إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

غزوة أحد دروس وعبر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غزوة أحد دروس وعبر

    غزوة أحد دروس وعبر

    قال ابن سعد – رحمه الله – وهو يحكي حال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد المعركة:
    ((ثم انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومئذ فصلى المغرب بالمدينة وشمت ابن أبي والمنافقون بما نيل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في نفسه وأصحابه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن))اهـ غزوات الرسول وسراياه

    قال شيخ الإسلام ابن القيم:
    ((قالَ الزُّهري، وعاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرُهم: كان يومُ أحد يومَ بلاء وتَمحِيص، اختبر اللهُ عَزَّ وجَلَّ به المؤمنين، وأظهر به المنافقين ممن كان يُظْهِرُ الإسلام بلسانِهِ، وهو مُستخفٍ بالكُفر، فأَكْرَمَ اللهُ فيه مَن أراد كرامتَه بالشهادةِ من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن في يوم أُحُد ستونآية مِن آل عمران، أولها: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى آخر القصة))اهـ زاد المعاد ج3

    وهي
    قوله تعالى: ((وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) ))

    يتبع إن شاء الله

  • #2
    وهذه غزوة أحد كاملة مفصلة

    قال شيخ الإسلام ابن القيم – رحمه الله - :
    ((فصل: في غزوة أُحُد
    ولما قتل الله أشرافَ قريشٍ ببدر، وأُصيبُوا بمصيبةٍ لم يُصابُوا بمثلها، ورَأَسَ فيهم أبو سفيانَ بنُ حربٍ لِذهاب أكابرهم، وجاء كما ذكرنا إلي أطرافِ المدينة في غزوة السَّويق، ولم يَنَلْ ما في نفسه، أخذ يُؤلِّبُ علي رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي المسلمين، ويجمِّع الجموعَ، فجمع قريباً مِن ثلاثةِ آلافٍ من قريش، والحلفاء، والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئِلا يَفِرُّوا، وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحوَ المدينة، فنزل قريباً من جبل أُحُد بمكان يقال لهُ: عَيْنَيْنِ، وذلك في شوَّال مِن السنة الثالثةِ،
    واستشار رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابًَه أَيخرُج إليهم، أم يمكثُ في المدينة؟ وكان رأُيُه ألا يخرجُوا من المدينة، وأن يتحصَّنُوا بها، فإن دخلوها، قاتلهم المسلمون علي أفواه الأزقة، والنِّساء مِن فوق البيوت، ووافقه علي هذا الرأي عبدُ الله بن أُبي، وكان هو الرأي، فبادر جماعةٌ مِن فُضلاء الصحابة ممن فاته الخروجُ يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وأَلحُّوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أُبي بالمُقام في المدينة، وتابعه علي ذلك بعضُ الصحابةِ، فألحَّ أولئك علي رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنهض ودخل بيته، ولَبِسَ لأْمَتَهُ، وخرج عليهم، وقد انثنى عزمُ أُولئك، وقالوا: أكْرَهْنَا رَسُولَ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي الخُروج، فقالوا: يا رسولَ الله؛ إن أحببتَ أن تَمْكُثَ في المدينة فافعَلْ، فقال رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَنبَغِي لِنَبِيٍّ إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عدوِّه".
    فخرج رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ألف من الصحابة، واستعمل ابنَ أُمِّ مكتُوم علي الصلاة بمن بقى في المدينة، وكان رسولُ الله رأى رؤيا، وهو بالمدينةِ، رأى أن في سيفِه ثُلْمَةً، ورأى أن بقراً تُذبح، وأنه أدخل يده في درع حَصِينةٍ، فتأوَّل الثُّلمة في سيفه برجل يُصاب مِن أهل بيته، وتأوَّل البقرَ بِنَفَرٍ من أصحابه يُقتلون، وتأوَّل الدِّرع بالمدينة.
    فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشَّوْط بَيْنَ المدينةِ وأُحُد، انخزَلَ عبدُ الله ابن أُبي بنحو ثُلثِ العسكر،

    وقال: تُخالفني وتسمَعُ مِن غيري، فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله يوبِّخهم ويحضُّهم علي الرجوع، ويقول: تعَالَوْا قاتِلُوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نَعلَمُ أنكم تُقاتلون، لم نرجع، فرجع عنهم، وسبَّهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحُلفائهم مِن يهود، فأبي، وسلك حرَّة بني حارثة، وقال: "مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلي القَوْمِ مِنْ كَثَبٍ" ؟، فخرج به بعضُ الأنصارِ حتى سلَك في حائط لِبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو الترابَ في وجوه المسلمين ويقول: لا أُحِلُّ لكَ أن تدخُلَ في حائطي إن كنتَ رسولَ اللهِ، فابتدره القومُ لِيقتلوه، فقال: "لا تقتُلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصرِ".
    ونفذ رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلَ الشِّعبَ مِن أُحُد في عُدْوَةِ الوَادِي، وجعلَ ظهرَه إلي أُحُد، ونهى الناسَ عَنِ القِتَال حتى يأمرهمْ، فلما أصبحَ يومَ السبت، تَعَبي للقتال، وهو في سبعِمائة، فيهم خمسون فارساً، واستعمل علي الرُّماة وكانوا خمسين عبدَ الله بن جُبير، وأمره وأصحابَه أن يَلزمُوا مركزهم، وألا يُفارقُوه، ولو رأى الطيرَ تتخطفُ العسكر، وكانوا خلفَ الجيش، وأمرَهُم أنْ يَنْضَحُوا المُشرِكِينَ بالنَّبْلِ، لِئَلا يأتُوا المُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِم.

