إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي



    وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه ( هواتف الجان ) : حدثنا علي

    بن حرب ، حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم ، حدثنا عمرو بن بكر - هو ابن بكار القعنبي - عن

    أحمد بن القاسم ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن عباس قال :


    لما ظهر سيف بن ذي يزن قال ابن المنذر - واسمه النعمان بن قيس - على الحبشة وذلك بعد مولد

    رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ، أتته وفود العرب وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان

    من حسن بلائه ، وأتاه فيمن أتاه وفود قريش ، فيهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس

    أبي عبد الله ، وعبد الله بن جدعان ، وخويلد بن أسد ، في أناس من وجوه قريش .



    فقدموا عليه صنعاء ، فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية أبي الصلت :



    واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دارا منك محلالا



    فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم ، فأذن لهم ، فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام ، فقال له : إن

    كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك ، فقد أذنا لك . فقال له عبد المطلب : إن الله قد أحلك أيها الملك

    محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا ، وأنبتك منبتا طابت أرومته ، وعذيت جرثومته ، وثبت أصله ،

    وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن .



    فأنت - أبيت اللعن - ملك العرب وربيعها الذي تخصب به البلاد ، ورأس العرب الذي له تنقاد

    ،وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد ، وسلفك خير سلف ، وأنت لنا منهم

    خير خلف ، فلن يخمد من هم سلفه ، ولن يهلك من أنت خلفه .



    ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته ، أشخصنا إليك الذي أبهجك من كشف الكرب الذي قد

    فدحنا ، وفد التهنئة لا وفد المرزئة .



    قال له الملك : وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال : أنا عبد المطلب بن هاشم . قال : ابن أختنا ؟ قال :

    نعم . قال : ادن ، فأدناه ، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال : مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا ، ومستناخا

    سهلا ، وملكا ربحلا ، يعطي عطاء جزلا ، قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ،

    فأنتم أهل الليل والنهار ، ولكم الكرامة ما أقمتم ، والحباء إذا ظعنتم .



    ثم نهضوا إلى دار الكرامة والوفود ، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ، ولا يأذن لهم بالانصراف ، ثم

    انتبه لهم انتباهة ، فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه ، ثم قال : يا عبد المطلب إني

    مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به ، ولكني رأيتك معدنه ، فاطلعتك طليعه ،

    فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه ، فإن الله بالغ أمره .



    إني أجد في الكتاب المكنون ، والعلم المخزون ، الذي اخترناه لأنفسنا ، واجتجناه دون غيرنا ، خبرا

    عظيما ، وخطرا جسيما ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة للناس عامة ، ولرهطك كافة ، ولك

    خاصة .



    فقال عبد المطلب : أيها الملك مثلك سر وبر ، فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر ؟ قال : إذا

    ولد بتهامة غلام به علامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.



    قال عبد المطلب - أبيت اللعن - : لقد أبت بخير ما آب به وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله

    واعظامه ، لسألته من بشارته إياي ، ما ازداد به سرورا .



    قال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه ، أو قد ولد ، واسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله

    جده وعمه ، ولدناه مرارا ، والله باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا ، يعزبهم أولياءه ، ويذل بهم

    أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض ، يكسر الأوثان ، ويخمد

    النيران ، يعبد الرحمن ، ويدحر الشيطان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ،

    وينهى عن المنكر ويبطله .



    فقال عبد المطلب : أيها الملك - عز جدك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك - فهذا نجاري ،

    فهل الملك سار لي بافصاح ، فقد أوضح لي بعض الإيضاح .



    فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النقب ، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب

    ، فخر عبد المطلب ساجدا فقال : ارفع رأسك ، ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما

    ذكرت لك ؟



    فقال : أيها الملك كان لي ابن ، وكنت به معجبا ، وعليه رفيقا ، فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة

    بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته محمدا ، فمات أبوه وأمه ، وكفلته أنا وعمه .



    قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك كما قلت ، فاحتفظ بابنك ، واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء

    ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك ، فإني لست آمن

    أن تدخل لهم النفاسة ، من أن تكون لكم الرياسة ، فيطلبون له الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، فهم

    فاعلون أو أبناؤهم ، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه ، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير

    بيثرب دار مملكته .



    فإني أجد في الكتاب الناطق ، والعلم السابق ، أن بيثرب استحكام أمره ، وأهل نصرته ، وموضع

    قبره ، ولولا أني أقيه الآفات ، وأحذر عليه العاهات ، لأعلنت على حداثة سنه أمره ، ولأوطأت

    أسنان العرب عقبه ، ولكني صارف ذلك إليك ، عن غير تقصير بمن معك .



    قال : ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد ، وعشرة إماء ، وبمائة من الإبل ، وحلتين من البرود ،

    وبخمسة أرطال من الذهب ، وعشرة أرطال فضة ، وكرش مملوء عنبرا ، وأمر لعبد المطلب بعشرة

    أضعاف ذلك .



    وقال له : إذا حال الحول فأتني . فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول . فكان عبد المطلب كثيرا

    ما يقول يا معشر قريش : لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك و إن كثر ، فإنه إلى نفاد ، ولكن

    ليبغبطني بما يبقى لي ولعقبي ومن بعدي ، ذكره ، وفخره ، وشرفه
    ، فإذا قيل له متى ذلك ؟ قال :

    سيعلم ولو بعد .



    قال : وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس :


    جلبنا النصح تحقبه المطايا * على أكوار أجمال ونوق



    مقلفة مراتعها تعالى * إلى صنعاء من فج عميق



    تؤم بنا ابن ذي يزن وتغري * بذات بطونها ذم الطريق



    وترعى من مخائله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق



    فلما واصلت صنعاء حلت * بدار الملك والحسب العريق



    وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم في ( الدلائل ) من طريق عمرو بن بكير بن بكار القعنبي .



    ثم قال أبو نعيم : أخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه بن محمد بن عبد العزيز بن

    عفير بن عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن ، حدثني أبي أبو يزن

    إبراهيم ، حدثنا عمي أحمد بن محمد أبو رجاء به ، حدثنا عمي محمد بن عبد العزيز ، حدثني عبد

    العزيز بن عفير ، عن أبيه ، عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال : لما ظهر جدي سيف

    بن ذي يزن على الحبشة . وذكره بطوله .



    وقال أبو بكر الخرائطي : حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي ، حدثنا العلاء بن الفضل بن

    أبي سوية ، أخبرني أبي ، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية ، عن جده أبي سوية ، عن أبيه خليفة

    قال : سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواة بن خثعم بن سعد فقلت : كيف سماك أبوك محمدا؟



    فقال : سألت أبي عما سألتني عنه فقال : خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا منهم ، وسفيان بن

    مجاشع بن دارم ، وأسامة بن مالك بن جندب بن العقيد ، ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حربوص بن

    مازن ، ونحن نريد ابن جفنة ملك غسان ، فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات فتحدثنا

    ، فسمع كلامنا راهب فأشرف علينا فقال : إن هذه لغة ما هي بلغة هذه البلاد!



    فقلنا : نعم نحن قوم من مضر . قال : من أي المضرين ؟



    قلنا : من خندف . قال : أما إنه سيبعث وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه ، وخذوا بحظكم منه

    ترشدوا .



    فقلنا له :
    ما اسمه ؟ قال : اسمه محمد ، قال : فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل واحد منا ابن

    فسماه محمدا ، يعني أن كل واحد منهم طمع في أن يكون هذا النبي المبشر به ولده .



    وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي : حدثنا عبد الله بن أبي سعد ، حدثنا حازم بن عقال بن الزهر بن

    حبيب بن المنذر بن أبي الحصين بن السموأل بن عاديا ، حدثني جابر بن جدان بن جميع بن عثمان

    بن سماك بن الحصين بن السموأل بن عاديا قال : لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو

    بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا : إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى ، وكنا

    نأمرك بالتزوج في شبابك فتأبى ، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك .


    فقال : لن يهلك هالك ترك مثل مالك ، إن الذي يخرج النار من الوثيمة قادر أن يجعل لمالك نسلا

    ورجالا بسلا وكل إلى الموت .



    ثم أقبل على مالك وقال : أي بني المنية ولا الدنية ، العقاب ولا العتاب ، التجلد ولا التلدد ، القبر

    خير من الفقر ، إنه من قل ذل ، ومن كر فر ، من كرم الكريم الدفع عن الحريم ، ولدهر يومان فيوم

    لك ويوم عليك ، فإذا كان لك فلا تبطر ، وإذا كان عليك فاصطبر ، وكلاهما سينحسر ، ليس يثبت

    منهما الملك المتوج ، ولا اللئيم المعلهج ، سلم ليومك حياك ربك ، ثم أنشأ يقول :



    شهدت السبايا يوم آل محرِّق * وأدرك أمري صيحة الله في الحجر



    فلم أر ذا ملك من الناس واحدا * ولا سواقة إلا إلى الموت والقبر



    فعل الذي أردى ثمودا وجرهما * سيعقب لي نسلا على آخر الدهر



    تقربهم من آل عمرو بن عامر * عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر



    فإن لم تك الأيام أبلين جِدّتي * وشيّبن رأسي والمشيب مع العمر



    فإن لنا ربا علا فوق عرشه * عليما بما يأتي من الخير والشر



    ألم يأت قومي أن لله دعوة * يفوز بها أهل السعادة والبر



    إذا بعث المبعوث من آل غالب * بمكة فيما بين مكة والحجر



    هنالك فابغوا نصره ببلادكم * بني عامر إن السعادة في النصر



    قال : ثم قضى من ساعته .




    يتبع بإذن الله تعالى

    تعليق


    • #32
      باب في هواتف الجان

      باب في هواتف الجان



      وقد تقدم كلام شق وسطيح لربيعة بن نصر ملك اليمن في البشارة بوجود رسول الله صلى الله عليه

      وسلم ، رسول ذكي يأتي إليه الوحي من قبل العلي ، وسيأتي في المولد قول سطيح لعبد المسيح :

      إذا كثرت التلاوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وجاء صاحب الهراوة ، يعني بذلك رسول الله صلى الله

      عليه وسلم
      كما سيأتي بيانه مفصلا .

      وقال البخاري : حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، حدثني ابن وهب ، حدثني عمرو - هو محمد بن

      زيد - أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر قال : ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه إلا كان

      كما يظن . بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل فقال : لقد أخطأ ظني ، أو إن هذا على

      دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم ، علي الرجل ، فدعى به فقال له ذلك
      فقال : ما رأيت كاليوم

      استقبل به رجلا مسلما .


      قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني . قال : كنت كاهنهم في الجاهلية ، قال : فما أعجب ما جاءتك

      به جنيتك ؟ قال : بينما أنا في السوق يوما جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت :


      ألم تر الجن وإبلاسها * ويلسها من بعد أنكاسها ؟

      ولحوقها بالقلاص وأحلاسها


      قال عمر : صدق ، بينا أنا نائم عند آلهتهم ، جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ لم أسمع

      صارخا قط أشد صوتا منه يقول : يا جليح أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : لا إله إلا الله ،

      فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ، ثم نادى يا جليح أمر نجيح ، رجل فصيح يقول

      لا إله إلا الله ، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي . تفرد به البخاري .


      وهذا الرجل هو : سواد بن قارب الأردي ، ويقال : السدوسي من أهل السراة من جبال البلقاء له

      صحبة ووفادة .


      قال أبو حاتم ، وابن منده : روى عنه سعيد بن جبير ، وأبو جعفر محمد بن علي . وقال البخاري :

      له صحبة .


      وهكذا ذكره في أسماء الصحابة أحمد بن روح البرذعي الحافظ ، والدارقطني ، وغيرهما .


      وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري : سواد بن قارب بالتخفيف .


      وقال عثمان الوقاصي ، عن محمد بن كعب القرظي : كان من أشراف أهل اليمن ، ذكره أبو نعيم في

      ( الدلائل ) وقد روى حديثه من وجوه أخر مطولة بالبسط من رواية البخاري .


      وقال محمد بن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أنه حدث أن

      عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه

      وسلم إذ أقبل رجل من العرب داخل المسجد ، يريد عمر بن الخطاب ، فلما نظر إليه عمر
      قال : إن

      الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد ، أو لقد كان كاهنا في الجاهلية .


      فسلم عليه الرجل ثم جلس ،
      فقال له عمر : هل أسلمت ؟

      قال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : فهل كنت كاهنا في الجاهلية ؟

      فقال الرجل : سبحان الله يا أمير المؤمنين ، لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من

      رعيتك منذ وليت ما وليت ،
      فقال عمر : اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا ، نعبد

      الأصنام ، ونعتنق الأوثان ، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام .


      قال : نعم ، والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية .

      قال : فأخبرني ما جاء به صاحبك ؟

      قال : جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه ، فقال : ألم تر إلى الجن وإبلاسها وإياسها من دينها ،

      ولحوقها بالقلاص وإحلاسها .


      قال ابن إسحاق : هذا الكلام سجع ليس بشعر .


      قال عبد الله بن كعب : فقال عمر عند ذلك يحدث الناس : والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في

      نفر من قريش قد ذبح له رجل من العرب عجلا ، فنحن ننتظر قسمه أن يقسم لنا منه ، إذ سمعت من

      جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أشد منه ، وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه ،
      يقول : يا

      ذريح أمر نجيح ، رجل يصيح
      يقول :لا إله إلا الله .


      قال ابن هشام : ويقال : رجل يصيح بلسان فصيح يقول : لا إله إلا الله . قال وأنشدني بعض أهل

      العلم بالشعر :


      عجبت للجن وإبلاسها * وشدها العيس بأحلاسها


      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن كأنجاسها

      وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان الشامي ، حدثنا علي بن منصور

      الأنباري ، عن محمد بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن محمد بن كعب القرظي قال : بينما عمر بن

      الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس ، إذ مر به رجل فقيل : يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار ؟


      قال : ومن هذا ؟ قالوا : هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم


      قال : فأرسل إليه عمر فقال له : أنت سواد بن قارب ؟


      قال : نعم ، قال : فأنت على ما كنت عليه من كهانتك ؟


      قال : فغضب ، وقال : ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين! فقال عمر : يا سبحان

      الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك ، فأخبرني ما أنبأك رئيك بظهور رسول

      الله صلى الله عليه وسلم ؟


      قال : نعم يا أمير المؤمنين ، بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان ، إذ أتاني رئي فضربني برجله

      وقال : قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي ، واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن

      غالب ، يدعو إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :


      عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها


      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها

      فارحل إلى الصفوة من هاشم * ليس قداماها كأذنابها

      قال : قلت : دعني أنام ، فإني أمسيت ناعسا .


      قال : فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ، وقال : قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي ،

      واعقل إن كنت تعقل ، إنه بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته .


      ثم أنشأ يقول :


      عجبت للجن وتحيارها * وشدها العيس بأكوارها

      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن ككفارها

      فارحل إلى الصفوة من هاشم * بين روابيهاوأحجارها

      قال : قلت : دعني أنام فإني أمسيت ناعسا ، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال : قم

      يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي ، واعقل إن كنت تعقل ، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو

      إلى الله وإلى عبادته ، ثم أنشأ يقول :


      عجبت للجن وتحساسها * وشدها العيس بأحلاسها


      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما خير الجن كأنجاسها
      فارحل إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى راسها

      قال : فقمت وقلت : قد امتحن الله قلبي ، فرحلت ناقتي ، ثم أتيت المدينة - يعني مكة - فإذا رسول

      الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ، فدنوت فقلت : اسمع مقالتي يا رسول الله ، قال : هات .

      فأنشأت أقول :


      أتاني نجيي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد تلوت بكاذب


      ثلاث ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب

      فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت * بي الدعلب الوجناء غبر السباسب

      فأشهد أن الله لا شيء غيره * وأنك مأمون على كل غالب

      وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

      فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

      وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة * سواك بمغن عن سواد بن قارب

      قال : ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في

      وجوههم ، قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب فالتزمه وقال : قد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث

      منك ، فهل يأتيك رئيك اليوم ؟


      قال : أما منذ قرأت القرآن فلا ، ونعم العوض كتاب الله من الجن .


