الْدِّيْن بَيْن حَسَن الْمُعَامَلَة وَجَبُن الْمُجَامَلَة
1- مَن الْكَلِمَات الَّتِي اشْتَهَرَت وَانْتَشَرَت فِي هَذَا الْزَّمَان: «الْدِّيْن الْمُعَامَلَة» وَكَثِيْر مِّن الْنَّاس يَنْسُبْهَا إِلَى رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَهِي نِسْبَة بِاطِلَة تُحَمِّل الْكَذِب عَلَى الْنَّبِي صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَبَعْضُهُم يُزَخْرِفُهْا وَيَجْعَلُهَا مِن مَفَاخِر الإِسْلام، حَيْث حَصَر الْرَّسُوْل صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم الإِسْلَام فِي كَلِمَتَيْن: «الْدِّيْن الْمُعَامَلَة» وَهَذِه الْجُمْلَة لا أَصْل لَهَا لا فِي الأَحَادِيْث الْصَّحِيْحَة، وَلا الضَّعِيْفَة، وَلا الْمَوْضُوْعَة، وَإِنَّمَا هِي مِن أَقْوَال بَعْض أَهْل الْعِلْم.
2- وَقَد يَقُوْل قَائِل: إِن مَعْنَاهَا صَحِيْح يَشْهَد لَه مَقَاصِد الْدِّيْن وَاسْتِقْرَاء الْشَرِيعَة، وَهَذَا كَلام صَحِيْح، وَلَكِن لَيْس كُل كَلام صَحِيْح قَالَه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَلَكِن كُل مَا قَالَه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم صَحِيْح.
وَقَد كَان عُلَمَاؤُنَا -رَحِمَهُم الْلَّه- يَضْرِبُوْن مَثَلا تَقْرَيْبَاً لِهَذِه الْمَسْأَلَة، فَيَقُوْلُوْن لَو قُلْنَا: الْبِيض أَبْيَض لَكَان كَلامَنَا صَحِيْحاً، وَلَكِن لَو زِدْنَا قَال رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: الْبِيض أَبْيَض؛ لَكِن كَذِبَا وَتَزْوِيْرَا عَلَى رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم.
3- وَإِذَا كَان الْمَعْنَى صَحِيْحاً فَهُو الْمُرَاد، وَاجَبْنا الْتُنْبِيْه عَلَى ذَلِك لِنذُب الْكَذِب عَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَوَّلاً، وَثَانِيَاً نُذَكِّر بِأَهَمِّيَّة الْمُعَامَلات فِي الْدِّيْن؛ لأَن الْمُعَامَلَة هِي مِقْيَاس الْتِزَام الْمُسْلِم بِدَيْنِه وَمِعْيَار إِيْمَانِه، وَيَدُل عَلَى ذَلِك:
أ- حَدِيْث الْمُفْلِس: عَن أَبِي هُرَيْرَة -رَضِي الْلَّه عَنْه-، أَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: «أَتَدْرُوْن مَا الْمُفْلِس؟»قَالُوْا: الْمُفْلِس فِيْنَا مَن لا دِرْهَم لَه وَلا مَتَاع، فَقَال: «الْمُفْلِس مِن أُمَّتِي يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلاة، وَصِيَام، وَزَكَاة، وَيَأْتِي قَد شَتَم هَذَا، وَقَذَف هَذَا، وَأَكَل مَال هَذَا، وَسَفَك دَم هَذَا، وَضَرَب هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِه، وَهَذَا مِن حَسَنَاتِه فَإِن فَنِيَت حَسَنَاتُه قَبْل أَن يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيْه ثُم طُرِح فِي الْنَّار» أَخْرَجَه مُسْلِم.
فَهَذَا الْمُفْلِس جَاء بِالإِسْلَام الْظَّاهِر مِن صَلاة وَصِيَام وَزَكَاة وَلَكِن سَقَط فِي مُعَامَلَة الْخَلْق فَدَل عَلَى ضَعْف إِيْمَان وَقِلَّة دِيْن فَرَسَب فِي الامْتِحَان يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يُكَرِّم الْمَرْء أَو يُهَان.
