بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.مقدمة
وبعد:
فهذه محاضرة كنت قد ألقيتها في مدينة الدوحة عاصمة قطر، في شهر رمضان المبارك من عام 1392 هـ، وقد اقترح عليَّ بعض الإخوان طبعها لما فيها من فوائد هامة، ولحاجةِ المسلمين إلى مثلها. واستجابة لطلبهم أنشرها تعميماً للنفع بها، ومراعاة للذكرى والتاريخ، وقد أضفنا إليها بعضَ العناوين التفصيلية إعانة للقارئ الكريم على استجماع أفكارها الرئيسية، وأرجو الله ـ عز وجل ـ أن يكتبني في جملة الدافعين عن دينه، والناصرين لشرعه، وأن يثيبني عليها، وإنه أكرم مسئول.
منزلة السنة في الإسلام وبيان أنه لا يُستغنى عنها بالقرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) .
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
وبعد : فإني لأَظن أنني سوف لا أستطيع أن أقدم لهذا الحفل الكريم ـ لا سيما وفيه العلماء الأجلاء والأساتذة الفضلاء – شيئاً من العلم لم يسبق أن أحاطوا به علماً، فإن صَدَقَ ظني فحسبي من كلمتي هذه أن أكون بهذا مذكراً، متبعاً لقول الله تبارك وتعالى : ( وذَكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [الذاريات:55]. إن كلمتي في هذه الليلة المباركة من ليالي شهر رمضان المعظم لم أر أن تكون في بيان شيء من فضائله، وأحكامه، وفضلِ قيامه، ونحو ذلك مما يطرقه فيه عادةً الوعاظ والمرشدون، بما ينفع الصائمين، ويعود عليهم بالخير والبركة ، وإنما اخترتُ أن يكون حديثي في بحثٍ هام جداً ؛ لأنه أصل من أصول الشريعة الغراء، وهو بيان أهمية السنة في التشريع الإسلامي .
وظيفة السنة في القرآن
تعلمون جميعاً أن الله تبارك وتعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بنبوته ، واختصه برسالته ، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم ، وأمره فيه ـ في جملة ما أمره به ـ أن يبينه للناس ، فقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ) [النحل:44]. والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة يشتمل على نوعين من البيان :
الأول : بيان اللفظ ونظمه ، وهو تبليغ القرآن ، وعدم كتمانه ، وأداؤه إلى الأمة، كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلبه صلى الله عليه وسلم . وهو المراد بقوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك ) [المائدة:67]، وقد قالت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ في حديث لها : " ومن حدثكن أن محمداً كتم شيئاً أُمر بتبليغه ، فقد أعظم على الله الفرية . ثم تلت الآية المذكورة " [ أخرجه الشيخان] . وفي رواية لمسلم : " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً أُمر بتبليغه لكتم قوله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [الأحزاب : 37] " .
والآخر: بيان معنى اللفظ أو الجملة أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه ، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة ، أو العامة ، أو المطلقة ، فتأتي السنة ، فتوضح المجمل ، وتُخصِّص العام ، وتقيد المطلق . وذلك يكون بقوله صلى الله عليه وسلم ، كما يكون بفعله وإقراره .
ضرورة السنة لفهم القرآن وأمثلةٌ على ذلك
وقوله تعالى: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة : 38] مثال صالح لذلك، فإن السارق فيه مطلقٌ كاليد ، فبينتِ السنة القولية الأول منهما، وقيدته بالسارق الذي يسرق ربع دينارٍ بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً " [أخرجه الشيخان ]. كما بينتِ الآخَرَ بفعله صلى الله عليه وسلم أو فعل أصحابه وإقراره، فإنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل، كما هو معروف في كتب لحديث، وبينت السنة القولية اليد المذكورة في آية التيمم : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) [النساء : 43، المائدة :6] بأنها الكف أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم : "التيمم ضربة للوجه والكفين " [أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما].
وإليكم بعض الآيات الأخرى التي لم يمكن فهمها فهماً صحيحاً على مراد الله تعالى إلا من طريق السنة :
1 ـ قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) [الأنعام : 82 ] فقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( بظلم ) على عمومه الذي يشمل كل ظلم ولو كان صغيراً، ولذلك استشكلوا الآية فقالوا: يا رسول الله ! أيُّنا لم يلبس أيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " ليس بذلك ، إنما هو الشرك ؛ ألا تسمعوا إلى قول لقمان : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] ؟ " [ أخرجه الشيخان وغيرهما ] .
2 ـ قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) [ النساء : 101] فظاهر هذه الآية يقتضي أن قصر الصلاة في السفر مشروط له الخوف ، ولذلك سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما بالنا نقصر وقد أَمِنَّا ؟ قال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " [ رواه مسلم ].
3 ـ قوله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ..) [ المائدة : 3 ] فبينت السنة القولية أن ميتة الجراد والسمك ، والكبد والطحال من الدم حلال ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان : الجراد والحوت ( أي السمك بجميع أنواعه )، والكبد والطحال " [أخرجه البيهقي وغيره مرفوعاً وموقوفاً، وإسناد الموقوف صحيح ، وهو في حكم المرفوع ، لأنه لا يقال من قِبَلِ الرأي ].
