هذا بحثٌ لأخينا في الله أطال الله عمره ورزقه علماً نافعاً وأحسن خاتمته : أبي عبدالرحمن قاسم بن عبدالله الصومالي
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً،
{يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}[آل عمران:102].
{يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتّقوا اللّه الّذي تساءلون به والأرحام إنّ اللّه كان عليكم رقيباً}[النساء:1].
{يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}[الأحزاب: 70-71].أمابعد...
لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التى من أجلها خلقنا فقال سبحانه وتعالى : {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون }
العبادة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا هو أحسن ما قيل في تعريف العبادة، وللعبادة أهميةٌ عظمى؛ وذلك أنّ الله عز وجل خلق الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب للأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره،
والعبادة أنواعٌ كثيرة؛ منها الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر وتعليم القرآن والمسائل الدينية وغير ذلك من أنواع العبادة.
وتعليم القرآن من أفضل عبادات كما جاء في صحيح البخاري من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) . قال وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا [ ش ( وذاك ) إشارة إلى الحديث الذي رواه عثمان رضي الله عنه في فضل تعلم القرآن وتعليمه . ( مقعدي هذا ) لأعلم الناس القرآن حتى أحصل على تلك الفضيلة ].
لأجل ذلك يجب أن يكون تعليم القرآن خالصاً إلى وجه الله وحده , ومن توظف من هذه الوظيفة العظمى أن يكون قصده ومراد لله وفي الله وبالله.
ثمّ إنّ العبادات لا بدّ في قبولها من شروط نذكر من ها هنا الشرطين ؛
أحدهما: إخلاص العمل لله،
قال الله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة }
وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى . فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ] قال علامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: [ والمقصود من هذه النيه تمييز العادات من العبادات, وتمييز العبادات بعضها من نعض ].
والثاني: المتابعة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)
قال الله تعالى: { وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قال أبن كثير أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.
و عن عائشة رضى اللّه عنها قالت قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :« من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ».
وعن عائشة أنّ رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ».
فلا بدّ الإخلاص لله وحده، فلا يشرك مع الله غيره، ولا يصرف من أنواع العبادة شيء لغير الله سبحانه وتعالى، و لا بد المتابعة للرسول، فلا يعبد الله إلاّ وفقاً لما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أنّ محمداً رسول الله؛
إنما ذكرت هذين الشرطين لأهميتهما لهذا أن لم يخلص علمه لله صار عمله شركاً ,
ومن لم يقتدي من رسول الله صلى الله عليه وسلم صار عمله بدعة ,
ولأجل هذه المسألة ولأهميتها ذكر الإمام محمد بن عبدالوهاب النجدي رحمه الله في كتاب التوحيد باباً عظيماً ألا وهو (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } الآية. )
قال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد.
وقد سئل شيخ الإسلام المصنف عن معنى هذه الآية فأجاب بما ملخصه: ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه.
فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه اللّه من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصًا للّه، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه اللّه بحفظ ماله وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليهم، ولا همة له في طلب الجنة، والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالًا مثل أن يحج لمال يأخذه، لا للّه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية.
وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرًا، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء، لأنهم عملوا للّه وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة اللّه مخلصًا في ذلك للّه وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا اللّه أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه اللّه والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا اللّه طاعة خالصة، يريدون بها ثواب اللّه في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم. فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن اللّه تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن اللّه يقول:{إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين}.
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه اللّه طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصدًا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه للّه، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو هذا وأمثاله.
تنبيه اجتناب باالشبهات واجب كما جاء من حديث النّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: (( إنّ الحلال بيّنٌ، وإنّ الحرام بيّنٌ وبينهما أمورٌ مشتبهات، لا يعلمهنّ كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام ، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملكٍ حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب )) رواه البخاري ومسلم .
أقوال السلف
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً ؛ حجاباً بينه وبين الحرام.
قال الحسن رحمه الله : مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
قال الثوري رحمه الله: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتّقى
قال ميمون بن مهران رحمه الله: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه
من هذا الحديث وهذه الأقوال تدل على اجتناب المحرم حتى تسلم لنا ديننا .
ولأهمية تعليم القرآن مجاناً من غير أخذ أجرة في مقابله.
جاء فيها آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأتبعهم كما قال الله تعالى: ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإيّاي فاتّقون [البقرة : 41]
وقال تعالى: { أولئك الّذين هدى اللّه فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرًا إن هو إلّا ذكرى للعالمين }[الأنعام : 90]
وقال تعالى: { فإن تولّيتم فما سألتكم من أجرٍ إن أجري إلّا على اللّه وأمرت أن أكون من المسلمين } [يونس : 72]
وقال تعالى:{ يا قوم لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلّا على الّذي فطرني أفلا تعقلون } [هود : 51]
وقال تعالى: { ويا قوم لا أسألكم عليه مالًا إن أجري إلّا على اللّه وما أنا بطارد الّذين آمنوا إنّهم ملاقو ربّهم ولكنّي أراكم قومًا تجهلون } [هود : 29]
و من الآحاديث التي تدل على عدم أخذ الأجرة على تعليم القرآن منها ما يلي:
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها .رواه ابن أبي شيبة وابن ماجه وصححه الألباني :كما في صحيح ابن ماجة
عن عبدالرحمن بن شبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اقرءوا القرآن و اعملوا به و لا تجفوا عنه و لا تغلوا فيه و لا تأكلوا به و لا تستكثروا به ) قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) أخرجه أحمد . ( حم طب ع هب ) .الجامع الصغير وزيادته - (1 / 205)
السلسلة الصحيحة المجلدات الكاملة 1-9 - (21 / 13)
.
وعن أبي بن كعب قال علمت رجلا القرآن فأهدى إلي قوسا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخذتها أخذت قوسا من نار فرددتها .رواه ابن ماجه وصحيحه الألباني :، الإرواء ( 1493 )
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن ووسائر العبادات لا يجوز أخذ الأجرة .
ولكن اختلف العلماء في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن على أقوال كثيرة وسنذكر في هذه الرسالة ما تيسر لنا ونقدم أقوال المفسرين.
قال الإمام الشنفيطي رحمه الله في أضواء البيان - (2 / 178)
قوله تعالى: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلّا على اللّه} الآية، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالاً في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجاناً من غير أخذ أجرة في مقابله.
وبين في آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، كقوله في "سبأ" عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {قل ما سألتكم من أجرٍ فهو لكم إن أجري إلّا على اللّه} الآية[34/47].
وقوله فيه أيضاً في آخر "ص?": {قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلّفين} [38/86].
وقوله في "الطور" و"القلم": {أم تسألهم أجراً فهم من مغرمٍ مثقلون} [52/40] و [68/46].