ب- طَلَب عُمَر الْفَارُوْق مِن رَجُل أَن يَأْتِيَه بِمَن يَعْرِفُه حَق الْمَعْرِفَة لِضَمَانِه فِي مَسْأَلَة، فَلَمَّا جَاءَه بِالْرَّجُل ابْتَدَرَه الْفَارُوْق سَائِلاً: أَنْت جَارُه الأَدْنَى؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟ قَال: لا؟ قَال: فَلَعَلَّك عَامَلْتَه بِالْدُّهْم وَالْدِّيْنَار؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتُه فِي الْمَسْجِد يَرْفَع رَأْسَه تَارَة وَيَخْفِضُه تَارَة أُخَر؛ قَال: نَعَم، قَال: اذْهَب فَإِنَّك لا تَعْرِفُه، فَانْظُرُوْا كَيْف جَعَل الْفَارُوْق الْمُعَامَلَة مِعْيَار الالْتِزَام بِالْدِّيْن.
4- إِن الْمُعَامَلات هِي رُوْح الْعِبَادَات وَلُبَابُهَا.
* الصَّلاة لَيْست حَرَكَات، وَلَكِنَّهَا تُثْمِر الْحَق وَالْصِّدْق وَالالْتِزَام وَإِعْطَاء كُل ذِي حَق حَقَّه: {وَأَقِم الصَّلاة إِن الصَّلاة تَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر} [الْعَنْكَبُوْت:45].
وَكَذَلِك هِي عَوْن لِلْعَبْد عَلَى الإِلْتِزَام بِشَرْع الْلَّه وَالْقِيَام بِأَمْر: {وَاسْتَعِينُوا بِالْصَّبْر وَالْصَّلاة} [الْبَقَرَة: 45].
* الْزَّكَاة لَيْسَت ضَرِيْبَة مَالِيَّة، إِنَّهَا وَسَيْلَة لِلْطُّهْر وَالْتَّزْكِيَة: {خُذ مِن أَمْوَالِهِم صَدَقَة تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيْهِم بِهَا} [الْتَّوْبَة:103].
* وَالْصَّوْم لَيْس جُوْعاً وَعَطَشَاً، بَل هُو يَزْرَع الْتَّقْوَى فِي الْقَلْب وَالِالْتِزَام فِي الْجَوَارِح: {كُتِب عَلَيْكُم الصِّيَام كَمَا كُتِب عَلَى الَّذِيْن مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُوْن} [الْبَقَرَة: 183]، وَقَال صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: «مَن لَم يَدَع قَوْل الْزُّوْر وَالْعَمَل بِه فَلَيْس لِلَّه حَاجَة أَن يَدَع طَعَامَه وَشَرَابَه».
وَقَال: «رُبَّ صَائِم لَيْس مِن صِيَامِه إِلا الْجُوْع وَالْعَطَش».
* وَالْحَج وَالْعُمْرَة لَيْسَت سِيَاحَة بَل هُو سَبِيْل لِلْطُّهْر وَالزُّهْد وَالتَّرَفُّع عَن مَتَاع الْدُّنْيَا {فَمَن فَرَض فِيْهِن الْحَج فَلا رَفَث وَلا فُسُوْق وَلا جِدَال فِي الْحَج} [الْبَقَرَة:197].
* وَالْصِدِق فِي الْتَّعَامُل لَيْس مَحْصُوَراً عَلَى الْعِبَادَات الأَرْبَع بَل هُو فِي الاقْتِصَاد وَالْتِّجَارَة وَالاسْتِهْلَاك حَتَّى أَعْدَاؤُنَا فَهِمُوْا ذَلِك، يَقُوْل الْكَاتِب الْفَرَنْسِي (جَاك اوَسُّتَرُوي) فِي كِتَابِه «الإِسْلَام وَالتَّنْمِيَة الاقْتِصَادِيَّة»: «الإِسْلام هُو نِظَام الْحَيَاة الْتَّطْبِيْقِيَّة، وَالأَخْلاق الْمِثَالِيَّة الرْفِيعِة مَعًَا، وَهَاتَان الوَجِهْتَان مُتَرابَطَتَان لا تَنْفَصِلان أَبَداً، وَمِن هُنَا يُمْكِن الْقَوْل: إِن الْمُسْلِمِيْن لا يَقْبَلُوْن اقْتِصَادَا عِلْمَانِيَّا، وَالاقْتِصَاد الَّذِي يُسْتَمَد قُوَّتِه مِن وَحْي الْقُرْآَن يُصْبِح بِالْضَّرُوْرَة اقْتِصَادَا أَخْلاقِيَّاً».
