إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تُرَاثُ الأَعْلاَمِ.. مِنْ فِكْرَة إِلَى نَشْرَة لفضيلة الشيخ: جمال عزون

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تُرَاثُ الأَعْلاَمِ.. مِنْ فِكْرَة إِلَى نَشْرَة لفضيلة الشيخ: جمال عزون

    تُرَاثُ الأَعْلاَمِ.. مِنْ فِكْرَة إِلَى نَشْرَة




    لفضيلة الشيخ الدكتور:



    جمـــــال عـــــزُّون



    قال الشيخ العلامة المحدث حماد الأنصاري -رحمه الله-:



    إن جمال عزون طالب علم مجتهد في الطلب و أنا أحب أن أساعده. اهـ كما في المجموع لعبد الأول بن حماد الأنصاري





    قال الشيخ جمال -حفظه الله-:



    تزخر خزائن الكتب في الخافقين بعدد هائل من آثار أعلام المسلمين في شتّى مجالات المعرفة، وهي تمثّل رصيداً قيّماً تفخر به الحضارة الإسلاميّة، وتسعد به لأنّه من إنتاج أبناء لها بررة، بذلوا جهوداً عظيمة في صناعة هذه التّآليف التي وصلت إلينا في شكل مخطوطات عبر رحلة زمنيّة طويلة تعرّضت فيها لمخاطر الفناء وأسباب الضّياع والتّلف، فضاع منها ما ضاع وبقيت لنا رسومه في كتب الآخِرين، ونجا منها عدد كثير لا يستهان به، غير أنّ هذا الذي وصلنا منه وصل جريحاً عليه علامات الإعياء، وأمارات المرض، ومؤشّرات النّقص، ونحوها من آثار قد لا تعطينا تصوّراً دقيقاً عن الشّكل الأوّل الذي وضع مؤلّفو الكتب كتبهم عليه، ومن هنا تعظم مسؤوليّة الأسرة التّراثيّة في خدمة كتب أعلامنا خدمة تليق أوّلاً بمقامهم العلمي، وتتناسب ثانياً مع الجهد الذي بذلوه في صناعة هذه الكتب صناعة كانت لها آثار واضحة في دفع مسار الحضارة الإسلاميّة إلى التّقدّم والازدهار، ولذا كان ضَعف إخراج النّصوص التّراثيّة وعدم الدّقّة والإتقان في التّعامل معها له آثار سلبيّة موجعة من أبرزها عزوف القارئ عن قراءة الكتاب والاستفادة منه في مجاله الدّراسي.

    إنّ أعلامنا الأخيار كانوا يتوخّون هدفاً نبيلاً فيما يصنّفون وهو ابتغاء الأجر والثّواب من عند الله جلّ جلاله، لأنّ كتبهم وآثارهم تعدّ أعماراً ثانية على حدّ قول الشّاعر :

    يموت أقوام فيحيي العلم ذكرهم * والجهل يلحق أمواتاً بأموات

    فكلّما استفاد من كتابه من استفاد كان ذلك في ميزان حسنات هذا المؤلّف، ولك أن تتخيّل كتاباً كجامع البيان في تأويل القرآن للإمام الطبري المتوفّى سنة 310هـ، ومدى استفادة النّاس منه استفادة واضحة نحسب أنّ ذلك كلّه بإخلاص مؤلّفه الذي مضى على وفاته قرابة عمر نوح عليه السّلام، أفلا يحقّ أن يقال: إنّ الطّبري حيّ معنا قد كتب له حقّ عمر آخر، وقس عليه أمثاله من عباقرة التّأليف الذين بقيت مؤلّفاتهم تترى بين أيدي النّاس رغم الأحقاب والأزمنة التي مرّت، وهذا الإمام البيهقي يقول عنه عبد الغافر الفارسي في كتابه «السّياق لتاريخ نيسابور» (1) بعد أن ذكر جملة من تآليفه:

    «وغير ذلك من التّصانيف المتفرّقة المفيدة جمع فيها بين علم الحديث وعلله، وبيان الصّحيح والسّقيم، وذكر وجوه الجمع بين الأحاديث، ثمّ بيان الفقه والأصول، وشرح ما يتعلّق بالعربيّة، على وجه وقع من الأئمّة كلّهم موقع الرّضا، ونفع الله تعالى به المسترشدين والطّالبين، ولعلّ آثاره تبقى إلى القيامة».