وقوله في "الفرقان": {قل ما أسألكم عليه من أجرٍ إلّا من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً} [25/57]،.
وقوله في "الأنعام": {قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلّا ذكرى للعالمين} [6/90].
وقوله عن هود في "سورة هود": {يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلّا على الّذي فطرني} الآية[11/51].
وقوله في "الشعراء" عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلّا على ربّ العالمين} [26/109].
وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في "يس": {اتّبعوا المرسلين اتّبعوا من لا يسألكم أجراً} الآية[36/20، 21].
وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودّة في القربى} [42/23]، في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" في "سورة سبأ" في الكلام على قوله تعالى: {قل ما سألتكم من أجرٍ فهو لكم} [34/47].
ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجاناً من غير أخذ عوض على ذلك، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام.............. وقال أيضاً فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
وممن قال بهذا: الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وأبو حنيفة والضحاك بن قيس وعطاء. وكره الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر. وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت.
وممن كره أجرة التعليم مع الشرط: الحسن وابن سيرين، وطاوس، والشعبي، والنخعي؛ قاله في "المغني". وقال: إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ المعلم ما أعطيه من غير شرط.
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وهو مذهب مالك، والشافعي.
وممن رخص في أجور المعلمين: أبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر.
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس، التعليم أحب إلي.
وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم؛ قاله ابن قدامة في "المغني".
واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن النّبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ فقال صلى الله عليه وسلم "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟"، فقال: ما عندي إلا إزاري، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً"، فقال: ما أجد شيئاً، فقال: "التمس ولو خاتماً من حديد"، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟"، قال: نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية: "قد ملكتكها بما معك من القرآن" ، فقالوا: هذا الرجل أباح له النّبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضاً عن صداقها، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز.
وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراماً له لحفظه ذلك المقدار من القرآن، ولم يجعل التعليم صداقاً لها، مردود بما ثبت في بعض الروايات في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن"، وفي رواية لأبي داود: "علمها عشرين آية وهي امرأتك".
واحتجوا أيضاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في "صحيح البخاري" من حديث ابن عباس: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله"، قالوا: الحديث وإن كان وارداً في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم، أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضاً على تعليم القرآن، والعقائد، والحلال والحرام للأدلة الماضية. وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين؛ لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة.
والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن.
وقال أبو عبد الله محمد القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن - (1 / 335)
قوله تعالى : {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {ولا تشتروا} معطوف على قوله {ولا تكونوا} نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمناً أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشى. وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قال قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره. وقيل كانت لهم مأكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك وقيل إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك وفي كتبهم يا ابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً أي باطلاً بغير أجرة ، قاله أبو العالية وقيل المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمناً قليلاً يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له ، فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمناً لأنهم جعلوه عوضاً فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمناً وقد تقدم هذا المعنى وقال الشاعر :
إن كنت حاولت ذنباً أو ظفرت به ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
قلت : وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه
وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجراً فقد دخل في مقتضى الآية والله أعلم وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها
الثانية- وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم - لهذه الآية وما كان في معناها فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام وقد قال تعالى {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين" . روى أبو هريرة قال قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين قال "درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء" وروى عبادة بن الصامت قال : علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة ، فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها" . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام حديث ابن عباس حديث الرقية " إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه.
وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام فاسد لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن قال ابن المنذر وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم ، فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة.
وأما الجواب عن الآية - فالمراد بها بنو إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا ([1])، فيه خلاف ، وهو لا يقول به.
جواب ثان: وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجراً فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته..........
الثالثة- واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة ، فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس ، فقال : أرجو ألا يكون به بأس ، وهو أشد كراهة له في الفريضة. وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور : لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الأوزاعي لا صلاة له. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم : قال ابن عبدالبر وهذه المسألة معلقة من التي قبلها وأصلهما واحد.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
قال الله تعالى { وآمنوا بما أنزلت مصدّقًا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافرٍ به ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا وإيّاي فاتّقون [البقرة : 41]
وقوله: { ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا } يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن هارون بن زيد قال: سئل الحسن، يعني البصري، عن قوله تعالى: { ثمنًا قليلا } قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.
وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى: { ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا } يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علّم مجّانا كما علّمت مجّانا.
وقيل: معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" ([2])
وأما تعليم العلم بأجرة، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب، فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه، فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" ([3]) وقوله في قصة المخطوبة: "زوجتكها بما معك من القرآن" ([4]) فأما حديث عبادة بن الصامت، أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئًا من القرآن فأهدى له قوسًا، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه، رواه أبو داود ([5]) وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعًا ([6]) فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم: أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم.
{ وإيّاي فاتّقون } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عاصم الأحول، عن أبي العالية، عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، والتقوى أن تترك معصية الله مخافة عذاب الله على نور من الله.
ومعنى قوله: { وإيّاي فاتّقون } أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.
قال أيضاً رجمه الله تعا لى:
قال الله تعالى: { إنّ الّذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ (174) أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النّار (175)} [البقرة : 174 ، 175]
يقول تعالى: { إنّ الّذين يكتمون } [مما يشهد له بالرسالة]
{ ما أنزل اللّه من الكتاب } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا -لعنهم الله -إن أظهروا ذلك أن يتّبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزرٌ يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه، وصاروا عونًا له على قتالهم، وباؤوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع. من ذلك هذه الآية الكريمة: { إنّ الّذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلاً } وهو عرض الحياة الدنيا { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النّار } أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. كما قال تعالى: { إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا } [النساء: 10] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" ([7]) .
وقوله: { ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ } وذلك لأنه غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه هاهنا [الحديث الذي رواه مسلم أيضًا من] حديث الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم [ولهم عذاب أليم] شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" ([8]) .
ثم قال تعالى مخبراً عنهم: { أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى } أي: اعتاضوا عن الهدى، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضلالة، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم { والعذاب بالمغفرة } أي: اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة.
وقوله تعالى: { فما أصبرهم على النّار } يخبر تعالى أنّهم في عذاب شديد عظيم هائل، يتعجّب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك، مع شدة ما هم فيه من العذاب، والنكال، والأغلال عياذًا بالله من ذلك.
[وقيل معنى قوله: { فما أصبرهم على النّار } أي: ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار]
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
سئل شيخ الإسلام رحمه اللّه - : كما في مجموع الفتاوى - (30 / 204)
عن رجلٍ من أهل العلم قصد لأن يقرأ عليه شيءٌ من أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وغيرها من العلوم الشّرعيّة فامتنع من إقرائها إلّا بأجرة . فقيل له : قد روي من هدي السّلف وأئمّة الهدى تعليم العلم ابتغاءً لوجه اللّه الكريم ما لا خفاء به على عاقلٍ وهذا ممّا لا ينبغي . فقال : أقرئ العلم بغير أجرةٍ يحرم عليّ ذلك فكلامه صحيحٌ ؟ أم باطلٌ ؟ وهل هو جاهلٌ بقوله إنّه معذورٌ. وهل يجوز له أخذ الأجرة على تعليم العلم النّافع ؟ أم يكره له ذلك ؟ .