وَكَذَلِك الْصِدْق فِي الْتَّعَامُل يَكُوْن فِي الْسِّيَاسِيَّة؛ فَلَيْسَت الْسِيَاسَة فِي الإِسْلَام سِيَاسَة تَقُوْم عَلَى الْغَايَة تُبَرِّر الْوَسِيْلَة وَتَأَمُّل قَوْلُه: {إِن الْلَّه يَأْمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَات إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْن الْنَّاس أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْل إِن الْلَّه نِعِمَّا يَعِظُكُم بِه إِن الْلَّه كَان سَمِيْعا بَصِيْرا} [الْنِّسَاء:58].
وَكَذَلِك الْصِدْق فِي الْتَّعَامُل فِي الْحَرْب مَع الأَعْدَاء، فَالَحَرْب لا تغْنِي إِلْغَاء الْشُّرَف فِي الْخُصُوْمَة، وَالْعَدْل فِي الْمُعَامَلَة، وَالإِنْسَانِيَّة فِي الْقَتْل وَالْقِتَال.
قَال تَعَالَى: {وَلَوَلا دَفْع الْلَّه الْنَّاس بَعْضَهُم بِبَعْض لَّهُدِّمَت صَوَامِع وَبِيَع وَصَلَوَات وَمَسَاجِد يُذْكَر فِيْهَا اسْم الْلَّه كَثِيْراً} [الْحَج: 40].
وَقَال تَعَالَى: {وَلَوَلا دَفْع الْلَّه الْنَّاس بَعْضَهُم بِبَعْض لَّفَسَدَت الأَرْض وَلـكِن الْلَّه ذُو فَضْل عَلَى الْعَالَمِيْن} [الْبَقَرَة: 251].
وَقَال تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآَن قَوْم عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُو أَقْرَب لِلْتَّقْوَى} [الْمَائِدَة: 8].
وَقَال صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: «اغْزُوَا بِاسْم الْلَّه، وَفِي سَبِيِل الْلَّه، وَقَاتِلُوْا مَن كَفَر بِالْلَّه، اغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوْا، وَلا تَغْدِرُوْا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوَا وَلِيَدَا..».
5- وَإِذَا كَان الْصِدْق فِي الْمُعَامَلَة لُب الْعِبَادَة فلَا صَدَّق إِلا بِالْعِبَادَة، وَلِذَلِك يُخْطِئ كَثِيْر مِن الْنَّاس عِنْدَمَا تَأْمُرُه بِالْصَّلاة أَو الصِّيَام أَو الْزَّكَاة أَو أَي عَمَل صَالِح فَيَقُوْل لَك: أَنَا لا أَسْرِق، وَلا أَزْنِي، وَلا أَشْرَب الْخَمْر، وَيَدِي نَظِيْفَة، وَإِيْمَانِي فِي قَلْبِي...
يُخْطِئ لأِن هَذَا رُوْح بِلا جِسَد، وَذَاك جَسَد بِلا رُوْح فَكِلاهُمَا ضَل عَن هُدَى الْلَّه، وَزَل عَن سُنَّة رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم.
6- وَكَذَلِك يُخْطِئ قَوْم عِنَدَمّا يَرَوْن الْصِدْق فِي الْتَّعَامُل مَوْجُوْد عِنْد الْيَهُوْد أَو الْنَّصَارَى وَيُفْقِدُه عِنْد كَثِيْر مِن الْمُسْلِمِيْن فَيَقُوْل وَهُو لا يَدْرِي: الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى خَيْر مِّن الْمُسْلِمِيْن، هَذَا خَطَأ فَالتَّوْحِيْد خَيْر مِن الْشِّرْك، وَالإِسْلَام خَيْر الأَدْيَان، وَاتْبَاعِه خَيْر الْنَّاس، لَكِن تَقْصِيْر الْمُسْلِمِيْن لَيْس عِيْبَاً يُذَم بِه الإِسْلام، وَيُفَضِّل بِه الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى.
