ابن أبي ذئب ( ع )
محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب - واسم أبي ذئب : هشام بن شعبة - الإمام
،شيخ الإسلام ، أبو الحارث القرشي ، العامري ، المدني ، الفقيه .
سمع : عكرمة وشرحبيل بن سعد ، وسعيدا المقبري ، ونافعا العمري ، وأسيد بن أبي أسيد البراد ،
وصالحا مولى التوأمة ، وشعبة مولى ابن عباس ، وخاله الحارث بن عبد الرحمن القرشي ، ومسلم بن
جندب ، وابن شهاب الزهري ، والقاسم بن عباس ، ومحمد بن قيس ، وإسحاق بن يزيد الهذلي ،
والزبرقان بن عمرو بن أمية الضمري ، وسعيد بن سمعان ، وعثمان بن عبد الله بن سراقة ، ومحمد
بن المنكدر ، ويزيد بن عبد الله بن قسيط ، وخلقا سواهم .
وكان من أوعية العلم ، ثقة ، فاضلا ، قوالا بالحق ، مهيبا .
حدث عنه : ابن المبارك ، ويحيى بن سعيد القطان ، وابن أبي فديك ، وشبابة بن سوار ، وأبو علي
الحنفي ، وحجاج بن محمد ، وأبو نعيم ، ووكيع ، وآدم بن أبي إياس ، والقعنبي ، وأسد بن موسى ،
وعاصم بن علي ، وأحمد بن يونس اليربوعي ، وعلي بن الجعد ، وابن وهب ، والمقرئ ،وخلق كثير.
قال أحمد بن حنبل : كان يشبه بسعيد بن المسيب . فقيل لأحمد : خلف مثله ؟ قال : لا . ثم قال : كان
أفضل من مالك ، إلا أن مالكا - رحمه الله - أشد تنقية للرجال منه ؟ .
قلت : وهو أقدم لقيا للكبار من مالك ، ولكن مالكا أوسع دائرة في العلم ، والفتيا ، والحديث ، والإتقان
منه بكثير .
قال محمد بن عمر الواقدي : ولد سنة ثمانين وكان من أورع الناس وأودعهم ، ورمي بالقدر ، وما
كان قدريا ، لقد كان يتقي قولهم ويعيبه .
ولكنه كان رجلا كريما ، يجلس إليه كل أحد ويغشاه فلا يطرده ، ولا يقول له شيئا ، وإن مرض ،
عاده; فكانوا يتهمونه بالقدر ، لهذا وشبهه .
قلت : كان حقه أن يكفهر في وجوههم ، ولعله كان حسن الظن بالناس .
ثم قال الواقدي تلميذه : وكان يصلي الليل أجمع ، ويجتهد في العبادة ، ولو قيل له : إن القيامة تقوم
غدا ، ما كان فيه مزيد من الاجتهاد .
أخبرني أخوه قال : كان أخي يصوم يوما ويفطر يوما ، ثم سرد الصوم ، وكان شديد الحال يتعشى
الخبز والزيت ، وله قميص وطيلسان ، يشتو فيه ويصيف .
قال : وكان من رجال الناس صرامة وقولا بالحق ، وكان يحفظ حديثه ، لم يكن له كتاب ، وكان يروح
إلى الجمعة باكرا ، فيصلي إلى أن يخرج الإمام . ورأيته يأتي دار أجداده عند الصفا ، فيأخذ كراءها ،
وكان لا يغير شيبه .
ولما خرج محمد بن عبد الله بن حسن لزم بيته إلى أن قتل محمد ، وكان أمير المدينة الحسن بن زيد
يجري على ابن أبي ذئب كل شهر خمسة دنانير ، وقد دخل مرة على والي المدينة ، فكلمه - وهو عبد
الصمد بن علي عم المنصور - فكلمه في شيء ، فقال عبد الصمد بن علي : إنى لأراك مرائيا . فأخذ
عودا ، وقال : من أرائي ؟ فوالله للناس عندي أهون من هذا . ولما ولي المدينة جعفر بن سليمان ،
بعث إلى ابن أبي ذئب بمائة دينار ، فاشترى منها ساجا كرديا بعشرة دنانير ، فلبسه عمره ، وقدم به
عليهم بغداد ، فلم يزالوا به حتى قبل منهم ، فأعطوه ألف دينار - يعني الدولة - فلما رجع ، مات
بالكوفة - رحمه الله - . نقل هذا كله ابن سعد في " الطبقات " عن الواقدي ، والواقدي - وإن كان لا
نزاع في ضعفه - فهو صادق اللسان ، كبير القدر .