فأجاب :الحمد للّه ، أمّا تعليم القرآن والعلم بغير أجرةٍ فهو أفضل الأعمال وأحبّها إلى اللّه وهذا ممّا يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هذا ممّا يخفى على أحدٍ ممّن نشأ بديار الإسلام . والصّحابة والتّابعون وتابعو التّابعين وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمّة بالقرآن والحديث والفقه إنّما كانوا يعلّمون بغير أجرةٍ. ولم يكن فيهم من يعلّم بأجرة أصلًا . فإنّ العلماء ورثة الأنبياء وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنّما ورّثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظّ وافرٍ. والأنبياء رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين إنّما كانوا يعلّمون العلم بغير أجرةٍ.
كما قال نوحٌ عليه السّلام {وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلّا على ربّ العالمين } وكذلك قال هود وصالحٌ وشعيبٌ ولوطٌ وغيرهم . وكذلك قال خاتم الرّسل : { قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلّفين } وقال : { قل ما أسألكم عليه من أجرٍ إلّا من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلًا } . وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرةٍ لم يتنازع العلماء في أنّه عملٌ صالحٌ فضلًا عن أن يكون جائزًا ؛ بل هو من فروض الكفاية ؛ فإنّ تعليم العلم الّذي بيّنه فرض على الكفاية كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث الصّحيح : { بلّغوا عنّي ولو آيةً } وقال : { ليبلّغ الشّاهد الغائب } .
وإنّما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه. على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد . إحداهما - وهو مذهب أبي حنيفة وغيره - أنّه لا يجوز الاستئجار على ذلك . والثّانية - وهو قول الشّافعيّ - أنّه يجوز الاستئجار . وفيها قولٌ ثالثٌ في مذهب أحمد أنّه يجوز مع الحاجة ؛ دون الغنى كما قال تعالى في وليّ اليتيم : { ومن كان غنيًّا فليستعفف ومنكان فقيرًا فليأكل بالمعروف } . ويجوز أن يعطى هؤلاء من مال المسلمين على التّعليم كما يعطى الأئمّة والمؤذّنون والقضاة وذلك جائزٌ مع الحاجة .
وهل يجوز الارتزاق مع الغنى؟ على قولين للعلماء . فلم يقل أحدٌ من المسلمين أنّ عمل هذه الأعمال بغير أجرٍ لا يجوز . ومن قال : إنّ ذلك لا يجوز ؛ فإنّه يستتاب فإن تاب وإلّا قتل ؛ لكن إن أراد أنّه فقيرٌ متى علّم بغير أجرٍ عجز عن الكسب لعياله والكسب لعياله واجبٌ عليه متعيّنٌ فلا يجوز له ترك الواجب المتعيّن لغير متعيّنٍ واعتقد مع ذلك جواز التّعليم بالأجرة مع الحاجة أو مطلقًا؛ فهذا متأوّلٌ في قوله لا يكفر بذلك ولا يفسق باتّفاق الأئمّة ؛ بل إمّا أن يكون مصيبًا أو مخطئًا. ومأخذ العلماء في ( عدم جواز الاستئجار على هذا النّفع: أنّ هذه الأعمال يختصّ أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن والحديث والفقه والإمامة والأذان؛ لا يجوز أن يفعله كافرٌ : ولا يفعله إلّا مسلمٌ ؛ بخلاف النّفع الّذي يفعله المسلم والكافر : كالبناء والخياطة والنّسج ونحو ذلك . وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادةً للّه فإنّه يبقى مستحقًّا بالعوض معمولًا لأجله .
والعمل إذا عمل للعوض لم يبق عبادةً : كالصّناعات الّتي تعمل بالأجرة . فمن قال : لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال قال : إنّه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة للّه . كما لا يجوز إيقاع الصّلاة والصّوم والقراءة على غير وجه العبادة للّه والاستئجار يخرجها عن ذلك . ومن جوّز ذلك قال : إنّه نفعٌ يصل إلى المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه : كسائر المنافع . قال : وإذا كانت لا عبادة في هذه الحال لا تقع على وجه العبادة فيجوز إيقاعها على وجه العبادة وغير وجه العبادة ؛ لما فيها من النّفع .
ومن فرّق بين المحتاج وغيره - وهو أقرب - قال : المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها للّه ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة ؛ فإنّ الكسب على العيال واجبٌ أيضًا فيؤدّي الواجبات بهذا ؛ بخلاف الغنيّ لأنّه لا يحتاج إلى الكسب فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير اللّه ؛ بل إذا كان اللّه قد أغناه وهذا فرض على الكفاية : كان هو مخاطبًا به وإذا لم يقم إلّا به كان ذلك واجبًا عليه عينًا . واللّه أعلم .
وقال ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير - (1 / 467)
وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلاً عن الفقه والعلم فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبي وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والجمهور ، وحجتهم في ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبيء ( صلى الله عليه وسلم ) قال: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) وعليه فلا محل لهذه الآية على هذا المعنى عندهم بحال ؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازي وليس في التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة.
وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم . وفي ( المدونة ) : لا بأس بالإجارة على تعليم القرآن . ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وتمسكوا بالآية وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم فلا يؤخذ عليها أجر كذلك وبما روي عن أبي هريرة أن النبيء (صلى الله عليه وسلم ) قال: ( دراهم المعلمين حرام ) وعن عبادة بن الصامت أنه قال : ( علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوساً فسألت النبيء ( صلى الله عليه وسلم ) فقال: ( إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها ) وأجاب عن ذلك القرطبي بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر ، ولا دليل على ما أجاب به القرطبي . فالوجه أن ذلك كان في صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص في الأجر فيه لتعطل تعليم كثير لقلة من ينفق في ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه ومحمل حديث ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن.
وأقول لا حاجة إلى هذا كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض كما علمت وأجاب القرطبي عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان وأما التعليم فعبادة متعدية فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا فارق مؤثر. وأما حديث أبي هريرة وحديث عبادة ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبي، قلت ولا أحسب الزهري يستند لمثلهما ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجباً فلا تؤخذ عليه أجرة وقد أفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه قال في ( الدرر ) و ( شرحه ) ( ويفتى اليوم بصحتها أي الإجارة لتعليم القرآن والفقه والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصي لكن لما وقع الفتور في الأمور الدينية جوزها المتأخرون ) إه.