7- فَيَا أَخَا الإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فِي صَلاتِك وَحَافَظْت عَلَى صَلاة الْجَمَاعَة فَلا تَعْضُل ابْنَتُك إِذَا جَاءَهَا صَاحِب الْخَلْق وَالْدِّيْن تُرِيّدا مَهَراً غَالِيَاً وَبِيْتَاً عَالِيَاً.
وَيَا أَخَا الإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فِي زَكَاتَك وَصَدَّقَتِك فَلا تَذْهَب إِلَى الْبُنُوْك الْرِّبَوِيَّة تِسْتَقْرِض مِنْهَا وَتَتَعَامَل مَعَهَا فَدِرْهَم رَبّا أَشَد عِنْد الْلَّه مِن سِت وَثَلاثِيَن زَنيَة.
وَيَا أَخَا الْإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فَلا تَأكُل حَق أَخِيْك الْمُسْلِم وَلَو كَان قَضِيْبا مِن أَرَاك وَلا تَشْهَد شَهَادَة الْزُّوْر.
أَخَا الإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فِي هَذَا فَيَجِب أَن تُطِيْعَه فِي هَذَا، وَلا تَكُن كَبَنِي إِسْرَائِيْل يُؤْمِنُوْن بِبَعْض الْكِتَاب وَيَكْفُرُوْن بِبَعْض..
8- يَا عَبْد الْلَّه أَعْلَم أَن حُقُوْق الْلَّه تَقُوْم عَلَى الْمُسَامَحَة، أَمَّا حُقُوْق الْعِبَادَة فَتَقُوْم عَلَى الْمُشَاحَّة، فَتَحَلَّل فِي حُقُوْق الْعِبَاد قَبْل أَن يَأْتِي يَوْم لا بَيْع فِيْه وَلا خِلَال، وَلا يَنْفَع مَال وَلا بَنُوْن، وَإَنَّمَا هِي الْحَسَنَات وَالْسَّيِّئَات ثُم جُنَّة أَو نَار.
للاستماع اضغط هنا
http://www.islam-future.com/sound.ph...how&id=135&n=0
1- مَن الْكَلِمَات الَّتِي اشْتَهَرَت وَانْتَشَرَت فِي هَذَا الْزَّمَان: «الْدِّيْن الْمُعَامَلَة» وَكَثِيْر مِّن الْنَّاس يَنْسُبْهَا إِلَى رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَهِي نِسْبَة بِاطِلَة تُحَمِّل الْكَذِب عَلَى الْنَّبِي صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَبَعْضُهُم يُزَخْرِفُهْا وَيَجْعَلُهَا مِن مَفَاخِر الإِسْلام، حَيْث حَصَر الْرَّسُوْل صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم الإِسْلَام فِي كَلِمَتَيْن: «الْدِّيْن الْمُعَامَلَة» وَهَذِه الْجُمْلَة لا أَصْل لَهَا لا فِي الأَحَادِيْث الْصَّحِيْحَة، وَلا الضَّعِيْفَة، وَلا الْمَوْضُوْعَة، وَإِنَّمَا هِي مِن أَقْوَال بَعْض أَهْل الْعِلْم.
2- وَقَد يَقُوْل قَائِل: إِن مَعْنَاهَا صَحِيْح يَشْهَد لَه مَقَاصِد الْدِّيْن وَاسْتِقْرَاء الْشَرِيعَة، وَهَذَا كَلام صَحِيْح، وَلَكِن لَيْس كُل كَلام صَحِيْح قَالَه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَلَكِن كُل مَا قَالَه رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم صَحِيْح.
وَقَد كَان عُلَمَاؤُنَا -رَحِمَهُم الْلَّه- يَضْرِبُوْن مَثَلا تَقْرَيْبَاً لِهَذِه الْمَسْأَلَة، فَيَقُوْلُوْن لَو قُلْنَا: الْبِيض أَبْيَض لَكَان كَلامَنَا صَحِيْحاً، وَلَكِن لَو زِدْنَا قَال رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: الْبِيض أَبْيَض؛ لَكِن كَذِبَا وَتَزْوِيْرَا عَلَى رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم.