    فظاهر رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرعَيْن يومئِذٍ، وأعطى اللِّواء مُصْعَبَ بنَ عُمير، وجعل علي إحدى المجَنِّبَتَيْنِ الزبيرَ بنَ العوام، وعلي الأخرى المُنذرَ بنَ عمرو، واستعرض الشبابَ يومئذٍ، فردَّ مَن استصغره عن القتال، وكان منهم عبدُ الله بنُ عمر، وأُسامَة بن زيد، وأُسَيْدُ بن ظَهِيرٍ، والبراءُ بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيدُ بن ثابت، وعَرَابةُ بن أوس، وعمرو بنُ حَزْمٍ، وأجازَ مَن رآهُ مُطِيقاً، وكان مِنهم سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ، ورافعُ بن خَديج، ولهما خمسَ عشْرة سنة.
    فقيل: أجاز مَن أجاز لبلوغه بالسِّنِّ خمس عشرة سنةً، وردَّ مَن رَدَّ لِصغره عن سِنِّ البُلُوغ،
    وقالت طائفة: إنما أجازَ مَنْ أجاز لإطاقته، وردَّ مَن رَدَّ لِعدم إطاقته، ولا تأثيرَ للبلوغ وعدمِه في ذلك قالوا: وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر: "فلمَّا رَآني مُطِيقاً أَجَازَني".
    وتعبَّتْ قريشٌ للقتال، وهم في ثلاثةِ آلافٍ، وفيهم مائتا فارسٍ، فجعلوا علي ميمنتهم خالدَ بن الوليد، وعلي الميسرةِ عِكرمةَ بنَ أبي جهل، ودفعَ رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفَه إلي أبي دُجَانَة سِمَاكِ بن خَرَشَةَ، وكان شُجاعاً بطلاً يَخْتَالُ عِند الحرب.

    وكان أوَّلَ مَنْ بَدَر مِن المشركين أبو عامر الفاسِقُ، واسمه عبد عَمْرِو بن صَيْفي، وكان يُسمَّى "الرَّاهبَ"، فسمَّاه رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسِقَ، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ، شَرِقَ به، وجاهَرَ رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعَدَاوة، فخرج مِنَ المدينة، وذهب إلي قُريش يُوَلِّبُهُم عَلي رَسُولِ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحضُّهم علي قِتاله، ووعدَهم بأن قومَه إذا رأوه أطاعُوه، ومالُوا معه، فكان أوَّل مَنْ لَقِيَ المسلمينَ، فنادى قومَه، وتعرَّف إليهم، فَقَالُوا له: لا أنعم اللهُ بكَ عيناً يَا فَاسِقُ، فقال: لقد أصابَ قومي بعدى شرٌ، ثم قاتل المسلمين قِتالاً شديداً، وكان شِعارُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ: أَمِتْ.
    وأبلي يومئذ أبو دُجَانَةَ الأنصاريُّ، وطلحةُ بنُ عبيد الله، وأسدُ الله وأسدُ رسوله حمزةُ بنُ عبد المطَّلب، وعلي بنُ أبي طالب، وأنسُ بن النضر، وسعدُ بنُ الربيع.
    وكانت الدولةُ أوَّلَ النهارِ للمسلمين علي الكفَّار، فانهزم عدوُّ اللهِ، وولَّوا مُدْبِرينَ حتى انتَهَوْا إلي نِسائهم، فلما رأى الرُمَاةُ هزيمتَهم، تركوا مركَزَهم الذي أمرهم رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظه، وقالوا: يا قومُ الغنيمةَ، فذكَّرهم أميرُهم عهدَ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يسمعُوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعةٌ، فذهبُوا في طلب الغنيمةِ، وأخْلُوا الثَّغْرَ، وكرَّ فُرسَانُ المشركين، فوجدوا الثَّغْر خالياً، قد خلا مِن الرُّماة، فجازُوا منه، وتَمكَّنُوا حتى أقبل آخِرهُم، فأحاطُوا بالمسلمين، فأكرم اللهُ مَنْ
    أكرمَ منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولي الصَّحَابة،
    وخلَصَ المشركون إلي رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجرحُوا وجهَه، وكسروا رَباعِيَّتَه اليُمْنى، وكانت السُّفلي، وهَشَمُوا البيضة علي رأسه ورمَوْهُ بالحِجَارة حتى وقع لِشقه، وسقط في حُفرة مِن الحُفَرِ التي كان أبو عامر الفاسِقُ يَكيدُ بها المسلمين، فأخذ عليُّ بيده، واحتضنه طلحةُ بنُ عُبيد الله، وكان الذي تولي أذاه صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بنُ قَمِئَةَ، وعُتُبَةُ بنُ أبي وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهريَّ، عمّ محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، هو الذي شجَّهُ.
    وقُتِلَ مصعبُ بن عمير بين يديه، فدفع اللِّواء إلي علي بن أبي طالب، ونشبت حَلَقَتَانِ مِن حلق المِغْفَرِ في وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجرَّاح، وعضَّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه مِن شدَّةِ غوصِهِمَا في وجْهِهِ
    وامتصَّ مَالكُ بنُ سنان والد أبي سعيد الخدري الدَّمَ مِن وجنته، وأدركه المشركون يُريدُونَ ما اللهُ حائلٌ بينَهُم وبينَه، فحال دُونَه نفرٌ مِن المسلمين نحو عشرة حتى قُتِلُوا، ثم جالدهم طلحةُ حتى أجهضهم عنه، وترَّسَ أبو دُجانة عليه بظهره، والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرَّك، وأصيبت يومئذ عينُ قتادة بن النعمان، فأتى بها رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فردَّها عليه بيده، وكانَتْ أصحَّ عينيه وأحسنَهما،


    وصرخ الشيطانُ بأعلي صوتِهِ: إنَّ محمداً قَد قُتِلَ، ووقع ذلك في قلوب كثيرٍ من المسلمين، وفرَّ أكثرُهم، وكان أمرُ الله قدراً مقدوراً.

    ومر أنسُ بنُ النَّضر بقوم من المسلمين قد ألقَوا بأيديهم، فقال: ما تنتظِرُونَ؟ فقالوا: قُتِلَ رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما تَصْنَعُونَ في الحياة بعده؟ قومُوا فموتُوا علي ما مَاتَ عليه، ثم استقبلَ الناسَ، ولقي سعدَ بنَ معاذ فقال: يَا سَعْدُ؛ إني لأَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ مِنْ دُونِ أُحُد، فقاتل حتى قُتِلَ، ووُجِدَ به سبعونَ ضَربة،
    وجُرِحَ يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحواً من عشرينَ جِراحة.

