
الدليل الثالث : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وفي القراءة الأخرى { فتثبتوا } فإنها تدل على أن العدل إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة به وأنه لا يجب التثبت بل يؤخذ به حالا ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في " الإعلام " ( 2 / 394 ) :
وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم . ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة وفي "صحيح البخاري": قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم ".
الدليل الرابع : سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على الأخذ بخبر الآحاد :
إن السنة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياته وبعد وفاته تدل أيضا دلالة قاطعة على عدم التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام وأنه حجة قائمة في كل ذلك وأنا ذاكر الآن بإذن الله بعض ما وقفت عليه من الأحاديث الصحيحة قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" - 8 / 132 ):
باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام وقول الله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية وقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدا بعد واحد فإن سها أحد منهم رد إلى السنة.
ثم ساق الإمام البخاري أحاديث مستدلا بها على ما ذكر من إجازة خبر الواحد والمراد بها جواز العمل والقول بأنه حجة فأسوق بعضا منها :
الأول : عن مالك بن الحويرث قال :
أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده نحوا من عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال : ( ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ).
فقد أمر صلى الله عليه وسلم كل واحد من هؤلاء الشببة أن يعلم كل واحد منهم أهله والتعليم يعم العقيدة بل هي أول ما يدخل في العموم فلو لم يكن خبر الآحاد تقوم به الحجة لم يكن لهذا الأمر معنى.
الثاني : عن أنس بن مالك : أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام . قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال : ( هذا أمين هذه الأمة ) أخرجه مسلم ( 7 / 29 ) ورواه البخاري مختصرا.
قلت : فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث إليهم أبا عبيدة وحده وكذلك يقال في بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم في نوبات مختلفة أو إلى بلاد منها متفرقة غيره من الصحابة رضي الله عنهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وأحاديثهم في " الصحيحين " وغيرهما ومما لا ريب فيه أن هؤلاء كانوا يعلمون الذين أرسلوا إليهم العقائد في جملة ما يعلمونهم فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفردا لأنه عبث يتنـزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في " الرسالة " ( ص 412 ) :
وهو صلى الله عليه وسلم لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادرا على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عددا فبعث واحدا يعرفونه بالصدق.
الثالث : عن عبد الله بن عمر قال :
بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
رواه البخاري ومسلم.
فهذا نص على أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد في نسخ ما كان مقطوعا عندهم من وجوب استقبال بيت المقدس فتركوا ذلك واستقبلوا الكعبة لخبره فلولا أنه حجة عندهم ما خالفوا به المقطوع عندهم من القبلة الأولى . قال ابن القيم :
ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك.
الرابع : عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى نبي إسرائيل فقال ابن عباس : كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال : خطبنا رسول الله ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى عليه السلام صاحب الخضر . أخرجه الشيخان مطولا والشافعي هكذا مختصرا وقال ( 442 / 1219 ) :
الشافعي يثبت العقيدة بخبر الواحد :
فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكذب به امرءا من المسلمين إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه دلالة على أن موسى نبي إسرائيل صاحب الخضر.
قلت : وهذا القول من الإمام الشافعي رحمه الله دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد لأن كون موسى عليه السلام هو صاحب الخضر عليه السلام هي مسألة علمية وليست حكما عمليا كما هو مبين ويؤيد ذلك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عقد فصلا هاما في " الرسالة " تحت عنوان " الحجة في تثبيت خبر الواحد " وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ( ص 401 - 453 ) وهي أدلة مطلقة أو عامة تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضا وكذلك كلامه عليها عام أيضا وختم هذا البحث بقوله :
وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل . وكذلك حكي لنا عمن حكى لنا عنه أن أهل العلم بالبلدان وهذا عام أيضا .
وكذلك قوله ( ص 457 ) :
" ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي ولكن أقول : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ".
عدم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة بدعة محدثة :
وبالجملة فأدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال العلماء تدل دلالة قاطعة - على ما شرحنا - من وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة سواء كان في الاعتقاديات أو العمليات وأن التفريق بينهما بدعة لا يعرفها السلف ولذلك قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( 3 / 412 ) :
وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات ( يعني العقيدة ) كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته فأين سلف المفرقين بين البابين ؟ نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين . . . وادعوا الإجماع على هذا التفريق ولا يحفظ ما جعلوه إجماعا عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من الصحابة والتابعين . . . فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز ولا يجدون إلى الفرق سبيلا إلا بدعاوى باطلة . . . كقول بعضهم : الأصوليات هي المسائل العلميات والفروعيات هي المسائل العملية ( وهذا تفريق باطل أيضا فإن المطلوب من العمليات ) أمران : العلم والعمل والمطلوب من العلميات العلم والعمل أيضا وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته وبغضه للباطل الذي يخالفها فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه بل هو أصل العمل وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال.
وهذا من أقبح الغلط وأعظمه فإن كثيرا من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم غير شاكين فيه غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه فلا تهمل هذا الموضع فإنه مهم جدا به تعرف حقيقة الإيمان.
فالمسائل العلمية عملية والمسائل العملية علمية فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل " .
فتحرر من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن التفريق المذكور مع كونه باطلا بالإجماع لمخالفته ما جرى عليه السلف وتظاهر الأدلة المتقدمة على مخالفته فهو باطل أيضا من جهة تصور المفرقين عدم وجوب اقتران العلم بالعمل والعمل بالعلم وهذه نقطة هامة جدا تساعد المؤمن على تفهم الموضوع جيدا والإيمان ببطلان التفريق المذكور يقينا".
أقول:
لقد ظهر بجلاء منهج السلف الصالح في تقبل أخبار الثقات والقول بوجوب قبولها، وأنه تقوم بها الحجة، وأن من يخالف هذا المنهج مبتدع.
وهذا التبديع صادر من أئمة الفقه وأهل الحديث، كما نقل ذلك ابن عبد البر -رحمه الله-.
ويقول الألباني مُلَخِّصاً بحثه في وجوب قبول خبر الآحاد:
" وبالجملة فأدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال العلماء تدل دلالة قاطعة - على ما شرحنا - من وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة سواء كان في الاعتقاديات أو العمليات وأن التفريق بينهما بدعة لا يعرفها السلف ولذلك قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( 3 / 412 ) :
وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات ( يعني العقيدة ) كما تحتج بها في الطلبيات العمليات...الخ".