    ومن هنا تتجلّى مسؤوليّة المتعامل مع أمثال هذه النّصوص التي يجب عليه شرعاً أن يخرجها في ثوب علمي صحيح أقرب ما يكون إلى وضعها الأوّل الذي وضعه مصنّفه، وواضح بعد هذا أنّ الإهمال في إخراج الكتاب هو اعتداء قبل كلّ شيء على مؤلّفه الأوّل الذي يخشى أن يتناول من حسنات محقّقه يوم لا ينفع مال ولا بنون.

    إنّ أيّ كتاب صنّفه أحد الأعلام لا يخلو من المراحل الآتية التي سبقت ظهوره :

    أوّلا: أفكار وخواطر تتجمّع في ذهن المؤلّف حول موضوع الكتاب.

    ثانياً: جمع مادته العلميّة التي تشكّل حجر الأساس للكتاب.

    ثالثاً: نسخ الكتاب في شكل مسوّدة قابلة للإضافة.

    رابعاً: تبييض الكتاب في شكله النّهائي .

    خامساً: بداية انتشار الكتاب في شكل نسخ فرعيّة انتسخت عن أصل المؤلّف الأوّل.

    وهذا يعني تعدّد نسخ الكتاب الواحد، ولذلك أسباب من أهمّها :

    أ ـ تعدّد الرّواة عن المؤلّف :

    فهذا ابن ماكولا كان يمتلك نسختين من كتاب «تاريخ مصر» لابن يونس إحداهما بخطّ الصّوري، والأخرى بخطّ ابن الثّلاّج(2).

    ب ـ كثرة إملاء المصنّف لكتابه مرّات عدّة :

    فكتاب «الجمهرة» لابن دريد له نسخ كثيرة أملاه مؤلّفه بفارس وبغداد، وآخر ما صحّ من النّسخ نسخة أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النّحوي؛ لأنّه كتبها من عدّة نسخ وقرأها عليه(3).

    سادساً: بعد وفاة المؤلّف يبدأ الكتاب في رحلة زمنيّة عبر التّاريخ يدخل من خلالها في صراع البقاء أو الفناء، وكلّما ابتعد عصر المؤلّف كلّما زادت فرص ضياع أصله الأوّل، ويمكن أن يصاحب ذلك فقدان الفروع التي انتسخت منه، كما يمكن أن يبقى الأصل دون الفرع أو الفرع دون الأصل أو يبقيان جميعاً وذلك من فضل الله على مؤلّفه وعلى النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون.

    سابعاً: محطّة الوصول وهي رفوف الكتب وخزائنها التي تحتفظ في عصرنا الحاضر بهذا التّراث الضّخم الذي دخل من قرون غابرة في سباق زمني حتّى وصل إلينا بهذا الشّكل الذي يجعلنا حقّاً نحنّ بشوق ولهف إلى الزّمن الأوّل ومعرفة قصّة كلّ كتاب تنهض أسرة التّراث بعبء تحقيقه.

    ثامناً: طباعة هذه المخطوطات بعد إجراء عمليّات جراحيّة قيصريّة دقيقة، يتوقّف مدى نجاحها بعد توفيق الله على خبرة الأطبّاء المتخصّصين في ميدان الجراحة، وهؤلاء الأطبّاء هم خبراء المخطوطات الذين رزقوا ذوقاً رفيعاً وعلماً غزيراً، إذ التّعامل مع المخطوطات فنّ دقيق تترتّب عليه مسؤوليّات تاريخية وعلميّة، ولا شكّ أنّ الفشل سيصحب أيّ عمليّة يتولاّها غير متخصّص في فنّه.

