سنة عشر وثلاثمائة من الهجرة
أبو جعفر بن جرير الطبري
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري ، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين ، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان ، وروى الكثير عن الجم الغفير ، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث ، وصنف التاريخ الحافل ، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير ، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع .
ومن أحسن ذلك ( تهذيب الآثار ) ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء ، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه .
وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة .
قال الخطيب البغدادي : استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته ، وكان من أكابر أئمة العلماء ، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات كلها ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في الأحكام ، عالما بالسنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم .
وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله .
وكتاب سماه ( تهذيب الآثار ) لم أر سواه في معناه ، إلا أنه لم يتمه .
وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات ، وتفرد بمسائل حفظت عنه .
قال الخطيب : وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الأسفرائيني أنه قال : لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا ، أو كما قال .
وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره ، ثم قال : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ، ولقد ظلمته الحنابلة .
وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ -ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة : لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه .
قلت : وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات ، وكان من كبار الصالحين ، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون ، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني ، ومحمد بن جرير الطبري هذا .
وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي ، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقيل : محمد بن نصر ، فرزقهم الله .
وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء ، فقيل له : لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري ، فطلب منه ذلك فكتب له ، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده .
وقال له : سل حاجتك .
فقال : لا حاجة لي .
فقال : لا بد أن تسألني حاجة أو شيئا .
فقال : أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤَّال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع .
فأمر الخليفة بذلك .
وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان .
ومن شعره :
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي * * وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي * * ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي * * لكنت إلى الغنى سهل الطريق
ومن شعره أيضا :
خُلُقان لا أرضى طريقهما * * بطر الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا * * وإذا افتقرت فته على الدهر
وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة .
وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين ، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير ، ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض ، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد ، وحاشاه من ذلك كله .
بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري ، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض .
ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها ، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه ، وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين ، وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير .
ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما ، وقد اشتهر عنه هذا .
فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك ، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات .
والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فلم يفهم كثير من الناس مراده ، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم .
وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الأعرابي حيث يقول :
حدث مفظع وخطب جليل * * دق عن مثله اصطبار الصبور
قام ناعي العلوم اجمع لما * * قام ناعي محمد بن جرير
فهوت أنجم لها زاهرات * * مؤذنات رسومها بالدثور
وتغشى ضياها النير الإشـ * * ـراق ثوب الدّجنّة الديجور
وغدا روضها الأنيق هشيما * * ثم عادت سهولها كالوعور
يا أبا جعفر مضيت حميدا * * غير وانٍ في الجد والتشمير
بين أجر على اجتهادك موفو * * ر وسعي إلى التقى مشكور
مستحقّا به الخلود لدى جن * * ة عدن في غبطة وسرور
ولأبي بكر بن دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة ، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها .
والله سبحانه أعلم .
أبو جعفر بن جرير الطبري
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري ، وكان مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين ، وكان أسمر أعين مليح الوجه مديد القامة فصيح اللسان ، وروى الكثير عن الجم الغفير ، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث ، وصنف التاريخ الحافل ، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير ، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع .
ومن أحسن ذلك ( تهذيب الآثار ) ولو كمل لما احتيج معه إلى شيء ، ولكان فيه الكفاية لكنه لم يتمه .
وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة .
قال الخطيب البغدادي : استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته ، وكان من أكابر أئمة العلماء ، ويحكم بقوله ويرجع إلى معرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظا لكتاب الله ، عارفا بالقراءات كلها ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في الأحكام ، عالما بالسنن وطرقها ، وصحيحها وسقيمها ، وناسخها ومنسوخها ، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم .
وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله .
وكتاب سماه ( تهذيب الآثار ) لم أر سواه في معناه ، إلا أنه لم يتمه .
وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات ، وتفرد بمسائل حفظت عنه .
قال الخطيب : وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الأسفرائيني أنه قال : لو سافر رجل إلى الصين حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا ، أو كما قال .
وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير في سنين من أوله إلى آخره ، ثم قال : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ، ولقد ظلمته الحنابلة .
وقال محمد لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ -ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد - فقال ابن خزيمة : لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه .
قلت : وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات على أحسن الصفات ، وكان من كبار الصالحين ، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا في مصر في أيام ابن طولون ، وهم محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني ، ومحمد بن جرير الطبري هذا .
وقد ذكرناهم في ترجمة محمد بن نصر المروزي ، وكان الذي قام فصلى هو محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقيل : محمد بن نصر ، فرزقهم الله .
وقد أراد الخليفة المقتدر في بعض الأيام أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين العلماء ، فقيل له : لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري ، فطلب منه ذلك فكتب له ، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده .
وقال له : سل حاجتك .
فقال : لا حاجة لي .
فقال : لا بد أن تسألني حاجة أو شيئا .
فقال : أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤَّال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع .
فأمر الخليفة بذلك .
وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان .
ومن شعره :
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي * * وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي * * ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي * * لكنت إلى الغنى سهل الطريق
ومن شعره أيضا :
خُلُقان لا أرضى طريقهما * * بطر الغنى ومذلة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا * * وإذا افتقرت فته على الدهر
وقد كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة .
وقد جاوز الثمانين بخمس سنين أو ست سنين ، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير ، ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض ، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد ، وحاشاه من ذلك كله .
بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري ، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض .
ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره ودفن بها ، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه ، وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين ، وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير .
ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما ، وقد اشتهر عنه هذا .
فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك ، وينزهون أبا جعفر هذا عن هذه الصفات .
والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فلم يفهم كثير من الناس مراده ، ومن فهم مراده نقلوا عنه أنه يوجب الغسل والمسح وهو الدلك والله أعلم .
وقد رثاه جماعة من أهل العلم منهم ابن الأعرابي حيث يقول :
حدث مفظع وخطب جليل * * دق عن مثله اصطبار الصبور
قام ناعي العلوم اجمع لما * * قام ناعي محمد بن جرير
فهوت أنجم لها زاهرات * * مؤذنات رسومها بالدثور
وتغشى ضياها النير الإشـ * * ـراق ثوب الدّجنّة الديجور
وغدا روضها الأنيق هشيما * * ثم عادت سهولها كالوعور
يا أبا جعفر مضيت حميدا * * غير وانٍ في الجد والتشمير
بين أجر على اجتهادك موفو * * ر وسعي إلى التقى مشكور
مستحقّا به الخلود لدى جن * * ة عدن في غبطة وسرور
ولأبي بكر بن دريد رحمه الله فيه مرثاة طويلة ، وقد أوردها الخطيب البغدادي بتمامها .
والله سبحانه أعلم .
تعليق