تفسير قوله تعالى:
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177) التفسير:
{ 177 } قوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب }: في هذه الآية قراءتان: { ليس البِرَّ }بفتح الراء؛ و{ ليس البِرُّ } بضم الراء؛ فأما على قراءة الرفع فإن { البرُّ } تكون اسم { ليس }، و{ أن تولوا } خبرها؛ وأما على قراءة النصب فتكون { البرَّ } خبر { ليس }، و{ أن تولوا } اسمها مؤخراً؛ يعني تقدير الكلام على الأول: ليس البرُّ توليتَكم وجوهكم؛ والتقدير على الثاني: ليس البرَّ توليتُكم - بالرفع.
و «البر» في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي «البَرّ» لسعته، واتساعه؛ ومنه «البَرّ» اسم من أسماء الله، كما قال تعالى: { إنّا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } [الطور: 28] ؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق - أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب.
وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ فبين الله عز وجل أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ؛ أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر؛ وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب.
قوله تعالى: { ولكن البر }: فيها قراءاتان؛ الأولى: { ولكنِ البرُّ } بالرفع؛ وعلى هذا تكون { لكن } مهملة غير عاملة؛ والقراءة الثانية التي في المصحف: { ولكنَّ البرَّ } بتشديد نون { لكنَّ }، فتكون عاملة.
قوله تعالى: { ولكن البر من آمن بالله... }: { البر } عمل؛ و{ من آمن } عامل؛ فكيف يصح أن يكون العامل خبراً عن العمل؟ في هذا أوجه:
الوجه الأول: أن الآية على تقدير مضاف؛ والتقدير: ولكن البر بر من آمن بالله... إلخ.
الوجه الثاني: أن الآية على سبيل المبالغة؛ وليس فيها تقدير مضاف، كأنه جعل المؤمن هو نفس البر، مثلما يقال: «رجل عدل» بمعنى أنه عادل.
الوجه الثالث: أن نجعل { البر } بمعنى البارّ؛ فيكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البارَّ حقيقة القائمَ بالبر من آمن بالله...
وقوله تعالى: { من آمن بالله }؛ تقدم أن «الإيمان» في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه - أي صدقه؛ لكن «آمن به» مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام - مثل: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] - فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد.
قوله تعالى: { واليوم الآخر }: هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم.
قوله تعالى: { والملائكة } جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1] ؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21] .
قوله تعالى: { والكتاب }؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله عز وجل على كل رسول.
قوله تعالى: { والنبيين } يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس: قال الله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163] .
قوله تعالى: { وآتى } بالمد؛ بمعنى أعطى؛ إذاً هي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: { المال }؛ والمفعول الثاني: قوله تعالى: { ذوي القربى }، وما عطف عليه؛ و(المال): كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقداً، أو ثياباً، و طعاماً، أو عقاراً، أو أي شيء.
قوله تعالى: (على حبه) حال من فاعل (آتى)، يعني حال كونه محباً له لحاجته إليه، كالجائع؛ أو لتعلق نفسه به، مثل أن يعجبه جماله، أو قوته، أو ما أشبه ذلك.
قوله تعالى: { ذوي القربى } أي أصحاب القرابة؛ والمراد قرابة المعطي؛ وبدأ بهم قبل كل الأصناف؛ لأن حقهم آكد؛ وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع.
قوله تعالى: { واليتامى } جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر، أو أنثى؛ فأما من ماتت أمه فليس بيتيم؛ ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسمي يتيماً من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة - يعني أنها منفردة ليس لها نظير.
قوله تعالى: { والمساكين } جمع مسكين؛ وهو الفقير؛ سمي بذلك لأن الفقر أسكنه، وأذله؛ والفقر - أعاذنا الله منه - لا يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة؛ هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ليس على المستوى الذي يمكنه من التكلم؛ ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»(102).
واعلم أن الفقير بمعنى المسكين؛ والمسكين بمعنى الفقير؛ إلا إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر؛ فالفقير أشد حاجة، كما في آية الصدقة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين...} [التوبة: 60] ؛ لأن الله بدأ به؛ ويُبدأ بالأحق فالأحق، والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء؛ ويجمعهما - أعني الفقير، والمسكين - أن كلاً منهما ليس عنده ما يكفيه وعائلته من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومنكح، ومركوب.
قوله تعالى: { وابن السبيل }؛ «السبيل» بمعنى الطريق؛ والمراد بـ { ابن السبيل } الملازم للطريق؛ وهو المسافر؛ والمسافر يكون في حاجة غالباً، فيحتاج إلى من يعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظاً من الزكاة؛ فابن السبيل هو المسافر؛ وزاد العلماء قيداً؛ قالوا: المسافر المنقطع به السفر - أي انقطع به السفر؛ فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة؛ فهو والمقيم على حدٍّ سواء؛ فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر.
قوله تعالى: { والسائلين } جمع سائل؛ وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالاً؛ وإنما كان إعطاؤه من البر؛ لأن معطيه يتصف بصفة الكرماء؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه؛ والسائل نوعان؛ سائل بلسان المقال: وهو الذي يقول للمسؤول: أعطني كذا؛ وسائل بلسان الحال: وهو الذي يُعَرِّض بالسؤال، ولا يصرح به، مثل أن يأتي على حال تستدعي إعطاءه.
قوله تعالى: { وفي الرقاب } أي في إعتاق الرقاب، أو فكاكها من الأسر.
قوله تعالى: { وأقام الصلاة } هذه معطوفة على { آمن } التي هي صلة الموصول؛ فيكون التقدير: ومن أقام الصلاة؛ و{ الصلاة } المراد بها الفرض، والنفل؛ وإقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً؛ وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها؛ واعلم أن «الصلاة» من الكلمات التي نقلها الشارع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فمعناها في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: {وصلّ عليهم} [التوبة: 103] أي ادْعُ لهم بالصلاة، فقل: صلى الله عليكم؛ ولكنها في الشرع: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم.
قوله تعالى: { وآتى الزكاة } أي أعطى الزكاة مستحقها؛ و«الزكاة» أيضاً من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو - أي نما، وزاد؛ وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] أي أصلحها، وقومها؛ لكن في الشرع «الزكاة» هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً، وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»(103)؛ وتزكي الثواب ، كما قال تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } [البقرة: 261] ؛ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها، كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل»(104).
قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ { إذا } هنا مجردة من الشرطية؛ فهي ظرفية محضة - يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا.
قوله تعالى: { والصابرين }: فيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن الذي قبله مرفوع؛ وهو غير مرفوع؛ يقول بعض العلماء؛ إنه منصوب بفعل محذوف، والتقدير: وأخص الصابرين؛ والبلاغة من هذا أنه إذا تغير أسلوب الكلام كان ذلك أدعى للانتباه؛ فإن الإنسان إذا قرأ الكلام على نسق واحد لم يحصل له انتباه، كما يحصل عند تغير السياق.
و «الصبر» ليس بذل شيء؛ ولكنه تحمل شيء؛ وما سبق كله بذل شيء؛ فهو مختلف من حيث النوع: { من آمن... وأقام... وآتى... } كل هذه أفعال؛ لكن { الصابرين } ليس فعلاً؛ ولكنه تحمُّل.
و«الصبر» في اللغة الحبس؛ ومنه قولهم: فلان قُتل صبراً - أي حبساً؛ وأما في الشرع فإنه حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة.
قوله تعالى: { في البأساء والضراء وحين البأس }: { البأساء } شدة الفقر؛ ومنه «البؤس» يعني الفقر؛ و{الضراء }: المرض؛ و{ حين البأس }: شدة القتل؛ فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها؛ { في البأساء } يعني: في حال الفقر؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله؛ بل يصبرون عن المعصية: لا يسرقون، ولا يخونون، ولا يكذبون، ولا يغشون؛ ولا تحملهم الضراء - المرض، وما يضر أبدانهم - على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛ كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار - وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية: { الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر عن المعصية؛ وعلى الأقدار المؤلمة؛ وعلى الطاعة؛ والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.
قوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ هذه شهادة من الله عز وجل؛ وهي أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد سبحانه وتعالى؛ والمشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم.
وقوله تعالى: { الذين صدقوا } أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك؛ والصدق هو مطابقة الشيء للواقع؛ فالمخبر بشيء إذا كان خبره موافقاً للواقع صار صادقاً؛ والعامل الذي يعمل بالطاعة إذا كانت صادرة عن إخلاص، واتباع صار عمله صادقاً؛ لأنه ينبئ عما في قلبه إنباءً صادقاً.
قوله تعالى: { وأولئك هم المتقون } أي القائمون بالتقوى؛ و «التقوى» هي اتخاذ الوقاية من عذاب الله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى؛ وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة؛ الجملة اسمية لدلالتها على الثبوت، والاستمرار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها؛ وهذه الجملة مؤكدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد سبق ذكرها(105).
وقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }: هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى؛ البر: بالصدق؛ والتقوى: بهذا الوصف: { أولئك هم المتقون }؛ وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة»(106)؛ فجمعوا بين البر والتقوى؛ فهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] ؛ وكرر الإشارة مرة ثانية من باب التأكيد، والمدح، والثناء كأن كل جملة من هاتين الجملتين مستقلة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن البر حقيقة هو الإيمان بالله... إلخ؛ والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته:
أما الإيمان بوجوده: فإنه دل عليه الشرع، والحس، والعقل، والفطرة:
أ - دلالة الشرع على وجوده سبحانه وتعالى واضحة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب.
ب - دلالة الحس: فإن الله سبحانه وتعالى يدعى، ويجيب؛ وهذا دليل حسي على وجوده - تبارك وتعالى، كما في سورة الأنبياء، وغيرها من إجابة دعوة الرسل فور دعائهم، كقوله تعالى: {ونوحاً إذا نادى من قبل فاستجبنا له} [الأنبياء: 76] ، وقوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له} [الأنبياء: 83، 84] .
ج - دلالة العقل: أنّ ما من حادث إلا وله محدث، كما قال عز وجل: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35] ؛ هذا الكون العظيم بما فيه من النظام، والتغيرات، والأحداث لا بد أن يكون له موجِد مُحدِث يحدث هذه الأشياء - وهو الله عز وجل؛ إذ لا يمكن أن تَحدث بنفسها؛ لأنها قبل الوجود عدم؛ والعدم - كاسمه لا وجود له؛ ولا يمكن أن يحدثها مخلوق لِما فيها من العظم والعبر.
د - دلالة الفطرة: فإن الإنسان لو ترك وفطرته لكان مؤمناً بالله؛ والدليل على هذا قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] ؛ حتى غير الإنسان مفطور على معرفة الرب عز وجل.
وأما الإيمان بربوبيته: فهو الإيمان بأنه وحده الخالق لهذا الكون المالك له المدبر له؛ وقد دل عليه ما سبق من الأدلة على وجوده؛ وقد أقر بذلك المشركون، كما في قوله تعالى: { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله }؛ إلى غيرها من الآيات الكثيرة.
وأما الإيمان بألوهيته: فهو الإيمان بأنه لا إله في الوجود حق إلا الله عز وجل وكل ما سواه من الآلهة باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62] ، فالله سبحانه وتعالى هو الإله الحق.
وأما الإيمان بأسمائه، وصفاته: فهو الإيمان بما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل على حد قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ؛ ودليل ذلك قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [الأعراف: 180] ؛ وقوله تعالى: { ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } [النحل: 60] ووجه الدلالة: تقديم الخبر في الآيتين؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.
2 - ومن فوائد الآية: أن طاعة الله عز وجل من البر.
3 - ومنها: أن الإيمان باليوم الآخر من البر؛ ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، والكتب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.
والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح، ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به تعالى كثيراً لأن نتجية هذا الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخرة، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة؛ ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد؛ كما أنه لو قيل مثلاً لإنسان عنده حَبٌّ: إنه سينزل اليوم مطر، فظلَّل الحَبّ؛ معلوم أن الذي لا يؤمن بهذا الكلام لن يغطيه؛ كذلك لو قيل: سيأتي اليوم عدو، فشدد في الحراسة؛ إذا آمن بأنه سيأتي عدو شدَّد في الحراسة بجميع ما يمكن؛ فإذا لم يشدد في الحراسة علمنا أنه لم يؤمن به.