ومن فروع هذه المسألة جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة ، قال ابن عبد البر هي مأخوذة من مسألة الأجر على تعليم القرآن وحكمهما واحد ، وفي ) المدونة ( تجوز الإجارة على الأذان والصلاة معاً وأما على الصلاة وحدها فكرهه مالك ، قال ابن شاس جازت على الأذان لأن المؤذن لا يلزمه الإتيان به أما جمعه مع الصلاة فالأجرة على الأذان فقط ، وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الإمامة ووجهه أنه تكلف الصلاة في ذلك الموضع في ذلك الوقت ، وروى أشهب عن مالك لا بأس بالأجر على تراويح رمضان وكرهه في الفريضة قال القرطبي : وكرهها أبو حنيفة وأصحابه وفي ( الدرر ) ويفتى اليوم بصحتها لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس ، وقال القرافي في الفرق الخامس عشر والمائة :
ولا يجوز في إمامة الصلاة الإجارة على المشهور من مذهب مالك لأنها عقد مكايسة من المعاوضات فلا يجوز أن يحصل العوضان فيها لشخص واحد لأن أجر الصلاة له فإذا أخذ عنها عوضاً اجتمع له العوضان اه . وهو تعليل مبني على أصل واه قدمه في الفرق الرابع عشر والمائة على أن في كونه من فروع ذلك الأصل نظراً لا نطيل فيه فانظره فقد نبهتك إليه ، فالحق أن الكراهة المنقولة عن مالك كراهة تنزيه .
قال ابن عثيمين رحمه الله كما في فتاوى نور على الدرب
أنا مدرس أدرس القرآن وآخذ على ذلك أجراً فهل علي في ذلك شيء يا فضيلة الشيخ؟
فأجاب رحمه الله تعالى: ليس في أخذ الأجر على تعليم القرآن شيء بل قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) وكما أن الإنسان يشتري المصحف ليقرأ فيه بالدراهم كذلك لا حرج عليه أن يؤجر شخصاً يعلمه القرآن لكننا نقول الأولى بالشخص إذا أغناه الله عز وجل أن لا يأخذ على تعليم القرآن أجراً لأنه يكتسب من الأجر إذا علم القرآن بدون أجرٍ دنيوي يكتسب أجراً عظيماً لأن قاريء القرآن له في كل حرف عشر حسنات والمعلم الذي لم يدرك المتعلم القرآن إلا به لا شك أنه يؤجر بمثل أجر القارئ لأنه دل على خير والدال على الخير كفاعله ولهذا ننصح إخواننا الذي يعلمون الناس كتاب الله عز وجل سواء في حلق المساجد أو كان في بيوتهم إذا كان الله قد أغناهم ننصحهم أن لا يأخذوا على تعليمهم أجراً من الدنيا ليتوفر لهم أجر الآخرة (والآخرة خيرٌ وأبقى) (ولأجر الآخرة خيرٌ للّذين آمنوا وكانوا يتّقون) فعلى هذا ننصح إخواننا بما ذكرنا ولكن لو أخذوا على هذا أجراً فلا بأس.
هل يجوز لشخص أن يقرأ الفاتحة وبعد إكمال التعزية يقبض مالاً من صاحب التعزية فهل المال يعتبر حلالاً أم حراماً؟
فأجاب رحمه الله تعالى: نقول إنه لا يجوز للمرء أن يأخذ شيئاً على تلاوة القرآن وإنما يجوز الأخذ على تعليم القرآن لأن التعليم عمل يتعدى نفعه إلي الغير بخلاف القراءة المجردة هذا من حيث أخذ المال وعليه فيجب على أخينا السائل أن يرد ما أخذه على صاحبه وأما قوله عن قراءة الفاتحة عند التعزية فنقول له إن هذا من البدع فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه يقرؤون الفاتحة عند التعزية.
وقالت اللجنة كما في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (4 / 317)
السؤال الأول من الفتوى رقم ( 4264 ) :
س1: هل يجوز أن يتعلم الرجل القرآن على يد شيخ نظير أجر معين يأخذه هذا الشيخ؟ مع العلم بأن الشيخ إن لم يأخذ هذا المال لن يعلمه.
ج1: نعم، يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن في أصح قولي العلماء؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الطب (5405). إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله رواه البخاري، ولمسيس الحاجة إلى ذلك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
وفتاوى اللجنة الدائمة(32)جزءا - (12 / 272)
السؤال الرابع عشر من الفتوى رقم ( 18612 )
س14: ما حكم أخذ الأجر في تعليم القرآن، والأذان، وإمامة الصلاة، والجمعة، لرجل يعمل أصلا، ثم يقوم بهذه المهام ليأخذ راتبا إضافيا؟ كذلك ما حكم الأجر مقابل التفرغ للدعوة وإمامة مسجد والتدريس فيه؟
ج14: يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن على الصحيح
وفتاوى اللجنة الدائمة(32)جزءا - (12 / 273)
من أقوال أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله » ([9]) ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة بتعليمه إياها ما معه من القرآن، وكان ذلك صداقها، وكذا يجوز أخذ الأجر الذي تمنحه الجهات المختصة للأئمة والمؤذنين والدعاة ومدرسي العلوم الشرعية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
القول الثاني : تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن .
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى:
هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي، ونبذ أمر الله، فأولئك: { ما يأكلون في بطونهم إلا النّار } لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب، وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، { ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة } بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، { ولا يزكّيهم } أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله، والاهتداء به، والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، وأعرضوا عنه، واختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار، فكيف يصبرون عليها، وأنى لهم الجلد عليها؟"
{ ذلك } المذكور، وهو مجازاته بالعدل، ومنعه أسباب الهداية، ممن أباها واختار سواها.
{ بأنّ اللّه نزل الكتاب بالحقّ } ومن الحق، مجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وأيضاً ففي قوله: { نزل الكتاب بالحقّ } ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه، وتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده، فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة.
{ وإنّ الّذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاقٍ بعيدٍ } أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه، والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم { لفي شقاقٍ } أي: محادة، { بعيدٍ } عن الحق لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض، فمرج أمرهم، وكثر شقاقهم، وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به، وحكموه في كل شيء، فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه.
وقد تضمنت هذه الآيات، الوعيد للكاتمين لما أنزل الله، المؤثرين عليه، عرض الدنيا بالعذاب والسخط، وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق، ولا بالمغفرة، وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضلالة على الهدى، فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة، ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار، لعملهم بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه، وعدم الافتراق، وأن كل من خالفه، فهو في غاية البعد عن الحق، والمنازعة والمخاصمة، والله أعلم.
