سبع وتسعين وخمسمائة من الهجرة
وفيها توفي من الأعيان :
عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي
نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق .
الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور إبن الجوزي ، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي ، أحد أفراد العلماء ، برز في علوم كثيرة ، وانفرد بها عن غيره ، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف .
وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة ، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله ، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة ، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية ، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك ، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة .
هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى ،والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو ، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها ، وحصر أفرادها .
منها : كتابه في التفسير المشهور ( بزاد المسير ) ، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور ، وله ( جامع المسانيد ) استوعب به غالب ( مسند أحمد ) و ( صحيحي البخاري ومسلم ) و ( جامع الترمذي ) ، وله كتاب ( المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم ) في عشرين مجلدا .
قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا منه من حوادثه وتراجمه ، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتىصار تاريخا وما أحقه بقول الشاعر :
ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا * * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا
وله مقامات وخطب ، وله الأحاديث الموضوعة ، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وغير ذلك .
ولد سنة عشر وخمسمائة ، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين ، وكان أهله تجارا في النحاس ، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني ، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها .
وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي ، وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة ، ولا يخرج من بيتهإلا للجمعة ، وكان لا يلعب مع الصبيان .
وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء ، ومن سائر صنوف بني آدم ، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف ، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون ، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا ، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره .
وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه ، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه ، فمن ذلك قوله :
ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا * * وأكابد النهج العسير الأطولا
تجري بي الآمال في حلباته * * جري السعيدمدى ما أملا
أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي * * أعيا سواي توصلا وتغلغلا
لو كان هذا العلم شخصا ناطقا * * وسألته هل زار مثلي ؟ قال : لا
ومن شعره وقيل هو لغيره :
إذا قنعت بميسورٍ من القوت * * بقيت في الناس حرا غير ممقوت
ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي * * فلست آسي على درٍ وياقوت
وله من النظم والنثر شيء كثيرا جدا ، وله كتاب سماه ( لقط الجمان في كان وكان ) ، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث : « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين » إنما طالت أعمارمن قبلنا لطول البادية ، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل لهم حثوا المطي .
وقال له رجل أيما أفضل ؟ أجلس أسبح أو أستغفر ؟
فقال : الثوب الوسخ أحوج إلى البخور .
وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال :
هذا طين سطحه في كانون .
والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال :
يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك ، وإن سكت خفت عليك ، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم ، كان عمر بن الخطاب يقول :
إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأناالظالم ، يا أمير المؤمنين .
وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع ، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا ، والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس .
قال : فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير ، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء .
ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم ، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة ، وله من العمر سبع وثمانون سنة ، وحملت جنازته على رؤوس الناس ، وكان الجمع كثيرا جدا ، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد .
وكان يوما مشهودا ، حتى قيل : إنه أفطرجماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر ، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات :
يا كثير العفو يا من * * كثرت ذنبي لديه
جاءك المذنب يرجو الصـ * * ـفح عن جرم يديه
أنا ضيفٌ وجزاء الـ * * ـضيف إحسان إليه
وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة : عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين ، ثم أبو القاسم علي ، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها ، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن .
ثم محيي الدين يوسف ، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه ، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه ، ثم باشر حسبة بغداد ، ثم صار رسول الخلفاء إلىالملوك بأطراف البلاد ، ولا سيما بني أيوب بالشام .
وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق ، وما أوقف عليها ، ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة ، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة ، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان .
وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي صاحب ( مرآة الزمان ) ، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة ، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه .
البداية والنهاية
عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي
نسبة إلى فرضة نهر البصرة - ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق .
الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور إبن الجوزي ، القرشي التيمي البغدادي الحنبلي ، أحد أفراد العلماء ، برز في علوم كثيرة ، وانفرد بها عن غيره ، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف .
وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة ، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله ، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة ، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية ، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك ، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة .
هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى ،والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو ، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها ، وحصر أفرادها .
منها : كتابه في التفسير المشهور ( بزاد المسير ) ، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور ، وله ( جامع المسانيد ) استوعب به غالب ( مسند أحمد ) و ( صحيحي البخاري ومسلم ) و ( جامع الترمذي ) ، وله كتاب ( المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم ) في عشرين مجلدا .
قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا منه من حوادثه وتراجمه ، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتىصار تاريخا وما أحقه بقول الشاعر :
ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا * * حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا
وله مقامات وخطب ، وله الأحاديث الموضوعة ، وله العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وغير ذلك .
ولد سنة عشر وخمسمائة ، ومات أبوه وعمره ثلاث سنين ، وكان أهله تجارا في النحاس ، فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ ، فلزم الشيخ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني ، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها .
وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي ، وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة ، ولا يخرج من بيتهإلا للجمعة ، وكان لا يلعب مع الصبيان .
وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء ، ومن سائر صنوف بني آدم ، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف ، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون ، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا ، وبالجملة كان أستاذا فردا في الوعظ وغيره .
وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه ، وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه ، فمن ذلك قوله :
ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا * * وأكابد النهج العسير الأطولا
تجري بي الآمال في حلباته * * جري السعيدمدى ما أملا
أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي * * أعيا سواي توصلا وتغلغلا
لو كان هذا العلم شخصا ناطقا * * وسألته هل زار مثلي ؟ قال : لا
ومن شعره وقيل هو لغيره :
إذا قنعت بميسورٍ من القوت * * بقيت في الناس حرا غير ممقوت
ياقوت يومي إذا ما در حلقك لي * * فلست آسي على درٍ وياقوت
وله من النظم والنثر شيء كثيرا جدا ، وله كتاب سماه ( لقط الجمان في كان وكان ) ، ومن لطائف كلامه قوله في الحديث : « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين » إنما طالت أعمارمن قبلنا لطول البادية ، فلما شارف الركب بلد الإقامة قيل لهم حثوا المطي .
وقال له رجل أيما أفضل ؟ أجلس أسبح أو أستغفر ؟
فقال : الثوب الوسخ أحوج إلى البخور .
وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال :
هذا طين سطحه في كانون .
والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال :
يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك ، وإن سكت خفت عليك ، وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم ، كان عمر بن الخطاب يقول :
إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأناالظالم ، يا أمير المؤمنين .
وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع ، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا ، والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس .
قال : فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير ، وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء .
ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم ، وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة ، وله من العمر سبع وثمانون سنة ، وحملت جنازته على رؤوس الناس ، وكان الجمع كثيرا جدا ، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد .
وكان يوما مشهودا ، حتى قيل : إنه أفطرجماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر ، وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات :
يا كثير العفو يا من * * كثرت ذنبي لديه
جاءك المذنب يرجو الصـ * * ـفح عن جرم يديه
أنا ضيفٌ وجزاء الـ * * ـضيف إحسان إليه
وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة : عبد العزيز - وهو أكبرهم - مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين ، ثم أبو القاسم علي ، وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها ، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن .
ثم محيي الدين يوسف ، وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين وخمسمائة ووعظ بعد أبيه ، واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه ، ثم باشر حسبة بغداد ، ثم صار رسول الخلفاء إلىالملوك بأطراف البلاد ، ولا سيما بني أيوب بالشام .
وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق ، وما أوقف عليها ، ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة ، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة ، واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيز خان .
وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطه أبي المظفر بن قزغلي صاحب ( مرآة الزمان ) ، وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة ، وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه .
البداية والنهاية
تعليق