4 ـ قوله تعالى : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي مُحرَّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به ) [الأنعام : 145 ] . ثم جاءت السنة فحرمت أشياء لم تُذكر في هذه الآية، كقوله صلى الله عليه وسلم : " كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير حرام " . وفي الباب أحاديث أخرى في النهي عن ذلك. كقوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: " إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الإنسية، فإنها رجس " [ أخرجه الشيخان ].
5 ـ قوله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [ الأعراف : 32 ] فبينت السنة أيضاً أن من الزينة ما هو محرم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً على أصحابه وفي إحدى يديه حرير، وفي الأخرى ذهب ، فقال : " هذان حرام على ذكور أمتي ، حل لإناثهم " [ أخرجه الحاكم وصححه ].
والأحاديث في معناه كثيرة معروفة في " الصحيحين " وغيرهما. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المعروفة لدى أهل العلم بالحديث والفقه. ومما تقدم يتبين لنا أيها الإخوة أهمية السنة في التشريع الإسلامي، فإننا إذا أعدنا النظر في الأمثلة المذكورة ـ فضلاً عن غيرها مما لم نذكر ـ نتيقن أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم فهماً إلا مقروناً بالسنة.
ففي المثال الأول فهم الصحابة (الظلم) المذكور في الآية على ظاهره، ومع أنهم كانوا ـ رضي الله عنهم ـ كما قال ابن مسعود : ( أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تَكلُّفاً ) فإنهم مع ذلك قد أخطئوا في ذلك الفهم ، فلولا أن النبي صلى الله عليه وسلم ردهم عن خطئهم وأرشدهم إلى أن الصواب في ( الظلم ) المذكور إنما هو الشرك لاتبعناهم على خطئهم ، ولكن الله تبارك وتعالى صاننا عن ذلك. بفضل إرشاده صلى الله عليه وسلم وسنته. وفي المثال الثاني: لولا الحديث المذكور لبقينا شاكين على الأقل في قصر الصلاة في السفر في حالة الأمن ـ إن لم نذهب إلى اشتراط الخوف فيه كما هو ظاهر الآية ـ وكما تبادر ذلك لبعض الصحابة لولا أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر، ويقصرون معه وقد أمنوا. وفي المثال الثالث : لولا الحديث أيضاً لحرمنا طيبات أحلت لنا : الجراد والسمك ، والكبد والطحال. وفي المثال الرابع : لولا الأحاديث التي ذكرنا فيه بعضها لاستحللنا ما حرم الله علينا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من السباع وذوي المخلب من الطير. وكذلك المثال الخامس: لولا الأحاديث التي فيه لاستحللنا ما حرم الله على لسان نبيه من الذهب والحرير، ومن هنا قال بعض السلف: السنة تقضي على الكتاب.
ضلال المستغنين بالقرآن عن السنة
ومن المؤسف أنه قد وجد في بعض المفسرين ، والكُتَّاب ، المعاصرين من ذهب إلى جواز ما ذُكر في المثالين الأخيرين من إباحة أكل السباع ولبس الذهب والحرير اعتماداً على القرآن فقط، بل وجد في الوقت الحاضر طائفة يَتَسَمَّوْنَ بـ ( القرآنيين ) يفسرون القرآن بأهوائهم وعقولهم ، دون الاستعانة على ذلك بالسنة الصحيحة ، بل السنة عندهم تبعٌ لأهوائهم ، فما وافقهم منها تشبثوا به ، وما لم يوافقهم منها نبذوه وراءهم ظهرياً.
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هؤلاء بقوله في الحديث الصحيح : " لا أَلْفِيَّنَ أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " [رواه الترمذي ]. وفي رواية لغيره : " ما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، ألا وإني أتيت القرآن ومثله معه ". وفي أخرى : " ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله " .
بل إن من المؤسف أن بعض الكتاب الأفاضل ألَّف كتاباً في شريعة الإسلام وعقيدته، وذكر في مقدمته أنه ألفه وليس لديه من المراجع إلا القرآن !. فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة قاطعة على أن الشريعة الإسلامية ليست قرآناً فقط، وإنما قرآن وسنة، فمن تمسك بأحدهما دون الآخر، لم يتمسك بأحدهما، لأن كل واحد منهما يأمر بالتمسك بالآخر كما قال تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [ النساء :80 ] ، وقال : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [ النساء : 65 ] ، وقال : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقض ضل ضلالاً مبيناً ) [ الأحزاب : 36 ] ، وقال : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [الحشر : 7 ].
وبمناسبة هذه الآية يعجبني ما ثبت عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وهو أن امرأة جاءت إليه ، فقالت له : أنت الذي تقول : لعن الله النامصات والمتنمصات، والواشمات .. الحديث ؟ قال : نعم ، قالت : فإني قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره ، فلم أجد فيه ما تقول ! فقال لها : إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) قالت : بلى! قال : فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لعن الله النامصات .. الحديث [متفق عليه] .
المحاضرة بالكامل في المرفقات ...
تعليق