فمذهب الحلبي شر من مذاهب أهل البدع من المتكلمين وغيرهم في هذا الباب؛ إذ هؤلاء يقبلون أخبار الثقات في العمليات، ولا يقبلونها في العلميات.
والحلبي يشكك في أخبار الثقات مطلقاً، ويرجف عليها بشبه لعلها لا تخطر بأذهان أولئك المبتدعة الضلّال.
فأين تعلق وتمسح هذا الحلبي بالعلامة الألباني الذي ينافح عن السنة، ولا سيما أخبار الآحاد؟، فالألباني في واد، والحلبي في واد.
وأين تمسحه بالسلف ومنهجهم؟، وهم في واد، والحلبي في واد.
وليس في هذا الباب فقط، بل في ميادين أخرى، أخطر من هذا الميدان.
فهل يلام من يُبدِّع الحلبي وأمثاله عند من يحترم منهج السلف؟ كلا، ثم كلا.
لا سيما وقد أجمع على تبديع أمثاله فقهاء الأمة وأهل الحديث.
يؤكد هذا قول العلامة الألباني –رحمه الله- الذي أسلفناه قريباً.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
29/4/1433هـ
[1] - انظر (ص2) فما بعدها من مقال الحلبي المشار إليه.
[2] - أخرجه البخاري في "كتاب الأنبياء" حديث (3461).
[3] - أخرجه البخاري في "كتاب العلم" حديث (107)، وأحمد (1/ 165، 166)، وأبو داود حديث (3651)، وابن ماجه في "المقدمة" حديث (36) وغيرهم.
[4] - متفق عليه، أخرجه البخاري في "العلم" حديث (108)، ومسلم في "المقدمة" حديث (2).
[5] - كما يدَّعي، والعهدة عليه.
[6] - أخرجه مسلم في صحيحه، حديث (1474).
[7] - انظر البخاري "كتاب الجزية والموادعة" حديث (3157)، وأبو داود في "الخراج والإمارة والفيء" حديث (3043)، والترمذي في "السير" حديث (1586)، وهو مخرج في مصادر أخرى.
[8] - متفق عليه، أخرجه البخاري في "الطب" حديث (5729)، و(5730)، ومسلم في "كتاب السلام" حديث (2219)، وأخرجه غير الشيخين في عدد من دواوين السنة.
[9] - أخرجه أبو داود في "الفرائض" حديث (2927) وأحمد (3/452)، والترمذي في "الديات" حديث (1415) ، وأخرجه غيرهم.
[10] - في الوقت الذي يعتمد فيه على فهمه السقيم، وعلى الروايات الضعيفة، وهذا من طرق أهل الضلال.
[11] - انظر (ص5).
الحلبي يؤصل من قبل ثلاثين عاماً أصولاً ضد منهج السلف في الجرح والتعديل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد اطلعتُ على مقال لعلي الحلبي نُشر في منتديات ما يسمى زوراً بـِ"كل السلفيين".
عنوانه " تقريري الواضحُ الـمُستبين لأُصول ( علم الجرح والتعديل )-الأَمين- وَفْقَ قواعد الأَئِمة والمحدّثين –قبل سنواتٍ ثلاثين!".
فرأيتُ أنه لا بد من التعليق عليه وبيان ما في ظواهره وخوافيه.
ومن الله أسأل العون والتوفيق والسداد.
قال الحلبي: " ثم يأتِي –اليومَ!- بعضُ (إخواننا!) الغُلاةِ المُتربِّصِين -هداهُم اللهُ رَبُّ العالمِين-؛ لِيَنْسُبُوا إليَّ –تعدّياً وافتراءً- وبناءً على عبارةٍ مِنِّي –قلتها في مجلسٍ علميٍّ!- لَمْ يَفْهَمُوهَا! وكلمةٍ عنِّي-هم طاروا بها وطيّروها!- لَمْ يَعُوها!-: أنِّي أنفِي دلائلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ على عِلْمِ الجَرْحِ والتَّعديل!!
وهذا-كلُّه- باطلٌ مِن التَّقَوُّل والتَّقويل! لم يخطر لي على بال !ولم يَسنح لي على خيال!!".
أقول:
1- اتق الله -إن كنتَ تخشاه وما أظن ذلك- من هذا التلاعب والتكذيب للصادقين ورميهم بالغلو.
فأنت الذي قلتَ بالحرف وبصوتك: "علم الجرح والتعديل لا هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة"، واعترفتَ بهذا عند ربيع وغيره، ثم قلتَ مهوناً من شأن هذا الخطب الجلل: إنه خطأ لفظي، فقال لك ربيع: بل إنه جوهري، فأصررتَ على أنه لفظي.
2- ثم كم هوشتَ على الجرح المفسر، وعلى أخبار الثقات.
3- ومَنْ غيرك قال محارباً لمن يُبدِّع أهل الضلال:
" ثم موقف عامة الطلبة إذا أجمع أهل العلم على تبديع واحد لا يسعهم أن يخالفوه".
فاشترطتَ إجماع أهل العلم لقبول هذا الجرح.
ومَنْ سبقك إلى هذا أيها المخترع.
4- ومَنْ غيرك اشترط اتفاق العلماء لاعتبار كلمة غثائية سباً، تلك الكلمة الخبيثة التي أطلقها بعض أخدانك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمَنْ سبقك إلى هذا الاشتراط الموغل في المكابرة والتمييع والتضييع؟؟
وهل ذاك وذاك تأصيل لعموم قواعد المحدثين أو أنهما مناوأة وهدم لقواعد المحدثين؟
ومع هذا الهدم والتلاعب تدَّعي الآن أنك قد قرّرتَ أصول علم الجرح والتعديل وفق قواعد الأئمة والمحدثين قبل سنوات ثلاثين، فهل هذه الدعوى صحيحة، أو هي خاطئة كاذبة قبيحة؟
سيرى القارئ مآل في هذه الدعوى العريضة.
أعتقد أنه لا يوجد لك نظير في التلاعب والتلون.
قال الحلبي: " وفي كتابي «منهج السَّلَف الصَّالح في أصول النَّقد والجرح والنَّصائح» (ص133-140)-المطبوع قبل سنوات- بيانٌ مُفصَّل، وشَرْحٌ مُؤصَّل ، وتأييدٌ أمثل ، وتقريرٌ أطول".
أقول: كتابك هذا إنما هو منهج الخلف الطالح، وهو إنما استهدفتَ به الفتن والشغب على منهج السلف الصالح.