    وأقبل رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوَ المسلمين، وكان أوَّل مَن عرفه تحتَ المِغْفَرِ كعبُ بن مالك، فصاحَ بأعلي صوته: يا معشرَ المسلمين؛ أَبْشِرُوا هذا رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار إليه أن اسْكُت، واجتمع إليه المسلمونَ ونهضُوا معه إلي الشِّعب الذي نزل فيه، وفيهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والحارث بنُ الصِّمَّة الأنصاري وغيرُهم، فلما استندوا إلي الجبل، أدركَ رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُبي بنُ خَلَف علي جواد له يُقال له: العَوْذ، زعم عدوُّ اللهِ أنه يقتُل عليه رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما اقترب منه، تناول رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحربةَ مِن الحارث بن الصِّمَّةِ، فطعنَه بها فجاءت في تَرْقُوتِهِ، فكرَّ عدوُّ الله منهزِمَاً،
    فقال له المشركون: واللهِ ما بك من بأسٍ، فقال: واللهِ لو كان ما بي بأهلِ ذي المَجَازِ، لماتُوا أجمعُون، وكانَ يَعْلِفُ فرسَه بمكةَ ويقولُ: أقْتُلُ عليه محمداً، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "بَلْ أنَا أَقْتُلُه إنْ شَاءَ اللهُ تعالى" فلما طعنَه، تَذكَّر عدوُّ الله قوله: "أنا قاتِلهُ"، فأيقن بأنه مقتول مِن ذلك الجرح، فمات منه في طريقه بِسَرِفَ مَرْجِعَهُ إلي مكَّةَ.
    وجاءَ عليّ إلي رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بماء ليشرب منه، فوجده آجناً، فرده، وغسل عن وجهه الدم، وصبَّ علي رأسه، فأراد رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلُوَ صخرةً هُنالك، فلم يَسْتَطِع لِما به، فجلس طلحةُ تحتَه حتى صَعِدَهَا، وحانتِ الصلاةُ، فصلى بهم جالساً، وصار رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم تحتَ لِواء الأنصار.

    وشدَّ حنظلةُ الغسيل وهو حنظلةُ بن أبي عامر علي أبي سفيان، فلما تمكَّن منه، حَمَلَ علي حنظلة شَدَّادُ بنُ الأسود فقتله، وكان جُنُباً، فإنه سَمِعَ الصَّيْحَةَ، وهو علي امرأته، فقَامَ مِن فَوره إلي الجهاد، فأخبرَ رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصْحَابَهُ: "أنَّ المَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ" ثم قال: "سَلُوا أَهْلَهُ: مَا شَأْنُهُ" ؟ فسألُوا امرأته، فَأَخْبَرَتْهُمُ الخَبَرَ. وجعل الفقهاءُ هذا حُجة، أن الشهيدَ إذا قُتِلَ جُنباً، يُغسَّل اقتداءً بالملائكة.

    وقتل المسلمون حامِلَ لواءِ المشركينَ، فرفَعَتْهُ لهم عَمْرَةُ بنتُ علقمةَ الحارِثِيَّة، حتى اجتمعوا إليه، وقاتلت أُمُّ عُمارة، وهى نُسيبة بنتُ كعب المازنية قِتالاً شديداً، وَضَرَبَتْ عمرَو بن قَمِئَةَ بالسَّيْفِ ضَرَبَاتٍ فَوَقَتْهُ دِرعانِ كانتا عليه، وضربها عمرو بالسِّيْفِ، فجرحها جُرحاً شديداً علي عاتقها.
    وكان عمرو بن ثابتِ المعروفُ بالأُصَيْرم من بني عبد الأشهل يأبي الإسلامَ، فلما كان يَوْمَ أُحُدٍ، قذف اللهُ الإسلامَ في قلبه للحُسْنى التي سبقت له منه، فأسلم وأخذ سيفَه، ولَحِقَ بالنبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَاتل فأُثْبِتَ بالجِرَاحِ، ولم يعلم أحدٌ بأمره، فلما انجلت الحرب، طاف بنو عبد الأشهل في القتلي، يلتمِسُون قتلاهم، فوجَدوا الأُصَيْرمَ وبهِ رَمَقٌ يسير،

    فقالوا: واللهِ إن هذا الأصيرمَ، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لَمُنْكِرٌ لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟ أَحَدَبٌ عَلي قَوْمِكَ، أم رغبةٌ في الإسلام؟ فقال: بل رغبةٌ في الإسلام، آمنتُ باللهِ ورسوله، ثم قاتلتُ مع رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصابني ما تَرَوْنَ، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "هُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ". قال أبو هريرة: ولم يُصَلِّ للهِ صَلاَةً قَطُّ.

    ولما انقضَتِ الحربُ، أشرف أبو سفيان علي الجبل،
    فنادى: أفيكُم محمد؟ فلم يُجيبُوهُ.
    فقال: أفيكُمُ ابنُ أبي قُحَافة؟ فلم يُجيبوه.
    فقال: أفيكُم عُمرُ بنُ الخطاب؟ فلم يجيبوه،
    ولم يَسْأَلْ إلاَّ عن هؤلاء الثلاثة لِعلمه وعِلم قومه أن قِوَامَ الإسلام بهم،
    فقال: أمَّا هَؤلاء، فقد كُفيتُموهم،
    فلم يَملِكُ عُمَر نفسَه أن قال: يَا عَدُوَّ اللهِ؛ إنَّ الَّذِينَ ذكرتَهُمْ أحياءٌ، وقد أبقى اللهُ لَكَ ما يَسُوءُكَ،
    فقال: قَدْ كان في القوم مُثْلَةٌ لم آمُر بها، ولم تسؤْني،
    ثم قال: أعْلُ هُبَلُ.
    فقال النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا تُجِيبُونَه"؟ فَقَالُوا: ما نقُولُ؟ قال: "قُولُوا: اللهُ أَعْلي وأَجَلُّ"،
    ثم قال: لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لكم.
    قال: "ألا تُجِيبُونَه"؟ قالُوا: ما نقول ؟ قال: "قولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلي لَكم"
    فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبِشرْكِهِ تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة مَنْ عبده المسلمون، وقوةِ جانبه، وأنه لا يُغلب، ونحن حزبُه وجُنده، ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابنُ أبي قُحافة ؟ أفيكم عمر ؟ بل قد رُوي أنه نهاهم عن إجابته، وقال: "لا تُجيبوه"، لأن كَلْمَهُمْ لم يكن بَرَدَ بَعْدُ في طلب القوم، ونارُ غيظهم بعد متوقِّدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كُفيتموهم، حميَ عمر بنُ الخطاب، واشتد غضبُه وقال: كذبْت يا عدوَّ الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة، وعدمِ الجُبن، والتعرفِ إلي العدو في تلك الحال، ما يُوذِنُهم بقوة القوم وبَسالتهم، وأنهم لم يَهِنُوا ولم يَضْعُفُوا، وأنه وقومَه جديرون بعدم الخوفِ منهم، وقد أبقى اللهُ لهم ما يسوؤهُم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنَّهِ وظنِّ قومه أنهم قد أُصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحِزبِهِ، والفتِّ في عَضُدِهِ ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداً، فكان سؤالُه عنهم، ونعيُهم لِقومه آخِر سهام العدو وكيده، فصبر له النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استوفي كيده، ثم انتدب له عُمَرُ، فرد سِهَام كيدِهِ عليه، وكان تركُ الجوابِ أولاً عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانةً له، وتصغيراً لشأنه، فلما منَّته نفسُه موتَهم، وظنَّ أنهم قد قتِلُوا، وحصل بذلك من الكِبر والأشر ما حصل، كان في جوابه إهانةٌ له، وتحقيرٌ، وإذلالٌ، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُجِيبُوه"، فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمّدٌ ؟ أفيكم فلانٌ ؟ أفيكم فلانٌ ؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء، فقَد قُتِلُوا، وبكل حال،
    فلا أحسنَ من ترك إجابته أولاً، ولا أحسنَ من إجابته ثانياً.
    ثمَّ قال أبو سفيان: يَوْمٌ بِيوم بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ، فأجابه عُمَرُ فقال: لاَ سَوَاء، قَتْلانَا في الجَنَّةِ، وَقَتْلاكُمْ في النَّارِ.