      ثم قال عمر : كنا يوما في حي من قريش يقال لهم : آل ذريح ، وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار

      يعالجه ، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل - ولا نرى شيئا - قال : يا آل ذريح : أمر نجيح ، صائح

      يصيح ، بلسان فصيح ،
      يشهد أن لاإله إلا الله . وهذا منقطع من هذا الوجه . ويشهد له رواية

      البخاري ، وقد تساعدوا على أن السامع الصوت من العجل هو عمر بن الخطاب ، والله أعلم .


      وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في ( هواتف الجان )

      : حدثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤدب ، حدثنا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن

      أبي ليلى ، حدثنا سعيد بن عبيد الله الوصابي ، عن أبيه ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : دخل

      سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : نشدتك بالله يا سواد بن قارب

      هل تحسن اليوم من كهانتك شيئا ؟


      فقال : سبحان الله يا أمير المؤمنين ، مااستقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به .


      قال : سبحان الله يا سواد ، ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك ، والله يا سواد

      لقد بلغني عنك حديث إنه لعجيب من العجب .


      قال : إي والله يا أمير المؤمنين إنه لعجب من العجب .


      قال : فحدثنيه .


      قال : كنت كاهنا في الجاهلية فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني نجي فضربني برجله ، ثم قال : يا سواد

      اسمع أقل لك .


      قلت : هات . قال :


      عجبت للجن وأنجاسها * ورحلها العيس بأحلاسها


      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنوها مثل أرجاسها

      فارحل إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى رأسها

      قال : فنمت ولم أحفل بقوله شيئا ، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ، ثم قال لي : قم يا

      سواد بن قارب اسمع أقل لك . قلت : هات . قال :


      عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها


      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها

      فارحل إلى الصفوة من هاشم * ليس المقاديم كأذنابها

      قال : فحرك قوله مني شيئا ونمت ، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله ، ثم قال : يا سواد

      بن قارب أتعقل أم لا تعقل ؟


      قلت : وما ذاك . قال : ظهر بمكة نبي يدعو إلى عبادة ربه فالحق به ، اسمع أقل لك .


      قلت : هات .


      قال :


      عجبت للجن وتنفارها * ورحلها العيس بأكوارها


      تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن ككفارها

      فارحل إلى الصفوة من هاشم * بين روابيها وأحجارها

      قال : فعلمت أن الله قد أراد بي خيرا فقمت إلى بردة لي ففتقتها ولبستها ، ووضعت رجلي في غرز

      ركاب الناقة ، وأقبلت حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرض علي الإسلام فأسلمت ،

      وأخبرته الخبر فقال : « إذا اجتمع المسلمون فأخبرهم » .


      فلما اجتمع المسلمون قمت فقلت :


      أتاني نجي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد بلوت بكاذب


      ثلاث ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب

      فشمرت عن ذيلي الأزار ووسطت * بي الدعلب الوجناء غبر السباسب

      وأعلم أن الله لا رب غيره * وأنك مأمون على كل غائب

      وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

      فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

      قال : فسر المسلمون بذلك ، فقال عمر : هل تحس اليوم منها بشيء ؟


      قال : أما إذ علمني الله القرآن فلا .


      وقد رواه محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه ، عن عمر بن حفص قال : لما ورد سواد بن قارب

      على عمر قال : يا سواد بن قارب ما بقي من كهانتك ؟ فغضب وقال : ما أظنك يا أمير المؤمنين

      استقبلت أحدا من العرب بمثل هذا ، فلما رأى ما في وجهه من الغضب قال : انظر سواد للذي كنا

      عليه قبل اليوم من الشرك أعظم .


      ثم قال : يا سواد حدثني حديثا كنت أشتهي أسمعه منك ، قال : نعم ، بين أنا في إبل لي بالسراة

      ليلا وأنا نائم ، وكان لي نجي من الجن أتاني ، فضربني برجله فقال لي : قم يا سواد بن قارب فقد

      ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فذكر القصة كما تقدم ،وزاد في آخر الشعر:


      وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة * سواك بمغن عن سواد بن قارب


      فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سر في قومك وقل هذا الشعر فيهم » .


      ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق سليمان بن عبد الرحمن ، عن الحكم بن يعلى بن عطاء

      المحاربي ، عن عباد بن عبد الصمد ، عن سعيد بن جبير قال : أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال

      :
      كنت نائما على جبل من جبال السراة ، فأتاني آت فضربني برجله ، وذكر القصة أيضا .


      ورواه أيضا من طريق محمد بن البراء ، عن أبي بكر ابن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال

      :
      قال سواد بن قارب : كنت نازلا بالهند فجاءني رئي ذات ليلة فذكر القصة . وقال بعد إنشاد الشعر

      الأخير :


      فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال : « أفلحت يا سواد » .


      وقال أبو نعيم في كتاب ( دلائل النبوة ) : حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، حدثنا عبد الرحمن بن

      الحسن علي بن حرب ، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب ، عن أبيه ، عن عبدالله العماني

      قال :


      كان منا رجل يقال له مازن بن العضوب يسدن صنما بقرية يقال لها سمايا من عمان ، وكانت تعظمه

      بنو الصامت ، وبنو حطامة ، ومهرة - وهم أخوال مازن - أمه زينب بنت عبد الله بن ربيعة بن

      خويص أحد بني نمران .


      قال مازن : فعترنا يوما عند الصنم عتيرة - وهي الذبيحة - فسمعت صوتا من الصنم يقول : يا

      مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر ، بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر ، فدع نحيتا من حجر ،

      تسلم من حر سقر .

      قال : ففزعت لذلك فزعا شديدا ، ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى ، فسمعت صوتا من الصنم يقول :

      أقبل إلي ، أقبل تسمع ما لا تجهل ، هذا نبي مرسل ، جاء بحق منزل ، فآمن به كي تعدل عن حر

      نار تشعل ، وقودها الجندل .


      قال مازن : فقلت : إن هذا لعجب ، وإن هذا لخير يراد بي ، وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت : ما

      الخبر وراءك ؟
      فقال : ظهر رجل يقال له أحمد ، يقول لمن أتاه : أجيبوا داعي الله .

      فقلت : هذا نبأ ما سمعت ، فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا ، وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول

      الله صلى الله عليه وسلم فشرح الله صدري للإسلام فأسلمت ،
      وقلت :


      كسرت باجرا أجذاذا وكان لنا * ربا نطيف به ضلا بتضلال


      فالهاشمي هدانا من ضلالتنا * ولم يكن دينه مني على بال

      يا راكبا بلِّغن عمرا وإخوتها * إني لمن قال ربي باجر قالي

      يعني يعمرو الصامت وإخوتها حطامة . فقلت يا رسول الله : إني امرؤ مولع بالطرب ، وبالهلوك من

      النساء وشرب الخمر ، وألحت علينا السنون فأذهبن الأموال ، وأهزلن السراري ، وليس لي ولد ،

      فادعُ الله أن يذهب عني ما أجد ويأتينا بالحيا ، ويهب لي ولدا .


      فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن ، وبالحرام الحلال ، وبالإثم

      وبالعهر عفة ، وآته بالحيا وهب له ولدا » .


      قال : فأذهب الله عني ما أجد ، وأخصبت عمان ، وتزوجت أربع حرائر ، وحفظت شطر القرآن ،

      ووهب لي حيان بن مازن ، وأنشأ يقول :


      إليك رسول الله خبت مطيتي * تجوب الفيافي من عمان إلى العرج


      لتشفع لي يا خير من وطىء الحصى * فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج

      إلى معشر خالفت في الله دينهم * فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي

      وكنت امرءا بالخمر والعهر مولعا * شبابي حتى آذن الجسم بالنهج

      فبدلني بالخمر خوفا وخشية * وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي

      فأصبحت همي في الجهاد ونيتي * فلله ما صومي ولله ما حجي

      قال : فلما أتيت قومي أنبوني وشتموني ، وأمروا شاعرا لهم فهجاني ، فقلت : إن رددت عليه فإنما

      أهجو نفسي ، فرحلت عنهم فأتتني منهم زلفة عظيمة ، وكنت القيم بأمورهم .


      فقالوا : يا ابن عم عبنا عليك أمرا وكرهنا ذلك ، فإن أبيت ذلك فارجع ، وقم بأمورنا ، وشأنك وما

      تدين ، فرجعت معهم وقلت :


      لبغضكم عندنا مر مذاقته * وبغضنا عندكم يا قومنا لبن


      لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم * وكلكم حين يثني عيبنا فطن

      شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم * في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن

      ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر * وفي قلوبكم البغضاء والإحن

      قال مازن : فهداهم الله بعد إلى الاسلام جميعا .


      وروى الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : إن أول

      خبر كان بالمدينة بمبعث
      رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن ،

      فجاء في صورة طائر أبيض ، فوقع على حائط لهم .
      فقالت له : لم لا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك ،

      وتخبرنا ونخبرك ؟

      فقال لها : إنه قد بعث نبي بمكة ، حرم الزنا ، ومنع منا القرار .


      وقال الواقدي : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : إن

      أول خبر قدم المدينة عن
      رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن امرأة تدعى فاطمة كان لها

      تابع ، فجاءها ذات يوم فقام على الجدار ،
      فقالت : ألا تنزل ؟

      فقال : لا إنه قد بعث الرسول الذي حرم الزنا .

      وأرسله بعض التابعين أيضا وسماه بابن لوذان ، وذكر أنه كان قد غاب عنها مدة ، ثم لما قدم

      عاتبته فقال : إني جئت الرسول فسمعته يحرم الزنا فعليك السلام .


      وقال الواقدي : حدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال : قال عثمان بن عفان :

      خرجنا في عير إلى الشام - قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما كنا بأفواه الشام -

      وبها كاهنة - فتعرضتنا فقالت : أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت : ألا تدخل ؟


      فقال : لا سبيل إلى ذلك خرج أحمد ، وجاء أمر لا يطاق . ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت

      رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة ، يدعو إلى الله عز وجل .


      وقال الواقدي : حدثني محمد بن عبد الله الزهري قال : كان الوحي يسمع ، فلما كان الإسلام منعوا

      ، وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيرة لها تابع من الجن ، فلما رأى الوحي لا يستطاع ، أتاها

      فدخل في صدرها ، فضج في صدرها فذهب عقلها ،
      فجعل يقول من صدرها : وضع العناق ، ومنع

      الرفاق ، وجاء أمر لا يطاق ، وأحمد حرم الزنا .



      يتبع بإذن الله تعالى


      تعليق


      • #33
        باب هواتف الجان

        وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي : حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد ، حدثنا عيسى بن يزيد ، عن صالح بن كيسان ، عمن حدثه ، عن مرداس بن قيس السدوسي قال : حضرت النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ذكرت عنده الكهانة وما كان من تغييرها عند مخرجه -

        فقلت : يا رسول الله قد كان عندنا في ذلك شيء ، أخبرك أن جارية منا يقال لها : الخلصة لم يعلم عليها إلا خيرا ، إذا جاءتنا فقالت : يا معشر دوس العجب العجب لما أصابني ،هل علمتم إلا خيرا ؟

        قلنا : وما ذاك . قالت : إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة ، ووجدت كحس الرجل مع المرأة فقد خشيت أن أكون قد حبلت ، حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاما أغضف له أذنان كأذني الكلب ، فمكث فينا حتى إنه ليلعب مع الغلمان ، إذ وثب وثبة وألقى إزاره وصاح بأعلى صوته ، وجعل يقول : يا ويلة يا ويلة ، يا عولة يا عولة ،يا ويل غنم ، يا ويل فهم من قابس النار ، الخيل والله وراء العقبة ، فيهن فتيان حسان نجبة .

        قال : فركبنا وأخذنا للأداة ، وقلنا : يا ويلك ما ترى ؟

        فقال : هل من جارية طامث ، فقلنا : ومن لنا بها ؟

        فقال شيخ منا : هي والله عندي عفيفة الأم ، فقلنا : فعجلها ، فأتى بالجارية وطلع الجبل ، وقال للجارية اطرحي ثوبك ، واخرجي في وجوههم .

        وقال للقوم : اتبعوا أثرها .

        وقال لرجل منا يقال له أحمد بن حابس : يا أحمد بن حابس عليك أول فارس ، فحمل أحمد فطعن أول فارس فصرعه ، وانهزموا فغنمناهم .

        قال : فابتنينا عليهم بيتا وسميناه ذا الخلصة ، وكان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول ، حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوما : يا معشر دوس نزلت بنو الحارث بن كعب فركبنا ، فقال لنا : اكدسوا الخيل كدسا ، احشوا القوم رمسا ، انفوهم غدية واشربوا الخمر عشية .

        قال : فلقيناهم ، فهزمونا وغلبونا ، فرجعنا إليه فقلنا : ما حالك وما الذي صنعت بنا ؟ فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه ، وانتصبت أذناه ، وانبرم غضبانا ، حتى كاد أن ينفطر وقام ، فركبنا واغتفرنا هذه له ، ومكثنا بعد ذلك حينا ، ثم دعانا فقال : هل لكم في غزوة تهب لكم عزا ، وتجعل لكم حرزا ، ويكون في أيديكم كنزا ؟

        فقلنا : ما أحوجنا إلى ذلك . فقال : اركبوافركبنا ، فقلنا : ما نقول ؟ فقال : بنو الحارث بن مسلمة . ثم قال : قفوا . فوقفنا .

        ثم قال : عليكم بفهم ، ثم قال : ليس لكم فيهم دم ، عليكم بمضرهم أرباب خيل ، ونعم . ثم قال : لا ، رهط دريد بن الصمة قليل العدد ، وفي الذمة ثم قال : لا . ولكن عليكم بكعب بن ربيعة وأسكنوها ضيعة عامر بن صعصعة ، فليكن بهم الوقيعة .

        قال : فلقيناهم فهزمونا ، وفضحونا فرجعنا ، وقلنا : ويلك ماذا تصنع بنا ؟ قال : ما أدري كذبني الذي كان يصدقني ، اسجنوني في بيتي ثلاثا ، ثم ائتوني ، ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة ، ففتحنا عنه فإذا هو كأنه حجرة نار .

        فقال : يا معشر دوس ، حرست السماء وخرج خير الأنبياء . قلنا : أين ؟ قال : بمكة ، وأناميت فادفنوني في رأس جبل ، فإني سوف أضطرم نارا ، وإن تركتموني كنت عليكم عارا ، فإذا رأيتم اضطرامي وتلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار ،ثم قولوا مع كل حجر : بسمك اللهم فإني أهدى وأطفى .

        قال : وإنه مات فاشتعل نار ، ففعلنا به ما أمر ، وقد قذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كل حجر : بسمك اللهم فخمد وطفى ، وأقمنا حتى قدم علينا الحاج فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله . غريب جدا .


        وروى الواقدي
        ، عن أبيه ، عن ابن أبي ذئب ، عن مسلم بن جندب ، عن النضر بن سفيان الهذلي ، عن أبيه قال : خرجنا في عير لنا إلى الشام ، فلما كنا بين الزرقا ومعان ، قد عرسنا من الليل ، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض : أيها النيام هبوا ، فليس هذا بحين رقاد ، قد خرج أحمد فطردت الجن كل مطرد ، ففزعنا ونحن رفقة حزورة ، كلهم قد سمع بهذا .


        فرجعنا إلى أهلنا ، فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد ، ذكره أبو نعيم .

        وقال الخرائطي : حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد ، حدثني عبد الله بن العلاء ، حدثني يحيى بن عروة ، عن أبيه أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وعبد الله بن جحش بن رئاب ،وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه ، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا .

        كانوا يعظمونه وينحرون له الجزور ، ثم يأكلون ويشربون الخمر ، ويعكفون عليه فدخلوا عليه في الليل ، فرأوه مكبوبا على وجهه ، فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله ، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا ، فأخذوه فردوه إلى حاله ، فانقلب الثالثة ، فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك .

        فقال عثمان بن الحويرث : ما له قد أكثر التنكس إن هذا الأمر قد حدث ، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عثمان يقول :

        أبا صنم العيد الذي صُفَّ حوله * صناديد وفد من بعيد ومن قُرب

        تنكّست مغلوبا فما ذاك قُلْ لنا * أذاك سفيه أم تنكست للعتب

        فإن كان من ذنب أتينا فإننا * نبوءُ بإقرار ونلوي عن الذنب

        وإن كنت مغلوبا ونُكِّست صاغرا * فما أنت في الأوثان بالسيد الرب

        قال : فأخذوا الصنم فردوه إلى حاله ، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول :

        تردّى لمولود أنارتْ بنوره * جميع فجاج الأرض في الشرق والغرب

        وخرت له الأوثان طرا وأرعدتْ * قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
        ونار جميع الفرس باخت وأظلمت * وقد بات شاهُ الفرس في أعظم الكرب
        وصدّتْ عن الكهان بالغيب جنّها * فلا مخبرُ عنهم بحق ولا كذب

        فيا لقصيِّ ارجعوا عن ضلالكم * وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب

        قال : فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا ، فقال بعضهم لبعض : تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض ، فقالوا : أجل . فقال لهم ورقة بن نوفل : تعلمون والله ما قومكم على دين ، ولقد اخطئوا الحجة وتركوا دين إبراهيم ، ما حجر تطيفون به لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا ينفع ، ولا يضر ، يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين ، فإنكم و الله ما أنتم على شيء .

        قال : فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ، ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ؛ فأما ورقة بن نوفل فتنصر وقرأ الكتب حتى علم علما .

        وأما عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده .

        وأما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس ، ثم إنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة ، فلقي بها راهبا عالما فأخبره بالذي يطلب ، فقال له الراهب : إنك لتطلب دينا ما تجد من يحملك عليه ، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك ، يبعث بدين الحنيفية ، فلما قال له ذلك ، رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه .

        وأما عبد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة ، فلما صار بها تنصر وفارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيا . تقدم في ترجمة زيد بن عمر بن نفيل له شاهد .


        وقد قال الخرائطي : حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح أبو بكر الوراق ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز ، حدثني محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي ، عن العباس بن مرداس أنه كان يعر في لقاح له نصف النهار ، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بياض مثل اللبن .


        فقال : يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء قد كفت أحراسها ، وأن الحرب تجرعت أنفاسها ، وأن الخيل وضعت أحلاسها ، وأن الذي نزل بالبر والتقوى ، يوم الإثنين ليلة الثلاثاء ، صاحب الناقة القصوى .

        قال : فرجعت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت ، حتى جئت وثنا لنا يدعى الضماد وكنا نعبده ونكلم من جوفه ، فكنست ما حوله ، ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوفه يقول :

        قلْ للقبائل من سليم كلها * هلك الضماد وفاز أهلُ المسجد

        هلك الضماد وكان يُعبدُ مرة * قبل الصلاة مع النبي محمد

        إن الذي ورِث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريشٍ مهتد

        قال : فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة ، وأخبرتهم الخبر ، وخرجت في ثلاثمائة من قومي بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة ، فدخلنا المسجد فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي :

        « يا عباس ، كيف كان إسلامك ؟ » فقصصت عليه القصة .

        قال فسر بذلك ، وأسلمت أنا وقومي .


        ورواه الحافظ أبو نعيم في ( الدلائل ) من حديث أبي بكر بن أبي عاصم عن عمرو بن عثمان به .


        ثم رواه أيضا من طريق الأصمعي : حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر ، عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي ، عن العباس بن مرداس السلمي قال : أول إسلامي أن مرداسا أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضماذ ، فجعلته في بيت ، وجعلت آتيه كل يوم مرة ، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعت صوتا مرسلا في جوف الليل راعني ، فوثبت إلى ضماد مستغيثا وإذا بالصوت من جوفه وهو يقول :

        قل للقبيلة من سليم كلها * هلك الأنيس وعاش أهل المسجد

        أودى ضماد وكان يعبد مرة * قبل الكتاب إلى النبي محمد

        إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد

        قال : فكتمته الناس ، فلما رجع الناس من الأحزاب ، بينا أنا في إبلي بطرف العقيق من ذات عرق راقدا ، سمعت صوتا وإذا برجل على جناح نعامة وهو يقول : النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في ديار إخوان بني العنقاء ، فأجابه هاتف من شماله وهو يقول :

        بشر الجن وإبلاسها * إن وضعت المطي أحلاسها

        وكلأَتِ السماء أحراسها

        قال : فوثبت مذعورا ، وعلمت أن محمدا مرسل ، فركبت فرسي واحتثثت السير ، حتى انتهيت إليه فبايعته ثم انصرفت إلى ضماد فأحرقته بالنار ، ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشدته شعرا أقول فيه :

        لعمرك إني يوم أجعل جاهلا * ضمادا لرب العالمين مشاركا

        وتركي رسول الله والأوس حوله * أولئك أنصار له ما أولئكا

        كتاركِ سهل الأرض والحزن يبتغي * ليسلك في وعثِ الأمور المسالكا

        فآمنت بالله الذي أنا عبدهُ * وخالفت من أمسى يريد المهالكا

        ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا * أبايع نبي الأكرمين المباركا

        نبي أتانا بعد عيسى بناطقٍ * من الحق فيه الفصل فيه كذلكا

        أمين على القرآن أولُ شافع * وأول مبعوث يجيب الملائكا

        تلافى عرى الإسلام بعد انتقاضها * فأحكمها حتى أقام المناسكا

        عنيتُك يا خير البرية كلها * توسطتَ في الفرعين والمجد مالكا

        وأنتَ المصفى من قريش إذا سمت * على ضمرها تبقى القرون المباركا

        إذا انتسب الحيان كعب ومالك * وجدناك محضا والنساء العواركا


        قال الخرائطي : وحدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر ، حدثنا عمارة بن زيد ، حدثنا إسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني شيخ من الأنصار يقال له : عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة قال :


        بلغني أن رجالا من خثعم كانوا يقولون : إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوما نعبد الأوثان ، فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه ، يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم ، إذ هتف بهم هاتف يقول :

        يا أيها الناس ذوو الأجسام * من بين أشياخٍ إلى غلام

        ما أنتم وطائش الأحلام * ومسند الحُكم إلى الأصنام
        أكلكم في حيرةٍ نيام * أم لا تَرون ما الذي أمامي
        من ساطع يجلو دُجى الظلام * قد لاح للناظر من تِهَام
        ذاك نبي سيد الأنام * قد جاء بعد الكفر بالإسلام
        أكرمه الرحمن من إمام * ومن رسولٍ صادق الكلام

        أعدل ذي حكم من الأحكام * يأمرُ بالصلاة والصيام

        والبر والصلات للأرحام * ويزجرُ الناس عن الآثام
        والرجسِ والأوثانِ والحرام * من هاشمٍ في ذروة السنام
        مستعلنا في البلد الحرام

        قال : فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه ، وآتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمنا .


        وقال الخرائطي : حدثنا عبد الله البلوي ، حدثنا عمارة ، حدثني عبيد الله بن العلاء ، حدثنا محمد بن عكبر ، عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له : رافع بن عمير - وكان أهدى الناس للطريق ، وأسراهم بليل ، وأهجمهم على هول ، وكانت العرب تسميه لذلك دعموص العرب ، لهدايته وجراوته على السير - فذكر عن بدء إسلامه قال :


        إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم ، فنزلت عن راحلتي ونختها وتوسدت ذراعها ونمت ، وقد تعوذت قبل نومي فقلت : أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن من أن أوذي أو أهاج ، فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي وبيده حربة يريد أن يضعها في نحرها ، فانتبهت لذلك فزعا ، فنظرت يمينا وشمالا فلم أرَ شيئا فقلت : هذا حلم .

        ثم عدت فغفوت فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى ، فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أرَ شيئا، وإذا ناقتي ترعد .

        ثم غفوت فرأيت مثل ذلك ، فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام بيده حربة ، ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها وهو يقول :

        يا مالكَ بن مهلهل بن دِثار * مهلا فدىً لك مئزري وإزاري

        عن ناقةِ الأنسي لا تعرض لها * واختَرْ بها ما شئت من أثواري

        ولقد بدا لي منكَ ما لم أحتسب * ألا رعيتَ قرابتي وذِماري

        تسمو إليه بحربةٍ مسمومةٍ * تُبا لفعلك يا أبا الغفار

        لولا الحياءُ وأن أهلك جيرة * لعلمت ما كشّفتُ من أخباري

        قال : فأجابه الشاب وهو يقول :

        أأردتَ أن تعلو وتخفض ذكرنا * في غير مزرية أبا العيزار
        ما كان فيهم سيد فيما مضى * إن الخيارَ هُمو بنو الأخيار

        فاقصِدْ لقصدك يا معكبرُ إنما * كان المجيرُ مُهلهِلَ بن دثار

        قال : فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش ، فقال الشيخ للفتى : قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداءً لناقة جاري الأنسي ، فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف.ثم التفت إلى الشيخ فقال : يا هذا إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هو له فقل : أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي ، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها .

        قال : فقلت له : ومن محمد هذا ؟ قال : نبي عربي ، لا شرقي ولا غربي ، بعث يوم الإثنين .

        قلت : وأين مسكنه ؟ قال : يثرب ذات النخل .

        قال : فركبت راحلتي حين برق لي الصبح ، وجددت السير حتى تقحمت المدينة ، فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثني بحديث قبل أن أذكر له منه شيئا ، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت .

        قال سعيد بن جبير : وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا } [٢٧٨] .


        وروى الخرائطي من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، عن داود بن الحسين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن علي قال : إذا كنت بوادٍ تخاف السبع فقل : أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد .


        وروى البلوي عن عمارة بن زيد ، عن إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني يحيى بن عبد الله بن الحارث ، عن أبيه ، عن ابن عباس قصة قتال علي الجن بالبئر ذات العلم التي بالجحفة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقي لهم الماء ، فأرادوا منعه وقطعوا الدلو فنزل إليهم ، وهي قصة مطولة منكرة جدا ، والله أعلم .

        وقال الخرائطي : حدثني أبو الحارث : محمد بن مصعب الدمشقي وغيره ، حدثنا سليمان بن بنت شرحبيل الدمشقي ، حدثنا عبد القدوس بن الحجاج ، حدثنا خالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن رجل قال :

        كنت في مجلس عمر بن الخطاب وعنده جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكرون فضائل القرآن ، فقال بعضهم : خواتيم سورة النحل ، وقال بعضهم : سورة يس ، وقال علي : فأين أنتم عن فضيلة آية الكرسي أما إنها سبعون كلمة في كل كلمة بركة . قال وفي القوم عمرو بن معدي كرب لا يحير جوابا ، فقال : أين أنتم عن بسم الله الرحمن الرحيم ؟

        فقال عمر : حدثنا يا أبا ثور .

        قال : بينا أنا في الجاهلية إذ جهدني الجوع فأقحمت فرسي في البرية ، فما أصبت إلا بيض النعام ، فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخ عربي في خيمة ، وإلى جانبه جارية كأنها شمس طالعة ومعه غنيمات له ، فقلت له : استأسر ثكلتك أمك ، فرفع رأسه إلي وقال : يا فتى إن أردت قرى فانزل ، وإن أردت معونة أعنَّاك ؟

        فقلت له : أستأسر .

        فقال :

        عرضنا عليك النّزْل منا تكرما * فلم ترعوي جهلا كفعل الأشائم

        وجئتَ ببهتان وزور ودون ما * تمنّيتهُ بالبيض حزُّ الغلاصم

        قال : ووثب إلي وثبة وهو يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، فكأني مثلت تحته . ثم قال : أقتلك أم أخلي عنك ؟ قلت : بل خلِّ عني . قال :فخلى عني . ثم إن نفسي جاذبتني بالمعاودة فقلت : استأسر ثكلتك أمك ، فقال :

        ببسم الله والرحمن فُزْنا * هنالك والرحيمُ به قَهَرنا

        وما تغني جلادة ذي حفاظٍ * إذا يوما لمعركة برزنا

        ثم وثب لي وثبة كأني مثلت تحته . فقال : أقتلك أم أخلي عنك ؟ قال : قلت بل خل عني ، فخلى عني فانطلقت غير بعيد . ثم قلت في نفسي : يا عمرو أيقهرك هذا الشيخ ، والله للموت خير لك من الحياة ، فرجعت إليه فقلت له : استأسر ثكلتك أمك ، فوثب إلي وثبة وهو يقول : بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته .

        فقال : أقتلك أم أخلي عنك ؟ قلت : بل خل عني . فقال : هيهات ، يا جارية إئتني بالمدية ، فأتته بالمدية فجزَّ ناصيتي . وكانت العرب إذا ظفرت برجل فجزت ناصيته استعبدته ، فكنت معه أخدمه مدة .

        ثم إنه قال : يا عمرو أريد أن تركب معي البرية ، وليس بي منك وجل ، فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق .

        قال : فسرنا حتى أتينا واديا أشبا مهولا مغولا ، فنادى بأعلى صوته : بسم الله الرحمن الرحيم ، فلم يبق طير في وكره إلا طار . ثم أعاد القول فلم يبق سبع في مربضه إلا هرب . ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحبشي قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السحوق .

        فقال لي : ياعمرو إذ رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم .

        قال : فلما رأيتهما قد اتحدا قلت : غلبه صاحبي باللات والعزى فلم يصنع الشيخ شيئا ، فرجع إلي وقال : قد علمت أنك قد خالفت قولي

        قلت : أجل ولست بعائد ، فقال : إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم ، فقلت : أجل . فلما رأيتهما قد اتحدا قلت : غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم ، فاتكأ عليه الشيخ ، فبعجه بسيفه فاشتق بطنه فاستخرج منه شيئا كهيئة القنديل الأسود . ثم قال : يا عمرو هذا غشه وغله . ثم قال : أتدري من تلك الجارية ؟ قلت : لا .

        قال : تلك الفارعة بنت السليل الجرهمي من خيار الجن ، وهؤلاء أهلها بنو عمها يغزونني منهم كل عام رجل ينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم .

        ثم قال : قد رأيت ما كان مني إلى الحبشي ،وقد غلب علي الجوع فائتني بشيء آكله ، فأقحمت بفرسي البرية ، فما أصبت الأبيض النعام ، فأتيته به فوجدته نائما ، وإذا تحت رأسه شيء كهيئة الحشبة ، فاستللته فإذا هو سيف عرضه شبر في سبعة أشبار ، فضربت ساقيه ضربة أبنت الساقين مع القدمين ، فاستوى على قفا ظهره وهو يقول : قاتلك الله ما أغدرك يا غدار .

        قال عمر : ثم ماذا صنعت ؟ قلت : فلم أزل أضربه بسيفي حتى قطعته إربا إربا . قال : فوجم لذلك ثم أنشأ يقول :

        بالغدر نلت أخا الإسلام عن كثب * ما إن سمعت كذا في سالف العرب

        والعجم تأنف مما جئته كرما * تبا لما جئته في السيدالأرب

        إني لأعجب أني نلت قتلته * أم كيف جازاك عند الذنب لم تنب

        قرم عفا عنك مرات وقد علقت * بالجسم منك يداه موضع العطب

        لو كنت آخذٍ في الإسلام ما فعلوا * في الجاهلية أهل الشرك والصلب

        إذا لنالتك من عدلي مشطبة * تدعو لذائقها بالويل والحرب

        قال : ثم ما كان من حال الجارية قلت : ثم إني أتيت الجارية فلما رأتني قالت : ما فعل الشيخ ؟ قلت : قتله الحبشي . فقالت : كذبت بل قتلته أنت بغدرك ، ثم أنشأت تقول :

        يا عين جودي للفارس المغوار * ثم جوديبواكفات غزار

        لا تملي البكاء إذ خانك الدهر * بواف حقيقة صبار

        وتقي وذي وقار وحلم * وعديل الفخار يوم الفخار

        لهف نفسي على بقائك عمرو * أسلمتك الأعمار للأقدار

        ولعمري لو لم ترمه بغدر * رمت ليثا كصارم بتار

        قال : فأحفظني قولها فاستللت سيفي ودخلت الخيمة لأقتلها ، فلم أر في الخيمة أحدا ، فاستقت الماشية وجئت إلى أهلي وهذا أثر عجيب .

        والظاهر أن الشيخ كان من الجان ، وكان ممن أسلم وتعلم القرآن ، وفيما تعلمه بسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يتعوذ بها .