قال الله تعالى: {أولئك الّذين هدى اللّه فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرًا إن هو إلّا ذكرى للعالمين (90) [الأنعام : 90]
وقوله: { قل لا أسألكم عليه أجرًا } أي: لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن { أجرًا } أي: أجرة، ولا أريد منكم شيئاً،
{ إن هو إلا ذكرى للعالمين } أي: يتذكرون به فيرشدوا من العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.
{ قل } للذين أعرضوا عن دعوتك: { لا أسألكم عليه أجرًا } أي: لا أطلب منكم مغرماً ومالاً جزاء عن إبلاغي إياكم، ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم، إن أجري إلا على الله.
{ إن هو إلا ذكرى للعالمين } يتذكرون به ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم،فيذرونه، ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه. ويتذكرون به الأخلاق الحميدة، والطرق الموصلة إليها، والأخلاق الرذيلة، والطرق المفضية إليها،فإذا كان ذكرى للعالمين، كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم، فعليهم قبولها والشكر عليها.
فإن تولّيتم فما سألتكم من أجرٍ إن أجري إلّا على اللّه وأمرت أن أكون من المسلمين (72) [يونس : 72]
{ فإن تولّيتم } أي: كذبتم وأدبرتم عن الطاعة، { فما سألتكم من أجرٍ } أي: لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئاً، { إن أجري إلا على اللّه وأمرت أن أكون من المسلمين } أي: وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل، والإسلام هو دين [جميع] (1) الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم، كما قال تعالى: { لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا } [ المائدة : 48 ].
يا قوم لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلّا على الّذي فطرني أفلا تعقلون (51) [هود : 51]
وقال أيضاً ثم ذكر عدم المانع لهم من الانقياد فقال { يا قوم لا أسألكم عليه أجرًا } أي: غرامة من أموالكم، على ما دعوتكم إليه، فتقولوا: هذا يريد أن يأخذ أموالنا، وإنما أدعوكم وأعلمكم مجاناً.
{ إن أجري إلا على الّذي فطرني أفلا تعقلون } ما أدعوكم إليه، وأنه موجب لقبوله، منتف المانع عن رده.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين - (4 / 333)
فصل فتاوي إمام المفتين صلى الله عليه وسلم - في الهدية والصدقة وأهدى له صلى الله عليه وسلم - عياض بن حماد إبلاً قبل أن يسلم فأبى أن يقبلها وقال إنا لا نقبل زبد المشركين قال قلت وما زبد المشركين قال رفدهم وهديتهم ذكره أحمد ولا ينافى هذا قبوله هدية أكيدر وغيره من أهل الكتاب لأنهم أهل كتاب فقبل هديتهم ولم يقبل هدية المشركين
وسأله صلى الله عليه وسلم - عبادة بن الصامت فقال رجل أهدى إلى قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عليها في سبيل الله فقال إن كنت تحسب إن تطوق طوقا من نار فاقبلها
ولا ينافي هذا قوله إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله في قصة الرقية لأن تلك جعالة على الطب فطبه بالقرآن فأخذ الأجرة على الطب لا على تعليم القرآن وههنا منعه من أخذ الأجرة على تعليم القرآن فإن الله تعالى قال لنبيه قل لا أسألكم عليه أجراً وقال تعالى قل ما سألتكم من أجر فهو لكم وقال تعالى اتبعو من لا يسألكم أجراً فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغ الإسلام والقرآن
وسأله صلى الله عليه وسلم - ابو النعمان بن بشير أن يشهد على غلام نحله لابنه فلم يشهد وقال لا تشهدني على جور وفي لفظ إن هذا لا يصلح وفي لفظ أكل ولدك نحلته مثل هذا قال لا قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم وفي لفظ فارجعه وفي لفظ اشهد على هذا غيري متفق عليه وهذا أمر تهديد قطعاً لا أمر
إباحة لأنه سماه جوراً وخلاف العدل وأخبر أنه لا يصلح وأمره برده ومحال مع هذا أن يأذن الله له في الاشهاد على ما هذا شأنه وبالله التوفيق.
وقال أبو بكر الجصاص : « وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم ، وترك كتمانه ، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه ، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام؟!
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { إنّ الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً } [ البقرة : 174 ] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً ، لأن قوله تعالى: { ويشترون به ثمناً قليلاً } [ البقرة : 174 ] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه ، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل ، قال عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن ، وسائر علوم الدين » .
وقال الفخر الرازي : « احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم ، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم ، كان أخذ الأجرة أخذاً على أداء الواجب، وأنه غير جائز ، وقوله تعالى : { ويشترون به ثمناً قليلاً }
وقالت اللجنة كما في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال الثالث من الفتوى رقم ( 8862 ) :
س3: ما هو تفسير الحديث النبوي مسند أحمد بن حنبل (3/428). اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ؟ وهل يجوز أخذ أجرة على قراءة القرآن الكريم كما يفعل بعض القراء في مصر؟
ج3 : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن وتدبره، ذكرا لله وعبادة له، رجاء ثوابه وخوف عقابه، وفهما لأحكامه والعمل بها والاتعاظ بمواعظه، ونهى صلى الله عليه وسلم عن أخذ الأجرة على قراءته والتآكل به.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وقال الشيخ عبدالله بن عقيل رحمه الله كما في فتاواه - (2 / 30)
باب الإجارة [307] ما يأخذه المأذون الشرعي على عقد النكاح
بعث رجل سؤالا يقول فيه: ما رأيكم في الذي يأخذه المأذون الشرعي من نقود على عقد النكاح؟ هل يحل له ذلك أم أنه مكروه؟ نرجوكم إيضاح الجواب وفقكم اللّه للصواب.
الإجابة:
الحمد للّه وحده. إذا كان ذلك بموجب شرط يشترطه العاقد، فالظاهر أنها تدخل في باب الإجارة على شيء يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، وإن كان بدون شرط، فالأولى عدم الأخذ؛ تعففا ورغبة فيما عند اللّه؛ لأن ثواب مثل هذا عند اللّه عظيم لمن صلحت نيته، لا سيما إذا كان العاقد مستغنيا عنه، وله راتب على هذا العمل.
وقد ذكر هذه المسألة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في "الدرر السنية مجموعة الأجوبة النجدية" ، فقال: وسئل بعضهم: هل يجوز أخذ الأجرة على عقد النكاح؟ فأجاب: يتخرج جواب هذه المسألة على جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، وهو على روايتين: قال ابن عمر: لا تجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة: كالحج، والأذان، ونحوهما، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد اللّه بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها المعلمون من السحت. وعنه: يصح.
وأجازه مالك والشافعي. قال: فإن أعطي المعلم شيئًا من غير شرط جاز. قال أحمد: لا يطلب، ولا يشارط، فإن أعطي شيئًا أخذه. وقال: أكره أجرة المعلم إلى آخره. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد اللّه أبابطين: وأما الجعل على عقد النكاح، فلا بأس به، إذا أعطي بغير شرط، فإن كان بشرط، فلا أدري، وأنا أكرهه. انتهى.