    وقال ابن عباس: ما نُصِرَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَوْطِنٍ نَصْرَه يَوْمَ أُحُد، فأُنْكِرَ ذلِكَ عليه، فَقَالَ: بيني وبَيْنَ من يُنكِرُ كِتابُ الله، إنَّ الله يَقُولُ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ} [آل عمران: 152]، قال ابنُ عباس: والحَسُّ: القتلُ، ولقد كان لِرسولِ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأصحابه أوَّلُ النهار حَتَّى قُتِلَ مِن أصحابِ المشركينَ سبعةٌ أو تسعةٌ... وذكر الحديث.
    وأنزل اللهُ عليهم النُّعاسَ أمنةً مِنْهُ في غَزاةِ بدرٍ وأُحُدٍ، والنعاسُ في الحرب وعند الخوفِ دليل علي الأمنِ، وهو من الله، وفي الصَّلاة ومجالِس الذكر والعِلم مِن الشيطان.


    وقاتلت الملائكةُ يومَ أُحُدٍ عن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي "الصحيحين": عن سعدِ بن أبي وقاص، قال: "رأيتُ رَسُولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقََاتِلانِ عَنْهُ، عليهمَا ثِيَابٌ بِيْضٌ كَأَشَدِّ القِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ".
    وفي "صحيح مسلم": أنه صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأنصارِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فلما رَهِقُوه، قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهمْ عَنَّا، وَلَهُ الجَنَّة"، أو "هُوَ رفيقي في الجَنَّةِ"؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثم رَهِقُوهُ، فقال: "مَنْ يَرُدُّهُم عنَّا، ولهُ الجَنَّةُ"، أَو "هُوَ رفيقي في الجنَّة"، فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" ، وهذا يُروى علي وجهين:

    بسكون الفاء ونصبِ "أصحابنا" علي المفعولية، وفتح الفاء ورفع "أصحابنا" علي الفاعلية.
    ووجه النصب: أن الأنصار لما خرجُوا للقتال واحداً بعد واحد حتى قُتِلُوا، ولم يخرج القرشيان، قال ذلك، أى: ما أنصفت قريشٌ الأنصار.
    ووجه الرفع: أن يكون المراد بالأصحاب، الذين فرُّوا عن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أُفْرِدَ في النفر القليل، فَقُتِلُوا واحداً بعد واحد، فلم يُنْصِفُوا رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَنْ ثبت معه.


    وفي "صحيح ابن حبان" عن عائشة، قالت: قال أبو بكر الصِّديقُ: لمَّا كان يومُ أُحُدٍ، انصرفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنتُ أوَّلَ مَنْ فَاءَ إلي النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلاً يُقَاتِلُ عنه ويَحْمِيه، قلتُ: كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبي وأمي، كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أبي وأمي. فلم أَنْشَبْ، أَنْ أَدْرَكَنِي أبو عُبَيْدَة بنُ الجرَّاحِ، وإذَا هُوَ يشتَدُّ كأنه طيرٌ حتى لحقني، فدفعنا إلي النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا طلحةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعاً، فقال النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكُمْ أَخَاكُم فقد أَوْجَبَ"، وقد رُمىَ النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جبينه، وروى: في وَجْنَتِهِ حتَّى غَابَتْ حَلَقَةٌ مِنَ حَلَقِ المِغْفَرِ في وَجْنَتِهِ، فَذَهَبْتُ لأنْزِعَهَا عَن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أَبُو عبيدة: نَشَدْتُك باللهِ يا أبا بكر إلاَّ تَرَكْتَني؟ قال: فَأَخَذَ أبو عبيدة السَّهْمَ بفِيه، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْذي رَسُولَ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
    ثُمَّ استلَّ السَّهْمَ بفِيه، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبي عُبيدة، قال أبو بكر: ثم ذَهَبْتُ لآخُذَ الآخَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نَشَدْتُكَ باللهِ يا أبا بَكْرٍ، إلا تَركْتَنِي؟ قال: فَأَخَذَهُ، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ حَتَّى اسْتَلَّهُ، فَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أبي عُبَيْدَةَ الأُخْرَى، ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونكُمْ أخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ"، قال: فأقبلنا عَلي طلحة نُعالِجُه، وقد أصابته بضعة عَشَر ضربة.
    وفي "مغازي الأموي": أن المشرِكِينَ صَعِدُوا علي الجبل، فقال رَسُولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: "اجنُبْهُمْ" يقول: اردُدْهم. فقال: كيف أَجْنُبُهُمْ وَحْدِي؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعدٌ سهماً مِن كِنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذتُ سهمي أَعْرِفُهُ، فرميتُ بِهِ آخر فقتلتُه، ثم أخذتُه أعْرِفُه، فرميتُ به آخر فقتلتُه، فهبطُوا مِن مَكَانِهم، فقلتُ: هذا سهمٌ مبارك، فجعلته في كِنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثمَّ كان عند بنيه.