وقد بيّنَ الدكتور أحمد بازمول ما فيه من الأباطيل، فأصررتَ على هذه الأباطيل كما هو شأن أهل الأهواء.
وقبل هذا المنهج الباطل تقيأت هذه الفتنة والتأصيل الباطل في تقرير لك سجلتَه في شريط لك معروف، فبيّنَ ضلالاتك أحد السلفيين ناصحاً لك، فرفضتَ تلك النصائح لتستمر في تخبطاتك في ظلمات الباطل والجهل.
قال الحلبي: " وهاكم-رعاكم الله ، ووفّقكم- نصَّ كلامي في مقدمة كتابي"ثلاث رسائل في علوم الحديث"-المطبوع في مدينة (الزرقاء)-الأردنية-قبل ثلاثين عاماً!-وهو الآن-بحمد الله-يُطبع طبعة جديدة-.
قلتُ:
" علوم الحديث، نشأتها وتطورهـا:
يُلاحظُ الباحثُ الـمُتفحِّصُ، والناظرُ المدقِّقُ: أنّ الأسسَ والأركانَ الهامَّةَ لعلوم الحديث والرواية ونقل الأخبار مذكورةٌ في كتاب اللهِ -سبحانه وتعالى-، وفي سنَّة نبيِّه –صلى الله عليه وسلم-.
1- فقد جاء في كتاب الله –سبحانه–: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: 6].
وفي قراءة حمزةَ والكسائي: (... فَتَثَبَّتُوا).
وشبيهُ ذلك -في سُنّة رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلَّم- قولُه: "نَضَّر اللهُ امرَءاً سمعَ منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع ... ".
وصحَّ عنه -صلّى اللهُ عليه وسلَّم- قولُه: "إذا حَدَّثتُكم حديثاً، فلا تزيدُنَّ عَلَيَّ... ".
ومثلُه قولُه -عليه السلام-: "مَن حَدَّث عنِّي بحديث يُرى أنه كذبٌ؛ فهو أحدُ الكاذِبَيْنِ"".
أقول:
1- لكنك لستَ بالباحث المُتفحِّص ولا بالناظر المدقِّق، وسيعلم القارئ أنك مهول ممخرق.
2- ولذا لم تعمل بمقتضى هذه الآية الكريمة، ولا بما قرره العلماء بياناً لمعناها ، بل عملتَ بضد معناها، وضد ما قرره العلماء في بيان معناها.
فمنطوقها يفيد أنه يجب التثبّت من أخبار الفاسقين.
ومفهومها يدل على أنه لا يشرع التثبّت في أخبار الثقات، وعلى رأسهم الصحابة الكرام، وعلى هذا علماء السنة.
وأنت أكثرتَ من التشكيك في أخبار الثقات، بما فيهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ودعوتَ إلى التثبّت من أخبارهم، وجعلتَ هذا الدمار محوراً لمقالك الظالم المظلم: " أَلَـمْ يَأْنِ لكم أنْ تسمعوا منّا.. ولا تَكتفوا (!) بالسماع عنّا..".
ونقلتَ وقررتَ في المقال المذكور آنفاً أنه لا بد من التثبّت من أخبار الثقات، ثم وسّعتَ دائرة هذا التشكيك حتى أدخلتَ فيها أخبار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأشعرتَ الناس أن هذا أدب نبوي([1]).
3- الحديثان الآخران لا حجة لك فيهما على التثبّت من أخبار الثقات الأمناء.
وإنما فيهما تحذير من النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكذب عليه.
وليس فيهما حث على التثبّت من أخبار الصحابة ولا من أخبار الثقات.
قال الحلبي: " ففي هذه الآيةِ الكريمة، وهذه الأحاديثِ الصحيحة مبدأُ التثبُّت في أخذِ الأخبارِ، وكيفيةُ ضبطها بالانتباه لها، ووَعْيُها، والتدقيقُ في نقلِها للآخَرين، والحرصُ على التأكُّد من المرويَّات دونما زيادة ولا نقصان".
أقول:
لقد قرر الحلبي قبل ثلاثين عاماً ما يصادم أصول الجرح والتعديل، ويدَّعي باطلاً أن تأصيله وفق قواعد المحدثين.
والحق والواقع أن تأصيله يخالف قواعد المحدثين، فها هو يقول:
" ففي هذه الآيةِ الكريمة، وهذه الأحاديثِ الصحيحة مبدأُ التثبُّت في أخذِ الأخبارِ، وكيفيةُ ضبطها بالانتباه لها، ووَعْيُها، والتدقيقُ في نقلِها للآخَرين، والحرصُ على التأكُّد من المرويَّات دونما زيادة ولا نقصان".
أقول:
ليس في الآية الكريمة ولا في الأحاديث الصحيحة مشروعية التثبّت من أخبار الثقات الأثبات، فلا تحملها ما لا تحتمل.
وحديث " نَضَّر اللهُ امرَءاً سمعَ منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع ".
إنما فيه دعاء وحث للصحابة والثقات الأثبات من أمته أن يبلِّغوا عنه ما شرعه الله وأوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- يدل على ثقته في أصحابه -رضوان الله عليهم- واعتقاده فيهم أنهم ثقات أمناء ضابطون، وأنهم جديرون أن يبلِّغوا ما سمعوه منه كما سمعوه، وقد كانوا والحمد لله كما اعتقده فيهم، فبلّغوا عنه القرآن والسنة على أكمل وجوه التبليغ.
ومثل هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"([2]).
فهذا الحديث فيه حث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على التبليغ الدقيق عنه وتحذير شديد من الكذب.
فكانوا لتقواهم شديدي الخوف والحذر من الوقوع في الكذب من حيث لا يدري أحدهم، فعن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"([3]).
وعن عبد العزيز بن صهيب قال: قال أنس -رضي الله عنه-: " إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"([4]).
وقد بلّغ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة نبيهم، ولم يُعْرَفْ لأحد منهم كذبة في كلمة، ولمعرفتهم ويقينهم بهذا الواقع لا يتوقف أحد منهم في قبول أحاديث أخيه لثقة بعضهم ببعض.
وكذلك التابعون لهم بإحسان، كانوا يتقبلون أحاديث سلفهم من الصحابة بكل ثقة وحفاوة لقوة ثقتهم في أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعرفون ما يدعو إليه أهل البدع والضلال من وجوب التثبّت في أخبار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحفظ دينه وتبليغه.