وقد سئل شيخنا، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه اللّه - عن ذلك. فأجاب: لا يجوز، فإن عقد لهم، وأعطوه بدون شرط، فلا بأس. والأولى أنه لا يقبل؛ لأنه ينقص الأجر(57). انتهى. ذكره في الفتاوى السعدية. واللّه أعلم.
وقال الألباني رحمه الله كما في دروسه -
أخذ الأجرة على القرآن
أجاب الشيخ على سؤال حول حكم أخذ الأجر على تعليم القرآن، فأجاب مفصلاً ومبيناً حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وكذلك العلوم المشتقة منه، وحكم تعليم السنة، ثم بين حكم أخذ الأجر على الرقية بالقرآن، كما تحدث في معرض ذلك عن ضوابط فهم السنة النبوية.
بعد ذلك تحدث الشيخ عن مفهوم السنة الحسنة والسنة السيئة والتفريق بين السنة والبدعة، ثم بين حكم أخذ الهبة أو الأعطية على تعليم القرآن.
حكم أخذ الأجرة على العبادات
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السؤال
بالنسبة لتحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن، نريد أن نستوضح عن تعليم القرآن، هل يدخل في ذلك، أو تعليم تفسير القرآن، أو تعليم تجويد القرآن؟
الجواب
كل العبادات لا يجوز أن يؤخذ عليها أجر، وكل العبادات أي: كل ما يدخل في النص العام (كل عبادة)، وكل ما كان ديناً، كمثل قوله تعالى:{وما أمروا إلّا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدّين } [البينة:5]، وكذلك قوله تعالى: {فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً } [الكهف:110] .
الآية الأولى صريحة الدلالة في الموضوع: { وما أمروا إلّا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدّين } [البينة:5]، أما الآية الأخرى فتحتاج إلى شيء من الشرح والبيان، مما ذكره علماء التفسير.
فقوله تعالى: { فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً } [الكهف:110] قالوا: العمل الصالح هو الموافق للسنة، أي: فما كان مخالفاً للسنة فليس عملاً صالحاً، وهذا قد جاءت فيه أحاديث كثيرة تترى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كمثل قوله في الحديث المشهور والمعروف في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، والأحاديث في هذا المعنى معروفة إن شاء الله، فلا حاجة لإطالة الكلام بذكرها.
وقوله تعالى: { فليعمل عملاً صالحاً } [الكهف:110] أي: موافقاً للسنة: { ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً } [الكهف:110] أي: لا يطلب أجر تلك العبادة من غيره تبارك وتعالى.
والأحاديث التي تأمر بإخلاص النية في الطاعة والعبادة هي أيضاً كثيرة ومشهورة، فهذا النص القرآني بعد شرحه مع النص الأول، كلاهما نص عام على أن العبادة لا تكون عبادة إلا بشرطين اثنين: الشرط الأول: أن يكون على وجه السنة.
الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى.
حكم أخذ الأجرة على القرآن
فهذه النصوص عامة تشمل كل عبادة، أما بالنسبة للقرآن فهناك نصوص خاصة، من أشهرها وأصحها قوله صلى الله عليه وسلم: ( تعاهدوا هذا القرآن، وتغنوا به، قبل أن يأتي أقوام يتعجلونه، ولا يتأجلونه ) (يتعجلونه) أي: يطلبون أجره العاجل، ولا (يتأجلونه) أي: لا يطلبون الأجر الآجل في الآخرة، فلهذا كله لا يجوز لمسلم أن يبتغي أجراً من وراء عبادة يقوم بها إلا من الله تبارك وتعالى، وعلى هذا فليست القضية متعلقة بتلاوة القرآن فقط، وبصورة خاصة على الحالة التي وصل إليها بعض القراء اليوم، حيث صدق فيهم نبأ الرسول الكريم المذكور آنفاً: (قبل أن يأتي أقوام يتعجلونه، ولا يتأجلونه ).
المسألة أعم وأوسع من ذلك بكثير، فلا فرق بين من يتلو القرآن للتلاوة فقط ويأخذ عليه أجراً، وبين من يعلم القرآن ويأخذ عليه أجراً، وبين من يفسر القرآن ويأخذ عليه أجراً، وبين من يعلم الحديث ويأخذ عليه أجراً، وبين من يؤم، ويؤذن، ويخدم المسجد، كل هذه عبادات لا يجوز لأي مسلم أن يبتغي من وراء الإتيان بها أجراً، إلا من عند الله تبارك وتعالى.
فإذا عرفت هذه الحقيقة، وهي حقيقة كدت أن أقول: إنه لا خلاف فيها، ثم لم أقل؛ لأنني تذكرت خلافاً في جزئية واحدة ألا وهي القرآن الكريم، فإن بعض المذاهب المتبعة اليوم تقول: يجوز أخذ الأجر على القرآن، ولهم في ذلك حجة صحيحة روايةً، وليست صحيحة درايةً، أما أنها صحيحة رواية؛ فلأنها في صحيح البخاري ، أما أنها ليست صحيحة درايةً، أي: لا يصح الاستدلال بهذه الرواية مع صحتها للاحتجاج على ما يناقض تلك الأدلة القاطعة بخاصة وبعامة، أنه لا يجوز أخذ الأجر على أي عبادة، وبخاصة منها القرآن الكريم.
نقض استدلال من يقول بجواز أخذ الأجرة على القرآن
ذلك الحديث هو قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) هذا الحديث في صحيح البخاري كما ذكرنا، وإنما قلنا: إنه لا يجوز الاستدلال به دراية مع صحته رواية؛ لأن لهذا الحديث مناسبة جاءت مقرونة مع الرواية نفسها، وهو في صحيح البخاري -كما قلنا- من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أنه كان في سرية مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمروا بقبيلة من القبائل العربية، فطلبوا منهم أن ينزلوا عليهم ضيوفاً، فأبوا، فنزلوا بعيداً عنهم، فقدر الله تبارك وتعالى أن أرسل عقرباً فلدغت أمير القبيلة، فأرسل أحد أتباعه إلى هؤلاء الذين أرادوا أن ينزلوا عليهم فأبوا، وقال: انظروا لعل عندهم شيء؛ لأنهم من أهل الحضر، فجاء الرسول من قبل ذلك الأمير، فعرض عليه أحد الصحابة أن يعالجه، ولكن اشترط عليه رءوساً من الغنم -أنا نسيت الآن، إما عشراً وإما مائة- وهو رئيس قبيلة وغني،
فقبل ذلك، فما كان منه إلا أن رقاه بالفاتحة بعد أن مسح بالبصاق مكان اللدغ، فكأنما نشط من عقال هكذا يقول في الحديث، فأخذ الجعل وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محتاطاً لعله لا يجوز أن يستفيد منه، فقال له عليه الصلاة والسلام الحديث السابق: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ).