    وفي "الصحيحين" عن أبي حازم، أنه سئلَ عن جُرح رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "واللهِ إني لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومَنْ كَانَ يَسْكُبُ المَاءَ، وبِمَا دُووى، كَانَتْ فَاطِمَةُ ابنتهُ تَغْسِلُه، وعلي بْنُ أبي طَالِبٍ يَسْكُبُ المَاءَ بِالمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أنَّ المَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إلا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قطعة مِنْ حَصيرٍ، فَأَحْرَقٌتَها فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ".
    وفي "الصحيح": أنه كُسِرَت رَبَاعِيتُه، وشُجَّ في رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدمَّ عنه، ويقُول: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نبيِّهمْ، وكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَه، وهُوَ يَدْعُوهم" فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
    ولمَّا انهزم الناسُ، لم ينهزِمْ أنسُ بنُ النضر. وقال: اللهُمَّ إني أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يعنى المُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤلاَءِ، يَعنى المُشْرِكِينَ، ثم تقدَّم، فَلَقِيَه سعدُ بن معاذ، فقال: أينَ يا أبا عُمَرُ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: واهاً لِرِيحِ الجَنَّةِ يَا سَعْدُ، إني أجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، ثُمَّ مَضَى، فَقَاتَلَ القَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، فَمَا عُرفَ حَتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُه بِبَنَانِهِ، وَبِهِ بِضْعٌ وثَمَانُونَ، مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَضَرْبَةٍ بًسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ.
    وانهزم المشركون أوَّل النهارِ كما تقدَّم، فصرخ فيهم إبليسُ: أيْ عِبادَ الله، أخزاكم اللهُ، فارجِعُوا مِن الهزيمة، فاجتلدوا.
    ونظر حُذيفة إلي أبيهِ، والمُسْلِمُونَ يريدون قتله، وهم يظنُّونه مِن المُشْرِكِينَ، فقال: أيْ عِبَادَ اللهِ؛ أبي، فَلَمْ يَفْهَمُوا قولَه حتَّى قتلُوه، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فأرادَ رَسُولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدِيَه، فَقَالَ: قَدْ تَصَدَّقْتُ بديته عَلي المُسْلِمِينَ، فزادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْراً عِنْدَ النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وقال زيدُ بنُ ثابت: بعثني رسُولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ، فقال لي: "إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّى السَّلاَمَ، وقُلْ لهُ: يقولُ لَكَ رسُولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُكَ" ؟ قالَ: فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلي، فأتيتُه، وهو بآخِرِ رَمَق، وفيه سبعونَ ضربةً، ما بين طعنةٍ برُمح، وضربةٍ بسيف، ورميةٍ بسهم، فقلت: يا سعدُ؛ إنَّ رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ عليكَ السَّلامَ، ويقول لك: أخبرني كيف تَجِدُكَ ؟ فقال: وعلي رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلامُ، قل له: يا رسُولَ اللهِ؛ أَجِدُ ريحَ الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عُذْرَ لكم عند الله إن خُلِصَ إلي رَسُولِ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ، وفاضَتْ نفسُهُ من وقته.
    ومرَّ رجل مِن المهاجرين برجُل مِن الأنصار، وهو يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ، فقال: يا فلانُ؛ أشعرتَ أن محمَّداً قد قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قُتلَ، فقد بلَّغ، فقاتِلُوا عَنْ دِينكم، فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية.
    وقال عبد الله بن عمرو بن حرام: رأيتُ في النَّومِ قَبْلَ أُحُد، مبشِّرَ بنَ عبدِ المنذر يقول لي: أنت قادِمٌ علينا في أيَّام، فقلتُ: وأين أنتَ؟ فقال: في الجنة نَسْرَحُ فيها كَيْفَ نشاء، قلت له: ألم تُقتَلْ يومَ بدرٍ؟ قال: بلى، ثم أُحْيِيْتُ، فذكر ذَلِكَ لِرسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: "هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَا أبا جَابِر".
    وقال خيثمة أبو سعد، وكان ابنُه استُشْهِدَ مع رسولِ الله صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ بدر:"لَقَدْ أَخْطَأًَتْنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ، وكُنْتُ واللهِ عليها حَرِيصَاً، حتى سَاهَمْتُ ابني في الخُرُوجِ، فخرجَ سهمُه، فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ، وقد رأيتُ البَارِحَةَ ابني في النوم في أَحْسَنِ صُورةٍ يَسْرَحُ في ثِمارِ الجَنَّةِ وأَنْهَارِهَا، ويقولُ: الْحَقْ بِنَا تُرافِقْنَا في الجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبي حقاً، وقد واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقاً إلي مُرَافَقَتِهِ في الجَنَّةِ، وقَد كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِى، وأحبَبْتُ لِقَاءَ رَبي، فَادْعُ اللهَ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقَني الشَّهَادَة، ومُرافقة سَعْدٍ في الجنَّةِ، فَدَعَا له رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيداً".
    وقال عبدُ الله بنُ جَحْشٍ في ذلك اليوم: اللهُمَّ إني أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقى العَدُوَّ غَدَاً، فَيَقْتُلُونِي، ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي، ويَجْدعُوا أَنْفي، وَأُذُنِي، ثُمَّ تَسْأَلُنِي: فيمَ ذلِكَ، فَأَقُولُ فيكَ.
    وَكَانَ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ العَرَجِ، وكانَ له أربَعَةُ بَنينَ شَبَاب، يَغْزُونَ مَعَ رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا، فَلمَّا تَوَجَّهَ إلي أُحُدٍ، أرادَ أن يَتَوجَّهَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: إنَّ اللهَ قد جعلَ لك رخصةً، فلو قَعَدْتَ ونحنُ نَكْفِيكَ، وقد وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ، فأتى عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ رسُولَ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسُولَ اللهِ؛ إنَ بني هؤلاء يمنعُوني أن أخْرُجَ مَعَكَ، وواللهِ إني لأَرْجُو أن أُسْتَشْهدَ فأطأَ بعَرْجَتِي هذِهِ في الجَنَّةِ، فَقَال له رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمَّا أَنْتَ، فَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الجِهَادَ" وَقَالَ لِبَنِيهِ: " ومَا عَلَيْكُم أَنْ تَدَعُوهُ، لَعَلَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ"، فخرجَ مَعَ رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شهيداً.
    وانتهى أنسُ بنُ النَّضرِ إلي عُمَرَ بنِ الخطاب، وطلحةَ بن عبيد الله في رِجالٍ من المهاجرين والأنصار، وقد ألقَوْا بأيديهِم، فقال: ما يُجْلِسُكم؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: فما تَصْنَعُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلي مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ استقبلَ القَوْمَ، فقاتَلَ حتَّى قُتِلَ.
    وأقبل أُبي بنُ خَلَفٍ عَدُوُّ اللهِ، وهو مُقَنَّعٌ في الحديد، يقول: لا نجوتُ إنْ نجا محمَّد، وكان حَلَفَ بمكة أن يقتُل رسولَ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستقبلهُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ، وأبصَرَ رسُولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبي بْنِ خَلَف مِنْ فُرْجةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْع والبَيْضَةِ، فطعنَه بِحَرْبتِهِ، فوقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، فاحتمله أصحابُه، وهو يخُور خُوارَ الثَّورِ، فقالُوا: ما أجزعَكَ ؟