    إنّ هذه المرحلة الأخيرة تعدّ بعثاً جديداً للمخطوط وإحياء له في شكل آخر لم يعهد عند الأوّلين الذين عرفوا الكتاب في أوضاع خطيّة لا تتجاوز نسخه شيئاً كثيراً، بخلاف عصر الطّباعة فإنّ الكتاب الواحد يطبع منه الألوف من النّسخ، وهذا شيء جديد لم يعرف في الزّمن الغابر. ومن هنا تعظم المسؤوليّة على محقّق الكتاب فأدنى إهمال أو تقصير في إحياء الكتاب سيكون صداه واسعاً في أسرة التّراث المنتشرة في بقاع الأرض.

    إنّ المرحلة الثامنة وهي انتشار الكتاب بعد طباعته تشبه إلى حدّ ما المرحلة الخامسة السّابقة وهي بداية انتشار الكتاب في شكل نسخ فرعيّة انتسخت عن أصل المؤلّف، ووجه الشّبه بينهما أنّ الذي كان يتولّى انتساخ فروع عن أصل المؤلّف أو أصل قريب من عهده نسّاخ علماء، أو ورّاقون متخصّصون، أو ورّاقون تجّار همّهم الأكبر سرعة انتساخ الكتاب دون مراعاة عنصر المقابلة والتّصحيح، ويقابل هذا تماماً ما نلحظه من تفاوت مراتب المتعاملين مع نصوص التّراث في عصرنا الحاضر؛ فمنهم جهبذ ذو قدم راسخة في العلم والمعرفة يحسن جدّا فنّ التّعامل مع المخطوطات ويخرجها في شكل يفرح له عشّاق التّراث، وآخرون دونهم في العلم لكن لهم ذوق ومعرفة ودربة أهّلتهم لإخراج نصوص تليق بمؤلّفيها، وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم، ودونهم معضلة هذا العصر وهم المتطفّلون الذين مسخوا التّراث مسخاً لم يعهد له مثيل، وشوّهوا جمال نصوص أعلامنا تشويهاً بليغاً.

    لقد مرّت مرحلة زاهية في مسيرة الأسرة التّراثيّة حين كان ينزل الكتاب إلى عالم الطّباعة ويتصدّى له أكثر من علم تحديداً لإيجابياته وسلبياته، وأدّى ذلك الفحص الدّقيق إلى ظهور نصوص رائعة تولّى تحقيقها فطاحلة هذا العلم وتلامذتهم النّجباء، بل كان أحدهم يطلب بنفسه من علم آخر أن يتولّى نقد تحقيقه في تواضع جمّ وأدب علمي رفيع، فكانت مبادلات علمية ونقاشات هادفة أثرت والحقّ يقال مكتبتنا التّراثية، وما زالت تلك المطارحات بين الأديب الكبير شيخ المحقّقين عبد السّلام هارون وأنستاس الكرملي تتجلّى في ذاكرة الواحد منّا، لما تميّزت به من نقود بارعة، وإبداء قراءات أخرى لكلمات يتجاذبها الشّكل والمعنى.

    وأخيراً:

    علينا أن ندرك أنّ المخطوط أشبه بالكائن الحيّ، فيعتريه ما يعتري الكائنات من حرق وغرق وتآكل وانطماس وفقدان وشيخوخة وبلل ومرض وغير ذلك من عوامل لا تخفى، وقد قال أبو سعد ابن دست رحمه الله في ذلك شعراً :