فاختلف العلماء هنا، فالجمهور أخذ بالحديث مفسراً بالسبب، والشافعية أخذوا بالحديث دون ربطه بالسبب، وهذا هو السبب في الخلاف، وينبغي أن يكون معلوماً لدى كل طالب للعلم، أن من الضروري جداً لمن أراد التفقه ليس في السنة فقط، بل وفي القرآن أيضاً، أن يعرف أسباب نزول الآيات، وأسباب ورود الأحاديث.
فقد ذكر علماء التفسير أن معرفة سبب نزول الآية يساعد الباحث على معرفة نصف معنى الآية، والنصف الثاني يؤخذ من علم اللغة، وما يتعلق بها من معرفة الشريعة.
ربط الحديث بسبب وروده مما يعين على فهمه
كذلك نقتبس من هذا فنقول: كثير من الأحاديث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا مع ربطها بأسباب ورودها، منها هذا الحديث، وهناك أحاديث كثيرة، أيضاً، لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً إلا بربط الرواية مع سببها، فحينما فصل الحديث: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )عن سبب وروده؛ أعطى الإباحة العامة: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) فسواء كان الأجر مقابل التلاوة، أو كان مقابل تعليم القرآن، أو تفسير القرآن، وهكذا، فالحديث عام.
ولكننا إذا ربطناه بسبب الورود؛ تخصص هذا العموم للوارد، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، وبخاصة منهم علماء الحنفية، حينما فسروا هذا الحديث: ( أحق ما أخذتم عليه أجراً
كتاب الله ) في الرقية، فأضافوا هذه الجملة (في الرقية) أخذاً لها منهم من سبب ورود الحديث.
وهذا الأخذ لا بد منه؛ لكي لا يصطدم التفسير -إذا كان من النوع الأول- بقواعد إسلامية عامة ذكرناها آنفاً من بعض الآيات وبعض الأحاديث، وهذا من القواعد الأصولية الفقهية: أنه إذا جاء نص، سواءً كان قرآناً أو كان سنة، فلا يجوز أن يؤخذ على عمومه إلا منظوراً إليه في حدود النصوص الأخرى، التي قد تقيد دلالته، أو تخصصه فهذه كقاعدة لا خلاف فيها عند علماء الفقه والحديث، بل علماء المسلمين جميعاً.
وإنما الخلاف ينشأ من سببين اثنين: إما ألا يرد الحديث مطلقاً إلى بعضهم، أو أن يرجع إليه مطلقاً دون السبب الذي يوضح معناه، كما نحن في هذا الحديث بالذات.
حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) مثال لما سبق
ولعله يحسن أن نضرب مثلاً آخر؛ لأن له علاقة بكثير مما يثار اليوم ويجري النقاش حوله، ويستدل عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء )إلى آخر الحديث.
فإن جماهير العلماء اليوم وقبل اليوم ببضع قرون، يفسرون هذا الحديث تفسيراً على خلاف ما يدل عليه سبب وروده، فيقولون: معنى الحديث: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، وعلى ذلك يضطرون إلى أن يخصصوا عموم قوله عليه السلام في الحديث السابق ذكره: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وكذلك يفعلون بالحديث الذي هو أوضح في الدلالة على عموم وشمول الذم لكل بدعة، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ).
فحينما وقعوا في تأويل الحديث السابق: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) بمن ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، اضطروا توفيقاً بين ذاك الحديث وهذا المفهوم للحديث، ولا أقول بين ذاك الحديث وهذا الحديث؛ لأنه في الحقيقة لا تنافر ولا تنافي بينهما، وإنما جاء التنافر والتنافي بين ذلك الحديث العام الذي لا إشكال فيه: ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )، وبين الفهم الخاص لقوله: ( من سن في الإسلام سنة حسنة )، أي: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، فقالوا: إذاً قوله كل بدعة ضلالة من العام المخصوص، وحينئذٍ يكون معنى الحديث: ليس كل بدعة ضلالة.
فما هو معنى الحديث الذي تأولوه بالبدعة؟ الحقيقة أننا نستطيع أن نفهم الحديث فهماً لا يتنافى مع العموم المذكور (كل بدعة ضلالة) من نفس المتن أولاً، ثم نبتغي دعماً لهذا الفهم من سبب وروده ثانياً.
ذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما قال في الحديث: ( من سن في الإسلام سنة ) وصفها في الطرف الأول من الحديث بحسنة، وفي الطرف الثاني الذي استغنيت عن ذكره لشهرته بقوله: ( سنة سيئة ) فإذاً هذا الحديث يدلنا على أن في الإسلام سنة حسنة، وفي الإسلام سنة سيئة.
الشرع أساس التحسين والتقبيح
هنا يأتي السؤال
ما هو سبيل معرفة السنة الحسنة والسنة السيئة؟ أهو العقل والرأي المحض أم هو الشرع؟
الجواب
ما أظن أن قائلاً يقول: هو العقل والرأي، وإلا ألحق نفسه -ولا أقول نلحقه- بـ المعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين! هؤلاء المعتزلة هم الذين عرفوا منذ أن ذروا قرنهم وأشاعوا فتنتهم بقولهم: إن العقل هو الحكم، فما استحسنه العقل فهو الحسن، وما استقبحه العقل فهو القبيح.
أما رد أهل السنة والجماعة بحق فإنما هو على النقيض من ذلك، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.
إذاً حينما قال عليه الصلاة والسلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) أي: شرعاً، ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة ) أي: شرعاً، فالشرع هو الحكم في أن نعرف أن هذه سنة حسنة، وهذه سنة سيئة، إذا كان الأمر كذلك حينئذٍ لم يبق مجال للقول بأن معنى الحديث: من سن في الإسلام سنة حسنة، أن المعنى: بدعة حسنة، فنقول: هذه بدعة لكنها حسنة، ما يدريك أنها حسنة؟ إن جئت بالدليل الشرعي، فعلى الرأس والعين، والتحسين ليس منك وإنما من الشرع، كذلك إن جئت بالدليل الشرعي على سوء تلك البدعة؛ فالشرع هو الذي حكم بأنها سيئة وليس هو الرأي.
فهذا الحديث إذاً من نفس كلمة (حسنة وسيئة) نأخذ أنه لا يجوز تفسير الحديث بالبدعة الحسنة، والبدعة السيئة، التي مرجعها الرأي والعقل، ثم يندعم هذا الفهم الصحيح لهذا المتن الصحيح، بالعودة إلى سبب ورود الحديث، وهنا الشاهد.