وفي " مسند الشافعي " سماعنا ، أخبرني أبو حنيفة بن سماك ، حدثني ابن أبي ذئب ، عن المقبري
عن أبي شريح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل له قتل فهو بخير النظرين :
إن أحب أخذ العقل ، وإن أحب فله القود " .
قلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ؟ فضرب صدري ، وصاح كثيرا ، ونال مني ، وقال : أحدثك عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : تأخذ به : نعم آخذ به ، وذلك الفرض علي ، وعلى كل
من سمعه . إن الله اختار محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الناس فهداهم به ، وعلى يديه ، فعلى
الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك .
قال أحمد بن حنبل : بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث " البيعان بالخيار " فقال : يستتاب ،
فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه . ثم قال أحمد : هو أورع وأقول بالحق من مالك .
قلت : لو كان ورعا كما ينبغي ، لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم . فمالك إنما لم يعمل
بظاهر الحديث ; لأنه رآه منسوخا . وقيل : عمل به وحمل قوله : " حتى يتفرقا " على التلفظ
بالإيجاب والقبول ، فمالك في هذا الحديث ، وفي كل حديث ، له أجر ولا بد ، فإن أصاب ، ازداد أجرا
آخر ، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية . وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في
بعض لا يعول على كثير منه ، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه ، ولا ضعف العلماء ابن
أبي ذئب بمقالته هذه ، بل هما عالما المدينة في زمانهما - رضي الله عنهما - ولم يسندها الإمام أحمد
، فلعلها لم تصح .
كتب إلي مؤمل البالسي وغيره أن أبا اليمن الكندي أخبرهم : أنبأنا القزاز أنبأنا أبو بكر الخطيب ، أنبأنا
أبو سعيد الصيرفي ، حدثنا الأصم ، حدثنا عباس الدوري قال : سمعت يحيى بن معين يقول : ابن أبي
ذئب سمع عكرمة .
وبه : قال الخطيب : أنبأنا الجوهري ، أنبأنا المرزباني ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، حدثنا أبو
العيناء ، قال : لما حج المهدي ، دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق أحد إلا قام ،
إلا ابن أبي ذئب ، فقال له المسيب بن زهير : قم ، هذا أمير المومنين . فقال : إنما يقوم الناس لرب
العالمين . فقال المهدي : دعه ، فلقد قامت كل شعرة في رأسي .
وبه : قال أبو العيناء : وقال ابن أبي ذئب للمنصور : قد هلك الناس ، فلو أعنتهم من الفيء . فقال :
ويلك ، لولا ما سددت من الثغور ، لكنت تؤتى فى منزلك ، فتذبح . فقال ابن أبي ذئب : قد سد الثغور
، وأعطى الناس من هو خير منك : عمر - رضي الله عنه - فنكس المنصور رأسه - والسيف بيد
المسيب - ثم قال : هذا خير أهل الحجاز .
قال أحمد بن حنبل : ابن أبي ذئب ثقة . قد دخل على أبي جعفر المنصور ، فلم يهله أن قال له الحق .
وقال : الظلم ببابك فاش ، وأبو جعفر أبو جعفر .
قال مصعب الزبيري : كان ابن أبي ذئب فقيه المدينة .