3- وَإِذَا كَان الْمَعْنَى صَحِيْحاً فَهُو الْمُرَاد، وَاجَبْنا الْتُنْبِيْه عَلَى ذَلِك لِنذُب الْكَذِب عَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَوَّلاً، وَثَانِيَاً نُذَكِّر بِأَهَمِّيَّة الْمُعَامَلات فِي الْدِّيْن؛ لأَن الْمُعَامَلَة هِي مِقْيَاس الْتِزَام الْمُسْلِم بِدَيْنِه وَمِعْيَار إِيْمَانِه، وَيَدُل عَلَى ذَلِك:
أ- حَدِيْث الْمُفْلِس: عَن أَبِي هُرَيْرَة -رَضِي الْلَّه عَنْه-، أَن رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: «أَتَدْرُوْن مَا الْمُفْلِس؟»قَالُوْا: الْمُفْلِس فِيْنَا مَن لا دِرْهَم لَه وَلا مَتَاع، فَقَال: «الْمُفْلِس مِن أُمَّتِي يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلاة، وَصِيَام، وَزَكَاة، وَيَأْتِي قَد شَتَم هَذَا، وَقَذَف هَذَا، وَأَكَل مَال هَذَا، وَسَفَك دَم هَذَا، وَضَرَب هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِه، وَهَذَا مِن حَسَنَاتِه فَإِن فَنِيَت حَسَنَاتُه قَبْل أَن يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيْه ثُم طُرِح فِي الْنَّار» أَخْرَجَه مُسْلِم.
فَهَذَا الْمُفْلِس جَاء بِالإِسْلَام الْظَّاهِر مِن صَلاة وَصِيَام وَزَكَاة وَلَكِن سَقَط فِي مُعَامَلَة الْخَلْق فَدَل عَلَى ضَعْف إِيْمَان وَقِلَّة دِيْن فَرَسَب فِي الامْتِحَان يَوْم الْقِيَامَة يَوْم يُكَرِّم الْمَرْء أَو يُهَان.
ب- طَلَب عُمَر الْفَارُوْق مِن رَجُل أَن يَأْتِيَه بِمَن يَعْرِفُه حَق الْمَعْرِفَة لِضَمَانِه فِي مَسْأَلَة، فَلَمَّا جَاءَه بِالْرَّجُل ابْتَدَرَه الْفَارُوْق سَائِلاً: أَنْت جَارُه الأَدْنَى؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟ قَال: لا؟ قَال: فَلَعَلَّك عَامَلْتَه بِالْدُّهْم وَالْدِّيْنَار؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتُه فِي الْمَسْجِد يَرْفَع رَأْسَه تَارَة وَيَخْفِضُه تَارَة أُخَر؛ قَال: نَعَم، قَال: اذْهَب فَإِنَّك لا تَعْرِفُه، فَانْظُرُوْا كَيْف جَعَل الْفَارُوْق الْمُعَامَلَة مِعْيَار الالْتِزَام بِالْدِّيْن.
4- إِن الْمُعَامَلات هِي رُوْح الْعِبَادَات وَلُبَابُهَا.
* الصَّلاة لَيْست حَرَكَات، وَلَكِنَّهَا تُثْمِر الْحَق وَالْصِّدْق وَالالْتِزَام وَإِعْطَاء كُل ذِي حَق حَقَّه: {وَأَقِم الصَّلاة إِن الصَّلاة تَنْهَى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر} [الْعَنْكَبُوْت:45].
وَكَذَلِك هِي عَوْن لِلْعَبْد عَلَى الإِلْتِزَام بِشَرْع الْلَّه وَالْقِيَام بِأَمْر: {وَاسْتَعِينُوا بِالْصَّبْر وَالْصَّلاة} [الْبَقَرَة: 45].
* الْزَّكَاة لَيْسَت ضَرِيْبَة مَالِيَّة، إِنَّهَا وَسَيْلَة لِلْطُّهْر وَالْتَّزْكِيَة: {خُذ مِن أَمْوَالِهِم صَدَقَة تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيْهِم بِهَا} [الْتَّوْبَة:103].