4 - ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالملائكة من البر؛ ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالاً فيما علمناه إجمالاً، وتفصيلاً فيما علمناه تفصيلاً؛ واعلم أن الملائكة - عليهم الصلاة السلام - منهم من عُين لنا، وعرفناه باسمه؛ ومنهم من لم يعين؛ فمن عين لنا وجب علينا أن نؤمن باسمه كما عين، مثل «جبريل» عليه السلام؛ وإسرافيل؛ ومالك - خازن النار -؛ ومنكر ونكير إن صح الحديث بهذا اللفظ(107) - ففيه نظر -؛ وميكائيل؛ وملك الموت - ولكننا لا نعرف اسمه؛ بعض الناس يقولون: عزرائيل؛ ولكن لم يصح هذا؛ وهاروت، وماروت؛ ثم كذلك أعمالهم منهم من علمنا أعماله؛ ومنهم من لم نعلم؛ لكن علينا أن نؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكل بالقطر، والنبات؛ والموكل بالنفخ في الصور؛ وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة؛ وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم؛ وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] ؛ لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه؛ وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 22، 23فنفى جميع ما يتعلق به المشركون: {لا يملكون مثقال ذرة} [سبأ: 22] انفراداً؛ {وما لهم فيهما من شرك} [سبأ: 22] مشاركة؛ {وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] معاونة؛ {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23] : فنفى الشفاعة، والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} [سبأ: 23] : وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون؛ لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.
5 - ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالكتب من البر؛ وكيفيته أن نؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحد من رسله فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام؛ ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه؛ واعلم أنه ما من رسول إلا معه كتاب؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] أي مع هؤلاء الرسل، وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] ؛ فما من رسول إلا معه كتاب؛ والكتب المعروفة لدينا هي التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم؛ وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، فمنهم من قال: إنها غيرها؛ ومنهم من قال: إنها هي؛ وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالاً؛ فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول؛ ثم إن المراد أن نؤمن بأن الله أنزل على موسى كتاباً يسمى التوراة؛ وعلى عيسى كتاباً يسمى الإنجيل؛ وعلى داود كتاباً يسمى الزبور؛ أما أن تؤمن بالموجود منها الآن فليس بواجب عليك؛ لأنه محرف، ومغير، ومبدل؛ لكن تؤمن بأن له أصلاً نزل على هؤلاء الرسل.
6 - ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالنبيين من البر؛ فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه؛ فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه؛ والباقي إجمالاً؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً؛ وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً(108)؛ فإن صح الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به؛ وإن لم يصح فإن الله تعالى يقول: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [غافر: 78] ؛ ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا؛ فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم؛ والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالاً، كما قال تعالى: { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } [البقرة: 285] ؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولاً؛ قال تعالى: {ووهبنا له} [الأنعام: 84] أي إبراهيم: {إسحاق ويعقوب كلًّا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلًّا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 84 - 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر؛ ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
7 - ومن فوائد الآية: أن إعطاء المال على حبه من البر؛ وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وقال: إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ؛ وعندما سمع أبو طلحة هذه الآية تصدق ببستانه الذي هو أحب شيء إليه من ماله؛ لا لأنه بستانه فقط؛ ولكن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه، ويشرب فيه من ماء طيب، وكان قريباً من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولما نزلت الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «يا رسول الله، إن الله أنزل هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}؛ وإن أحب مالي إليّ «بيرُحاء»؛ وإني أضعها صدقة إلى الله ورسوله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ! بخ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! أرى أن تجعله في الأقربين»(109).
8 - ومن فوائد الآية: أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: { وآتى المال على حبه ذوي القربى }؛ فلو سأل سائل: هل الأفضل أن أعطي القرابة، أو اليتامى؟ لقلنا: أعطِ القرابة؛ اللهم إلا إن يكون هناك ضرورة في اليتامى ترجح إعطاءهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقديم صلة الرحم على العتق(110)؛ واعلم أن الحكم إذا علق بوصف تختلف أفراده فيه قوة وضعفاً، فإنه يزداد قوة بقوة ذلك الوصف؛ فإذا كان معلقاً بالقرابة فكل من كان أقرب فهو أولى؛ وأقرب الناس إليك، وأحقهم بالبر: أمك، وأبوك.
9 - ومن فوائد الآية: أن لليتامى حقاً؛ لأن الله امتدح من آتاهم المال؛ لقوله تعالى: { واليتامى } سواء كانوا فقراء، أم أغنياء.
10 - ومنها: إثبات رحمة الله عز وجل، حيث ندب إلى إتيان المال لليتامى، والمساكين؛ لأن هذا لا شك من الرحمة بهم.
11 - ومنها: أن لابن السبيل حقاً - ولو كان غنياً في بلده.
12 - ومنها: أن إعطاء السائل من البر - وإن كان غنياً؛ لعموم قوله تعالى: { والسائلين }.
فإذا قال قائل: إذا كان مؤتي المال للسائلين من أهل البر فكيف يتفق، والتحذير من سؤال الناس؟
فالجواب: أنه لا معارضة؛ لأن الجهة منفكة؛ فالممدوح: المعطي؛ والمحذَّر: السائل المعطى؛ فإذا انفكت الجهة فلا تعارض؛ فلو رأيت مبتلى بهذه المهنة - وهي مهنة سؤال الناس - فأعطه إذا سألك، ثم انصحه، وحذره؛ لتكون مؤتياً للمال، وناصحاً للسائل؛ لأن بعض الناس - والعياذ بالله - نعلم علم اليقين - أو يغلب على الظن المؤكد - أنه غني؛ وإنما سأل الناس تكثراً؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقل، أو ليستكثر»(111)؛ وأنه «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم»(112).
13 - ومن فوائد الآية: أن إعتاق الرقاب من البر؛ لقوله تعالى: { وفي الرقاب }؛ والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة؛ وإنما يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ { في } الدالة على الظرفية؛ والرقاب ذكر أهل العلم أنها ثلاثة أنواع:
أ - عبد مملوك تشتريه، وتعتقه.
