من سرق المصحف؛ تأملات منهجية في تيه بني إسرائيل
أ- أن الله سبحانه سبق في علمه أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم سيكون بينها وبين بني إسرائيل صراع مرير وطويل يمتد من الهجرة حتى يقاتل أخر هذه الأمة الدجال، ولذلك أراد تفصيل سبيلهم لنعرف كيف نتعامل معهم.
ب- أن بني إسرائيل أمة من البشر فما جرى عليهم من سنن الله يجري على غيرهم إذا سلكوا سبيلهم.
2- ومن هذه الأخبار التي ذكرت في القرآن قصة التيه الذي حصل لبني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِين * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [المائدة:21-26].
3- وسبب هذا التيه كما هو في هذه الآيات:
أ- نسيان نعم الله عليهم ونكرانها، ولذلك ذكرهم موسى -عليه السلام- بها مما يدل على أن هذا السبب في أعظم الأسباب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}.
* لقد نجاهم الله من فرعون وقومه وأغرق آل فرعون فما كادوا يتجاوزون البحر حتى مروا على قوم عاكفين على أصنامهم فقالوا: { يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138].
وما كاد يغيب عنهم موسى عندما ذهب إلى ميقات ربه حتى أضلهم السامري وجعل لهم إلهاً عجلاًًًًًًًًًًًًًًًًًً جسداً له خوار.
* وأنزل الله عليهم المن والسلوى وفجر لهم من الصخر ماء فنقضوا العهد والميثاق فوجدوا الجبل فوق رؤوسهم: {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف:171].
لقد جربهم موسى في مواطن كثيرة فلم يجدهم شاكرين لذلك ذكرهم بنعم الله وحذرهم نسيانها ونكرانها.
ب- عدم معرفة واجبهم نحو ربهم ودينهم وظنوا أن هذه النعم لخصوصية لهم عند الله ونسوا أن الله كتب عليهم جهاد أعدائه، ووعدهم الأرض المقدسة، ولذلك قال موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين} [المائدة:21].
ت- طبيعة نفوسهم التي جلبت على الذل والخور والجبن والذي صحبته تحت سياطر فرعون وملئه قرون متطاولة، ولذلك قالوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون} [المائدة:22]، وقالوا أيضاًًًًًًًًًًًًً: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} [المائدة:24].
ث- عدم الاستماع والإنصات لموعظة الناصحين وعدم الإستحبابة للمرسلين: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [المائدة:23].
4- من تمرد على منهج الله جرت عليه سنن الله في التغيير و الاستبدال، ولذلك كتب الله عليهم التيه أربعين سنة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [المائدة:26].
5- من تأمل في هذه القصة التيه وجدها عقوبة ونصر في الوقت نفسه:
أ- إنها عقوبة للأمة الذليلة الخانعة التي تاهت قبل التيه على مفترق شهواتها وتخطفتها الشبهات ذات اليمين وذات الشمال.
ب- عقوبة لهذا الجيل الجبان الذي لا يستحق أن يرث الأرض المقدسة ولا تتشرف به الأرض المباركة حتى يذوب ويأتي الله بجيل جديد.
ت- وهو انتصار لمنهج الأنبياء والدعاة المصلحين؛ فهزم الفاسقون وانتصر المصلحون وثبت لهم عبر أربعة عقود أنه لا نصر لهم إلا بالعقيدة والمنهج.
ث- أنه انتصار لأنه فترة هيئت لتربية جيل جديد وفرصة أخرى لموسى وهارون ليعيدوا صياغة أمتهم من جديد؛ ولذلك كان عمل الأنبياء في هذه الفترة هو التربية الربانية التي أنتجت جيلاً ربانياًًًًًًًًً قاده يوشع بن نون فتى موسى ودخل به الأرض المقدسة؛ كما صح في البخاري من حديث أبي هريرة.
6- وكذلك من تأمل في قصة التيه وجد أن وجود المصلحين وعدم الاستجابة لهم لا يرد عن الأمة المخذولة عقوبة الله، فهؤلاء بنو إسرائيل كان فيهم موسى وهارون ومن سلك طريقهم من المصلحين، ولكنهم لما تمردوا على منهج الله شتتهم الله في الأرض، ولذلك فالمسؤولية تقع على جميع الأمة بجميع أفرادها حكاماًًًًًً ومحكومين قيادة وشعوب فلا يجوز أن يتنصل كل فرد من مسؤوليته ويتخلى عن واجبه، فنكون كما ذكر في كتب السير والتراجم أن مالك بن دينار من سادات التابعين الزهاد وأمهر نسّاخ المصاحف وأكثر الوعاظ تأثيراً.
قيل أنه جلس يذكر الناس وكان بجانبه مصحف وتأثر الناس بوعظه فوجلت القلوب وذرفت العيون، ولكنه التفت مرة ذات اليمين فلما استقر بصره مكانه فوجئ أن المصحف الذي كان بين يديه اختفى، فتأمل في وجوه المتباكين وأنصت لضجيج أصواتهم، ولما لم يجد المصحف قال لهم: كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟!
للاستماع اضغط هنا
http://islam-future.com/sound.php?ac...how&id=126&n=0