فالحلبي المسكين يفهم من الآية والأحاديث الصحيحة مبدأ التثبّت من أخبار الثقات، بل ومن أخبار الصحابة الأتقياء الأثبات.
ولا يُفرِّق بين الفساق والكذابين والمتهمين والمجهولين وبين الثقات العدول الضابطين، بل ولا بين الصحابة الأكرمين.
وهذا الفهم الأرعن يعد من الكذب على رب العالمين، وعلى رسوله الصادق الأمين، ومخالف لمنهج الفقهاء والمحدثين.
فهو يسير على قواعد أهل البدع الجاهلين في التعنّت واختراع الشروط الباطلة تجاه أخبار الثقات لردها، والتستر بتلك الشروط الباطلة التي لم يشرعها الله ولا رسوله.
3- قال الحلبي قبل ثلاثين عاماً([5]):
"- وامتثالاً لأمر اللهِ –تعالى–، ورسولهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون في نقل الأخبار وقَبُولها، لا سيَّما إذا شكُّوا في صِدْقِ الناقل لها، وهَا هُو ذَا الإمامُ الذَّهَبيُّ -رحمه الله- يقول في ترجمة أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: ».. وكان أوَّلَ مَنِ احتاط في قَبولِ الأخبار ...".
وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "... وهو الذي سَنَّ للمُحدِّثين التثبُّتَ في النقل، وربما كان يتوقّفُ في خبر الواحدِ إذا ارتاب ...".
وقد ثبتَ عن عليٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-، قال: كنتُ إذا سمعتُ مِن رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حديثاً؛ نفعني اللهُ بما شاءَ منه، فإذا حدّثني عنه غيرُه استحلفتُه، فإذا حَلَفَ لي صَدَّقْتُهُ، وإنَّ أبا بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- حدثني -وصدق أبو بكر- أنه قال ....
وهكذا كان سائرُ الصحابة..".
قولك: "وامتثالاً لأمر اللهِ –تعالى–، ورسولهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون في نقل الأخبار وقَبُولها".
أقول:
نعوذ بالله من التقوّل على الله تعالى، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة الكرام.
أ- انظر إليه كيف يدعو إلى التثبّت من أخبار الصحابة والثقات الأثبات، ويقبل الأخبار الضعيفة بسهولة ويحتج بها، ويريد أن يبني عليها وعلى فهمه الهزيل لها ولغيرها منهجاً، يدَّعي أنه وفق قواعد الأئمة والمحدثين.
ولو اقتنع بقواعد السلف لما احتاج إلى اختراع أصول ، ثم يزعم لها أنها وفق قواعد الأئمة.
ب- هذا الكلام يتضمن كذباً على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة الكرام، فمتى وأين أمر الله بالتثبّت من أخبار الثقات، ولا سيما أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
ومتى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتثبّت من أخبار الثقات؟، ولا سيما صحابته الكرام، أصدق الناس بعد الأنبياء وأعدلهم وأكرمهم، والصحابة ما كانوا يشكون في صدق إخوانهم النبلاء.
وهل كان الصحابة يشك بعضهم في صدق بعض؟، وهل كان التابعون يشكون في صدق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل تأصيلك هذا تأصيل أمين على وفق قواعد الأئمة والمحدثين؟
جـ- قوله نقلاً عن الذهبي من ترجمة أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-:
"وكان أوَّلَ مَنِ احتاط في قَبولِ الأخبار ...".
أقول: قال الذهبي هذا مستدلاً بخبر نقل عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب:
"إن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً وما علمتُ أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر لك شيئاً، ثم سأل الناس فقام المغيرة، فقال: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يعطيها السدس. فقال له: هل معك أحد؟، فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه" "تذكرة الحفاظ (1/2).
أقول: إن هذه القصة لم تثبت عن أبي بكر -رضي الله عنه-؛ لأن فيها انقطاعاً بين قبيصة وأبي بكر -رضي الله عنه-، إذ أن قبيصة لم يدرك أبا بكر -رضي الله عنه-، فروايته عنه ضعيفة للانقطاع الحاصل بينه وبين أبي بكر -رضي الله عنه-.
قال الحافظ ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم العراقي في "تحفة التحصيل" (ص262):
" ع قبيصة بن ذؤيب، ولد عام الفتح على الأصح، وقيل أول سنة من الهجرة ،وفي التهذيب أن روايته عن أبي بكر وعمر مرسلة.
قلت: جزم في التهذيب بأن روايته عن أبي بكر مرسلة، وقال في روايته عن عمر: يقال مرسل انتهى".
وضعّفه العلامة الألباني –رحمه الله- في "إرواء الغليل" (6/124-125) حديث (1680)، ونقل عن ابن عبد البر أنه لا يصح سماع قبيصة من أبي بكر -رضي الله عنه-، ونقل الألباني عن ابن حزم أنه أعله بالانقطاع، وأن عبد الحق قد تابع في ذلك ابن حزم.
وضعّفه العلامة الألباني -أيضاً- في ضعيف ابن ماجه (595).
وضعيف الترمذي له، حديث (370).
فالحلبي يريد أن يثبت من هذا الحديث الضعيف شك أبي بكر -رضي الله عنه- في صدق الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، وهيهات له، هيهات.
قال الحلبي: " وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "... وهو الذي سَنَّ للمُحدِّثين التثبُّتَ في النقل، وربما كان يتوقّفُ في خبر الواحدِ إذا ارتاب ...".
أقول: إن عمر -رضي الله عنه- لم يسن للمحدثين التثبّت في أخبار الثقات، وحاشاه أن يسنَّ منهجاً لم يشرعه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد شرع الله التثبّت من أخبار الفساق، ويلحق بهم الكذابون والمتهمون، ومن عُرِفوا بالضعف في ضبطهم.
وحذّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكذب عليه، فلم يعرف الكذب عن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا على غيره، حاشاهم.
ولم يأمر الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته الكرام بالتثبّت من أخبار الثقات.
وهذا عمر -رضي الله عنه- يقبل أخبار من يحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يتثبّت ولا يرتاب فيما يخبره به.
قال عمر –رضي الله عنه- من حديث طويل:
" ...وكان لي جار من الأنصار فكنا نتناوب النـزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك..."([6]).