ب - مكاتب اشترى نفسه من سيده، فأعنته في كتابته.
ج - أسير مسلم عند الكفار، فافتديته؛ وكذلك لو أسر عند غير الكفار، مثل الذين يختطفون الآن - والعياذ بالله؛ إذا طلب المختطفون فدية فإنه يفك من الزكاة؛ لأن فيها فك رقبة من القتل.
14 - ومنها: أن إقامة الصلاة من البر؛ لقوله تعالى: { وأقام الصلاة }.
15 - ومنها: أن إيتاء الزكاة للمستحقين لها من البر.
16 - ومنها: الثناء على الموفين بالعهد، وأن الوفاء به من البر؛ والعهد عهدان: عهد مع الله عز وجل؛ وعهد مع الخلق.
فالعهد الذي مع الله بينه بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172] ، وقوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12] ، وقوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40] ؛ فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا.
أما العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة؛ منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد؛ إذاً فكل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ ومن العهود بين الخلق؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار؛ وهو ثلاثة أنواع: مؤبد؛ ومقيد؛ ومطلق؛ فأما المؤبد فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الجهاد؛ وأما المقيد فبحسب الحاجة - وإن طالت المدة على القول الراجح - لأنه عهد دعت إليه الحاجة؛ فيتقيد بقدرها؛ وقيل: لا تجوز الزيادة فيه على عشرة سنوات؛ لأن الأصل وجوب قتال الكفار، وأبيح العهد في عشر سنوات تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية؛ والصحيح الأول؛ ويجاب عن عهد الحديبية بأن الحادثة لا تقتضي الزيادة؛ وأما المطلق فهو الذي لم يؤبد، ولم يحدد؛ وهو جائز على القول الراجح عند الحاجة إليه؛ فمتى وجد المسلمون الحاجة إليه عقدوه؛ وإذا زالت الحاجة عاملوا الكفار بما تقتضيه الحال؛ ولا حجة للكفار فيه؛ لأنه مطلق.
والمعاهدون من الكفار لهم ثلاث حالات؛ الحال الأولى: أن يستقيموا لنا؛ الحالة الثانية: أن يخونوا؛ الحال الثالثة: أن نخاف منهم الخيانة؛ فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم؛ ولا يمكن أن نخون أبداً؛ لقوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) [التوبة: 7]؛ وإن خانوا انقض عهدهم، ووجب قتالهم؛ لقوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) [التوبة: 12]؛ وإن خفنا منهم الخيانة وجب أن ننبذ إليهم عهدهم على سواء؛ لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] : نخبرهم أن لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة؛ ومن العهد أيضاً ما يقع بين الإنسان وبين غيره من الالتزامات غير العقود، مثل الوعد؛ فإن الوعد من العهد؛ ولهذا اختلف أهل العلم هل يجب الوفاء بالوعد، أو لا يجب؛ والصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجب الوفاء بالوعد؛ لأنه داخل في العهد، ولأن إخلاف الوعد من علامات النفاق؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز للمؤمن أن يتحلى بأخلاق المنافقين.
17 - ومن فوائد الآية: أن الصبر من البر؛ وهو ثلاثة أنواع:
الأول: الصبر على طاعة الله ، بأن يتحمل الصبر على الطاعة من غير ضجر، ولا كراهة.
الثاني: الصبر عن معصية الله ، بأن يحمل نفسه على الكف عن معصية الله إذا دعته نفسه إليها.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة التي لا تلائم الطبيعة بأن لا يتسخط من المقدور، ولا يتضجر؛ بل يحبس نفسه عن ذلك: قال الله تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157] .
وأعلى هذه الأنواع: الصبر على طاعة الله؛ لأن فيه تحملاً، ونوعاً من التعب بفعل الطاعة؛ ثم الصبر عن المعصية؛ لأن فيه تحملاً، وكفاً عن المعصية؛ والكف أهون من الفعل؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، لأنه على شيء لا اختيار للعبد فيه، ولهذا قيل: «إمّا أن تصبر صبر الكرام، وإمّا أن تسلوَ سلوّ البهائم».
18 - ومن فوائد الآية: أن ما ذُكر هو حقيقة الصدق مع الله، ومع الخلق؛ لقوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقهم مع الله، حيث قاموا بهذه الاعتقادات النافعة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ وأنهم أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات؛ وأما صدقهم مع الخلق يدخل في قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ وهذا من علامات الصدق؛ ولهذا قال تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق.
19 - ومن فوائد الآية أن ما ذكر من تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }؛ وسبق أنها إذا جمعت مع البر صارت التقوى ترك المحرمات، وصار البر فعل المأمورات؛ وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر؛ وفي هذه الآية قال تعالى: { وأولئك هم المتقون } مع أنهم قائمون بالبر؛ فدل هذا على أن القيام بالبر من التقوى؛ لأن حقيقة الأمر أن القائم بالبر يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله.
20 - ومنها: أن هؤلاء فقط هم المتقون؛ ونفهم ذلك من الحصر وطريقه هنا أمران:
أ - تعريف طرفي الجملة.
ب - ضمير الفصل.
تــنــبــيــه:
ظاهر الآية الكريمة العموم في إتيان المال لهؤلاء المذكورين في الآية: القرابة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب؛ فظاهر الآية العموم للمسلمين، والكافرين؛ لكنه غير مراد؛ بل هي خاصة بالمسلم؛ وأما الكافر فلا بأس من بره، والإحسان إليه بشرط أن يكون ممن لا يقاتلوننا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا؛ لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8] ؛ وعلى هذا فإذا كان الكافر يقاتلنا بنفسه بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلاً، أو يقاتلنا حكماً، مثل أن يكون من دولة تقاتل المسلمين فإنه لا يجوز بره، ولا إعطاؤه المال؛ لأنه مستعد حكماً للقتال: إذا أمرته دولته بقتال فإنه يلبي؛ وما دام حرباً للمسلمين فإنه يريد إعدام المسلمين، وليس أهلاً للإحسان إليه.