وقال البغوي : حدثنا هارون بن سفيان قال : قال أبو نعيم : حججت عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي
ذئب ، ومالك بن أنس ، فدعا ابن أبي ذئب ، فأقعده معه على دار الندوة ، فقال له : ما تقول في
الحسن بن زيد بن حسن - يعني أمير المدينة - ؟ فقال : إنه ليتحرى العدل . فقال له : ما تقول في -
مرتين - ؟ فقال : ورب هذه البنية إنك لجائر . قال : فأخذ الربيع الحاجب بلحيته ، فقال له أبو جعفر :
كف يا ابن اللخناء ثم أمر لابن أبي ذئب بثلاث مائة دينار .
قال محمد بن المسيب الأرغياني سمعت يونس بن عبد الأعلى ، سمعت الشافعي يقول : ما فاتني أحد ،
فأسفت عليه ما أسفت على الليث بن سعد وابن أبي ذئب .
قلت : أما فوات الليث ، فنعم ، وأما ابن أبي ذئب ، فما فرط في الارتحال إليه ; لأنه مات وللشافعي
تسعة أعوام .
علي بن المديني : سمعت يحيى بن سعيد يقول : كان ابن أبي ذئب عسرا ، أعسر أهل الدنيا ، إن كان
معك الكتاب ، قال : اقرأه ، وإن لم يكن معك كتاب ، فإنما هو حفظ . فقلت ليحيى : كيف كنت تصنع
فيه ؟ قال : كنت أتحفظها وأكتبها .
وقال أبو إسحاق الجوزجاني : قلت لأحمد بن حنبل : فابن أبي ذئب ، سماعه من الزهري ، أعرض هو
؟ قال : لا يبالي كيف كان .
قلت : كان يلينه في الزهري بهذه المقالة ، فإنه ليس بالمجود في الزهري .
قال أحمد بن علي الأبار : سألت مصعبا عن ابن أبي ذئب ، فقال : معاذ الله أن يكون قدريا ، إنما كان
في زمن المهدي قد أخذوا أهل القدر ، وضربوهم ، ونفوهم ، فجاء منهم قوم إلى ابن أبي ذئب ،
فجلسوا إليه ، واعتصموا به من الضرب ، فقيل : هو قدري لأجل ذلك . لقد حدثني من أثق به أنه ما
تكلم فيه قط .
وجاء عن أحمد بن حنبل ، أنه سئل عنه ، فوثقه ، ولم يرضه في الزهري . وقال الفضل بن زياد :
سئل أحمد بن حنبل : أيما أعجب إليك : ابن عجلان ، أو ابن أبي ذئب ؟ فقال : ما فيهما إلا ثقة .
قدم ابن أبي ذئب بغداد ، فحملوا عنه العلم ، وأجازه المهدي بذهب جيد ، ثم رد إلى بلاده ، فأدركه
الأجل بالكوفة ، غريبا ، وذاك في سنة تسع وخمسين ومائة .
قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان ابن أبي ذئب رجلا صالحا قوالا بالحق ، يشبه بسعيد
بن المسيب ، وكان قليل الحديث .
أخبرنا أبو الحسن بن البخاري وغيره كتابة ، قالوا : أنبأنا عمر بن محمد الدارقزي أنبأنا عبد الوهاب
الأنماطي ، أنبأنا أبو محمد بن هزارمرد الخطيب ، أنبأنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق ، حدثنا عبد الله
بن محمد البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن سمعان ، سمعت أبا
هريرة يحدث أبا قتادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يبايع لرجل بين الركن والمقام ،
ولن يستحل البيت إلا أهله ، فإذا استحلوه ، فلا تسأل عن هلكة العرب . ثم تأتي الحبشة فيخربونه
خرابا لا يعمر بعدها أبدا ، وهم الذين يستخرجون كنزه " .
وبه أنبأنا ابن أبي ذئب ، عن شعبة ، هو مولى ابن عباس ، قال : دخل المسور بن مخرمة على ابن
عباس ، وعليه ثوب إستبرق ، فقال : ما هذا يا أبا العباس ؟ قال : وما هو ؟ قال : هذا الإستبرق .