    عليك بالحفظ دون الجمع في كتب * فإنّ للكتب آفاتٍ تفرّقها

    النّار تحرقها والماء يغرقها * والفار يخرقها واللّصّ يسرقها

    لذا كان إصلاح ما وهى منه عمل شريف له قواعده وضوابطه، وقد كان مؤلّفو هذه الكتب يهدفون إلى تخليد ذكراهم للأجيال القادمة، ويأملون ثواب ربّ العالمين، ويبذلون قصارى جهدهم لتجاوز ما قد يعيقهم عن تحقيق أملهم في ذلك؛ فهذا أبو عبد الله الحسين بن أحمد البيهقي ت 536 هـ، يذكر السّمعاني في كتابه «التّحبير»(4) أنّه لحقته علّة الدّم فقطعت أصابعه العشر ولم يبق له إلاّ الكفّان فحسب، ومع هذا كان يأخذ القلم بكفّيه ويضع الكاغد على الأرض ويمسكه برجل ويكتب بكفّيه خطّاً حسناً مقروءاً مبيناً.

    وقد وصلتنا هذه المخطوطات من أعماق زمنية سحيقة تطول وتقصر، وقد تلقّيناها في حاضرنا باعتبارين:

    الأوّل: كونها نصّاً معرفياً كتبه مؤلّف هو الآن في عداد الموتى، وللموتى حقوق في الإسلام، فلنعتبر أثر هذا العالم وإخراجه بوجه يليق بمقامه العلميّ حقّاً من حقوقه علينا.

    الثّاني: كونها أثراً ماديّاً قطع رحلة زمنية طويلة عبر الزّمن، ومن حقّه علينا ترميمه وصيانته ليعيش عمراً آخر، ويخلّد اسم مؤلّفه.

    وأختم هذه الإطلالة بكلمة لعلم نسخ كتاباً بعد أن كاد يبلى من القدم، وفيه تتجلّى عاطفة العالم الصّادق الذي يهدف من إعادة نسخ الكتب إحياءها نظراً لقيمتها العلميّة، وفيه درس لمن استسهلوا إعادة طباعة الكتب ولو نشرت من قبل وهمّهم الوحيد الجشع الماديّ فقط.

    قال رحمه الله تعالى :

    «وقد وقفتُ على بعض عبارات من هذا الكتاب في حواشي «جمع الجوامع»، فإذا هي كالشّهد المستطاب، ولهذا كانت أشواقي تهيج لرؤيته، ونواظري مترقّبة لبهيّ طلعته، حتّى عثرت عليه في المدرسة المتبوليّة، بدمياط المحميّة، فأدركتُه وهو من الحياة على آخر رمق، تمزّقت أوصاله، وكاد يموت في جلده هذا الورق، وجدتُّه في المكتبة البدرية، وهو يئنّ ويصرخ لما حلّ به من الرزيّة، رأسه عند رجليه، ورجلاه عند عينيه؛ لأنّه ليس معقّباً ولا منمّراً، بل مشتّتاً مبعثراً، فأخذته وأغثته وجعلته في حضانتي، ووضعته في كفالتي، وشرعت أعالجه، وباللّطف أمازجه، متأنّياً بلا ملل، حتّى زال معظم الخطر والخلل، ووضعت كلّ عضو منه في موضعه، فاستراح نوماً ولم يتجاف عن مضجعه، وأنفقتُ في إصلاحه سنتين، حتّى صار قرير العين، وعززت نسخته الأصليّة، فنقلت منها بخطّي نسخة ثانية سنيّة، وقلت للأصل: سنشدّ عضدك بأخيك، ومع بذلي المجهود في هذا المقصود، لم يعد جسم هذا الكتاب على مقدار أصله المستطاب، بل ضاعت منه أوراق لم نكن بها نلتقي، والحمد لله على هذا الذي بقي، فإنّي لم أجد له في القطر المصري أثراً ولا خبراً، لا في الدّيار ولا عند الأحبار ... جزى الله مؤلّفه خير الجزاء، ووالى عليه سحائب رحمته الفيحاء آمين». عبد الرّحمن الخضري شيخ علماء دمياط.

    الهوامش:

    (1) المنتخب من السّياق .

    (2) انظر الإكمال 2-49 .

    (3) انظر إنباه الرّواة 3-97 .

    (4) المنتخب من التّحبير 1-223 .



    موقع راية الإصلاح
يعمل...
X