{ 177 } قوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب }: في هذه الآية قراءتان: { ليس البِرَّ }بفتح الراء؛ و{ ليس البِرُّ } بضم الراء؛ فأما على قراءة الرفع فإن { البرُّ } تكون اسم { ليس }، و{ أن تولوا } خبرها؛ وأما على قراءة النصب فتكون { البرَّ } خبر { ليس }، و{ أن تولوا } اسمها مؤخراً؛ يعني تقدير الكلام على الأول: ليس البرُّ توليتَكم وجوهكم؛ والتقدير على الثاني: ليس البرَّ توليتُكم - بالرفع.
و «البر» في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي «البَرّ» لسعته، واتساعه؛ ومنه «البَرّ» اسم من أسماء الله، كما قال تعالى: { إنّا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } [الطور: 28] ؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق - أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب.
وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ فبين الله عز وجل أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ؛ أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر؛ وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب.
قوله تعالى: { ولكن البر }: فيها قراءاتان؛ الأولى: { ولكنِ البرُّ } بالرفع؛ وعلى هذا تكون { لكن } مهملة غير عاملة؛ والقراءة الثانية التي في المصحف: { ولكنَّ البرَّ } بتشديد نون { لكنَّ }، فتكون عاملة.
قوله تعالى: { ولكن البر من آمن بالله... }: { البر } عمل؛ و{ من آمن } عامل؛ فكيف يصح أن يكون العامل خبراً عن العمل؟ في هذا أوجه:
الوجه الأول: أن الآية على تقدير مضاف؛ والتقدير: ولكن البر بر من آمن بالله... إلخ.
الوجه الثاني: أن الآية على سبيل المبالغة؛ وليس فيها تقدير مضاف، كأنه جعل المؤمن هو نفس البر، مثلما يقال: «رجل عدل» بمعنى أنه عادل.
الوجه الثالث: أن نجعل { البر } بمعنى البارّ؛ فيكون مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ولكن البارَّ حقيقة القائمَ بالبر من آمن بالله...
وقوله تعالى: { من آمن بالله }؛ تقدم أن «الإيمان» في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه - أي صدقه؛ لكن «آمن به» مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام - مثل: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] - فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد.
قوله تعالى: { واليوم الآخر }: هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم.
قوله تعالى: { والملائكة } جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1] ؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21] .
قوله تعالى: { والكتاب }؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله عز وجل على كل رسول.
قوله تعالى: { والنبيين } يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس: قال الله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163] .
قوله تعالى: { وآتى } بالمد؛ بمعنى أعطى؛ إذاً هي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: { المال }؛ والمفعول الثاني: قوله تعالى: { ذوي القربى }، وما عطف عليه؛ و(المال): كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقداً، أو ثياباً، و طعاماً، أو عقاراً، أو أي شيء.
قوله تعالى: (على حبه) حال من فاعل (آتى)، يعني حال كونه محباً له لحاجته إليه، كالجائع؛ أو لتعلق نفسه به، مثل أن يعجبه جماله، أو قوته، أو ما أشبه ذلك.
قوله تعالى: { ذوي القربى } أي أصحاب القرابة؛ والمراد قرابة المعطي؛ وبدأ بهم قبل كل الأصناف؛ لأن حقهم آكد؛ وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع.
قوله تعالى: { واليتامى } جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر، أو أنثى؛ فأما من ماتت أمه فليس بيتيم؛ ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسمي يتيماً من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة - يعني أنها منفردة ليس لها نظير.
قوله تعالى: { والمساكين } جمع مسكين؛ وهو الفقير؛ سمي بذلك لأن الفقر أسكنه، وأذله؛ والفقر - أعاذنا الله منه - لا يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة؛ هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ليس على المستوى الذي يمكنه من التكلم؛ ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»(102).
واعلم أن الفقير بمعنى المسكين؛ والمسكين بمعنى الفقير؛ إلا إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر؛ فالفقير أشد حاجة، كما في آية الصدقة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين...} [التوبة: 60] ؛ لأن الله بدأ به؛ ويُبدأ بالأحق فالأحق، والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء؛ ويجمعهما - أعني الفقير، والمسكين - أن كلاً منهما ليس عنده ما يكفيه وعائلته من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومنكح، ومركوب.
قوله تعالى: { وابن السبيل }؛ «السبيل» بمعنى الطريق؛ والمراد بـ { ابن السبيل } الملازم للطريق؛ وهو المسافر؛ والمسافر يكون في حاجة غالباً، فيحتاج إلى من يعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظاً من الزكاة؛ فابن السبيل هو المسافر؛ وزاد العلماء قيداً؛ قالوا: المسافر المنقطع به السفر - أي انقطع به السفر؛ فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة؛ فهو والمقيم على حدٍّ سواء؛ فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر.
قوله تعالى: { والسائلين } جمع سائل؛ وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالاً؛ وإنما كان إعطاؤه من البر؛ لأن معطيه يتصف بصفة الكرماء؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه؛ والسائل نوعان؛ سائل بلسان المقال: وهو الذي يقول للمسؤول: أعطني كذا؛ وسائل بلسان الحال: وهو الذي يُعَرِّض بالسؤال، ولا يصرح به، مثل أن يأتي على حال تستدعي إعطاءه.
قوله تعالى: { وفي الرقاب } أي في إعتاق الرقاب، أو فكاكها من الأسر.
قوله تعالى: { وأقام الصلاة } هذه معطوفة على { آمن } التي هي صلة الموصول؛ فيكون التقدير: ومن أقام الصلاة؛ و{ الصلاة } المراد بها الفرض، والنفل؛ وإقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً؛ وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها؛ واعلم أن «الصلاة» من الكلمات التي نقلها الشارع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فمعناها في اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: {وصلّ عليهم} [التوبة: 103] أي ادْعُ لهم بالصلاة، فقل: صلى الله عليكم؛ ولكنها في الشرع: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم.
قوله تعالى: { وآتى الزكاة } أي أعطى الزكاة مستحقها؛ و«الزكاة» أيضاً من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو - أي نما، وزاد؛ وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 9] أي أصلحها، وقومها؛ لكن في الشرع «الزكاة» هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً، وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»(103)؛ وتزكي الثواب ، كما قال تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } [البقرة: 261] ؛ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها، كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل»(104).
قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ { إذا } هنا مجردة من الشرطية؛ فهي ظرفية محضة - يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا.
قوله تعالى: { والصابرين }: فيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن الذي قبله مرفوع؛ وهو غير مرفوع؛ يقول بعض العلماء؛ إنه منصوب بفعل محذوف، والتقدير: وأخص الصابرين؛ والبلاغة من هذا أنه إذا تغير أسلوب الكلام كان ذلك أدعى للانتباه؛ فإن الإنسان إذا قرأ الكلام على نسق واحد لم يحصل له انتباه، كما يحصل عند تغير السياق.
و «الصبر» ليس بذل شيء؛ ولكنه تحمل شيء؛ وما سبق كله بذل شيء؛ فهو مختلف من حيث النوع: { من آمن... وأقام... وآتى... } كل هذه أفعال؛ لكن { الصابرين } ليس فعلاً؛ ولكنه تحمُّل.
و«الصبر» في اللغة الحبس؛ ومنه قولهم: فلان قُتل صبراً - أي حبساً؛ وأما في الشرع فإنه حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة.
قوله تعالى: { في البأساء والضراء وحين البأس }: { البأساء } شدة الفقر؛ ومنه «البؤس» يعني الفقر؛ و{الضراء }: المرض؛ و{ حين البأس }: شدة القتل؛ فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها؛ { في البأساء } يعني: في حال الفقر؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله؛ بل يصبرون عن المعصية: لا يسرقون، ولا يخونون، ولا يكذبون، ولا يغشون؛ ولا تحملهم الضراء - المرض، وما يضر أبدانهم - على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛ كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار - وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية: { الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر عن المعصية؛ وعلى الأقدار المؤلمة؛ وعلى الطاعة؛ والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.
قوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ هذه شهادة من الله عز وجل؛ وهي أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد سبحانه وتعالى؛ والمشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم.
وقوله تعالى: { الذين صدقوا } أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك؛ والصدق هو مطابقة الشيء للواقع؛ فالمخبر بشيء إذا كان خبره موافقاً للواقع صار صادقاً؛ والعامل الذي يعمل بالطاعة إذا كانت صادرة عن إخلاص، واتباع صار عمله صادقاً؛ لأنه ينبئ عما في قلبه إنباءً صادقاً.
قوله تعالى: { وأولئك هم المتقون } أي القائمون بالتقوى؛ و «التقوى» هي اتخاذ الوقاية من عذاب الله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى؛ وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة؛ الجملة اسمية لدلالتها على الثبوت، والاستمرار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها؛ وهذه الجملة مؤكدة بضمير الفصل: { هم }؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد سبق ذكرها(105).
وقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }: هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى؛ البر: بالصدق؛ والتقوى: بهذا الوصف: { أولئك هم المتقون }؛ وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة»(106)؛ فجمعوا بين البر والتقوى؛ فهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] ؛ وكرر الإشارة مرة ثانية من باب التأكيد، والمدح، والثناء كأن كل جملة من هاتين الجملتين مستقلة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن البر حقيقة هو الإيمان بالله... إلخ؛ والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته:
أما الإيمان بوجوده: فإنه دل عليه الشرع، والحس، والعقل، والفطرة:
أ - دلالة الشرع على وجوده سبحانه وتعالى واضحة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب.
ب - دلالة الحس: فإن الله سبحانه وتعالى يدعى، ويجيب؛ وهذا دليل حسي على وجوده - تبارك وتعالى، كما في سورة الأنبياء، وغيرها من إجابة دعوة الرسل فور دعائهم، كقوله تعالى: {ونوحاً إذا نادى من قبل فاستجبنا له} [الأنبياء: 76] ، وقوله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له} [الأنبياء: 83، 84] .
ج - دلالة العقل: أنّ ما من حادث إلا وله محدث، كما قال عز وجل: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35] ؛ هذا الكون العظيم بما فيه من النظام، والتغيرات، والأحداث لا بد أن يكون له موجِد مُحدِث يحدث هذه الأشياء - وهو الله عز وجل؛ إذ لا يمكن أن تَحدث بنفسها؛ لأنها قبل الوجود عدم؛ والعدم - كاسمه لا وجود له؛ ولا يمكن أن يحدثها مخلوق لِما فيها من العظم والعبر.
د - دلالة الفطرة: فإن الإنسان لو ترك وفطرته لكان مؤمناً بالله؛ والدليل على هذا قوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] ؛ حتى غير الإنسان مفطور على معرفة الرب عز وجل.
وأما الإيمان بربوبيته: فهو الإيمان بأنه وحده الخالق لهذا الكون المالك له المدبر له؛ وقد دل عليه ما سبق من الأدلة على وجوده؛ وقد أقر بذلك المشركون، كما في قوله تعالى: { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله }؛ إلى غيرها من الآيات الكثيرة.
وأما الإيمان بألوهيته: فهو الإيمان بأنه لا إله في الوجود حق إلا الله عز وجل وكل ما سواه من الآلهة باطلة، كما قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62] ، فالله سبحانه وتعالى هو الإله الحق.
وأما الإيمان بأسمائه، وصفاته: فهو الإيمان بما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل على حد قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] ؛ ودليل ذلك قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [الأعراف: 180] ؛ وقوله تعالى: { ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } [النحل: 60] ووجه الدلالة: تقديم الخبر في الآيتين؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.
2 - ومن فوائد الآية: أن طاعة الله عز وجل من البر.
3 - ومنها: أن الإيمان باليوم الآخر من البر؛ ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، والكتب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.
والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح، ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به تعالى كثيراً لأن نتجية هذا الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخرة، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة؛ ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد؛ كما أنه لو قيل مثلاً لإنسان عنده حَبٌّ: إنه سينزل اليوم مطر، فظلَّل الحَبّ؛ معلوم أن الذي لا يؤمن بهذا الكلام لن يغطيه؛ كذلك لو قيل: سيأتي اليوم عدو، فشدد في الحراسة؛ إذا آمن بأنه سيأتي عدو شدَّد في الحراسة بجميع ما يمكن؛ فإذا لم يشدد في الحراسة علمنا أنه لم يؤمن به.