    إنمَا هو خَدْشٌ، فذَكر لهم قول النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى" فمات برابغ.
    قال ابن عمر: "إني لأسيرُ ببطنِ رَابغ بعد هُوىٍّ من الليل، إذا نارٌ تأجَّجُ لي، فيممتُها، وإذا رجل يخرج منها في سِلْسِلَة يجتذبُها يصيحُ: العطش، وإذا رجلٌ يقول: لا تَسْقِهِ، هذا قتيلُ رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أُبي بنُ خلف".
    وقال نافعُ بن جُبير: سمعتُ رجلاً من المهاجرين يقولُ: شَهِدْتُ أُحُداً، فنظرتُ إلي النَّبل يأتي من كُلِّ ناحيةٍ، ورسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُصرفُ عنه، ولقد رأيتُ عبدَ اللهِ بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دُلُّوني علي محمد، لا نجوتُ إن نَجا، ورسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزهُ، فعاتبه في ذلك صَفوان، فقال: واللهِ ما رأيتُهُ، أَحْلِفُ باللهِ، إنه مِنَّا ممنوعٌ، فخرجنا أربعةً، فتعاهدنا، وتعاقدنا علي قتله، فلم نخلُص إلى ذلك.
    ولما مصَّ مالك أبو أبي سَعِيدٍ الخدري جرحَ رسولِ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنقاهُ، قال له: "مُجَّهُ" قال: واللهِ لا أَمُجُّهُ أبداً، ثم أدبر، فقال النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلي رَجُلٍ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلي هذَا".
    قالَ الزهري، وعاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى بن حبان وغيرُهم: كان يومُ أحد يومَ بلاء وتَمحِيص، اختبر اللهُ عَزَّ وجَلَّ به المؤمنين، وأظهر به المنافقين ممن كان يُظْهِرُ الإسلام بلسانِهِ، وهو مُستخفٍ بالكُفر، فأَكْرَمَ اللهُ فيه مَن أراد كرامتَه بالشهادةِ من أهل ولايته، فكان مما نزل من القرآن في يوم أُحُد ستون آية مِن آل عمران، أولها: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلي آخر القصة))اهـ

    يتبع إن شاء الله

    تعليق


    • #3
      وقال شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - :
      ((فصل: فيما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام والفِقه


      منها: أن الجهادَ يلزمُ الشُّروع فيه، حتى إن مَنْ لَبِسَ لأْمَتَه وَشَرَعَ في أسْبَابِهِ، وتأَهَّبَ لِلخُروج، ليس له أن يَرْجِعَ عن الخروج حتى يُقاتِلَ عدوَّه.

      ومنها: أنه لا يَجِبُ علي المسلمين إذا طَرَقَهُمْ عدوُّهم في ديارهم الخروجُ إليه، بل يجوزُ لهم أن يلزمُوا دِيارهم، ويُقاتلوهم فيها إذا كانَ ذلك أنصرَ لهم علي عدوِّهم، كما أشار به رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم يومَ أُحُد.ومنها: جوازُ سُلُوكِ الإمام بالعسكرِ في بعض أملاك رعيَّته إذا صادفَ ذلك طريقَه، وإن لم يرضَ المالكُ.

      ومنها: أنه لا يأذنُ لِمن لا يُطيق القِتَالَ من الصبيان غيرِ البالغين، بل يردُّهم إذا خرجوا، كما رد رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ عمر ومَن معه.

      ومنها: جوازُ الغزوِ بالنساء، والاستعانةُ بِهِنَّ في الجهاد.

      ومنها: جوازُ الانغماس في العدو، كما انغمسَ أنسُ بنُ النضر وغيرُه.

      ومنها: أن الإمَامَ إذا أصابته جِراحة صلى بهم قاعداً، وصلُّوا وراءه قعوداً، كما فَعَلَ رسولُ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذِهِ الغزوة، واستمرت علي ذلك سُنَّته إلى حين وفاته.
      ومنها: جوازُ دعاءِ الرجل أن يُقتَلَ في سَبيل الله، وتمنيه ذلك، وليس هذا من تمنى الموت عنه، كما قال عبد الله بن جحش: اللهُم لقِّنى من المشركين رجلاً عظيماً كفره، شديداً حَردُه، فأقاتله، فيقتلنى فيك،. ويسلبني، ثم يجدَع أنفي وأُذنى، فإذا لقيتُكَ، فقلتَ: يا عبدَ اللهِ بن جحش، فيم جُدِعْتَ ؟ قلت: فيك يا رَبِّ.

      ومنها: أن المسلِمَ إذا قتل نفسه، فهو من أهل النار، لقوله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قُزْمَانَ الذي أبلي يومَ أُحُدٍ بلاءً شديداً، فلما اشتدَّت بِهِ الجِراحُ، نَحَرَ نفسه، فقال صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ".

      ومنها: أن السُّنَّةَ في الشهيدِ أنه لا يُغَسَّل، ولا يُصلى عليه، ولا يُكَفَّن في غير ثيابه، بل يُدفَن فيها بدمه وكُلومه، إلا أن يُسْلَبَهَا، فيكفَّنَ في غيرها.

      ومنها: أنه إذا كان جُنباً، غُسِّلَ كما غسَّلَتِ الملائكةُ حنظلةَ بن أبي عامر.