فواضح أن عمر يقبل أخبار صاحبه، ولا يذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسأله عن ما حدثه به صاحبه الأنصاري، ولا يسأل غيره من الصحابة عن هذه الأحاديث، وكذلك صاحب عمر -رضي الله عنه- لا يتثبّت من الأخبار التي ينقلها عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهل صدق الحلبي في قوله: " وامتثالاً لأمر اللهِ –تعالى–، ورسولهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون في نقل الأخبار وقَبُولها، لا سيَّما إذا شكُّوا في صِدْقِ الناقل لها"؟
وقد قبل عمر -رضي الله عنه- حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وحده، في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من مجوس هجر.
ونصه، عن بجالة بن عبدة، قال: "كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ"([7]).
وقبلَ خبر عبد الرحمن بن عوف وحده في النهي عن الفرار من الطاعون، وعن دخول البلد التي وقع بها([8]).
وقبلَ خبر الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم الضباني.
عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر كان يقول : "الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً"، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها"([9]).
وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.
فانظر إلى عمر -رضي الله عنه- كيف قبل خبر الضحاك بن سفيان، ورجع عن رأيه، وكيف قبل العلماء خبر الضحاك وعملوا به.
وكما يقول الحافظ ابن حجر: " وعدة أخبار من أخبار الآحاد في عدة من الوقائع".
وانظر هذه الأحاديث في كتاب "النكت" للحافظ ابن حجر (1/246)، حيث ردَّ بها على إبراهيم بن إسماعيل بن علية الجهمي الضال، وعلى الجاحظ، و أبي علي الجياني وكلاهما من عتاة المعتزلة.
فالحلبي يحذو حذوهم في التعنّت في قبول أخبار الثقات([10]).
ويخالف الكتاب والسنة، وما أجمع عليه أهل السنة من فقهاء ومحدثين.
وأما قول الذهبي –رحمه الله- عن عمر -رضي الله عنه-: "وربما كان يتوقّفُ في خبر الواحدِ إذا ارتاب".
فلا يُسلّم له.
ثم أقول: رحم الله الذهبي، لعل الذي حمله على هذا القول قصة أبي موسى مع عمر –رضي الله عنه- في الاستئذان، وهذا والله أعلم لم يحصل لعمر إلا مرة واحدة.
وليس هو منطلقاً من مبدأ التثبّت في أخذ الأخبار...الخ، كما يهول الحلبي.
وقد عاتب عمرَ –رضي الله عنه- فيها أُبيُّ بن كعب -رضي الله عنه- قال له: "يَا عُمَرُ لاَ تَكُنْ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَكُونُ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
وفي رواية لأبي داود: "فَقَالَ عُمَرُ لأَبِى مُوسَى: إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَدِيدٌ".
انظر سنن أبي داود "كتاب الأدب" حديث (5181)، (5183).
فعمر -رضي الله عنه- لم يتهم أبا موسى -رضي الله عنه-، ولا سنَّ للناس التثبّت الذي يدّعيه الحلبي وأسلافه.
وقد أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى -رضي الله عنه- إلى اليمن داعياً ومعلماً، مبلغاً عن رسول الله ما حفظه من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العقائد والعبادات والحلال والحرام والأخلاق، كما بعث أفراداً من أصحابه إلى عدد من الجهات لتبليغ رسالته ثقة منه -صلى الله عليه وسلم- بصدقهم وأمانتهم، وهذا كله بخلاف ما يعتقده الحلبي ويقرره من الباطل على طريقة أهل الأهواء.
ثم كم لأبي موسى -رضي الله عنه- من الأحاديث في دواوين الإسلام، ولم يتثبّت منه أحد.
وكم وكم للصحابة من الأحاديث، ولم يتثبّت الناس من أحاديثهم؛ لأنهم فوق الثقات.
وكم لثقات التابعين وأتباع التابعين من الأحاديث وتلقاها العلماء الناصحون بالقبول والاحتفاء.
وأما حديث عليّ في أنه كان يستحلف من حدّثه.
فلم يروه عنه إلا أسماء بن الحكم الفزاري، وهو مجهول، لم يرو عنه إلا راو واحد، وهو علي بن ربيعة، ومن هنا لم يوثقه غير العجلي، وهو متساهل في توثيق المجهولين.
قال ابن أبي حاتم في ترجمته (2/325):
" أسماء بن الحكم الفزاري، روى عن علي، روى عنه علي بن ربيعة الوالبي، سمعت أبى يقول ذلك".
ولم يزد على ذلك.
وقال البخاري في "تأريخه الكبير" (2/54) في ترجمة أسماء بن الحكم هذا، راوي هذا الحديث عن علي –رضي الله عنه-.
قال: " ولم يرو عن أسماء بن الحكم إلا هذا الواحد وحديث آخر ولم يتابع عليه، وقد روى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضهم عن بعض فلم يحلف بعضهم بعضا".
وإذا قالت حذام فصدقوها، والقواعد مع مَنْ يُضعِّف هذا الحديث، ومنهم البخاري.
تأمل عبارات الحلبي: " وقد ثبتَ عن عليٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-".
وقوله: " وهكذا كان سائرُ الصحابة..".
أي أنهم كانوا لا يقبلون الأحاديث من إخوانهم الصحابة إلا بعد أن يستحلفوهم.
أقول: وهكذا يكون العلم، وهكذا يكون التأصيل!!!
فمن أين لك أن الصحابة يشك بعضهم في صدق بعض، ويستحلف بعضهم بعضاً؟
فما هو حكم السلف على من يجازف بمثل هذه التقريرات، والدعاوى الفارغة، والتأصيلات المدمرة؟
قال الحلبي: "3- فظهرت -بناءً على هذا -كُلِّه- أهميةُ الإسناد وقيمتُه في قَبول الأخبار، أو رَدّها".
يريد بقوله: "بناء على هذا كله" الآية والأحاديث التي ذكرها.
وليس فيها التثبّت من أخبار الصحابة، ولا من أخبار الثقات الأمناء.
وهو قد ساق الآية وحديث عمر -رضي الله عنه- وحديث علي -رضي الله عنه- للاستدلال بها على التثبّت من أخبار الصحابة، فيا لها من كارثة، فكيف مصير أخبار الثقات عنده؟
ومن هذا الاعتقاد الباطل، ومن هذا التأصيل القديم الراسخ في نفسه شكك بوقاحة وجلد في أخبار الصحابة الكرام وأخبار الثقات في مقاله الموسوم بـِ " أَلَـمْ يَأْنِ لكم أنْ تسمعوا منّا ولا تَكتفوا بالسماع عنّا.."([11]).
قال الحلبي من قبل ثلاثين عاماً:
" فطبّق التابعون -رحمهم اللهُ- تعالى- ذلك بقوَّة:
قال سفيانُ الثَّوْري: الإسنادُ سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاحٌ، فبأيِّ شيءٍ يقاتل ؟!