4 - ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالملائكة من البر؛ ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالاً فيما علمناه إجمالاً، وتفصيلاً فيما علمناه تفصيلاً؛ واعلم أن الملائكة - عليهم الصلاة السلام - منهم من عُين لنا، وعرفناه باسمه؛ ومنهم من لم يعين؛ فمن عين لنا وجب علينا أن نؤمن باسمه كما عين، مثل «جبريل» عليه السلام؛ وإسرافيل؛ ومالك - خازن النار -؛ ومنكر ونكير إن صح الحديث بهذا اللفظ(107) - ففيه نظر -؛ وميكائيل؛ وملك الموت - ولكننا لا نعرف اسمه؛ بعض الناس يقولون: عزرائيل؛ ولكن لم يصح هذا؛ وهاروت، وماروت؛ ثم كذلك أعمالهم منهم من علمنا أعماله؛ ومنهم من لم نعلم؛ لكن علينا أن نؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكل بالقطر، والنبات؛ والموكل بالنفخ في الصور؛ وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة؛ وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم؛ وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11] ؛ لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه؛ وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 22، 23فنفى جميع ما يتعلق به المشركون: {لا يملكون مثقال ذرة} [سبأ: 22] انفراداً؛ {وما لهم فيهما من شرك} [سبأ: 22] مشاركة؛ {وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] معاونة؛ {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ: 23] : فنفى الشفاعة، والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} [سبأ: 23] : وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون؛ لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.
5 - ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالكتب من البر؛ وكيفيته أن نؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحد من رسله فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام؛ ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه؛ واعلم أنه ما من رسول إلا معه كتاب؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] أي مع هؤلاء الرسل، وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] ؛ فما من رسول إلا معه كتاب؛ والكتب المعروفة لدينا هي التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم؛ وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، فمنهم من قال: إنها غيرها؛ ومنهم من قال: إنها هي؛ وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالاً؛ فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول؛ ثم إن المراد أن نؤمن بأن الله أنزل على موسى كتاباً يسمى التوراة؛ وعلى عيسى كتاباً يسمى الإنجيل؛ وعلى داود كتاباً يسمى الزبور؛ أما أن تؤمن بالموجود منها الآن فليس بواجب عليك؛ لأنه محرف، ومغير، ومبدل؛ لكن تؤمن بأن له أصلاً نزل على هؤلاء الرسل.
6 - ومن فوائد الآية: أن الإيمان بالنبيين من البر؛ فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه؛ فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه؛ والباقي إجمالاً؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً؛ وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً(108)؛ فإن صح الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به؛ وإن لم يصح فإن الله تعالى يقول: { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [غافر: 78] ؛ ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا؛ فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم؛ والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالاً، كما قال تعالى: { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } [البقرة: 285] ؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولاً؛ قال تعالى: {ووهبنا له} [الأنعام: 84] أي إبراهيم: {إسحاق ويعقوب كلًّا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلًّا فضلنا على العالمين} [الأنعام: 84 - 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر؛ ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
7 - ومن فوائد الآية: أن إعطاء المال على حبه من البر؛ وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به وقال: إن الله يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ؛ وعندما سمع أبو طلحة هذه الآية تصدق ببستانه الذي هو أحب شيء إليه من ماله؛ لا لأنه بستانه فقط؛ ولكن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه، ويشرب فيه من ماء طيب، وكان قريباً من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولما نزلت الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «يا رسول الله، إن الله أنزل هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}؛ وإن أحب مالي إليّ «بيرُحاء»؛ وإني أضعها صدقة إلى الله ورسوله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بخ! بخ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! أرى أن تجعله في الأقربين»(109).
8 - ومن فوائد الآية: أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: { وآتى المال على حبه ذوي القربى }؛ فلو سأل سائل: هل الأفضل أن أعطي القرابة، أو اليتامى؟ لقلنا: أعطِ القرابة؛ اللهم إلا إن يكون هناك ضرورة في اليتامى ترجح إعطاءهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقديم صلة الرحم على العتق(110)؛ واعلم أن الحكم إذا علق بوصف تختلف أفراده فيه قوة وضعفاً، فإنه يزداد قوة بقوة ذلك الوصف؛ فإذا كان معلقاً بالقرابة فكل من كان أقرب فهو أولى؛ وأقرب الناس إليك، وأحقهم بالبر: أمك، وأبوك.
9 - ومن فوائد الآية: أن لليتامى حقاً؛ لأن الله امتدح من آتاهم المال؛ لقوله تعالى: { واليتامى } سواء كانوا فقراء، أم أغنياء.
10 - ومنها: إثبات رحمة الله عز وجل، حيث ندب إلى إتيان المال لليتامى، والمساكين؛ لأن هذا لا شك من الرحمة بهم.
11 - ومنها: أن لابن السبيل حقاً - ولو كان غنياً في بلده.
12 - ومنها: أن إعطاء السائل من البر - وإن كان غنياً؛ لعموم قوله تعالى: { والسائلين }.
فإذا قال قائل: إذا كان مؤتي المال للسائلين من أهل البر فكيف يتفق، والتحذير من سؤال الناس؟
فالجواب: أنه لا معارضة؛ لأن الجهة منفكة؛ فالممدوح: المعطي؛ والمحذَّر: السائل المعطى؛ فإذا انفكت الجهة فلا تعارض؛ فلو رأيت مبتلى بهذه المهنة - وهي مهنة سؤال الناس - فأعطه إذا سألك، ثم انصحه، وحذره؛ لتكون مؤتياً للمال، وناصحاً للسائل؛ لأن بعض الناس - والعياذ بالله - نعلم علم اليقين - أو يغلب على الظن المؤكد - أنه غني؛ وإنما سأل الناس تكثراً؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقل، أو ليستكثر»(111)؛ وأنه «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم»(112).
13 - ومن فوائد الآية: أن إعتاق الرقاب من البر؛ لقوله تعالى: { وفي الرقاب }؛ والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة؛ وإنما يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ { في } الدالة على الظرفية؛ والرقاب ذكر أهل العلم أنها ثلاثة أنواع:
أ - عبد مملوك تشتريه، وتعتقه.