        وقال الخرائطي :
        حدثنا عبد الله بن محمد البلوى ، حدثنا عمارة بن زيد قال : حدثني عبد الله بن العلاء ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : كان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل يذكران أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة ، قالا : فلما دخلنا عليه قال لنا : أصدقاني أيها القرشيان هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه فضرب عليه بالقداح فسلم ، ونحرت عنه إبل كثيرة ؟


        قلنا : نعم . قال : فهل لكما علم به ما فعل ؟ قلنا : تزوج امرأة يقال لها آمنة بنت وهب ، تركها حاملا وخرج . قال : فهل تعلمان ولد أم لا ؟ قال ورقة بن نوفل : أخبرك أيها الملك أني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول :

        ولد النبي فذلت الأملاك * ونأى الضلال وأدبر الإشراك

        ثم انتكس الصنم على وجهه ، فقال زيد بن عمرو بن نفيل : عندي كخبره أيها الملك . قال : هات . قال : أنا في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه ، خرجت من عند أهلي وهم يذكرون حمل آمنة ، حتى أتيت جبل أبي قبيس أريد الخلو فيه لأمر رابني ، إذ رأيت رجلا نزل من السماء له جناحان أخضران ، فوقف على أبي قبيس ، ثم أشرف على مكة فقال : ذل الشيطان ، وبطلت الأوثان ، ولد الأمين .

        ثم نشر ثوبا معه ، وأهوى به نحو المشرق والمغرب ، فرأيته قد جلل ما تحت السماء ،وسطع نور كاد أن يختطف بصري ، وهالني ما رأيت ، وخفق الهاتف بجناحيه حتى سقط على الكعبة ، فسطع له نور أشرقت له تهامة .

        وقال : ذكت الأرض ، وأدت ربيعها ، وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة فسقطت كلها .

        قال النجاشي : ويحكما أخبركما عما أصابني ؛ إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبة وقت خلوتي ، إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس ، وهو يقول : حل الويل بأصحاب الفيل ، رمتهم طير أبابيل ، بحجارة من سجيل ، هلك الأشرم المعتدي المجرم ، وولد النبي الأمي المكي الحرمي ، من أجابه سعد ، ومن أباه عتد .

        ثم دخل الأرض فغاب ، فذهبت أصيح فلم أطق الكلام ، ورمت القيام فلم أطق ، القيام فصرعت القبة بيدي فسمع بذلك أهلي فجاؤني . فقلت : أحجبوا عني الحبشة فحجبوهم عني ، ثم أطلق عن لساني ورجلي .

        وسيأتي إن شاء الله تعالى في قصة المولد رؤيا كسرى في سقوط أربع عشرة شرافة من إيوانه ، وخمود نيرانه ، ورؤيا موئذانه ، وتفسير سطيح لذلك على يدي عبد المسيح .


        يتبع بإذن الله تعالى

        تعليق


        • #34
          باب في هواتف الجان

          وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ( تاريخه ) في ترجمة الحارث بن هانىء بن المدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه ،عن زمل بنعمروالعذري قال : كان لبني عذرة صنم يقال له حمام ، وكانوا يعظمونه ، وكان في بني هند بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة ، وكان سادنه رجلا يقال له طارق ، وكانوا يعترون عنده .

          فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول : يا بني هند بن حرام ظهر الحق ، وأودى صمام ، ودفع الشرك الإسلام . قال : ففزعنا لذلك وهالنا فمكثنا أياما ، ثم سمعنا صوتا وهو يقول : يا طارق يا طارق ، بعث النبي الصادق ، بوحي ناطق ، صدع صادع بأرض تهامة ، لناصريه السلامة ، ولخاذليه الندامة ، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة .

          قال زمل : فوقع الصنم لوجهه . قال : فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي ، وأنشدته شعرا قلته :

          إليك رسول الله أعملت نصها * وكلفتها حزنا وغورا من الرمل

          لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا * وأعقد حبلا من حبالك في حبلي

          وأشهد أن الله لا شيء غيره * أدين به ما أثقلت قدمي نعلي


          قال : فأسلمت وبايعته ، وأخبرناه بما سمعنافقال : ذاك من كلام الجن ، ثم قال : يا معشر العرب إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم وإلى الأنام كافة ، أدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وإني رسوله وعبده ، وأن تحجوا البيت ، وتصوموا شهرا من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان ، فمن أجابني فله الجنة نزلا ، ومن عصاني كانت النار له منقلبا .


          قال : فأسلمنا وعقد لنا لواء ، وكتب لنا كتابا نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة ، إني بعثته إلى قومه عامدا فمن أسلم ففي حزب الله ورسوله ، ومن أبى فله أمان شهرين ، شهد علي بن أبي طالب ، ومحمد بن مسلمة الأنصاري . ثم قال ابن عساكر غريب جدا .

          وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في ( مغازيه ) : حدثني محمد بن سعيد - يعني عمه - قال : قال محمد بن المنكدر : إنه ذكر لي عن ابن عباس قال : هتف هاتف من الجن على أبي قبيس فقال :

          قبح الله رأيكم آل فهر * ما أدق العقول والأفهام

          حين تعصى لمن يعيب عليها * دين آبائها الحماة الكرام

          حالف الجن جن بصرى عليكم * ورجال النخيل والآطام

          توشك الخيل أن تردها تهادى * تقتل القوم في حرام بهام

          هل كريم منكم له نفس حر * ماجذ الوالدين والأعمام

          ضارب ضربة تكون نكالا * ورواحا من كربة واغتمام

          قال ابن عباس : فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

          « هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له : مسعر والله مخزيه » .

          فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول :

          نحن قتلنا في ثلاث مسعرا * إذ سفه الجن وسن المنكرا

          قنعته سيفا حساما مشهرا * بشتمه نبينا المطهرا

          فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هذا عفريت من الجن اسمه سمج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه ثلاثة أيام » .

          فقال علي : جزاه الله خيرا يا رسول الله .


          وقد روى الحافظ أبو نعيم في ( الدلائل ) قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن بن جعفر ، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن أبي حرب الصفار ، حدثنا عباس بن الفرج الرياشي ، حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت ، عن أبيه ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، عن سعد بن عبادة قال :



          بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة ، حتى إذا كنت في بعض الطريق ساعة من الليل ، فسمعت هاتفا يقول :

          أبا عمرو ناوبني السهود * وراح النوم وامتنع الهجود

          لذكر عصابة سلفوا وبادوا * وكل الخلق قصرهم يبيد

          تولوا واردين إلى المنايا * حياضا ليس منهلها الورود

          مضوا لسبيلهم وبقيت خلفا * وحيدا ليس يسعفني وحيد
          سدى لا أستطيع علاج أمر * إذا ما عالج الطفل الوليد

          فلأيا ما بقيت إلى أناس * وقد باتت بمهلكها ثمود

          وعاد والقرون بذي شعوب * سواء كلهم إرم حصيد

          قال : ثم صاح به آخر : يا خرعب ذهب بك العجب إن العجب كل العجب بين زهرة ويثرب .

          قال : وما ذاك يا شاحب ؟

          قال : نبي السلام ، بعث بخير الكلام إلى جميع الأنام ، فاخرج من البلد الحرام ، إلى نخيل وآطام .

          قال : ما هذا النبي المرسل ، والكتاب المنزل ، والأمي المفضل ؟

          قال : رجل من ولد لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .

          قال : هيهات فات عن هذا سني ، وذهب عنه زمني ، لقد رأيتني والنضر بن كنانة نرمي غرضا واحدا ، ونشرب حلبا باردا ، ولقد خرجت به من دوحة في غداة شبمة ، وطلع مع الشمس ، وغرب معها ، يروي ما يسمع ، ويثبت ما يبصر ، ولئن كان هذا من ولده لقد سل السيف ، وذهب الخوف ، ودحض الزنا ، وهلك الربا .

          قال : فأخبرني ما يكون .

          قال : ذهبت الضراء والبؤس ، والمجاعة والشدة والشجاعة ، إلا بقية في خزاعة ، وذهبت الضراء والبؤس ، والخلق المنفوس إلا بقية من الخزرج والأوس ، وذهبت الخيلاء والفخر ، والنميمة والغدر ، إلا بقية في بني بكر - يعني ابن هوازن - وذهب الفعل المندم ،والعمل المؤتم ،إلا بقية في خثعم .

          قال : أخبرني ما يكون . قال : إذا غلبت البرة ، وكظمت الحرة ، فاخرج من بلاد الهجرة ، وإذا كف السلام ، وقطعت الأرحام ، فاخرج من البلد الحرام .

          قال : أخبرني ما يكون . قال : لولا أذن تسمع ، وعين تلمع ، لأخبرتك بما تفزع . ثم قال :

          لا منام هدأته بنعيم * يا ابن غوط ولا صباح أتانا

          قال : ثم صرصر صرصرة كأنها صرصرة حبلى ، فذهب الفجر فذهبت لأنظر فإذا عظاية وثعبان ميتان .

          قال : فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث .

          ثم رواه عن محمد بن جعفر ، عن إبراهيم بن علي ، عن النضر بن سلمة ، عن حسان بن عبادة بن موسى ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر ، عن ابن عباس ، عن سعد بن عبادة قال : لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، خرجت إلى حضر موت لبعض الحاج ، قال : فقضيت حاجتي ، ثم أقبلت حتى إذا كنت ببعض الطريق نمت ، ففزعت من الليل بصائح يقول :

          أبا عمرو ناوبني السهود * وراح النوم وانقطع الهجود

          وذكر مثله بطوله .


          وقال أبو نعيم : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن علي ، حدثنا النضر بن سلمة ، حدثنا أبو غزية محمد بن موسى ، عن العطاف بن خالد الوصابي ، عن خالد بن سعيد ، عن أبيه قال : سمعت تميما الداري يقول : كنت بالشام حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت لبعض حاجتي فأدركني الليل ، فقلت : أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة .


          قال : فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمناد ينادي - لا أراه - عذبا لله فإن الجن لا تجير أحدا على الله ، فقلت : أيم الله تقول ؟ فقال : قد خرج رسول الأميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا خلفه بالحجون .

          فأسلمنا واتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب ، فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين فأسلم .

          قال تميم : فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب ،فسألت راهبا وأخبرته الخبر ، فقال الراهب : قد صدقوك ، يخرج من الحرم ومهاجره الحرم ، وهو خير الأنبياء ، فلا تسبق إليه .

          قال تميم : فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت .


          وقال حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الله بن يزيد الهذلي ، عن عبد الله بن ساعدة الهذلي ، عن أبيه قال : كنا عند صنمنا سواع ، وقد جلبنا إليه غنما لنا مائتي شاة قد أصابها جرب ، فأدنيناها منه لنطلب بركته ، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي : قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد .


          قال : فقلت : غويت والله ، فصدقت وجه غنمي منجدا إلى أهلي ، فرأيت رجلا فخبرني بظهور النبي صلى الله عليه وسلم . ذكره أبو نعيم هكذا معلقا ، ثم قال : حدثنا عمر بن محمد بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن السندي ، حدثنا النضر بن سلمة ، حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي ، حدثنا يحيى بن سليمان ، عن حكيم بن عطاء الظفري من بني سليم من ولد راشد بن عبد ربه ، عن أبيه ، عن جده ، عن راشد بن عبد ربه قال :

          كان الصنم الذي يقال له : سواع بالمعلاة من رهط تدين له هذيل وبنو ظفر بن سليم ، فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية من سليم إلى سواع ، قال راشد : فألقيت مع الفجر إلى صنم قبل صنم سواع ، فإذا صارخ يصرخ من جوفه : العجب كل العجب من خروج نبي من بني عبد المطلب ، يحرم الزنا والربا والذبح للأصنام ، وحرست السماء ، ورمينا بالشهب ، العجب كل العجب .

          ثم هتف صنم آخر من جوفه ترك الضمار وكان يعبد خرج النبي أحمد يصلي الصلاة ، ويأمر بالزكاة ، والصيام ، والبر والصلات للأرحام ، ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف يقول :

          إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد

          نبي أتى يخبر بما سبق * وبما يكون اليوم حقا أو غد

          قال راشد : فألفيت سواعا مع الفجر وثعلبان يلحسان ما حوله ، ويأكلان ما يهدى له ، ثم يعوجان عليه ببولهما ، فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه :

          أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب

          وذلك عند مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومهاجره إلى المدينة وتسامع الناس به .

          فخرج راشد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ومعه كلب له ، واسم راشد يومئذ ظالم ، واسم كلبه راشد .

          فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما اسمك ؟ »

          قال : ظالم .

          قال : « فما اسم كلبك ؟ »

          قال : راشد .

          قال : « اسمك راشد ، واسم كلبك ظالم » وضحك النبي صلى الله عليه وسلم .

          وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة معه ، ثم طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيعة برهاط - ووصفها له - فأقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعلاة من رهاط شأو الفرس ، ورميته ثلاث مرات بحجر ، وأعطاه إداوة مملوءة من ماء وتفل فيها ، وقال له : فرغها في أعلى القطيعة ولا تمنع الناس فضلها .

          ففعل فجعل الماء معينا يجري إلى اليوم ، فغرس عليها النخل . ويقال : إن رهاط كلها تشرب منه ، فسماها الناس ماء الرسول صلى الله عليه وسلم . وأهل رهاط يغتسلون بها وبلغت رمية راشد الركب الذي يقال له ركب الحجر ، وغدا راشد على سواع فكسره .


          وقال أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي ، حدثنا أبومحمد عبد الله بن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن مسرع بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدثنا أبي ، عن أبيه دلهاث ، عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه ، عن أبيه مسرع بن ياسر ، أن أباه ياسر حدثه ، عن عمرو بن مرة الجهني أنه كان يحدث قال :


          خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية ، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب ، وأشعر جهينة ، فسمعت صوتا في النور وهو يقول :

          انقشعت الظلماء ، وسطع الضياء ، وبعث خاتم الأنبياء

          ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة ، وأبيض المدائن ، فسمعت صوتا في النور وهو يقول :

          ظهر الإسلام ، وكسرت الأصنام ، ووصلت الأرحام

          فانتبهت فزعا فقلت لقومي : والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث ، وأخبرتهم بما رأيت ، فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث ،فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال :

          « يا عمرو بن مرة إني المرسل إلى العباد كافة ، أدعوهم إلى الإسلام ، وآمرهم بحقن الدماء ، وصلة الأرحام ، وعبادة الله وحده ، ورفض الأصنام ، وحج البيت ، وصيام شهر من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان ، فمن أجاب فله الجنة ، ومن عصى فله النار ، فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم » .

          فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام ، وإن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام .

          ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به ، وكان لنا صنم ، وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ، ثم لحقت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول :

          شهدت بأن الله حق وأنني * لآلهة الأحجار أول تارك

          فشمرت عن ساقي إزار مهاجر * إليك أدب الغور بعد الدكادك

          لأصحب خير الناس نفسا ووالدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك

          فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مرحبا بك يا عمرو بن مرة » .

          فقلت : يا رسول الله بابي وأنت وأمي ، ابعث بي إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم ، كما من بك علي ، فبعثني إليه وقال : « عليك بالقول السديد ، ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا » .

          فأتيت قومي فقلت لهم : يا بني رفاعة ، ثم يا بني جهينة ، إني رسول من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أدعوكم إلى الجنة ، وأحذركم النار ، وآمركم بحقن الدماء ، وصلة الأرحام ، وعبادة الله ، ورفض الأصنام ، وحج البيت ، وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا ، فمن أجاب فله الجنة ، ومن عصى فله النار .

          يا معشر جهينة - إن الله وله الحمد - جعلكم خيار من أنتم منه ، وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث ، لأنهم كانوا يجمعون بين الأختين ، ويخلف الرجل منهم على امرأة أبيه والتراث في الشهر الحرام ، فأجيبوا هذا النبي المرسل صلى الله عليه وسلم من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة ، سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله .

          فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال : يا عمرو بن مرة أمر الله عليك عيشك ، أتأمرنا أن نرفض آلهتنا ، ونفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة ؟ لا ولا مرحبا ولا كرامة ، ثم أنشأ الخبيث يقول :

          إن ابن مرة قد أتى بمقالة * ليست مقالة من يريد صلاحا

          إني لأحسب قوله وفعاله * يوما وإن طال الزمان رياحا

          أتسفه الأشياخ ممن قد مضى * من رام ذلك لا أصاب فلاحا

          فقال عمرو بن مرة : الكاذب مني ومنك أمر الله عيشه ، وأبكم لسانه ، وأكمه بصره .

          قال عمرو بن مرة : والله ما مات حتى سقط فوه ، وكان لا يجد طعم الطعام ، وعمى وخرس .

          وخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحب بهم وحباهم ، وكتب لهم كتابا هذه نسخته : « بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله ، بكتاب صادق ، وحق ناطق ، مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد ، إن لكم بطون الأرض وسهولها ، وتلاع الأودية وظهورها ، ترعون نباته ، وتشربون صافيه ، على أن تقروا بالخمس ، وتصلوا الصلوات الخمس ، وفي التبعة والصريمة شاتان إن اجتمعتا ، وإن تفرقتا فشاة شاة ، ليس على أهل الميرة صدقة ، ليس الوردة اللبقة » .

          وشهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس رضي الله عنهم ، وذلك حين يقول عمرو بن مرة :

          ألم تر أن الله أظهر دينه * وبين برهان القران لعامر

          كتاب من الرحمن نور لجمعنا * وأحلافنا في كل باد وحاضر

          إلى خير من يمشي على الأرض كلها * وأفضلها عند اعتكار الصرائر

          أطعنا رسول الله لما تقطعت * بطون الأعادي بالظبي والخواطر

          فنحن قبيل قد بني المجد حولنا * إذا اجتلبت في الحرب هام الأكابر
          بنو الحرب نفريها بأيد طويلة * وبيض تلالا في أكف المغاور

          ترى حوله الأنصار تحمي أميرهم * بسمر العوالي والصفاح البواتر

          إذا الحرب دارت عند كل عظيمة * ودارت رحاها بالليوث الهواصر

          تبلج منه اللون وازداد وجهه * كمثل ضياء البدر بين الزواهر


          وقال أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي في ( مغازيه ) : حدثنا عبد الله ، حدثنا أبو عبد الله ، حدثنا المجالد بن سعيد والأجلح عن الشعبي ، حدثني شيخ من جهينة قال : مرض منا رجل مرضا شديدا فنقل حتى حفرنا له قبره ، وهيأنا أمره ، فأغمي عليه ، ثم فتح عينيه وأفاق ، فقال : أحفرتم لي ؟


          قالوا : نعم . قال : فما فعل الفصل - وهو ابن عم له -

          قلنا : صالح مر آنفا يسأل عنك . قال : أما إنه يوشك أن يجعل في حفرتي إنه أتاني آت حين أغمي علي فقال : ابك هبل أما ترى حفرتك تنتثل ، وأمك قد كادت تثكل ، أرأيتك أن حولناها عنك بالمحول ، ثم ملأناها بالجندل ،وقدفنا فيها الفصل الذي مضى فأجزأك ، وظن أن لن يفعل ، أتشكر لربك وتصل وتدع دين من أشرك وضل ؟

          قال : قلت : نعم . قال : قم ، قد برئت . قال : فبرىء الرجل ، ومات الفصل فجعل في حفرته ، قال الجهيني : فرأيت الجهيني بعد ذلك يصلي ، ويسب الأوثان ويقع فيها .


          وقال الأموي : حدثنا عبد الله قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس يتحدثون عن الجن فقال خريم بن فاتك الأسدي لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ألا أحدثك كيف كان إسلامي ؟


          قال : بلى . قال : إني يوما في طلب ذود لي أنا منها على أثر تنصب وتصعد ، حتى إذا كنت بابرق العراق أنخت راحلتي ، وقلت : أعوذ بعظيم هذه البلدة ، أعوذ برئيس هذا الوادي من سفهاء قومه ، فإذا بهاتف يهتف بي :

          ويحك ، عذ بالله ذي الجلال * والمجد والعلياء والإفضال

          ثم اتل آيات من الأنفال * ووحد الله ولا تبالي

          قال : فذعرت ذعرا شديدا ، ثم رجعت إلى نفسي فقلت :

          يا أيها الهاتف ما تقول * أرشد عندك أم تضليل

          بين هداك الله ما الحويل

          قال : فقال :

          هذا رسول الله ذو الخيرات * بيثرب يدعو إلى النجاة

          يأمر بالبر وبالصلاة * ويزع الناس عن الهنات

          قال : قلت له : والله لا أبرح حتى أتيه وأومن به ، فنصبت رجلي في غرز راحلتي وقلت :


          أرشدني أرشدني هديتا * لا جعت ما عشت ولا عريتا

          ولا برحت سيدا مقيتا * لا تؤثر الخير الذي أتيتا
          على جميع الجن ما بقيتا

          فقال :

          صاحبك الله وأدى رحلكا * وعظم الأجر وعافا نفسكا

          آمن به أفلج ربي حقكا * وانصره نصرا عزيزا نصركا

          قال : قلت : من أنت عافاك الله حتى أخبره إذا قدمت عليه ؟

          فقال : أنا ملك بن ملك ، وأنا نقيبه على جن نصيبين ، وكفيت إبلك حتى أضمها إلى أهلك إن شاء الله .

          قال : فخرجت حتى أتيت المدينة يوم الجمعة والناس أرسال إلى المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر كأنه البدر يخطب الناس ، فقلت : أنيخ على باب المسجد حتى يصلي ، وأدخل عليه فأسلم وأخبره عن إسلامي ، فلما أنخت خرج إلى أبو ذر فقال : مرحبا وأهلا وسهلا قد بلغنا إسلامك ، فادخل فصل ففعلت .

          ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني بإسلامي .

          فقلت : الحمد لله .

          قال : « أما إن صاحبك قد وفى لك وهو أهل ذلك وأدى إبلك إلى أهلك » .


          وقد رواه الطبراني في ترجمة خريم بن فاتكمن ( معجمه الكبير ) قائلا : حدثنا الحسين بن إسحاق اليسيري ، حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي ، حدثنا عبد الله بن موسى الأسكندري ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ألا أخبرك كيف كان بدء إسلامي ؟


          قال : بلى ، فذكره غير أنه قال : فخرج إلى أبو بكر الصديق فقال : ادخل فقد بلغنا إسلامك ،فقلت : لا أحسن الطهور ، فعلمني فدخلت المسجد فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه البدر وهو يقول :

          « ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها إلا دخل الجنة » .

          فقال لي عمر : لتأتيني على هذا ببينة ، أولأنكلن بك ، فشهد لي شيخ قريش عثمان بن عفان ، فأجاز شهادته .


          ثم رواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن تيم ، عن محمد بن خليفة ، عن محمد بن الحسن ، عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب لخريم بن فاتك : حدثني بحديث يعجبني ، فذكر مثل السياق الأول سواء .



          وقال أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، عن عبد الله بن الديلمي قال : أتى رجل ابن عباس فقال : بلغنا أنك تذكر سطيحا تزعم أن الله خلقه ، لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه ؟


          قال : قال : نعم ، إن الله خلق سطيحا الغساني لحما على وضم ، ولم يكن فيه عظم ولاعصب إلا الجمجمة والكفان ، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب ، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه ، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمة ، فأتي به مكة فخرج إليه أربعة من قريش:

          عبد شمس ، وهاشم ابنا عبد مناف بن قصي ، والأحوص بن فهر ، وعقيل بن أبي وقاص ، فانتموا إلى غير نسبهم وقالوا : نحن أناس من جمح أتيناك بلغنا قدومك ، فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا ، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية ، وصعدة ردينية ، فوضعت على باب البيت الحرام ، لينظروا أهل يراها سطيح أم لا .

          فقال : يا عقيل ناولني يدك ، فناوله يده فقال : يا عقيل والعالم الخفية ، والغافر الخطية ، والذمة الوفية ، والكعبة المبنية ، إنك للجائي بالهدية الصفيحة الهندية ، والصعدة الردينية .

          قالوا : صدقت يا سطيح . فقال : والآتي بالفرح ، وقوس قزح ، وسائر الفرح ، واللطيم المنبطح ، والنخل والرطب والبلح ، إن الغراب حيث مر سنح ، فأخبر أن القوم ليسوا من جمح ، وإن نسبهم من قريش ذي البطح .

          قالوا : صدقت يا سطيح نحن أهل البيت الحرام ، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك ، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا ، وما يكون بعده ، فلعل أن يكون عندك في ذلك علم .

          قال : الآن صدقتم ، خذوا مني ومن إلهام الله إياي ، أنتم يا معشر العرب في زمان الهرم ، سواء بصائركم وبصائر العجم ، لا علم عندكم ولا فهم ، وينشو من عقبكم ذوو فهم ، يطلبون أنواع العلم ، فيكسرون الصنم ، ويبلغون الردم ، ويقتلون العجم ، يطلبون الغنم .

          قالوا يا سطيح : فمن يكون أولئك ؟

          فقال لهم : والبيت ذي الأركان ، والأمن والسكان ، لينشؤن من عقبكم ولدان ، يكسرون الأوثان ، وينكرون عبادة الشيطان ، ويوحدون الرحمن ، وينشرون دين الديان ، يشرفون البنيان ، ويستفتون الفتيان .

          قالوا : يا سطيح من نسل من يكون أولئك ؟

          قال : وأشرف الأشراف ، والمفضي للأشراف ،والمزعزع الأحقاف ، والمضعف الأضعاف ، لينشؤن الألاف من عبد شمس وعبد مناف ، نشوءا يكون فيه اختلاف .

          قالوا : يا سوءتاه يا سطيح مما تخبرنا من العلم بأمرهم ، ومن أي بلد يخرج أولئك ؟

          فقال : والباقي الأبد ، والبالغ الأمد ، ليخرجن من ذا البلد فتى يهدي إلى الرشد ، يرفض يغوث والفند ، يبرأ من عبادة الضدد ، يعبد ربا انفرد ، ثم يتوفاه الله محمودا ، من الأرض مفقودا ، وفي السماء مشهودا .

          ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق ، في رد الحقوق لا خرق ولا نزق .

          ثم يلي أمره الحنيف ، مجرب غطريف ، ويترك قول العنيف ، قد ضاف المضيف ، وأحكم التحنيف .

          ثم يلي أمره داعيا لأمره مجربا ، فتجتمع له جموعا وعصبا ، فيقتلونه نقمة عليه وغضبا ، فيؤخذ الشيخ فيذبح أربا ، فيقوم به رجال خطباء .

          ثم يلي أمره الناصر يخلط الرأي برأي المناكر ، يظهر في الأرض العساكر .

          ثم يلي بعده ابنه ، يأخذ جمعه ، ويقل حمده ، ويأخذ المال ، ويأكل وحده ، ويكثر المال بعقبه من بعده .

          ثم يلي من بعده عدة ملوك ، لا شك الدم فيهم مسفوك .

          ثم بعدهم الصعلوك ، يطويهم كطي الدرنوك ، ثم يلي من بعده عظهور ، يقضي الحق ، ويدني مصر ، يفتتح الأرض افتتاحا منكرا .

          ثم يلي قصير القامة بظهره علامة يموت موتا وسلامة .
          ثم يلي قليلا باكر ، يترك الملك بائر ، يلي أخوه بسنته سابر يختص بالأموال والمنابر .
          ثم يلي من بعده أهوج صاحب دنيا ، ونعيم مخلج ، يتشاوره معاشر وذووه ينهوضون إليه يخلعونه ، بأخذ الملك ويقتلونه .
          ثم يلي أمره من بعده السابع ، يترك الملك محلا ضائع بنوه في ملكه كالمشوه جامع ، عند ذلك يطمع في الملك كل عريان .
          ويلي أمره اللهفان يرضي نزارا جمع قحطان ، إذا التقيا بدمشق جمعان بين بنيان ولبنان ، يصنف اليمن يومئذ صنفان ، صنف المشورة ، وصنف المخذول ، لا ترى الأحباء محلول ،وأسيرا مغلول ، بين القراب والخيول ، عند ذلك تخرب المنازل ، وتسلب الأرامل ، وتسقط الحوامل ، وتظهر الزلازل ، وتطلب الخلافة وائل ، فتغضب نزار ، فتدنى العبيد والأشرار ، وتقصي الأمثال والأخيار ، وتغلو الأسعار في صفر الأصفار ، يقتل كل حيا منه .
          ثم يسيرون إلى خنادق وإنها ذات أشعار وأشجار ، تصد له الأنهار ، ويهزمهم أول النهار ، تظهر الأخيار ، فلا ينفعهم نوم ولا قرار ، حتى يدخل مصرا من الأمصار ، فيدركه القضاء والأقدار .
          ثم يجيء الرماة تلف مشاة ، لقتل الكماة ، وأسر الحماة ، وتهلك الغواة ، هنالك يدرك في أعلى المياه . ثم يبور الدين ، وتقلب الأمور ، وتكفر الزبور ، وتقطع الجسور ، فلا يفلت إلا من كان في جزائر البحور ، ثم تبور الحبوب ، وتظهر الأعاريب ، ليس فيهم معيب على أهل الفسوق والريب ، في زمان عصيب ، لو كان للقوم حيا وما تغني المنى .

          قالوا : ثم ماذا يا سطيح ؟

          قال : ثم يظهر رجل من أهل اليمن كالشطن يذهب الله على رأسه الفتن . وهذا أثر غريب كتباه لغرابته وما تضمن من الفتن والملاحم . وقد تقدم قصة شق وسطيح مع ربيعة بن نصر ملك اليمن ، وكيف بشر بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          وكذلك تقدم قصة سطيح مع ابن أخته عبد المسيح حين أرسله ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، وذلك ليلة مولد الذي نسخ بشريعته سائر الأديان .

          تعليق


          • #35
            باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

            باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم



            بسم الله الرحمن الرحيم

            باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم .

            كان ذلك وله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة .

            وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب : أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثا وأربعين سنة .

            قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :

            أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، وكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ؛ ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء .

            فجاءه الملك فقال : اقرأ .

            فقال : ما أنا بقارئ .

            قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني .

            فقال : اقرأ .

            فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني .

            فقال : اقرأ .

            فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد .

            ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [1] .

            فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع .

            فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي .

            فقالت خديجة : كلا والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتحمل الكل ،وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الحق .

            فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، ابن عم خديجة .
            وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي .

            فقالت له خديجة : يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما أُري .

            فقال له ورقة : هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا ، إذ يخرجك قومك .

            فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أومخرجي هم ؟ »

            فقال : نعم ، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .

            ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة ، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك .

            قال : فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له : مثل ذلك .

            هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري .


            قال ابن شهاب : وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه : « بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرعبت منه فرجعت ، فقلت : زملوني ، زملوني . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [2] فحمي الوحي وتتابع » .


            ثم قال البخاري : تابعه عبد الله بن يوسف ، وأبو صالح ، يعني عن الليث ، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري . وقال يونس ومعمر : بوادره .

            وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه ، وتكلمنا عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي إسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به ، ومن طريق يونس ومعمر ، عن الزهري كما علقه البخاري عنهما . وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم ورواياته ولله الحمد ، وانتهى سياقه إلى قول ورقة : أنصرك نصرا مؤزرا .

            فقول أم المؤمنين عائشة : أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار ، عن عبيد بن عمر الليثي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فجاءني جبريل ، وأنا نائم ، بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ . فقلت : ما أقرأ ؟ فغتني ، حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني » .

            وذكر نحو حديث عائشة سواء ، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة ، وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة ، عن الزهري ، أنه رأى ذلك في المنام ، ثم جاءه الملك في اليقظة .

            وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه ( دلائل النبوة ) : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جناب بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن الأجلح ، عن إبراهيم ، عن علقمة بن قيس قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام ، حتى تهدأ قلوبهم ، ثم ينزل الوحي بعد .

            وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه . وهو كلام حسن يؤيده ما قبله ، ويؤيده ما بعده .



            يتبع بإذن الله تعالى



            تعليق


            • #36
              عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها

              عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها

              قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل ، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة . فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة .


              فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي ، وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل .


              وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال : وحديث عائشة لا ينافي هذا ، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا .

              ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء ، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل ، فعلَّمه بعدما غطه ثلاث مرات ، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث ، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل .

              وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين ، فمكث بمكة عشرا ، وبالمدينة عشرا .

              ومات وهو ابن ثلاث وستين ، وهكذا روى يحيى بن سعيد ، وسعيد بن المسيب .

              ثم روى أحمد ، عن غندر ، ويزيد بن هارون ، كلاهما عن هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُنزل عليه القرآن ، وهو ابن أربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة عشر سنين . ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة .

              وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، قال : أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة : سبع سنين يرى الضوء ، ويسمع الصوت ، وثماني سنين يوحى إليه ، وأقام بالمدينة عشر سنين .

              قال أبو شامة : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك :

              ما في صحيح مسلم : عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن » . انتهى كلامه .

              وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه ، لما يراهم عليه من الضلال المبين ، من عبادة الأوثان ، والسجود للأصنام ، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه . .

              وقد ذكر محمد بن إسحاق ، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة - قال : وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال :

              وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه . وكان من نسك قريش في الجاهلية ، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته وقضائه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة .

              وهكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك ، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش ، أنهم يجاورون في حراء للعبادة ، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :

              وثورٍ ومَن أرْسَى ثبيرا مَكانه * وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازِلِ

              هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي ،وأبو شامة ، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله ، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه : وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم .

              وحراء : يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع ، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى ، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية ، والغار في تلك الحنية ، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج :

              فَلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّن * وربِّ رُكنٍ من حِراءَ مُنْحني

              وقوله في الحديث : والتحنث التعبد ، تفسير بالمعنى ، وإلافحقيقة التحنث من حنث البِنْيَة فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث ، ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء .


              كحنث : أي خرج من الحنث ، وتحوب ، وتحرج ، وتأثم ، وتهجد هو ترك الهجود وهو : النوم للصلاة ، وتنجس وتقذر ، أوردها أبو شامة .

              وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد . فقال : لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام .

              قال ابن هشام : والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء ، كما قالوا : جدف وجذف كما قال رؤبة بن العجاج .

              لو كان أحجاري مع الأحذاف

              يريد الأجداث . قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول : فُمَّ في موضع ثمَّ .

              قلت : ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها .

              وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا ؟ وما ذلك الشرع ؟ فقيل : شرع نوح ، وقيل : شرع إبراهيم ، وهو الأشبه الأقوى . وقيل : موسى ، وقيل : عيسى ، وقيل : كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه ، وعمل به .

              ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه . والله أعلم .

              وقوله : حتى فجئه الحق وهو بغار حراء : أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } الآية [3] .

              وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [4] .

              وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير ، وكما سيأتي أيضا في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : سئل عن صوم يوم الاثنين ؟ فقال : « ذاك يوم ولدت فيه ، ويوم أنزل عليّ فيه »

              وقال ابن عباس : ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين .

              وهكذا قال عبيد بن عمير ، وأبو جعفر الباقر ، وغير واحد من العلماء : أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين ، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم .

              ثم قيل : كان ذلك في شهر ربيع الأول ، كما تقدم عن ابن عباس وجابر ، أنه ولد عليه السلام ، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين ، وفيه بعث ، وفيه عرج به إلى السماء ، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان ، كما نصَّ على ذلك عبيد بن عمير ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهما .

              قال ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى :{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } [5] .

              فقيل في عشره .

              وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال : كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان ، وقيل في الرابع والعشرين منه .

              قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة بن الأسقع ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

              « أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان » .

              وروى ابن مردويه في ( تفسيره ) عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه ، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين .


              وأما قول جبريل : اقرأ .

              فقال : « ما أنا بقارئ » فالصحيح أنقوله : « ما أنا بقارئ » نفي : أي لست ممن يحسن القراءة .

              وممن رجحه النووي ، وقبله الشيخ أبو شامة ،ومن قال : إنها استفهامية فقوله بعيد ؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات .

              ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان ، عن أبيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو خائف يرعد - « ما قرأت كتابا قط ، ولا أحسنه ، وما أكتب ، وما أقرأ » فأخذه جبريل فغتَّه غتا شديدا . ثم تركه .

              فقال له : اقرأ .

              فقال محمد صلى الله عليه وسلم :« ما أرى شيئا أقرأه ، و ما أقرأ ، وما أكتب ».

              يروى "فغطني" كما في ( الصحيحين ) ، و"غتني" ، ويروى "قد غتني" : أي خنقني حتى بلغ مني الجهد ، يروى بضم الجيم ، وفتحها ، وبالنصب ، وبالرفع ، وفعل به ذلك ثلاثا .

              قال أبو سليمان الخطابي : وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره ، ويحسن تأديبه ، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة ، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم ، وتأخذه الرحضاء : أي البهر والعرق .

              وقال غيره : إنما فعل ذلك لأمور :

              منها : أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس . كما قال تعالى :{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } [6] .

              ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمرُّ وجهه ، ويغطّ كما يغطّ البكر من الإبل ، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد .

              وقوله فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده .

              وفي رواية : بوادره ، جمع بادرة .

              قال أبو عبيدة : وهي لحمة بين المنكب والعنق .

              وقال غيره : هو عروق تضطرب عند الفزع ، وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة . وقيل : بادل ، وهو ما بين العنق والترقوة ، وقيل : أصل الثدي ، وقيل : لحم الثديين ، وقيل : غير ذلك .

              فقال : « زملوني ، زملوني » فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة : « مالي ؟ أي شيء عرض لي ؟ » وأخبرها ما كان من الأمر .

              ثم قال : « لقد خشيت على نفسي » . وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك . ولا كان في خلده . ولهذا قالت خديجة : ابشر ، كلا والله لا يخزيك الله أبدا .

              قيل : من الخزي ، وقيل : من الحزن ، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة .

              فقالت : إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث - وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكلّ. أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله .


              وتكسب المعدوم : أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك ، ويسمى الفقير معدوما ؛ لأن حياته ناقصة . فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم :

              ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ * إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء

              وقال أبو الحسن التهامي ، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم :

              عدَّ ذا الفقر ميتا وكساهُ * كفنا باليا ومأواه قبرا

              وقال الخطابي : الصواب وتكسب المعدم ، أي : تبذل إليه ، أو يكون تلبس العدم بعطيته مالا يعيش به . .

              واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى : أي يعطى المال لمن هو عادمه .

              ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم ، أو النفيس القليل النظير ، فقد أبعد النجعة ، وأغرق في النزع ، وتكلف ما ليس له به علم ، فإن مثل هذا لا يمدح به غالبا ، وقد ضعَّف هذا القول عياض ، والنووي وغيرهما ، والله أعلم .


              وتقري الضيف :
              أي تكرمه في تقديم قراه ، وإحسان مأواه .


              وتعين على نوائب الحق ، ويروي الخير : أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها ، وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قوامامن عيش .

              وقوله : ثم أخذتْه فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل ، وكان شيخا كبيرا قد عمي .

              وقد قدَّمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله .

              وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية ، ففارقهم وارتحل إلى الشام ، هو وزيد بن عمرو ، وعثمان بن الحويرث ، وعبيد الله بن جحش ، فتنصروا كلهم ؛ لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق ، إلا زيد بن عمرو بن نفيل ؛ فإنه رأى فيه دخلا ، وتخبيطا ، وتبديلا ، وتحريفا ، وتأويلا ، فأبت فطرته الدخول فيه أيضا .

              وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي ، قد أزف زمانه ، واقترب أوانه ، فرجع يتطلب ذلك ،واستمر على فطرته ، وتوحيده .

              لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية . وأدركها ورقة بن نوفل ، وكان يتوسمها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له ، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة ، وما ظهر عليه من الدلائل ، والآيات .

              ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت به إليه فوقفت به عليه ، وقالت : ابن عم اسمع من ابن أخيك .

              فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى قال ورقة : سبُّوح سبُّوح ، هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ولم يذكر عيسى ، وإن كان متأخرا بعد موسى ؛ لأنه كانت شريعته متممة ، ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام ، ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء .

              كما قال : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [7] .

              وقول ورقة هذا كما قالت الجن : { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } . [8] .

              ثم قال ورقة : يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك : يعني حتى أخرج معك وأنصرك ؟

              فعندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أو مخرجي هم ؟ »

              قال السهيلي : وإنما قال ذلك ؛ لأن فراق الوطن شديد على النفوس ، فقال : نعم!إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي . .

              وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا : أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا .

              وقوله : « ثم لم ينشب ورقة أن توفي » : أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه ، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد،وإيمان بما حصل من الوحي ،ونية صالحة للمستقبل .


              وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، عن ابن لهيعة ، حدثني أبو الأسود ، عن عروة ، عن عائشة . أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل فقال : « قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض ، فأحسبه لو كان من أهل النار ، لم يكن عليه ثياب بياض » .


              وهذا إسناد حسن ، لكن رواه الزهري ، وهشام ، عن عروة مرسلا فالله أعلم .


              وروى الحافظ أبو يعلى ، عن شريح بن يونس ، عن إسماعيل ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال : « قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض ، أبصرته في بطنان الجنة ، وعليه السندس » .


              وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال : « يبعث يوم القيامة أمة وحده » .

              وسئل عن أبي طالب فقال : « أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها » .

              وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن .

              فقال : « أبصرتها على نهر في الجنة ، في بيت من قصب ، لا صخب فيه ، ولا ، نصب » .

              إسناد حسن ، ولبعضه شواهد في ( الصحيح ) ، والله أعلم .

              وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسبوا ورقة ؛ فإني رأيت له جنة ، أو جنتين » .

              وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ،عن عائشة .

              وهذا إسناد جيد ، وروي مرسلا وهو أشبه .


              روى الحافظان البيهقي ، وأبو نعيم ، في كتابيهما ( دلائل النبوة ) من حديث يونس بن بكير ،عن يونس بن عمرو ، عن أبيه ، عن عمرو بن شرحبيل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة : « إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر » .


              قالت : معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك . فوالله إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث .

              فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت له خديجة حديثه له فقالت :يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده أبو بكر .

              فقال انطلق بنا إلى ورقة .

              قال : « ومن أخبرك ؟ »

              قال : خديجة .

              فانطلقا إليه فقصا عليه .

              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي : يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض » .

              فقال له لا تفعل . إذا أتاك فاثبت ، حتى تسمع ما يقول لك ، ثم ائتني فأخبرني .

              فلما خلا ناداه يا محمد قل : { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } حتى بلغ : { ولا الضالين } قل لا إله إلا الله .

              فأتى ورقة فذكر له ذلك ، فقال له ورقة : ابشر ثم ابشر .

              فأنا أشهد أنك الذي بشَّر بك ابن مريم ، وإنك على مثل ناموس موسى ، وأنك نبي مرسل ، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا .

              ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك .

              فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير ؛ لأنه آمن بي وصدقني » . يعني : ورقة .

              هذا لفظ البيهقي . وهو مرسل وفيه غرابة ، وهو كون الفاتحة أول ما نزل .

              وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان ، وعقده عليه ، وتأكده عنده .

              وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة ، وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ .

              فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا ، منها قوله :

              لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لأمرٍ طالما بعث النشيجا

              ووصف من خديجة بعد وصفٍ * فقد طال انتظاري يا خديجا
              ببطن المكَّتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا
              بما أخبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا
              بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا
              ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم به البرية أن تعوجا
              فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا

              فياليتي إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا
              ولو كان الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا
              أرجّي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا

              فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لهاضجيجا
              وقال أيضا في قصيدته الأخرى :

              وأخبار صدق خبرت عن محمدٍ * يخِّبرها عنه إذا غاب ناصح

              بأن ابن عبد الله أحمد مرسلٌ * إلى كل من ضمت عليه الأباطح
              وظني به ٌأن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح
              وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الحق واضح

              ويتبعه حيا لؤي بن غالبٍ * شبابهم والأشيبون الجحاجح
              فإن ابق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الودِّ فارح

              وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح .
              وقال يونس عن بكير ، عن ابن إسحاق قال ورقة :

              فان يكُ حقا يا خديجة فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل

              وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل
              يفوز به من فاز فيها بتوبةٍ * ويشقى به العاني الغرير المضلَّل
              فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأحواز الجحيم تعلَّل

              إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت * مقامع في هاماتهم ثم تشعل
              فسبحان من يهوي الرياح بأمره * ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
              ومن عرشه فوق السموات كلها * واقضاؤه في خلقه لا تبدل

              وقال ورقة أيضا :

              يا للرجال وصَرْف الدهر والقدر * وما لشيءٍ قضاه الله من غير

              حتى خديجة تدعوني لأخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
              وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر
              بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر
              فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه * لك الإله فرجِّي الخيروانتظري
              وأرسليه إلينا كي نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر
              فقال حين أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر
              إني رأيت أمين الله واجهني * في صورة أكملت من أعظم الصور

              ثم استمر فكاد الخوف يذعرني * مما يسلِّم من حولي من الشجر
              فقلت ظني وما أدري أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو مُنزل السور

              وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا منّ ولا كدر

              هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل ،وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم .

              وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية -عن بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة ، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر البيوب عنه ، ويفضي إلى شعاب مكة ، وبطون أوديتها ، فلا يمر بحجر ، ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله .

              قال فيلتفت حوله عن يمينه ، وعن شماله ، وخلفه ، فلا يرى إلا الشجر والحجارة . فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ، ما شاء الله أن يمكث ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله ، وهو بحراء في شهر رمضان .

              قال ابن إسحاق : وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال : سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدثنا يا عبيد ، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ، حين جاءه جبريل قال : فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس - : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث قال : وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية ، والتحنث : التبرز .

              فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى جواره من شهره ذلك ،كان أول ما يبدأ به ، إذا انصرف من جواره الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا ، أو ما شاء الله من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التي بعثه فيها .

              وذلك الشهر شهر رمضان ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، ورحم العباد به ، جاءه جبريل بأمر الله تعالى .

              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب .

              فقال اقرأ ،قلت ما أقرأ ؟ قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني .

              فقال : اقرأ ؛ قال : قلت ما أقرأ ؟ قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني .

              فقال اقرأ ،قلت ما أقرأ ؟

              قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني .

              فقال اقرأ ، قلت : ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي .

              فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [9] .

              قال : فقرأتها ، ثم انتهى وانصرف عني ، وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا .

              قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول :يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل .

              قال : فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء ، يقول : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل .

              فوقفت أنظر إليه ، فما أتقدم ، وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك .

              فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ، وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها ، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عني .

              وانصرفت راجعا إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها.

              فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ، ورجعوا إليّ .

              ثم حدثتها بالذي رأيت .

              فقالت : أبشر يا ابن العم ، واثبت ، فوالذي نفس خديجة بيده ، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة .

              ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

              فقال ورقة : قدوس ، قدوس ، والذي نفس ورقة بيده ؛ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبي هذه الأمة ، وقولي له : فليثبت .

              فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف ، صنع كما كان يصنع ، بدأ بالكعبة فطاف بها ، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة .

              فقال : يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت ، فأخبره .

              فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ، ولتكذبنه ، ولتؤذينه ، ولتخرجنه ، ولتقاتلنه ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه .

              ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله .

              وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة ، كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة ، والله أعلم .

              وقال موسى بن عقبة : عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : وكان فيما بلغنا أول ما رأى - يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام ، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب ، وشرح صدرها للتصديق .

              فقالت : أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا ، ثم إنه خرج من عندها ، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر ، ثم أعيد كما كان .

              قالت : هذا والله خير فأبشر .

              ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة ، فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت ، واللؤلؤ ، فبشره برسالة الله عز وجل ، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم » .

              فقال له جبريل : اقرأ ، فقال : كيف اقرأ ؟ فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [10] .

              قال : ويزعم ناس أن { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } أول سورة نزلت عليه ، والله أعلم .

              قال فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه ، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله ، فلما انصرف منقلبا إلى بيته ، جعل لا يمرُّ على شجر ، ولا حجر ، إلا سلَّم عليه ، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما .

              فلما دخل على خديجة قال : أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن إليّ ، أرسله إليّ ربي عزَّ وجل ، وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه .

              فقالت : أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا ، وأقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق ، وأبشر فإنك رسول الله حقا .

              ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له : عداس ، فقالت له : يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل ؟

              فقال : قدوس قدوس ، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان ؟

              فقالت : أخبرني بعلمك فيه .

              قال : فإنه أمين الله بينه وبين النبيين ، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام .

              فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه جبريل .

              فقال لها ورقة : يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وأقسم بالله لئن كان إياه ، ثم أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر .

              فمات ورقة رحمه الله .


              قال الزهري : فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم .



              قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه : والذي ذكر فيه من شق بطنه ، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه ، يعني : شق بطنه عند حليمة ، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى ، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم .


              وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي . قال :بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة ، والكرامة رؤيا كان يراها ، فقصَّ ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد ، فقالت له : ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا .

              فبينما هو ذات يوم في حراء ، وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة ، فوضع جبريل يده على صدره ، ومن خلفه بين كتفيه .