وقال ابنُ المبارك: الإسنادُ –عندي– من الدين، لولا الإسنادُ لقالَ مَن شاءَ ما شاءَ.
وقال ابنُ سيرين: كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعتِ الفتنةُ؛ سألوا عن الإسناد، لِكَيْ يأخذوا حديثَ أهلِ السنة، ويَدَعوا حديثَ أهل البدع".
أقول:
أ- سفيان الثوري وابن المبارك إنما هما من أتباع التابعين، وهذا من البدهيات عند طلاب الحديث، فكيف تعدهما من التابعين؟
ب- إن هؤلاء الأئمة الذين ذكرتهم ليؤمنون بأهمية الأسانيد المسلسلة بالثقات الأثبات، ويبنون عليها دينهم وفقههم في العقائد والأحكام، ولا يشككون فيها، ولا يشككون في أخبار الصحابة -رضي الله عنهم-.
وهذا أمر مغاير لما تهدف إليه وتقرره، وتستدل له بما يشكك في أخبار الصحابة، ويوجب التثبّت من أخبارهم، على طريقة أهل الأهواء الذين يتبعون المتشابهات، ولا يلتزمون ولا يسلمون بالمحكمات.
والحاصل أن الحلبي يريد أن يتظاهر للناس في هذا المقال بأنه يقرر أصول الجرح والتعديل على وفق منهج الأئمة والمحدثين من قبل سنوات ثلاثين، وأنه لا يزال على هذا المنهج.
والواقع أن تأصيله مضاد للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة الكرام، من قبل ثلاثين سنة إلى يومنا هذا.
ثم هو يحاول ويحاول أن يغطي هذه السوأة، فتأبى عليه رياح الهوى إلا كشفها وهتكها.
أيا حلبي لو كان لك قلب سليم من الأهواء لأعلنتَ توبتك من كل أقوالك الباطلة ومراوغاتك الفاشلة وتأصيلاتك الفاسدة، التي تتخبّط في أوحالها من قبل ثلاثين سنة.
وإني لأسأل الله أن يتوب عليك، وأن يرزقك الصدق في الأقوال والأفعال، وفي الولاء والبراء، ومراقبة ربك في السراء والضراء.
قال الحلبي:
" ولا أدري (!) أين كان-عند كتابة هذه التأصيلات-قبل كل هذه السنوات!- (أكثرُ) أهل التقوّل والافتراءات؟!
نسأل الله الثبات".
أقول: إن الذين انتقدوك بحق فيما كتبتَه من التأصيلات الأخيرة لا يعلمون الغيب، فانتقدوك فيما اطلعوا عليه من تأصيلاتك الباطلة والتي أطلعهم الله عليها.
ولما أظهرتَ ما كتبتَه قبل ثلاثين عاماً -ظاناً- أنه يخلصك مما جنته يداك، فتصدى له فوراً من يحترم أصول السلف وبيَّنَ ما فيه من الضلالات المضادة للكتاب والسنة وأصول السلف، فما زادك إبرازه إلا إدانة وخيبة وخساراً.
وكشف الله للناس بهذا الرد وما قبله أنك من ألد أهل التقوّل على الله ورسوله وأصول السلف، ومن أهل الافتراء، فكيف تسأل الله الثبات على الضلالات والافتراءات؟
واعلم أن الشرفاء لا يكذبون.
(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).
وسوف أزيد السلفيين الشرفاء الصادقين بإذن الله ما يزيدهم قوة وثباتاً من أقوال العلماء المتضمِّنة لبيان الأصول الصحيحة التي أجمع عليها فقهاء الأمة وأهل الحديث، والمدمرة لأصول أهل الضلال السابقين واللاحقين، ومنها أصول علي الحلبي المحارب لأهل السنة وأصولهم .
وهذه نبذة من أقوال وتقريرات فحول العلماء الموضحة للمنهج الحق في التعامل مع أخبار الثقات، أقدمها للقراء الكرام ليضعوها نصب أعينهم، ولا يلتفتوا لأقوال أهل الأهواء.
1- قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- في "التمهيد" (7/207)، وهو يشرح حديث أم سلمة -رضي الله عنها-:
" وفيه من الفقه أيضاً، إيجاب العمل بخبر الواحد الثقة، ذكراً كان أو أنثى، وعلى ذلك جماعة أهل الفقه والحديث أهل السنة، ومن خالف ذلك فهو عند الجميع مبتدع، والدليل على ما قلنا من العمل بخبر الواحد من هذا الحديث قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: "ألا أخبرتيها؟" فأوضح بذلك أن خبر أم سلمة يجب العمل به، وكذلك خبر المرأة لزوجها، ولو كان خبر أم سلمة لا يلزم المرأة وخبر المرأة لا يلزم زوجها لما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة "ألا أخبرتيها؟" لأنها كانت تقول: وكيف كنت أخبرها عنك وحدي وأي فائدة في نقلي عنك وحدي؟ أو كيف تنقل المرأة الخبر وحدها إلى زوجها، وهذا بين في إيجاب العمل بخبر الواحد، وقبوله ممن جاء به إذا كان عدلاً والحجة في إثبات خبر الواحد والعمل به قائمة من الكتاب والسنة ودلائل الإجماع والقياس".
2- وقال النووي –رحمه الله- في "شرحه لصحيح مسلم" (1/130-131) مؤيداً لكلام الإمام مسلم -رحمه الله- في وجوب قبول خبر الواحد الثقة:
" هذا الذي قاله مسلم -رحمه الله- تنبيه على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع وهو وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها، وقد أطنب العلماء -رحمهم الله- في الاحتجاج لها وإيضاحها، وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي -رحمه الله- وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه".
3- وقال ابن حزم –رحمه الله- في " الإحكام في أصول الأحكام" (1/133):
" واستدركنا برهاناً في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعاً، وهو خبر الله تعالى عن موسى -عليه السلام- إذ جاءه (رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فخرج خائفا يترقب ) إلى قوله تعالى، (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) إلى قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ....)، إلى آخر القصة، فصدق موسى -عليه السلام- قول المنذر له، وخرج عن وطنه بقوله، وصوّب الله تعالى ذلك من فعله، وصدّق قول المرأة إن أباها يدعوه فمضى معها، وصدق أباها في قوله إنها ابنته واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده وصوّب الله ذلك كله، فصحَّ يقيناً ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقيناً، والحمد لله رب العالمين".