ب - مكاتب اشترى نفسه من سيده، فأعنته في كتابته.
ج - أسير مسلم عند الكفار، فافتديته؛ وكذلك لو أسر عند غير الكفار، مثل الذين يختطفون الآن - والعياذ بالله؛ إذا طلب المختطفون فدية فإنه يفك من الزكاة؛ لأن فيها فك رقبة من القتل.
14 - ومنها: أن إقامة الصلاة من البر؛ لقوله تعالى: { وأقام الصلاة }.
15 - ومنها: أن إيتاء الزكاة للمستحقين لها من البر.
16 - ومنها: الثناء على الموفين بالعهد، وأن الوفاء به من البر؛ والعهد عهدان: عهد مع الله عز وجل؛ وعهد مع الخلق.
فالعهد الذي مع الله بينه بقوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172] ، وقوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12] ، وقوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40] ؛ فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا.
أما العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة؛ منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد؛ إذاً فكل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ ومن العهود بين الخلق؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار؛ وهو ثلاثة أنواع: مؤبد؛ ومقيد؛ ومطلق؛ فأما المؤبد فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الجهاد؛ وأما المقيد فبحسب الحاجة - وإن طالت المدة على القول الراجح - لأنه عهد دعت إليه الحاجة؛ فيتقيد بقدرها؛ وقيل: لا تجوز الزيادة فيه على عشرة سنوات؛ لأن الأصل وجوب قتال الكفار، وأبيح العهد في عشر سنوات تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية؛ والصحيح الأول؛ ويجاب عن عهد الحديبية بأن الحادثة لا تقتضي الزيادة؛ وأما المطلق فهو الذي لم يؤبد، ولم يحدد؛ وهو جائز على القول الراجح عند الحاجة إليه؛ فمتى وجد المسلمون الحاجة إليه عقدوه؛ وإذا زالت الحاجة عاملوا الكفار بما تقتضيه الحال؛ ولا حجة للكفار فيه؛ لأنه مطلق.
والمعاهدون من الكفار لهم ثلاث حالات؛ الحال الأولى: أن يستقيموا لنا؛ الحالة الثانية: أن يخونوا؛ الحال الثالثة: أن نخاف منهم الخيانة؛ فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم؛ ولا يمكن أن نخون أبداً؛ لقوله تعالى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) [التوبة: 7]؛ وإن خانوا انقض عهدهم، ووجب قتالهم؛ لقوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) [التوبة: 12]؛ وإن خفنا منهم الخيانة وجب أن ننبذ إليهم عهدهم على سواء؛ لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] : نخبرهم أن لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة؛ ومن العهد أيضاً ما يقع بين الإنسان وبين غيره من الالتزامات غير العقود، مثل الوعد؛ فإن الوعد من العهد؛ ولهذا اختلف أهل العلم هل يجب الوفاء بالوعد، أو لا يجب؛ والصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجب الوفاء بالوعد؛ لأنه داخل في العهد، ولأن إخلاف الوعد من علامات النفاق؛ وإذا كان كذلك فلا يجوز للمؤمن أن يتحلى بأخلاق المنافقين.
17 - ومن فوائد الآية: أن الصبر من البر؛ وهو ثلاثة أنواع:
الأول: الصبر على طاعة الله ، بأن يتحمل الصبر على الطاعة من غير ضجر، ولا كراهة.
الثاني: الصبر عن معصية الله ، بأن يحمل نفسه على الكف عن معصية الله إذا دعته نفسه إليها.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة التي لا تلائم الطبيعة بأن لا يتسخط من المقدور، ولا يتضجر؛ بل يحبس نفسه عن ذلك: قال الله تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157] .
وأعلى هذه الأنواع: الصبر على طاعة الله؛ لأن فيه تحملاً، ونوعاً من التعب بفعل الطاعة؛ ثم الصبر عن المعصية؛ لأن فيه تحملاً، وكفاً عن المعصية؛ والكف أهون من الفعل؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، لأنه على شيء لا اختيار للعبد فيه، ولهذا قيل: «إمّا أن تصبر صبر الكرام، وإمّا أن تسلوَ سلوّ البهائم».
18 - ومن فوائد الآية: أن ما ذُكر هو حقيقة الصدق مع الله، ومع الخلق؛ لقوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقهم مع الله، حيث قاموا بهذه الاعتقادات النافعة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ وأنهم أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات؛ وأما صدقهم مع الخلق يدخل في قوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ وهذا من علامات الصدق؛ ولهذا قال تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ فصدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق.
19 - ومن فوائد الآية أن ما ذكر من تقوى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { وأولئك هم المتقون }؛ وسبق أنها إذا جمعت مع البر صارت التقوى ترك المحرمات، وصار البر فعل المأمورات؛ وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر؛ وفي هذه الآية قال تعالى: { وأولئك هم المتقون } مع أنهم قائمون بالبر؛ فدل هذا على أن القيام بالبر من التقوى؛ لأن حقيقة الأمر أن القائم بالبر يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله.
20 - ومنها: أن هؤلاء فقط هم المتقون؛ ونفهم ذلك من الحصر وطريقه هنا أمران:
أ - تعريف طرفي الجملة.
ب - ضمير الفصل.
تــنــبــيــه:
ظاهر الآية الكريمة العموم في إتيان المال لهؤلاء المذكورين في الآية: القرابة، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والسائلين، وفي الرقاب؛ فظاهر الآية العموم للمسلمين، والكافرين؛ لكنه غير مراد؛ بل هي خاصة بالمسلم؛ وأما الكافر فلا بأس من بره، والإحسان إليه بشرط أن يكون ممن لا يقاتلوننا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا؛ لقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8] ؛ وعلى هذا فإذا كان الكافر يقاتلنا بنفسه بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلاً، أو يقاتلنا حكماً، مثل أن يكون من دولة تقاتل المسلمين فإنه لا يجوز بره، ولا إعطاؤه المال؛ لأنه مستعد حكماً للقتال: إذا أمرته دولته بقتال فإنه يلبي؛ وما دام حرباً للمسلمين فإنه يريد إعدام المسلمين، وليس أهلاً للإحسان إليه.
تعليق