              فقال : اللهم احطط وزره ، واشرح صدره ، وطهر قلبه ، يا محمد أبشر!فإنك نبي هذه الأمة .

              اقرأ ، فقال له نبي الله : - وهو خائف يرعد - ماقرأت كتابا قط ، ولا أحسنه ، وما أكتب ، وماأقرأ.

              فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ، ثم تركه ، ثم قال له : اقرأ ، فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك ، فرأى فيه من صفاءه ، وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت ،وقال له : « اقرأ باسم ربك الذي خلق » الآيات .

              ثم قال له : لا تخف يا محمد إنك رسول الله ، ثم انصرف وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه فقال كيف أصنع ؟ وكيف أقول لقومي ؟

              ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف ، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما ملأ صدره .

              فقال له جبريل : لا تخف يا محمد : جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله ، فأيقن بكرامة الله ، فإنك رسول الله .

              فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا هو ساجد يقول : السلام عليك يا رسول الله .

              فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه ، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك ، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول : لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم .

              فقال : يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام ، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة ، وأهال منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني وأقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إليّ فأخبرني أني نبي هذه الأمة ، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر ، وحجارة ، فقلن السلام عليك يا رسول الله .

              فقالت خديجة : أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود ، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيرى الراهب ، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة .

              فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك ، ثم خرجت إلى الراهب ، وكان قريبا من مكة ، فلما دنت منه وعرفها .

              قال : مالك يا سيدة نساء قريش ؟

              فقالت : أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل ؟

              فقال : سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان ؟ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله ، وهو صاحب موسى ، وعيسى ، فعرفت كرامة الله لمحمد .

              ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له : عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد .

              قال : جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه ، وكان معه حين كلمه الله على الطور ، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به .

              ثم قامت من عنده ، فأتت ورقة بن نوفل ، فسألته عن جبريل ، فقال لها مثل ذلك ، ثم سألها ماالخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له ، فحلف لها .

              فقالت له : إن ابن عبد الله ذكر لي ، وهو صادق ، أحلف بالله ما كذب ولا كذب ، أنه نزل عليه جبريل بحراء ، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة ، وأقرأه آيات أرسل بها .

              قال : فذعر ورقة لذلك ، وقال : لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض ، وما نزل إلا على نبي ، وهو صاحب الأنبياء والرسل ، يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه ، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله ، وأسمع من قوله ، وأحدثه ، فإني أخاف أن يكون غير جبريل ، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها مجنونا .

              فقامت من عنده ، وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة ، فأنزل الله تعالى : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } الآيات [11] .

              فقال لها : كلا والله إنه لجبريل .

              فقالت له : أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة : هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة ؟

              فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة جبريل ، وما رآه من عظمته ، وما أوحاه إليه .

              فقال ورقة : أشهد أن هذا جبريل ، وأن هذاكلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وأنه لأمر نبوة فإن أُدرك زمانك أتبعك ، ثم قال : أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به .

              قال : وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على الملأ من قومه ، قال وفتر الوحي .

              فقالوا : لو كان من عند الله لتتابع ، ولكن الله قلاه فأنزل الله ( والضحى ) و ( ألم نشرح ) بكمالهما .

              وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس عن ابن إسحاق ، حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير ، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد ، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بيّنه مما أكرمه الله به من نبوته :

              يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك .

              فقال : نعم!

              فقالت : إذا جاءك فأخبرني .

              فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

              فقال : يا خديجة! هذا جبريل .

              فقالت : أتراه الآن ؟

              قال : نعم!

              قالت : فاجلس إلى شقي الأيمن ، فتحول فجلس ، فقالت : أتراه الآن ؟

              قال : نعم!

              قالت : فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها فقالت : هل تراه الآن ؟

              قال : نعم!

              فتحسرت رأسها فشالت خمارها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها

              فقالت : هل تراه الآن ؟

              قال : لا .

              قالت : ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم ، فاثبت وأبشر ، ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق .

              قال ابن إسحاق : فحدثت عبد الله بن حسن هذاالحديث ، فقال : قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة ، إلا أني سمعتها تقول : أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام .

              قال البيهقي : وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقا .

              فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان قد وثق بما قال له جبريل ، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى ، وما كان من تسليم الشجر ، والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليما .

              وقد قال مسلم في ( صحيحه ) : حدثنا أبو بكربن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، حدثني سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه .

              أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني لأعرف حجرا بمكة ، كان يسلم عليَّ قبل أن بعث ، إني لأعرفه الآن » .

              وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن بمكة لحجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت ، إني لأعرفه إذا مررت عليه » .

              وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، عن عباد بن عبد الله ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

              قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فخرج في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ، ولا جبل ، إلا قال السلام عليك يا رسول الله .

              وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه - يعني : النبي صلى الله عليه وسلم - الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليكم يا رسول الله . وأنا أسمعه.

              تعليق


              • #37
                حزن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتر عنه الوحي

                حزن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتر عنه الوحي


                قال البخاري في روايته المتقدمة : ثم فتر الوحي حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا ، فيسكن لذلك جأشه وتقرَّ نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .

                وفي ( الصحيحين ) من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : سمعت أبا سلمة عبد الرحمن ، يحدث عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي .

                قال : « فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض فجثيت منه فرقا ، حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت : زملوني زملوني ، فأنزل الله :{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } [12] .

                قال : ثم حمي الوحي وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقا .

                ذاك قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }

                وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } واللائق حمل كلامه ما أمكن على ماقلناه ، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به أولا إليه .

                ثم قوله : يحدّث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء والله أعلم .

                وقد ثبت في ( الصحيحين ) من حديث علي بن المبارك ، وعند مسلم ، والأوزاعي ، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن أنزل قبل ؟

                فقال : « يا أيها المدثر » .

                فقلت : « واقرأ باسم ربك » .

                فقال : سألت جابر بن عبد الله أي القرآن نزل قبل ؟

                فقال : « يا أيها المدثر » .

                فقلت : « واقرأ باسم ربك » .

                فقال : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري ، نزلت فاستبطنت الوادي ، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني ، وعن شمالي ، فلم أر شيئا ، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء ، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم ، فدثروني ، فأنزل الله : « يا أيها المدثر » حتى بلغ « وثيابك فطهر » .

                وقال في رواية - : « فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثيت منه » .

                وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم .
                ومنهم : زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة : { والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } إلى آخرها .

                قاله محمد بن إسحاق .

                وقال بعض القرَّاء : ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها فرحا وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي ( الصحيح ) من أن أول القرآن نزولا بعد فترة الوحي :{ يا أيها المدثر * قم فانذر }

                ولكن نزلت سورة ( والضحى ) بعد فترة أخرى ، كانت ليالي يسيرة كما ثبت في ( الصحيحين ) وغيرهما ، من حديث الأسود بن قيس ، عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقالت امرأة : ما أرى شيطانك إلا تركك .

                فأنزل الله :{ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [13] .

                وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة .
                وقد قال بعضهم : كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا ، والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي ، وغيره .

                ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم اقترن به جبريل بعد نزول :{ يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر } .

                وثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع - أي : تدارك شيئا بعد شيء - وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام وشمَّر عن ساق العزم ، ودعا إلى الله ، القريب ، والبعيد ، والأحرار ، والعبيد ، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد ، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد .

                فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار : أبو بكر الصديق .

                ومن الغلمان : علي بن أبي طالب .

                ومن النساء : خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام .

                ومن الموالي : مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم .


                وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة رضي الله عنه .



                يتبع بإذن الله تعالى

                تعليق


                • #38
                  في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن

                  في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن



                  لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق

                  فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه ، أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابا رَصَدا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا } .
                  وقال تعالى :{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ }
                  قال الحافظ أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فتكون باطلا .

                  فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ،ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك .

                  فقال لهم إبليس : هذا لأمر قد حدث في الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين ، فأتوه فأخبروه .

                  فقال : هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض .

                  وقال أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

                  قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين ، وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم .

                  فقالوا : ما لكم ؟

                  قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب .

                  فقالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها .

                  فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة ، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له .

                  فقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ،فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا :{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا } . .

                  فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } الآية . أخرجاه في ( الصحيحين ) .

                  وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس;قال : إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع ، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتاكصوت الحديدة ألقيتها على الصفا ، قال : فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤسهم حتى ينزل.
                  فإذا نزل قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فإن كان مما يكون في السماء .

                  قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب ، أو موت ، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به .


                  فقالوا : يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم ، فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف ، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة ، وذا الإبل فينحر كل يوم بعيرا ، فأسرع الناس في أموالهم ، فقال بعضهم لبعض :

                  لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث ، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدي بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا : انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه .

                  فقال : هذا حدثٌ حدث في الأرض ، فأتوني من كل أرض بتربة ، فأتوه بتربة تهامة ، فقال : ههنا الحدث .

                  ورواه البيهقي ، والحاكم ، من طريق حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب . .


                  وقال الواقدي :
                  حدثني أسامة بن زيد بن أسلم ، عن عمر بن عبدان العبسي ، عن كعب قال :لم يرم بنجم منذ رفع عيسى ، حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها ، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم ، ويعتقون أرقاءهم ، يظنون أنه الفناء ، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف ، ففعلت ثقيف مثل ذلك ، فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف .

                  قال : ولم فعلتم ما أرى ؟

                  قالوا : رمى بالنجوم ، فرأيناها تهافت من السماء .

                  فقال : إن إفادة المال بعد ذهابه شديد ، فلا تعجلوا ،وانظروا : فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس ، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لأمر قد حدث ، فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه .

                  فقال : الأمر فيه مهلة بعد هذا عند ظهور نبي .

                  فما مكثوا إلا يسيرا ، حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله ، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم ، فقال أبو سفيان : ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل .

                  فقال عبد ياليل : فعند ذلك رمى بها .


                  وقال
                  سعيد بن منصور ، عن خالد بن حصين ، عن عامر الشعبي .

                  قال : كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث الله ، رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها صلى الله عليه وسلم فسيبوا أنعامهم ، وأعتقوا رقيقهم .

                  فقال عبد ياليل : انظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس ، وإن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث ، فنظروا فإذا هي لا تعرف .

                  قال : فأمسكوا ، فلم يلبثوا إلا يسيرا ، حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم .


                  وروى
                  البيهقي ، والحاكم ، من طريق العوفي ،عن ابن عباس قال : لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه .

                  فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة .

                  ويجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستدار فقال :« ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا ؟ » .

                  قال : كنا نقول مات عظيم ، وولد عظيم .

                  فقال :« لا ولكن » .

                  فذكر الحديث كما تقدم عند خلق السماء ومافيها من الكواكب في أول بدء الخلق ولله الحمد .

                  وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم : إن كانت أعلام السماء أو غيرها ، ولكن سماه عمرو بن أمية ، فالله أعلم .

                  وقال السدي : لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر ، وكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر .

                  فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا ، رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف .

                  فقالوا : هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النارفي السماء ، واختلاف الشهب ، فجعلوا يعتقون أرقاءهم ، ويسيبون مواشيهم .

                  فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير : ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم ، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء ، وإنما هو من ابن أبي كبشة ، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء .

                  فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم ، وفزعت الشياطين في تلك الليلة ، فأتوا إبليس ، فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب .

                  فأتوه فشمَّ .

                  فقال : صاحبكم بمكة ، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام يقرأ القرآن ، فدنوا منه حرصا على القرآن ، حتى كادت كلاكلهم تصيبه ، ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم .

                  وقال الواقدي : حدثني محمد بن صالح ، عن ابن أبي حكيم - يعني : إسحاق - عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال :

                  لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكسا ، فأتت الشياطين ، فقالوا له : ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا .

                  قال : هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف ، فالتمسوه ، فقالوا : لم نجده .

                  فقال : أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب - يعني : مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب ، فخرج إلى الشياطين .

                  فقال : إني قد وجدته معه جبريل ، فما عندكم ؟

                  قالوا : نزين الشهوات في عين أصحابه ، ونحببها إليهم .

                  قال : فلا آسى إذا .

                  وقال الواقدي : حدثني طلحة بن عمرو ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عمرو قال :

                  لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من السماء ، ورموا بالشهب ، فجاؤوا إلى إبليس فذكروا ذلك له .

                  فقال : أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج نبي إسرائيل .

                  قال : فذهبوا إلى الشام ، ثم رجعوا إليه ، فقالوا : ليس بها أحد .

                  فقال إبليس : أنا صاحبه ، فخرج في طلبه بمكة ؛ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل ، فرجع إلى أصحابه .

                  فقال : قد بعث أحمد ومعه جبريل ، فما عندكم ؟

                  قالوا : الدنيا نحببها إلى الناس .

                  قال : فذاك إذا .

                  قال الواقدي : وحدثني طلحة ابن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كانت الشياطين يستمعون الوحي ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا ، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال : لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس - وهو أول جبل وضع على وجه الأرض - فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي خلف المقام .

                  فقال : اذهب فاكسر عنقه .

                  فجاء يخطر وجبريل عنده ، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى الشيطان هاربا . .

                  ثم رواه الواقدي ، وأبو أحمد الزبيري ، كلاهما عن رباح بن أبي معروف ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، فذكر مثل هذا ، وقال : فركضه برجله فرماه بعدن .


                  يتبع بإذن الله تعالى

                  تعليق


                  • #39
                    في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

                    في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم


                    قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة وثاني مرة أيضا .

                    وقال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني ، وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ، فيكلمني فأعي ما يقول " قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا . أخرجاه في " الصحيحين " من حديث مالك به .
                    ورواه الإمام أحمد عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة به نحوه وكذا رواه عبدة بن سليمان وأنس بن عياض عن هشام بن عروة .
                    وقد رواه أيوب السختياني عن هشام عن أبيه ، عن الحارث بن هشام أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : كيف يأتيك الوحي ؟ فذكره ، ولم يذكر عائشة .
                    وفي حديث الإفك ، قالت عائشة : فوالله ، ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي ينزل عليه.
                    وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرني يونس بن سليم قال أملى علي يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل وذكر تمام الحديث في نزول( قد أفلح المؤمنون )وكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق ثم قال النسائي : منكر ، لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ولا نعرفه .

                    وفي " صحيح مسلم " ، وغيره من حديث الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك وتربد وجهه وفي رواية وغمض عينيه وكنا نعرف ذلك منه .

                    وفي " الصحيحين " حديث زيد بن ثابت حين نزلت(لا يستوي القاعدون من المؤمنين)فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت : (غير أولى الضرر)،قال : وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، وأنا أكتب ، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.

                    وفي " صحيح مسلم " من حديث همام بن يحيى عن عطاء عن صفوان بن يعلى بن أمية عن يعلى بن أمية قال قال لي عمر : أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه ؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه ، وهو يوحى إليه بالجعرانة ، فإذا هو محمر الوجه ، وهو يغط كما يغط البكر.
                    وثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة لما نزل الحجاب ، وإن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا ، فقال عمر : قد عرفناك يا سودة ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ، وهو جالس يتعشى ، والعرق في يده ، فأوحى الله إليه ، والعرق في يده ، ثم رفع رأسه ، فقال : " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن " . فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية ؛ بدليل أنه جالس لم يسقط ، ولم يسقط العرق أيضا من يده ، صلوات الله وسلامه دائما عليه .
                    وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا عباد بن منصور حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي تربد لذلك جسده ووجهه ، وأمسك عن أصحابه ، ولم يكلمه أحد منهم.
                    وفي مسند أحمد وغيره ، من حديث ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قلت : يا رسول الله ، هل تحس بالوحي ؟ قال : " نعم ، أسمع صلاصل ، ثم أثبت عند ذلك ، وما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه ".
                    وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب حدثنا أبي ، عن خاله الفلتان بن عاصم قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه ، وكان إذا أنزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه ، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل.

                    وروى أبو نعيم من حديث قتيبة حدثنا علي بن غراب عن الأحوص بن حكيم عن أبي عون عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع ، وغلف رأسه بالحناء هذا حديث غريب جدا .