      ومنها: أن السُّنَّة في الشهداء أن يُدفنوا في مصَارِعهم، ولا يُنقلوا إلى مكان آخر، فإن قوماً من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة، فنادى منادى رسول اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمرِ بَردِّ القتلى إلى مصارعهم، قال جابر: بينا أنا في النَّظَّارَةِ، إذ جاءت عمَّتى بأبي وخإلى عَادَلَتْهُمَا علي ناضِح، فدخَلَتْ بهما المدينة، لنَدْفِنَهُمَا في مقابرنا، وجاء رجل يُنادى: ألا إنَّ رَسُولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُم أن تَرْجِعُوا بِالقَتْلى، فَتَدْفِنُوهَا في مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ. قال: فرجعنَا بِهِمَا، فدفنَّاهما في القتلي حيثُ قُتِلا، فبينا أنا في خلافةِ معاويةَ بنِ أبي سُفيان، إذ جاءني رجلٌ، فقال: يا جابرُ؛ واللهِ لقد أثار أَبَاكَ عُمَّالُ معاويَة فبدا، فخَرجَ طائفة منه، قال: فأتيتُه، فوجدتُه علي النحو الذي تركتُه لم يتَغيَّرْ منهُ شيء. قال: فواريتُه، فصارت سُنَّة في الشهداء أن يُدْفَنُوا في مصارِعهم.
      ومنها: جوازُ دفن الرجلينِ أو الثلاثة في القبر الواحد، فإنَّ رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَدْفِنُ الرجلين والثلاثة في القبر، ويقول: "أيُّهم أكْثَرُ أخذاً لِلقُرآنِ، فإذا أشارُوا إلى رَجُلٍ، قَدَّمه في اللحد".
      ودفن عبدَ الله بنَ عَمْرِو بن حرام، وعمرَو بنَ الجموح في قبر واحد، لِمَا كان بينهُمَا مِن المحبة فقال: "ادْفِنُوا هَذَيْنِ المُتَحَابّيْنِ في الدُّنْيَا في قَبْرٍ واحد"
      ثمَّ حُفِرَ عنهما بعد زمنٍ طويل، ويدُ عبدِ اللهِ بن عمرو بن حرام علي جرحه كما وضعها حين جُرِحَ، فأُمِيطَتْ يدُه عن جرحه، فانبعثَ الدَّمُ، فَرُدَّت إلى مكانهَا، فسكن الدم.
      وقال جابر: رأيتُ أبي في حُفرته حين حُفِرَ عليه، كأنَّه نائم، وما تغيَّر مِن حاله قليلٌ ولا كثير. قيل له: أفرأيتَ أكفانَه ؟ فقال: إنما دُفن في نمرة خُمِرَّ وجْهُه، وعلي رجليه الحَرْمَلُ، فوجدنا النَّمِرَةَ كما هي، والحرملَ على رجليه علي هَيْئَتِهِ، وبين ذلك ست وأربعون سنة.
      وقد اختلف الفقهاء في أمرِ النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُدفن شهداءُ أُحُد في ثيابهم، هل هو علي وجه الاستحبابِ والأولويَّة، أو علي وجه الوجوب؟

      على قولين:
      الثاني: أظهرُهما وهو المعروفُ عن أبي حنيفة،
      والأول: هو المعروف عن أصحاب الشافعي وأحمد،
      فإن قيل: فقد روى يعقوبُ بن شيبة وغيرُه بإسناد جيد، أن صفيَّةَ أرسلت إلى النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوبَيْنِ لِيكفِّن فيهما حمزة، فكفَّنه في أحدهما، وكفَّن في الآخر رجلاً آخر. قيل: حمزةُ، كان الكفارُ قد سلبوه، ومثَّلُوا به، وبقَرُوا عن بَطنِه، واستخرجوا كَبدَه، فَلِذلِكَ كُفِّنَ في كَفَنٍ آخر. وهذا القولُ في الضعف نظيرُ قول مَن قال: يُغسَّلُ الشهِيدُ، وسُنَّةُ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوْلي بالإتباع.

      ومنها: أن شهيدَ المعركة لا يُصلى عليه، لأن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُصَلِّ علي شُهدَاء أُحُد، ولم يُعرف عنه أنه صلى علي أحد ممن استشهد معه في مغازيه، وكذلك خلفاؤُه الراشِدُون، ونوابُهم مِن بعدهم.
      فإن قيل: فقد ثبت في "الصحيحين" من حديث عُقبة بنِ عامر، أن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً، فصلى على أهل أُحُدٍ صلاتَه علي الميت، ثم انصرف إلى المنبر.
      وقال ابنُ عباس: "صلى رسولُ اللهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قتلى أُحُد".

      قيل: أما صلاتُه عليهم، فكانت بعد ثمانِ سنين مِن قتلهم قُرْبَ موته، كالمودِّع لهم، ويُشبِهُ هذا خروجُه إلى البقيع قبل موته، يستغفِرُ لهم كالمودِّع للأحياء والأموات، فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّةُ الصلاة علي الميت، ولو كان ذلك كذلك، لم يُؤخِّرها ثمان سنين، لا سيما عند مَنْ يقول: لا يُصلى علي القبر، أو يصلى عليه إلى شهر.

      ومنها: أن مَن عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروجُ إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرُو بن الجموح، وهو أعرج.
      ومنها: أن المسلمين إذا قَتَلُوا واحداً منهم في الجهاد يظنُّونه كافراً، فعلى الإمام ديتُه مِن بيتِ المالِ، لأن رسولَ الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يَدِيَ اليمانَ أبا حُذيفة، فامتنع حُذيفَةُ من أخذ الدية، وتصدَّقَ بها على المسلمين))اهـ المصدر السابق

      يتبع إن شاء الله

      تعليق


      • #4
        وقال أيضا - رحمه الله - :((فصل: في ذكر بعضِ الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحُد
        وقد أشار اللهُ سبحانه وتعالى إلى أُمهاتِها وأُصولها في سورة "آل عمران" حيث افتتح القصة بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية.

        فمنها: تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذي أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152].
        فلما ذاقُوا عاقبةَ معصيتهِم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانُوا بعد ذلك أشدَّ حذراً ويقظة، وتحرُّزاً مِن أسبابِ الخِذلان.

        ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته في رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم علي الظهور والغلبة خاصة.

        ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبي سفيان: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه ؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلي، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.

        ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذبِ، فإنَّ المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يومَ بدر، وطار لهم الصِّيتُ، دخل معهم في الإسلام ظاهراً مَنْ ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حِكمةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أن سَبَّبَ لعباده مِحْنَةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رُؤوسَهم في هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتُمونه، وظهرت مُخَبَّآتُهم، وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناسُ إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعَرَفَ المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دُورهم، وهم معهم لا يُفارقونهم، فاستعدُّوا لهم، وتحرَّزوا منهم. قال تعالى: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلي الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. أي: ما كان اللهُ ليذركم على ما أنتم عليه من التباسِ المؤمنين بالمنافقين، حتى يميزَ أهلَ الإيمانِ مِن أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يومَ أُحُد، وما كان الله لِيُطلعكم على الغيب الذي يَمِيزُ به بينَ هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميِّزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يُريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومهُ الذي هو غيبٌ شهادةً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 179] استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه علي الغيب، سوى الرسلِ، فإنه يُطلعهم علي ما يشاء مِن غيبه، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلي غَيْبِهِ أَحَداً إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26-27] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيبِ الذي يُطْلِعُ عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظمُ الأجر والكرامة.

        ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه في السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.

        ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم في كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصرَ والظفرَ، لكانُوا في الحال التي يكونون فيها لو بَسَطَ لهم الرِّزْقَ، فلا يُصْلِحُ عِباده إلا السَّراءُ والضَّراءُ، والشدةُ والرخاءُ، والقبضُ والبسطُ، فهو المدبِّرُ لأمر عباده كما يليقُ بحكمته، إنه بهم خبير بصير.

        ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغَلَبَةِ، والكَسْرَةِ، والهزيمة، ذلُّوا وانكسَروا، وخضعُوا، فاستوجبوا منه العِزَّ والنَّصْرَ، فإن خِلعة النصر إنما تكونُ مع ولاية الذُّلِّ والانكسارِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُم شَيْئاً} [التوبة: 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعِزَّ عبدَه، ويجبُرَه، وينصُرَه، كسره أوَّلاً، ويكونُ جبرُه له ونصره، على مِقدار ذُلِّه وانكساره.

        ومنها: أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازِلَ في دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنةِ، فقيَّض لهم الأسبابَ التي تُوصِلُهُم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.

        ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها في سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.

        ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقرَّبون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدِّيقيَّة إلا الشهادةُ، وهو سبحانه يُحب أن يتّخِذَ مِن عباده شهداءَ، تُراقُ دماؤهم في محبته ومرضاته، ويُؤْثرونَ رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيلَ إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.

        ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذي أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.
        وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: { وَلا تَهِنُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ ولِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139-141]، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهِممهم، وبينَ حُسنِ التسلية، وذكر الحِكمِ الباهِرَة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم فقال: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140]، فقد استويتُم في القرح والألَمِ، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: {إِن تَكُونُواْ تَأَلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، فما بالكم تَهِنُونَ وتضعُفُون عند القرحِ والألم، فقد أصابهم ذلك في سبيلِ الشيطان، وأنتم أُصِبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.

        ثم أخبرَ أنه يُدَاوِلُ أيامَ هذه الحياة الدنيا بين الناسِ، وأنها عَرَضٌ حاضِر، يقسمها دُوَلاً بين أوليائه وأعدائِهِ بخلاف الآخِرةِ، فإن عزَّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للذين آمنُوا.
        ثم ذكر حِكمة أُخرى، وهى أن يتميَّزَ المؤمنون من المنافقين، فيعلمُهم عِلْمَ رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومِين في غيبه، وذلك العلم الغيبي لا يترتَّب عليه ثوابٌ ولا عقاب، وإنمَّا يترتب الثوابُ والعقابُ على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحسِ.

        ثم ذكر حكمة أُخرى، وهى اتخاذُه سبحانه منهم شهداء، فإنه يُحبُّ الشهداء من عباده، وقد أعَدَّ لهم أعلى المنازل وأفضلَها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بدَّ أن يُنِيلَهم درجة الشهادة.
        وقوله: {واَللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، تنبيه لطيفٌ الموقِع جداً على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخَذَلُوا عن نبيه يومَ أُحُد، فلم يشهدوه، ولم يَتَّخِذْ منهم شهداء، لأنه لم يُحبهم، فأركَسَهم وردَّهُم لِيَحْرِمَهُم ما خصَّ به المؤمنين في ذلكَ اليوم، وما أعطاهُ مَن استُشهِدَ منهم، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءَهُ وحِزبه.
        ثم ذكر حِكْمة أُخرى فيما أصابهم ذلك اليوم، وهو تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتُهم وتخليصُهم من الذنوب، ومن آفاتِ النفوس، وأيضاً فإنه خلَّصهم ومحَّصهم من المنافقين، فتَمَيَّزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يُظهِرُ أنه منهم، وهو عدوُّهم.
        ثم ذكر حكمة أخرى، وهى محقُّ الكافرين بطغيانهم، وبغيهم، وعُدوانهم، ثم أنكر عليهم حُسبانَهم، وظنَّهُم أن يدخلُوا الجنَّة بدون الجهاد في سبيله، والصبرِ على أذى أعدائه، وإن هذا ممتنع بحيثُ يُنْكَرُ علي مَن ظنه وحَسِبَه.
        فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، أي: ولما يَقَعْ ذلِكَ منكم، فيعلمه، فإنه لو وقع، لعلمه، فجازاكم عليه بالجنة، فيكونَ الجزاء على الواقع المعلوم، لا على مجرد العلم، فإن الله لا يجزي العبدَ على مجرد علمه فيه دون أن يقعَ معلومُه، ثم وبَّخهم على هزيمتهم مِن أمر كانوا يتمنَّونه ويودُّون لِقاءه.
        فقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143].
        قال ابن عباس: ولما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل بشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمنوا قتالاً يستشهِدُونَ فيه، فيلحقُونَ إخوانَهم، فأراهم الله ذلك يوم أُحُد، وسبّبه لهم، فلم يَلْبَثُوا أن انهزموا إلا مَن شاء الله منهم، فأنزل الله تعالى: {ولَقَدْ كُنْتُم تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143]))اهـ

        يتبع إن شاء الله

        تعليق

        يعمل...
        X