* وَالْصَّوْم لَيْس جُوْعاً وَعَطَشَاً، بَل هُو يَزْرَع الْتَّقْوَى فِي الْقَلْب وَالِالْتِزَام فِي الْجَوَارِح: {كُتِب عَلَيْكُم الصِّيَام كَمَا كُتِب عَلَى الَّذِيْن مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُوْن} [الْبَقَرَة: 183]، وَقَال صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: «مَن لَم يَدَع قَوْل الْزُّوْر وَالْعَمَل بِه فَلَيْس لِلَّه حَاجَة أَن يَدَع طَعَامَه وَشَرَابَه».
وَقَال: «رُبَّ صَائِم لَيْس مِن صِيَامِه إِلا الْجُوْع وَالْعَطَش».
* وَالْحَج وَالْعُمْرَة لَيْسَت سِيَاحَة بَل هُو سَبِيْل لِلْطُّهْر وَالزُّهْد وَالتَّرَفُّع عَن مَتَاع الْدُّنْيَا {فَمَن فَرَض فِيْهِن الْحَج فَلا رَفَث وَلا فُسُوْق وَلا جِدَال فِي الْحَج} [الْبَقَرَة:197].
* وَالْصِدِق فِي الْتَّعَامُل لَيْس مَحْصُوَراً عَلَى الْعِبَادَات الأَرْبَع بَل هُو فِي الاقْتِصَاد وَالْتِّجَارَة وَالاسْتِهْلَاك حَتَّى أَعْدَاؤُنَا فَهِمُوْا ذَلِك، يَقُوْل الْكَاتِب الْفَرَنْسِي (جَاك اوَسُّتَرُوي) فِي كِتَابِه «الإِسْلَام وَالتَّنْمِيَة الاقْتِصَادِيَّة»: «الإِسْلام هُو نِظَام الْحَيَاة الْتَّطْبِيْقِيَّة، وَالأَخْلاق الْمِثَالِيَّة الرْفِيعِة مَعًَا، وَهَاتَان الوَجِهْتَان مُتَرابَطَتَان لا تَنْفَصِلان أَبَداً، وَمِن هُنَا يُمْكِن الْقَوْل: إِن الْمُسْلِمِيْن لا يَقْبَلُوْن اقْتِصَادَا عِلْمَانِيَّا، وَالاقْتِصَاد الَّذِي يُسْتَمَد قُوَّتِه مِن وَحْي الْقُرْآَن يُصْبِح بِالْضَّرُوْرَة اقْتِصَادَا أَخْلاقِيَّاً».
وَكَذَلِك الْصِدْق فِي الْتَّعَامُل يَكُوْن فِي الْسِّيَاسِيَّة؛ فَلَيْسَت الْسِيَاسَة فِي الإِسْلَام سِيَاسَة تَقُوْم عَلَى الْغَايَة تُبَرِّر الْوَسِيْلَة وَتَأَمُّل قَوْلُه: {إِن الْلَّه يَأْمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَات إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْن الْنَّاس أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْل إِن الْلَّه نِعِمَّا يَعِظُكُم بِه إِن الْلَّه كَان سَمِيْعا بَصِيْرا} [الْنِّسَاء:58].
وَكَذَلِك الْصِدْق فِي الْتَّعَامُل فِي الْحَرْب مَع الأَعْدَاء، فَالَحَرْب لا تغْنِي إِلْغَاء الْشُّرَف فِي الْخُصُوْمَة، وَالْعَدْل فِي الْمُعَامَلَة، وَالإِنْسَانِيَّة فِي الْقَتْل وَالْقِتَال.
قَال تَعَالَى: {وَلَوَلا دَفْع الْلَّه الْنَّاس بَعْضَهُم بِبَعْض لَّهُدِّمَت صَوَامِع وَبِيَع وَصَلَوَات وَمَسَاجِد يُذْكَر فِيْهَا اسْم الْلَّه كَثِيْراً} [الْحَج: 40].
وَقَال تَعَالَى: {وَلَوَلا دَفْع الْلَّه الْنَّاس بَعْضَهُم بِبَعْض لَّفَسَدَت الأَرْض وَلـكِن الْلَّه ذُو فَضْل عَلَى الْعَالَمِيْن} [الْبَقَرَة: 251].
وَقَال تَعَالَى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآَن قَوْم عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُو أَقْرَب لِلْتَّقْوَى} [الْمَائِدَة: 8].