                    وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية شيبان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد ، قالت إني لآخذة بزمام العضباء ؛ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
                    وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري عن ليث بن أبي سليم به .
                    وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " سورة المائدة " ، وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها .
                    وروى
                    ابن مردويه من حديث صباح بن سهل عن عاصم الأحول ، حدثتني أم عمرو ، عن عمها ، أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه سورة " المائدة " فاندق عنق الراحلة من ثقلها . وهذا غريب من هذا الوجه .

                    ثم قد ثبت في " الصحيحين " نزول سورة " الفتح " على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية ، وهو على راحلته ، فكان يكون تارة وتارة ، بحسب الحال والله أعلم .
                    وقد ذكرنا أنواع الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في أول " شرح البخاري " ، وما ذكره الحليمي وغيره من الأئمة رضي الله عنهم .


                    يتبع بإذن الله تعالى

                    تعليق


                    • #40
                      شدة حرصه عليه السلام على أخذ ما يوحى إليه عن الله عز وجل

                      شدة حرصه عليه السلام على أخذ ما يوحى إليه عن الله عز وجل

                      قال الله تعالى :
                      (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)[ القيامة : 16 - 19 ].
                      وقال تعالى :(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [ طه : 114 ] .

                      وكان هذا في الابتداء
                      ; كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة ، فأمره الله تعالىأن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي ، وتكفل له أن يجمعه في صدره ، وأن ييسر عليه تلاوته ، وتبليغه ، وأن يبينه له ، ويفسره ، ويوضحه ، ويوقفه على المراد منه ; ولهذا قال :(ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) ، وقال :(لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه)أي: في صدرك (وقرآنه)أي: وأن تقرأه (فإذا قرأناه)أي: تلاه عليك الملك (فاتبع قرآنه)أي: فاستمع له وتدبره (ثم إن علينا بيانه) وهو نظير: (قوله وقل رب زدني علما).

                      وفي" الصحيحين " من حديث موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيهفأنزل الله :(لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه) ، قال : جمعه في صدرك ، ثم تقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه )،قال :فكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل .

                      يتبع بإذن الله تعالى

                      التعديل الأخير تم بواسطة أبو حذيفة عبد الله عبيدة الوهراني; الساعة 22-04-2013, 08:03 PM.

                      تعليق


                      • #41
                        تتابع الوحي بعد انقطاعه

                        تتابع الوحي بعد انقطاعه


                        قال ابن إسحاق:
                        ثم تتابع الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم - وللنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاؤا به عن الله عزوجل فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله، على ما يلقى
                        من قومه من الخلاف والأذى.

                        قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن رسوله ، لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها.

                        قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفرقال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نضب ".
                        وهذا الحديث مخرج في "الصحيحين" من حديث هشام

                        قال ابن هشام:القصب هاهنا اللؤلؤ المجوف.

                        قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله.

                        وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة.

                        قلت: يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء.

                        فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه.

                        وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به.

                        ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء زمزم ، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا .
                        قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيها ليلة الإسراء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان.


                        يتبع بإذن الله تعالى

                        تعليق


                        • #42
                          فصل في ذكر أول من أسلم من متقدمي الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم

                          فصل في ذكر أول من أسلم من متقدمي الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم



                          قال ابن إسحاق :
                          ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم ، وهما يصليان ، فقال علي : يا محمد ما هذا ؟ قال :" دين الله الذي اصطفى لنفسه ، وبعث به رسله ، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وإلى عبادته ، وأن تكفر باللات والعزى " . فقال علي : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره . فقال له :" يا علي إذا لم تسلم فاكتم " . فمكث علي تلك الليلة ، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام ، فأصبح غاديا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءه ، فقال : ماذا عرضت علي يا محمد ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" تشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وتكفر باللات والعزى ، وتبرأ من الأنداد " . ففعل علي وأسلم ، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم علي إسلامه ، ولم يظهره . وأسلم ابن حارثة ، يعني زيدا فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسلام

                          قال ابن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد قال :وكان من نعمة الله على علي أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه العباس وكان من أيسر بني هاشم :" يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق حتى نخفف عنه من عياله " فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا فضمه إليه ، فلم يزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله نبيا ، فاتبعه علي وآمن به وصدقه .

                          وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي من أهل الكوفة ، حدثني إسماعيل بن أبي إياس بن عفيف عن أبيه ، عن جده عفيف وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه أنه قال : كنت امرأ تاجرا ، فقدمت منى أيام الحج ، وكان العباس بن عبد المطلب امرأ تاجرا ، فأتيته أبتاع منه وأبيعه ، قال : فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي ، وخرج غلام فقام يصلي معه ، فقلت : يا عباس ما هذا الدين ؟ إن هذا الدين ما ندري ما هو ؟ فقال : هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله ، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به ، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به . قال عفيف : فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا . وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق وقال في الحديث : إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى السماء ، فلما رآها قد مالت قام يصلي . ثم ذكر قيام خديجة وراءه .

                          وقال ابن جرير :حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد بن عبدة البجلي عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال : جئت زمن الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء ، وأنا أنظر إلى الكعبة ، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ، ثم استقبل الكعبة ، فقام مستقبلها ، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه ، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة ، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة ، فخر الشاب ساجدا فسجدا معه . فقلت يا عباس أمر عظيم . فقال : أمر عظيم . فقال : أتدري من هذا ؟ فقلت : لا . فقال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، ابن أخي . أتدري من الغلام ؟قلت : لا .قال : هذا علي بن أبي طالب . أتدري من هذه المرأة التي خلفهما ؟قلت : لا . قال : هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي ، وهذا حدثني أن ربك رب السماء أمره بهذا الذي تراهم عليه ، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة .

                          وقال ابن جرير : حدثني ابن حميد حدثنا عيسى بن سوادة بن الجعد حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم والكلبي قالوا : علي أول من أسلم قال الكلبي : أسلم وهو ابن تسع سنين .

                          وحدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال :أول ذكر آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى معه وصدقه علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ، وكان في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسلام .

                          قال الواقدي : أخبرنا إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : أسلم علي وهو ابن عشر سنين .
                          قال الواقدي : وأجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة .
                          وقال محمد بن كعب : أول من أسلم من هذه الأمة خديجة ، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي وأسلم علي قبل أبي بكر وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه ، حتى لقيه أبوه ، قال : أسلمت ؟ قال : نعم . قال : وآزر ابن عمك وانصره . قال : وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام .

                          وروى ابن جرير في" تاريخه " من حديث شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : أول من صلى علي .

                          وحدثنا زكريا بن يحيى الضرير حدثنا عبد الحميد بن بحر حدثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، وصلى علي يوم الثلاثاء .

                          وروى من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة رجل من الأنصار سمعت زيد بن أرقم يقول : أول من أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب . قال : فذكرته للنخعي فأنكره ، وقال أبو بكر أول من أسلم .
                          ثم قال : حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا العلاء عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله سمعت عليا يقول : أنا عبد الله ، وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر ، صليت قبل الناس بسبع سنين . وهكذا رواه ابن ماجه عن محمد بن إسماعيل الرازي عن عبيد الله بن موسى العبسي وهو شيعي من رجال الصحيح عن العلاء بن صالح الأسدي الكوفي وثقوه ، ولكن قال أبو حاتم : كان من عتق الشيعة .

                          وقال علي بن المديني :
                          روى أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة ، وأما شيخه عباد بن عبد الله وهو الأسدي الكوفي فقد قال فيه علي بن المديني : هو ضعيف الحديث . وقال البخاري : فيه نظر .

                          وذكره ابن حبان في
                          " الثقات " . وهذا الحديث منكر بكل حال ولا يقوله علي رضي الله عنه ، وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين ؟ هذا لا يتصور أصلا والله أعلم .

                          وقال آخرون :أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق .والجمع بين الأقوال كلها أن خديجة أول من أسلم من النساء ، وظاهر السياقات ، وقبل الرجال أيضا . وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور ، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت ، وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم ; إذ كان صدرا معظما ، ورئيسا في قريش مكرما ، وصاحب مال ، وداعية إلى الإسلام ، وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله ، كما سيأتي تفصيله .

                          يتبع بإذن الله تعالى

                          تعليق


                          • #43
                            فصل في ذكر أول من أسلم من متقدمي الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم


                            قال يونس
                            ، عن ابن إسحاق ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال : أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا ، وتسفيهك عقولنا ، وتكفيرك آباءنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" بلى ، إني رسول الله ونبيه بعثني ; لأبلغ رسالته ، وأدعوك إلى الله بالحق ، فوالله إنه للحق ، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له ، ولا تعبد غيره ، والموالاة على طاعته ".وقرأ عليه القرآن . فلم يقر ، ولم ينكر ، فأسلم وكفر بالأصنام ، وخلع الأنداد ، وأقر بحق الإسلام ، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق .

                            قال ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر ، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته ، ولا تردد فيه " . عكم ، أي:تلبث .

                            وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله : فلم يقر ولم ينكر ، منكر ; فإن ابن إسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قبل البعثة ، وكان يعلم من صدقه ، وأمانته ، وحسن سجيته ، وكرم أخلاقه ، ما يمنعه من الكذب على الخلق ، فكيف يكذب على الله ؟ ! ولهذا بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله بادر إلى تصديقه ، ولم يتلعثم ، ولا عكم ، وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناه في سيرته ، وأوردنا فضائله وشمائله ، وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا ، وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث ، وما روى عنه من الآثار والأحكام والفتاوى ، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات . ولله الحمد والمنة .

                            وقد ثبت في" صحيح البخاري " ، عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة ، وفيه :فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت . وقال أبو بكر : صدق . وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟ مرتين "، فما أوذي بعدها . وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه .

                            وقد روى الترمذي وابن حبان
                            من حديث شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ألست أحق الناس بها ، ألست أول من أسلم ، ألست صاحب كذا ؟ .
                            وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد حدثنا أبو إسحاق السبيعي عن الحارث سمعت عليا يقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرجال علي بن أبي طالب .

                            وقال شعبة :
                            عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال : أول من صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق.

                            وقد تقدم رواية
                            ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال : أول من أسلم علي بن أبي طالب .
                            قال عمرو بن مرة فذكرته لإبراهيم النخعي فأنكره .
                            وقال : أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه .وروى الواقدي بأسانيده ، عن أبي أروى الدوسي وأبي سلمة بن عبد الرحمن وجماعة من السلف : أول من أسلم أبو بكر الصديق

                            وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا أبو بكر الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة عن مالك بن مغول عن رجل ، قال سئل ابن عباس من أول من آمن ، فقال :أبو بكر الصديق أما سمعت قول حسان:إذا تذكرت

                            إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة***فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
                            خير البرية أوفاها وأعدلها*** بعد النبي وأولاها بما حملا
                            والتالي الثاني المحمود مشهده**وأول الناس منهم صدق الرسل
                            عاش حميدا لأمر الله متبعا *** بأمر صاحبه الماضي وما انتقل
                            ا

                            يتبع بإذن الله تعالى

                            التعديل الأخير تم بواسطة أبو حذيفة عبد الله عبيدة الوهراني; الساعة 16-07-2013, 03:51 PM.

                            تعليق


                            • #44
                              وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شيخ لنا عن مجالد عن عامر قال سألت ابن عباس- أو- سئل ابن عباس- أي الناس أول إسلاما؟ قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي عن مجالد عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره.

                              وقال أبو القاسم البغوي
                              حدثني سريج بن يونس حدثنا يوسف بن الماجشون قال أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

                              قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي ومحمد بن كعب ومحمد بن سيرين وسعد بن إبراهيم وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.
                              وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما.
                              قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.

                              وثبت في صحيح البخاري
                              من حديث همام بن الحارث عن عمار بن ياسر. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر.
                              وروى الإمام أحمد وابن ماجه
                              من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد. وهكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا.
                              فأما ما رواه ابن جرير قائلا أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن سعد بن أبي وقاص:
                              قال قلت لأبي أكان أبو بكر أولكم إسلاما قال: لا! ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ولكن كان أفضلنا إسلاما. فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا.قال ابن جرير وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد ابن حارثة، ثم روى من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب، سألت الزهري من أول من أسلم من النساء؟ قال خديجة. قلت فمن الرجال، قال زيد بن حارثة. وكذا قال عروة وسليمان بن ياسر وغيرواحد أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة.
                              وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار
                              أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

                              قال محمد بن إسحاق:
                              فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عز وجل، وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر.
                              وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم على يديه فيما بلغني الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر. فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإسلام صدقوارسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله.

                              وقال محمد بن عمر الواقدي
                              حدثني الضحاك ابن عثمان عن مخرمة بن سليمان الوالبي عن إبراهيم بن محمد بن أبى طلحة. قال قال طلحة بن عبيد اللهحضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم؟
                              قال: طلحة قلت نعم أنا، فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حديث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر بن أبي قحافة.قال: فخرجت حتى قدمت على أبي بكر، فقلت: أتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب. فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب فسر بذلك. فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية- وكان يدعى أسد قريش- فشدهما في حبل واحد ولم بمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية» رواه البيهقي.

                              وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسى
                              حدثنا عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد ابن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله حدثني أبى عبيد الله حدثني عبيد الله بن محمد بن عمران ابن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: حدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال:يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
                              «إني رسول الله أدعوك إلى الله» فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة ابن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم. قال: عبد الله بن محمد فحدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة
                              قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال:«يا أبا بكر إنا قليل» فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا: لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة. فقال: أبو بكر بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب- أو لأبى جهل بن هشام- فأصبح عمر وكانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة، وخرج أبو الأرقم- وهو أعمى كافر- وهو يقول:
                              اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر، فقام عمر فقال:يا رسول الله على ما نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهر دينهم وهم على الباطل؟ قال:«يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا» فقال عمر: فو الذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر:أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل أصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس. واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم. قال: ما عليك بأبي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلى الظهر مؤمنا، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم.والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.

                              وقد استقصينا كيفية إسلام
                              أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.

                              وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة عن عمرو ابن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخفى، فقلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقلت: وما النبي؟ قال: رسول الله، قلت: آلله أرسلك؟ قال: نعم قلت: بما أرسلك؟ قال:بأن تعبد الله وحده لا شريك له وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام. قال: قلت نعم ما أرسلك به فمن تبعك على هذا؟ قال: حر وعبد- يعني أبا بكر وبلالا-قال:فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام. قال: فأسلمت، قلت: فأتبعك يا رسول الله، قال: لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني.ويقال إن معنى قوله: عليه السلام حر وعبد اسم جنس وتفسير ذلك بأبي بكر وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه فان المؤمنين كانوا إذا ذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم دع الأجانب دع أهل البادية من الأعراب والله أعلم.

                              وفي صحيح البخاري
                              من طريق أبي أسامة عن هاشم بن هاشم عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام.أما قوله ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل، ويروى إلا في اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام. وقد علم أن الصديق وعليا وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله، كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الأثير. ونص أبو حنيفة رضى الله عنه على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه والله أعلم.

                              وأما قوله:ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام فمشكل وما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم.وقال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله- وهو ابن مسعود-قال:كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة. فأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر- وقد فرا من المشركين- فقال- أو فقالا- عندك يا غلام لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم! فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقياني ثم قال: للضرع اقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:علمني من هذا القول الطيب- يعني القرآن- فقال: «إنك غلام معلم» فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.

                              وهكذا رواه الإمام أحمد عن عفان عن حماد بن سلمة به. ورواه الحسن بن عرفة عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجودبه. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله بن بطة الأصبهاني حدثنا الحسن بن الجهم حدثنا الحسين بن الفرج حدثنا محمد بن عمر حدثني جعفر ابن محمد بن خالد بن الزبير عن أبيه- أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان-. قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما وكان أول إخوته أسلم. وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به. ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحقويه لا يقع، ففزع من نومه فقال: أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال: أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باجياد، فقال:يا رسول الله يا محمد إلى ما تدعو؟ قال:«أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده» .قال خالد:فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وتغيب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتي به. فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه. وقال: والله لأمنعنك القوت فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه ويكون معه.


                              يتبع بإذن الله تعالى


                              تعليق


                              • #45
                                ما شاء الله
                                بارك الله فيك وفي وقتك
                                واصل بالخير وصلك الله بحبله يا أخانا أبا حذيفة

                                تعليق

                                يعمل...
                                X