الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فيقول الله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269] .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره :
وقوله : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن : ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا : " الحكمة القرآن " : يعني تفسيره ؛ قال ابن عباس : " فإنه قد قرأه البر والفاجر " ، رواه ابن مردويه .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } ؛ ليست بالنبوة ، ولكن العلم والفقه والقرآن .
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ؛ فإن خشية الله رأس كل حكمة .
وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا : " رأس الحكمة ؛ مخافة الله " .
وقال أبو العالية ـ في رواية عنه ـ : الحكمة : الكتاب والفهم .
وقال إبراهيم النخعي : الحكمة : الفهم .
وقال أبو مالك : الحكمة : السنة .
وقال أبن وهب عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل .
وقال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفا في أمر الدنيا ، عالما بأمر دينه ، بصيرا به ، يؤتيه الله إياه ، ويحرمه هذا . فالحكمة : الفقه في دين الله .
وقال السدي : الحكمة : النبوة .
والصحيح : أن الحكمة ـ كما قال الجمهور ـ : لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن ؛ فقد أدرجت النبوة بين كتفيه ، غير أنه لا يوحى إليه " رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه عن عبد الله بن عمر .
وقوله : وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ويزيد قالا : حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس ـ وهو ابن أبي حازم ـ عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ؛ فسلطه على هلكته في الحق . ورجل آتاه الله حكمة ؛ فهو يقضي بها ، ويعلمها " ، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به .
[تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ في "فتح القدير" :
قوله : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ } : هي العلم ، وقيل : الفهم ، وقيل : الإصابة في القول .
ولا مانع نم الحمل على الجميع شمولا أو بدلا .
وقيل : إنها النبوة ، وقيل : العقل ، وقيل : الخشية ، وقيل : الورع.
وأصل الحكمة : ما يمنع من السفه ، وهو كل قبيح .
والمعنى : أن من أعطاه الله الحكمة ؛ فقد أعطاه خيرا كثيرا ، أي عظيما قدره جليلا خطره .
وقرأ الزهري ويعقوب : { وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ } : على البناء للفاعل ، وقرأ الجمهور على البناء للمفعول .
و { الْأَلْبَاب } : العقول ، واحدها (لب) ...
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } :
قال : المعرفة بالقرآن : ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وأخرج ابن مردويه عنه : أنها القرآن ؛ يعني : تفسيره .
وأخرج ابن المنذر عنه : أنها النبوة .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : إنها الفقه في القرآن .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء ؛ { يُؤتِي الْحِكْمَةَ } قال : قراءة القرآن والفكرة فيه .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : هي الكتاب والفهم به .
وأخرج أيضا عن النخعي نحوه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : هي الكتاب يؤتى إصابته يشاء .
وأخرج عبد بن حميد عنه قال : هي الإصابة في القول .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هي الخشية لله .
وأخرج ـ أيضا ـ عن مطر الوراق مثله .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن سعيد بن جبير مثله .
[ من تفسير فتح القدير للشوكاني ؛ بتصرف يسير]
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ :
( لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم ، وكان ذلك لا يحصل لكل أحد ، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة ، وهي العلم النافع والعمل الصالح ، ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها ، وإن من آتاه الله الحكمة ؛ فقد آتاه خيرا كثيرا .
وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين ، والنجاة من شقاوتهما !
وفيه التخصيص بهذا الفضل ، وكونه من ورثة الأنبياء .
فكمال العبد متوقف على الحكمة ؛ إذ كماله بتكميل قوتيه : العلمية والعملية؛ فتكميل قوته العلمية : بمعرفة الحق ، ومعرفة المقصود به ، وتكميل قوته العملية : بالعمل بالخير ، وترك الشر ؛ وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل ، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره ، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك .
ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ، ومحبة الخير والقصد للحق ، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم ، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ؛ انقسم الناس قسمين : قسم أجابوا دعوتهم ، فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ، وما يضرهم فتركوه ، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة ، والعقول التامة . وقسم : لم يستجيبوا لدعوتهم ، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد ، وتركوا طاعة رب العباد ، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب ، فلهذا قال : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوْ الْألْبَابِ } ).
[تيسير الكريم الرحمن للسعدي]
تفسير الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
قوله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } :
{ يُؤتِي } : بمعنى ؛ يعطي ؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر ، فالمفعول الأول هنا : { الْحِكْمَةَ } ، والمفعول الثاني : { مَنْ } في قوله تعالى : { من يشاء } ، والمعنى : أن الله يعطي الحكمة من يشاء ، و { الْحِكْمَةَ } :
من أحْكَمَ ؛ بمعنى أتقن ، وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، وتستلزم علما ورشدا ، فالجاهل لا تاتي منه حكمة إلا مصادفة ، والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة .
قوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } : أي من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة ؛ فقد أعطاه خيرا كثيرا .
فإن قال قائل : ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ } ؟
فالجواب : ـ والله أعلم ـ أن الحكمة قد تكون غريزة ، وقد تكون مكتسبة .
بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلا عن الناس ؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ؛ ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي ـ سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل ، أو من قبل الممارسة والتجارب ـ ، على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب ؛ فهو من الله عز وجل ، هو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة ، وأبواب الخير ...
الفوائد :
1 ـ من فوائد الآية : إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته ؛ لقوله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ } ، وهذه من الصفات الفعلية .
2 ـ ومنها : أن ما في الإنسان من العلم والرشد ؛ فهو فضل من الله عز وجل ؛ لقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ } ؛ فإذا من الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم ، ورشد ، وقوة ، وقدرة ، وسمع ، وبصر ؛ فلا يترفع ؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل ، ولو شاء الله لحرمه إياها ، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها ، فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه ؛ وربما يسلب منه الحكمة ؛ فتكون كل تصرفاته طيشا ، وضلالا ، وهدرا .
ومنها : إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى ؛ لقوله تعالى : { من يشاء } ؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته ؛ فإنه تابع لحكمته البالغة ؛ وليس لمجرد المشيئة . لكن قد نعلم الحكمة ، وقد لا نعلمها . قال تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الإنسان : 30] .
4 ـ ومنها : إثبات الحكمة لله عز وجل ؛ لأن الحكمة كمال ، ومعطي الكمال أولى به ، فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق .
5 ـ ومنها : الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة ؛ لقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } .
6ـ ومنها : وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة ؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر .
7ـ ومنها : أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق ؛ فقد يكون غريزيا جبل اللهُ العبدَ عليه . وقد يكون كسبيا يحصل بالمران ، ومصاحبة الحكماء ...
[تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه اجمعين،،
كتبه
أبو فريحان
جمال بن فريحان الحارثي
5/7/1422هـ
وبعد:
فيقول الله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269] .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره :
وقوله : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن : ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا : " الحكمة القرآن " : يعني تفسيره ؛ قال ابن عباس : " فإنه قد قرأه البر والفاجر " ، رواه ابن مردويه .
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } ؛ ليست بالنبوة ، ولكن العلم والفقه والقرآن .
وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ؛ فإن خشية الله رأس كل حكمة .
وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا : " رأس الحكمة ؛ مخافة الله " .
وقال أبو العالية ـ في رواية عنه ـ : الحكمة : الكتاب والفهم .
وقال إبراهيم النخعي : الحكمة : الفهم .
وقال أبو مالك : الحكمة : السنة .
وقال أبن وهب عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل .
وقال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفا في أمر الدنيا ، عالما بأمر دينه ، بصيرا به ، يؤتيه الله إياه ، ويحرمه هذا . فالحكمة : الفقه في دين الله .
وقال السدي : الحكمة : النبوة .
والصحيح : أن الحكمة ـ كما قال الجمهور ـ : لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن ؛ فقد أدرجت النبوة بين كتفيه ، غير أنه لا يوحى إليه " رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه عن عبد الله بن عمر .
وقوله : وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ويزيد قالا : حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس ـ وهو ابن أبي حازم ـ عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ؛ فسلطه على هلكته في الحق . ورجل آتاه الله حكمة ؛ فهو يقضي بها ، ويعلمها " ، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به .
[تفسير القرآن العظيم لابن كثير].
قال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ في "فتح القدير" :
قوله : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ } : هي العلم ، وقيل : الفهم ، وقيل : الإصابة في القول .
ولا مانع نم الحمل على الجميع شمولا أو بدلا .
وقيل : إنها النبوة ، وقيل : العقل ، وقيل : الخشية ، وقيل : الورع.
وأصل الحكمة : ما يمنع من السفه ، وهو كل قبيح .
والمعنى : أن من أعطاه الله الحكمة ؛ فقد أعطاه خيرا كثيرا ، أي عظيما قدره جليلا خطره .
وقرأ الزهري ويعقوب : { وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ } : على البناء للفاعل ، وقرأ الجمهور على البناء للمفعول .
و { الْأَلْبَاب } : العقول ، واحدها (لب) ...
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } :
قال : المعرفة بالقرآن : ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .
وأخرج ابن مردويه عنه : أنها القرآن ؛ يعني : تفسيره .
وأخرج ابن المنذر عنه : أنها النبوة .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : إنها الفقه في القرآن .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء ؛ { يُؤتِي الْحِكْمَةَ } قال : قراءة القرآن والفكرة فيه .
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : هي الكتاب والفهم به .
وأخرج أيضا عن النخعي نحوه .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : هي الكتاب يؤتى إصابته يشاء .
وأخرج عبد بن حميد عنه قال : هي الإصابة في القول .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هي الخشية لله .
وأخرج ـ أيضا ـ عن مطر الوراق مثله .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن سعيد بن جبير مثله .
[ من تفسير فتح القدير للشوكاني ؛ بتصرف يسير]
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ :
( لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم ، وكان ذلك لا يحصل لكل أحد ، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة ، وهي العلم النافع والعمل الصالح ، ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها ، وإن من آتاه الله الحكمة ؛ فقد آتاه خيرا كثيرا .
وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين ، والنجاة من شقاوتهما !
وفيه التخصيص بهذا الفضل ، وكونه من ورثة الأنبياء .
فكمال العبد متوقف على الحكمة ؛ إذ كماله بتكميل قوتيه : العلمية والعملية؛ فتكميل قوته العلمية : بمعرفة الحق ، ومعرفة المقصود به ، وتكميل قوته العملية : بالعمل بالخير ، وترك الشر ؛ وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل ، وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره ، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك .
ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ، ومحبة الخير والقصد للحق ، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم ، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ؛ انقسم الناس قسمين : قسم أجابوا دعوتهم ، فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ، وما يضرهم فتركوه ، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة ، والعقول التامة . وقسم : لم يستجيبوا لدعوتهم ، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد ، وتركوا طاعة رب العباد ، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب ، فلهذا قال : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوْ الْألْبَابِ } ).
[تيسير الكريم الرحمن للسعدي]
تفسير الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
قوله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } :
{ يُؤتِي } : بمعنى ؛ يعطي ؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر ، فالمفعول الأول هنا : { الْحِكْمَةَ } ، والمفعول الثاني : { مَنْ } في قوله تعالى : { من يشاء } ، والمعنى : أن الله يعطي الحكمة من يشاء ، و { الْحِكْمَةَ } :
من أحْكَمَ ؛ بمعنى أتقن ، وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، وتستلزم علما ورشدا ، فالجاهل لا تاتي منه حكمة إلا مصادفة ، والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة .
قوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } : أي من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة ؛ فقد أعطاه خيرا كثيرا .
فإن قال قائل : ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ } ؟
فالجواب : ـ والله أعلم ـ أن الحكمة قد تكون غريزة ، وقد تكون مكتسبة .
بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلا عن الناس ؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ؛ ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي ـ سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل ، أو من قبل الممارسة والتجارب ـ ، على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب ؛ فهو من الله عز وجل ، هو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة ، وأبواب الخير ...
الفوائد :
1 ـ من فوائد الآية : إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته ؛ لقوله تعالى : { يُؤتِي الْحِكْمَةَ } ، وهذه من الصفات الفعلية .
2 ـ ومنها : أن ما في الإنسان من العلم والرشد ؛ فهو فضل من الله عز وجل ؛ لقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ } ؛ فإذا من الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم ، ورشد ، وقوة ، وقدرة ، وسمع ، وبصر ؛ فلا يترفع ؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل ، ولو شاء الله لحرمه إياها ، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها ، فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه ؛ وربما يسلب منه الحكمة ؛ فتكون كل تصرفاته طيشا ، وضلالا ، وهدرا .
ومنها : إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى ؛ لقوله تعالى : { من يشاء } ؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته ؛ فإنه تابع لحكمته البالغة ؛ وليس لمجرد المشيئة . لكن قد نعلم الحكمة ، وقد لا نعلمها . قال تعالى : { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الإنسان : 30] .
4 ـ ومنها : إثبات الحكمة لله عز وجل ؛ لأن الحكمة كمال ، ومعطي الكمال أولى به ، فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق .
5 ـ ومنها : الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة ؛ لقوله تعالى : { وَمَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } .
6ـ ومنها : وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة ؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر .
7ـ ومنها : أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق ؛ فقد يكون غريزيا جبل اللهُ العبدَ عليه . وقد يكون كسبيا يحصل بالمران ، ومصاحبة الحكماء ...
[تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه اجمعين،،
كتبه
أبو فريحان
جمال بن فريحان الحارثي
5/7/1422هـ
تعليق