وَقَال صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: «اغْزُوَا بِاسْم الْلَّه، وَفِي سَبِيِل الْلَّه، وَقَاتِلُوْا مَن كَفَر بِالْلَّه، اغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوْا، وَلا تَغْدِرُوْا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوَا وَلِيَدَا..».
5- وَإِذَا كَان الْصِدْق فِي الْمُعَامَلَة لُب الْعِبَادَة فلَا صَدَّق إِلا بِالْعِبَادَة، وَلِذَلِك يُخْطِئ كَثِيْر مِن الْنَّاس عِنْدَمَا تَأْمُرُه بِالْصَّلاة أَو الصِّيَام أَو الْزَّكَاة أَو أَي عَمَل صَالِح فَيَقُوْل لَك: أَنَا لا أَسْرِق، وَلا أَزْنِي، وَلا أَشْرَب الْخَمْر، وَيَدِي نَظِيْفَة، وَإِيْمَانِي فِي قَلْبِي...
يُخْطِئ لأِن هَذَا رُوْح بِلا جِسَد، وَذَاك جَسَد بِلا رُوْح فَكِلاهُمَا ضَل عَن هُدَى الْلَّه، وَزَل عَن سُنَّة رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم.
6- وَكَذَلِك يُخْطِئ قَوْم عِنَدَمّا يَرَوْن الْصِدْق فِي الْتَّعَامُل مَوْجُوْد عِنْد الْيَهُوْد أَو الْنَّصَارَى وَيُفْقِدُه عِنْد كَثِيْر مِن الْمُسْلِمِيْن فَيَقُوْل وَهُو لا يَدْرِي: الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى خَيْر مِّن الْمُسْلِمِيْن، هَذَا خَطَأ فَالتَّوْحِيْد خَيْر مِن الْشِّرْك، وَالإِسْلَام خَيْر الأَدْيَان، وَاتْبَاعِه خَيْر الْنَّاس، لَكِن تَقْصِيْر الْمُسْلِمِيْن لَيْس عِيْبَاً يُذَم بِه الإِسْلام، وَيُفَضِّل بِه الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى.
7- فَيَا أَخَا الإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فِي صَلاتِك وَحَافَظْت عَلَى صَلاة الْجَمَاعَة فَلا تَعْضُل ابْنَتُك إِذَا جَاءَهَا صَاحِب الْخَلْق وَالْدِّيْن تُرِيّدا مَهَراً غَالِيَاً وَبِيْتَاً عَالِيَاً.
وَيَا أَخَا الإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فِي زَكَاتَك وَصَدَّقَتِك فَلا تَذْهَب إِلَى الْبُنُوْك الْرِّبَوِيَّة تِسْتَقْرِض مِنْهَا وَتَتَعَامَل مَعَهَا فَدِرْهَم رَبّا أَشَد عِنْد الْلَّه مِن سِت وَثَلاثِيَن زَنيَة.
وَيَا أَخَا الْإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فَلا تَأكُل حَق أَخِيْك الْمُسْلِم وَلَو كَان قَضِيْبا مِن أَرَاك وَلا تَشْهَد شَهَادَة الْزُّوْر.
أَخَا الإِسْلام كَمَا أَطَعْت الْلَّه فِي هَذَا فَيَجِب أَن تُطِيْعَه فِي هَذَا، وَلا تَكُن كَبَنِي إِسْرَائِيْل يُؤْمِنُوْن بِبَعْض الْكِتَاب وَيَكْفُرُوْن بِبَعْض..
8- يَا عَبْد الْلَّه أَعْلَم أَن حُقُوْق الْلَّه تَقُوْم عَلَى الْمُسَامَحَة، أَمَّا حُقُوْق الْعِبَادَة فَتَقُوْم عَلَى الْمُشَاحَّة، فَتَحَلَّل فِي حُقُوْق الْعِبَاد قَبْل أَن يَأْتِي يَوْم لا بَيْع فِيْه وَلا خِلَال، وَلا يَنْفَع مَال وَلا بَنُوْن، وَإَنَّمَا هِي الْحَسَنَات وَالْسَّيِّئَات ثُم جُنَّة أَو نَار.
للاستماع اضغط هنا
http://www.islam-future.com/sound.ph...how&id=135&n=0