قال : ما علمت به ، ولا أظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه حين نهى إلا للتجبر
والتكبر ; ولسنا ، بحمد الله ، كذلك . قال : فما هذه الطيور في الكانون ؟ - يعني تصاوير - قال : ألا
ترى كيف أحرقناها بالنار . فلما خرج المسور ، قال : انزعوا هذا الثوب عني ، واقطعوا رأس هذه
التماثيل والطيور .
أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن ، أنبأنا أبو القاسم بن صصرى ، أنبأنا أبو المكارم عبد الواحد
بن محمد الأزدي ، أنبأنا أبو الفضل عبد الكريم المؤمل الكفرطابي قراءة عليه وأنا حاضر ، أنبأنا عبد
الرحمن بن أبي نصر التميمي ، أنبأنا أبو علي محمد بن القاسم بن معروف ، حدثنا أبو بكر أحمد بن
علي القاضي ، حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ،
قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم عاشوراء ، ويأمر بصيامه .
قال الدارقطني : كان ابن أبي ذئب صنف موطأ فلم يخرج . ابن أبي مريم : عن يحيى بن معين ، قال :
ابن أبي ذئب ثقة ، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب فثقة ، إلا أبا جابر البياضي ، وكل من روى عنه
مالك ثقة ، إلا عبد الكريم أبا أمية .
وقال يعقوب بن شيبة : أخذه عن الزهري ، عرضا ، والعرض عند جميع من أدركنا صحيح . وسمعت
أحمد ويحيى يتناظران في ابن أبي ذئب ، وعبد الله بن جعفر المخرمي ، فقدم أحمد المخرمي ، فقال
يحيى : المخرمي شيخ ؟ وأيش عنده ؟ وأطرى ابن أبي ذئب ، وقدمه على المخرمي تقديما كثيرا
متفاوتا ، فذكرت هذا لعلي ، فوافق يحيى ، وسألت عليا عن سماع ابن أبي ذئب من الزهري ، فقال :
هي مقاربة ، وهي عرض .
قال الواقدي : كان من أورع الناس ، وأفضلهم وكانوا يرمونه بالقدر ، وما كان قدريا . أخبرني أخوه
قال : كان يصوم يوما ويفطر يوما ، فقدم رجل ، فجعل يسأله عن رجفة الشام فأقبل يحدثه ويستمع له
، وكان ذلك اليوم إفطاره ، فقلت له : قم تغد . قال : دعه اليوم ، فسرد من ذلك اليوم إلى أن مات .
وكان شديد الحال ، وكان من رجال الناس صرامة ، وكان يتشبب في حداثته حتى كبر وطلب الحديث ،
وقال : لو طلب وأنا صغير كنت أدركت المشايخ ، ففرطت فيهم ، كنت أتهاون ، وكان يحفظ حديثه ; لم
يكن له كتاب .
قال حماد بن خالد : كان يشبه بابن المسيب ، وما كان هو ومالك في موضع عند سلطان إلا تكلم ابن
أبي ذئب بالحق والأمر والنهي ، ومالك ساكت .
قال عثمان الدارمي : قلت ليحيى : ما حال ابن أبي ذئب في الزهري ؟ فقال : ابن أبي ذئب ثقة .
قلت : هو ثقة مرضي . وقد قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة : سألت عليا عنه ، فقال : كان عندنا
ثقة ، وكانوا يوهنونه في أشياء رواها عن الزهري . وسئل عنه أحمد فوثقه ،ولم يرضه في الزهري.
قال ابن أبي فديك : مات سنة ثمان وخمسين ومائة .
وقال أبو نعيم وطائفة : مات سنة تسع وخمسين . وقال الواقدي : اشتكى بالكوفة ، وبها مات .
أخبرنا أحمد بن هبة الله ، عن عبد المعز ، أنبأنا تميم ، أنبأنا أبو سعد ، أنبأنا ابن حمدان ، أنبأنا أبو
يعلى ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة قالت :
كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث بها ، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه
المحرم صحيح عال . قيل : ألف ابن أبي ذئب كتابا كبيرا في السنن .
سير أعلام النبلاء مجلد ٧ صفحة ١٣٩
تعليق