4- وقال العلامة الألباني -رحمه الله- في رسالته " الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" (ص28-37):
"بناؤهم عقيدة ( عدم الأخذ بحديث الآحاد ) على الوهم والخيال :
وإن من أعجب ما يسمعه المسلم العاقل اليوم هو هذه الكلمة التي يرددها كثير من الخطباء والكتاب كلما ضعف إيمانهم عن التصديق بحديث، حتى ولو كان متواتراً عند أهل العلم بالحديث كحديث نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان، فإنهم يتسترون بقولهم : " حديث الآحاد لا تثبت به عقيدة "، وموضع العجب أن قولهم هذا هو في نفسه عقيدة، كما قلت مرة لبعض من ناظرتهم في هذه المسألة، وبناء على ذلك، فعليهم أن يأتوا بالدليل القاطع على صحة هذا القول، وإلا فهم متناقضون فيه، وهيهات هيهات، فإنهم لا دليل لهم إلا مجرد الدعوى، ومثل ذلك مردود في الأحكام فكيف في العقيدة ؟ وبعبارة أخرى : لقد فروا من القول بالظن الراجح في العقيدة، فوقعوا فيما هو أسوأ منه وهو قولهم بالظن المرجوح فيها، ( فاعتبروا يا أولى الأبصار )! وما ذلك إلا بسبب البعد عن التفقه بالكتاب والسنة، والاهتداء بنورهما مباشرة، والانشغال عنه بآراء الرجال.
الأدلة على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة :
إن هناك أدلة أخرى أخص في الدلالة مما سبق على وجوب الأخذ بخبر الواحد في العقيدة أرى أنه لا بد من التعرض لذكر بعضها، وبيان وجه دلالتها.
الدليل الأول : قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.
فقد حض الله تبارك وتعالى المؤمنين على أن ينفر طائفة منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتعلموا منه دينهم ويتفقهوا فيه . ولا شك أن ذلك ليس خاصاً بما يسمى بالفروع والأحكام بل هو أعم . بل المقطوع به أن يبدأ المعلم والمتعلم بما هو الأهم فالأهم تعليماً وتعلماً ومما لا ريب فيه أن العقائد أهم من الأحكام ومن أجل ذلك زعم الزاعمون أن العقائد لا تثبت بحديث الآحاد فيبطل ذلك عليهم هذه الآية الكريمة فإن الله تعالى كما حض فيها الطائفة على التعلم والتفقه عقيدة وأحكاما حضهم على أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما تعلموه من العقائد والأحكام و ( الطائفة ) في لغة العرب تقع على الواحد فما فوق . فلولا أن الحجة تقوم بحديث الآحاد عقيدة وحكما لما حض الله تعالى الطائفة على التبليغ حضا عاما معللا ذلك بقوله : { لعلهم يحذرون } الصريح في أن العلم يحصل بإنذار الطائفة فإنه كقوله تعالى في آياته الشرعية والكونية : { لعلهم يتفكرون } { لعلهم يعقلون } { لعلهم يهتدون } فالآية نص في أن خبر الآحاد حجة في التبليغ عقيدة وأحكاما.
الدليل الثاني : قوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } أي لا تتبعه ولا تعمل به ومن المعلوم أن المسلمين لم يزالوا من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون بها الأمور الغيبية والحقائق الاعتقادية مثل بدء الخلق وأشراط الساعة بل ويثبتون بها لله تعالى الصفات فلو كانت لا تفيد علما ولا تثبت عقيدة لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ( مختصر الصواعق - 2 / 396 ) وهذا مما لا يقوله مسلم.
الدليل الثالث : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وفي القراءة الأخرى { فتثبتوا } فإنها تدل على أن العدل إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة به وأنه لا يجب التثبت بل يؤخذ به حالا ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في " الإعلام " ( 2 / 394 ) :
وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم . ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة وفي "صحيح البخاري": قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم ".
الدليل الرابع : سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على الأخذ بخبر الآحاد :
إن السنة العملية التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياته وبعد وفاته تدل أيضا دلالة قاطعة على عدم التفريق بين حديث الآحاد في العقيدة والأحكام وأنه حجة قائمة في كل ذلك وأنا ذاكر الآن بإذن الله بعض ما وقفت عليه من الأحاديث الصحيحة قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "صحيحه" - 8 / 132 ):
باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام وقول الله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية وقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحدا بعد واحد فإن سها أحد منهم رد إلى السنة.
ثم ساق الإمام البخاري أحاديث مستدلا بها على ما ذكر من إجازة خبر الواحد والمراد بها جواز العمل والقول بأنه حجة فأسوق بعضا منها :
الأول : عن مالك بن الحويرث قال :
أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده نحوا من عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال : ( ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ).
فقد أمر صلى الله عليه وسلم كل واحد من هؤلاء الشببة أن يعلم كل واحد منهم أهله والتعليم يعم العقيدة بل هي أول ما يدخل في العموم فلو لم يكن خبر الآحاد تقوم به الحجة لم يكن لهذا الأمر معنى.
الثاني : عن أنس بن مالك : أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام . قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال : ( هذا أمين هذه الأمة ) أخرجه مسلم ( 7 / 29 ) ورواه البخاري مختصرا.
قلت : فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث إليهم أبا عبيدة وحده وكذلك يقال في بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم في نوبات مختلفة أو إلى بلاد منها متفرقة غيره من الصحابة رضي الله عنهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وأحاديثهم في " الصحيحين " وغيرهما ومما لا ريب فيه أن هؤلاء كانوا يعلمون الذين أرسلوا إليهم العقائد في جملة ما يعلمونهم فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفردا لأنه عبث يتنـزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في " الرسالة " ( ص 412 ) :
وهو صلى الله عليه وسلم لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان قادرا على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عددا فبعث واحدا يعرفونه بالصدق.
الثالث : عن عبد الله بن عمر قال :
بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
رواه البخاري ومسلم.
فهذا نص على أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر الواحد في نسخ ما كان مقطوعا عندهم من وجوب استقبال بيت المقدس فتركوا ذلك واستقبلوا الكعبة لخبره فلولا أنه حجة عندهم ما خالفوا به المقطوع عندهم من القبلة الأولى . قال ابن القيم :
ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك.
الرابع : عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى نبي إسرائيل فقال ابن عباس : كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال : خطبنا رسول الله ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى عليه السلام صاحب الخضر . أخرجه الشيخان مطولا والشافعي هكذا مختصرا وقال ( 442 / 1219 ) :
الشافعي يثبت العقيدة بخبر الواحد :
فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكذب به امرءا من المسلمين إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه دلالة على أن موسى نبي إسرائيل صاحب الخضر.
قلت : وهذا القول من الإمام الشافعي رحمه الله دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد لأن كون موسى عليه السلام هو صاحب الخضر عليه السلام هي مسألة علمية وليست حكما عمليا كما هو مبين ويؤيد ذلك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عقد فصلا هاما في " الرسالة " تحت عنوان " الحجة في تثبيت خبر الواحد " وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ( ص 401 - 453 ) وهي أدلة مطلقة أو عامة تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضا وكذلك كلامه عليها عام أيضا وختم هذا البحث بقوله :
وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل . وكذلك حكي لنا عمن حكى لنا عنه أن أهل العلم بالبلدان وهذا عام أيضا .
وكذلك قوله ( ص 457 ) :
" ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي ولكن أقول : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ".
عدم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة بدعة محدثة :
وبالجملة فأدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال العلماء تدل دلالة قاطعة - على ما شرحنا - من وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة سواء كان في الاعتقاديات أو العمليات وأن التفريق بينهما بدعة لا يعرفها السلف ولذلك قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( 3 / 412 ) :
وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات ( يعني العقيدة ) كما تحتج بها في الطلبيات العمليات ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته فأين سلف المفرقين بين البابين ؟ نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين . . . وادعوا الإجماع على هذا التفريق ولا يحفظ ما جعلوه إجماعا عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من الصحابة والتابعين . . . فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز ولا يجدون إلى الفرق سبيلا إلا بدعاوى باطلة . . . كقول بعضهم : الأصوليات هي المسائل العلميات والفروعيات هي المسائل العملية ( وهذا تفريق باطل أيضا فإن المطلوب من العمليات ) أمران : العلم والعمل والمطلوب من العلميات العلم والعمل أيضا وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته وبغضه للباطل الذي يخالفها فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه بل هو أصل العمل وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال.
وهذا من أقبح الغلط وأعظمه فإن كثيرا من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم غير شاكين فيه غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه فلا تهمل هذا الموضع فإنه مهم جدا به تعرف حقيقة الإيمان.
فالمسائل العلمية عملية والمسائل العملية علمية فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل " .
فتحرر من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى أن التفريق المذكور مع كونه باطلا بالإجماع لمخالفته ما جرى عليه السلف وتظاهر الأدلة المتقدمة على مخالفته فهو باطل أيضا من جهة تصور المفرقين عدم وجوب اقتران العلم بالعمل والعمل بالعلم وهذه نقطة هامة جدا تساعد المؤمن على تفهم الموضوع جيدا والإيمان ببطلان التفريق المذكور يقينا".
أقول:
لقد ظهر بجلاء منهج السلف الصالح في تقبل أخبار الثقات والقول بوجوب قبولها، وأنه تقوم بها الحجة، وأن من يخالف هذا المنهج مبتدع.
وهذا التبديع صادر من أئمة الفقه وأهل الحديث، كما نقل ذلك ابن عبد البر -رحمه الله-.
ويقول الألباني مُلَخِّصاً بحثه في وجوب قبول خبر الآحاد:
" وبالجملة فأدلة الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال العلماء تدل دلالة قاطعة - على ما شرحنا - من وجوب الأخذ بحديث الآحاد في كل أبواب الشريعة سواء كان في الاعتقاديات أو العمليات وأن التفريق بينهما بدعة لا يعرفها السلف ولذلك قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( 3 / 412 ) :
وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات ( يعني العقيدة ) كما تحتج بها في الطلبيات العمليات...الخ".
فمذهب الحلبي شر من مذاهب أهل البدع من المتكلمين وغيرهم في هذا الباب؛ إذ هؤلاء يقبلون أخبار الثقات في العمليات، ولا يقبلونها في العلميات.
والحلبي يشكك في أخبار الثقات مطلقاً، ويرجف عليها بشبه لعلها لا تخطر بأذهان أولئك المبتدعة الضلّال.
فأين تعلق وتمسح هذا الحلبي بالعلامة الألباني الذي ينافح عن السنة، ولا سيما أخبار الآحاد؟، فالألباني في واد، والحلبي في واد.
وأين تمسحه بالسلف ومنهجهم؟، وهم في واد، والحلبي في واد.
وليس في هذا الباب فقط، بل في ميادين أخرى، أخطر من هذا الميدان.
فهل يلام من يُبدِّع الحلبي وأمثاله عند من يحترم منهج السلف؟ كلا، ثم كلا.
لا سيما وقد أجمع على تبديع أمثاله فقهاء الأمة وأهل الحديث.
يؤكد هذا قول العلامة الألباني –رحمه الله- الذي أسلفناه قريباً.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
29/4/1433هـ
[1] - انظر (ص2) فما بعدها من مقال الحلبي المشار إليه.
[2] - أخرجه البخاري في "كتاب الأنبياء" حديث (3461).
[3] - أخرجه البخاري في "كتاب العلم" حديث (107)، وأحمد (1/ 165، 166)، وأبو داود حديث (3651)، وابن ماجه في "المقدمة" حديث (36) وغيرهم.
[4] - متفق عليه، أخرجه البخاري في "العلم" حديث (108)، ومسلم في "المقدمة" حديث (2).
[5] - كما يدَّعي، والعهدة عليه.
[6] - أخرجه مسلم في صحيحه، حديث (1474).
[7] - انظر البخاري "كتاب الجزية والموادعة" حديث (3157)، وأبو داود في "الخراج والإمارة والفيء" حديث (3043)، والترمذي في "السير" حديث (1586)، وهو مخرج في مصادر أخرى.
[8] - متفق عليه، أخرجه البخاري في "الطب" حديث (5729)، و(5730)، ومسلم في "كتاب السلام" حديث (2219)، وأخرجه غير الشيخين في عدد من دواوين السنة.
[9] - أخرجه أبو داود في "الفرائض" حديث (2927) وأحمد (3/452)، والترمذي في "الديات" حديث (1415) ، وأخرجه غيرهم.
[10] - في الوقت الذي يعتمد فيه على فهمه السقيم، وعلى الروايات الضعيفة، وهذا من طرق أهل الضلال.
[11] - انظر (ص5).