الحديث جاء في صحيح مسلم ، و مسند الإمام أحمد وغيرهما من دواوين السنة، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: ( كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءه أعراب مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تمعر وجهه -أي تغيرت ملامح وجهه عليه الصلاة والسلام، حزناً وأسفاً على فقرهم الذي دل عليه ظاهر أمرهم- فخطب في الصحابة وذكر قوله تعالى: { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن من الصّالحين } [المنافقون:10] ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره ) (تصدق): هو فعل ماض، لكن هذا من بلاغة اللغة العربية، أي: ليتصدق، فأقام الفعل الماضي مقام فعل الأمر، إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع ويصبح ماضياً.
ليتصدق أحدكم بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره، وبعد أن انتهى عليه الصلاة والسلام من خطبته قام رجلٌ ليعود وقد حمل بطرف ثوبه ما تيسر له من الصدقة، من طعام، أو دراهم، أو دنانير، ووضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما رأى أصحابه الآخرون ما فعل صاحبهم، قام كل منهم ليعودوا أيضاً بما تيسر لهم من الصدقة، قال جرير : ( فاجتمع أمام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصدقة كأمثال الجبال، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تنور وجهه كأنه مذهبة ) قالوا في تفسير هذا التشبيه، (كأنه مذهبة): أي: كالفضة المطلية بالذهب.
في أول الأمر لما رآهم عليه الصلاة والسلام قال: تمعر وجهه أسفاً وحزناً لكن لما استجاب أصحابه لموعظته عليه الصلاة والسلام تنور وجهه كأنه مذهبة، وقال: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ...) إلى آخر الحديث.
الآن نقول: لا يصح بوجه من الوجوه أن يفسر الحديث بالتفسير الأول: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؛ لأننا سنقول: أين البدعة التي وقعت في هذه الحادثة، وقال عليه الصلاة والسلام بمناسبتها من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة؟ لا نرى هناك شيئاً من هذا القبيل إطلاقاً، بل نجد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطبهم آمراً لهم بالصدقة، مذكراً لهم بآية في القرآن الكريم، كانت نزلت عليه مسبقاً، وهي: { وأنفقوا من ما رزقناكم } [المنافقون:10] وأكد ذلك ببعض حديث: ( تصدق رجل بدرهمه بديناره بصاع بره بصاع شعيره ) إذاً ليس هناك إلا الصدقة، والصدقة عبادة، تارة تكون فريضة، وتارة تكون نافلة.
فإذاً: لا يجوز أن نقول: معنى الحديث من ابتدع؛ لأنه لم يقع هنا بدعة، ولكن لو رجعنا إلى لفظة (سنّ) في اللغة العربية، للمسنا منها شيئاً جديداً في هذه الحادثة، لكن ليست هي البدعة، الشيء الجديد هو قيام هذا الرجل أول كل شيء وانطلاقه إلى داره ليعود بما تيسر له من صدقة، فأصحابه الآخرون فعلوا مثل فعله، فسن لهم سنة حسنة، لكن هو ما سن بدعة، سن لهم صدقة، والصدقة كانت مأمور بها من قبل، كما ذكرت آنفاً.
قد أكون أطلت قليلاً أو كثيراً، ولكن أرى أن هذا البيان لا بد منه لكل طالب
علم؛ ليفهم النصوص الشرعية فهماً صحيحاً حتى لا يضرب بعضها ببعض.
فقوله عليه الصلاة والسلام الذي أخذ بظاهره بعض العلماء فأباحوا أخذ الأجر على القرآن مطلقاً، لا يصح فهمه على هذا الإطلاق، بل ينبغي أن نربطه بالسبب وهو: الرقية، فلا يكون في ذلك أخذ الأجر المنصوص في الحديث لمجرد تلاوة قرآن أو تعليمه، بل للرقية بالقرآن الكريم، ويؤكد هذا أخيراً -ولعلي أكتفي بهذا الذي سأذكره- أن رجلاً علّم صاحباً له في عهد النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأهدى إليه قوساً ولكنه توقف حتى يسأل النبي.
عوداً إلى حديث أبي سعيد ، لماذا توقف أبو سعيد من الاستفادة من الأجر الذي أخذه من أمير القبيلة، وهذا الرجل الثاني لما أهديت له القوس توقف حتى سأل الرسول عليه السلام، لماذا توقف هذا وذاك؟ لأنهم كانوا فقهاء حقاً، وكانوا يفهمون مثل الآية السابقة: { وما أمروا إلّا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدّين } [البينة:5] ف أبو سعيد قرأ القرآن ولو أنها مقرونة بالرقية، وهذا الآخر علم صاحبه القرآن، فخشي أن يكون ذلك منافياً للإخلاص في عبادة الله عز وجل.
فكان من ذلك أن أبا سعيد تورع عن الانتفاع بالأجر الذي أخذه مقابل الرقية، حتى قال له عليه السلام ما سمعتم، أما هذا الرجل الثاني الذي علم صاحبه القرآن، لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له بأنه علمه فأهدى إليه قوساً، قال: ( إن أخذتها طوقت بها ناراً يوم القيامة ) فإذاً أخذ الأجرة على تعليم القرآن بهذا الحديث والحديث الآخر: ( يتعجلونه ولا يتأجلونه ) لا يجوز إطلاقاً.
حكم أخذ العطاء الذي لا يسمى أجراً على تعليم القرآن
إلى هنا أكتفي بما سبق من بيان أن القرآن تعليماً وقراءة لا يجوز أخذ الأجر عليه ككل العبادات، ولكن هنا ملاحظة لا بد من ذكرها ولو بإيجاز، فالأجر كما تعلمون حقٌ مقابل عمل يقوم به الإنسان، هذا النوع من الأخذ المسمى لغة وشرعاً: أجراً، هو الذي يحرم شرعاً، ولكن إذا كان هناك نوع من المال يعطى لمن يقوم ببعض -لنقل الآن بالعرف الحاضر- الوظائف الدينية، من قبل الدولة، أو من قبل بعض الأثرياء والأغنياء -وما أقلهم في هذا الزمان- الذين يشعرون بأن عليهم أن يمدوا يد العون والمساعدة لبعض الفقراء، بل والأقوياء الذين تفرغوا لخدمة الإسلام بعمل ما، خدمة للإسلام، فتعطي لهم الدولة، فلا يجوز، أولاً: للدولة أن تسمي هذا أجراً، ولا يجوز للآخذين لهذا الشيء أن يأخذوه أجراً،
وإنما يأخذونه بمعنى آخر هو مثلاً: الهبة، أو الجعالة، أو العطاء، كما كانوا في السلف الأول، حينما كان الإسلام قوياً، وكان الجهاد في سبيل الله قائماً ومنشوراً، وكانت المغانم تملأ خزائن الدولة، حتى كانت الدولة توزع عطاءً على الناس حتى من لم يكن موظفاً منهم فيها.
فهذا هو المخرج ممن كان إماماً، أو مؤذناً، أو خطيباً، أو مدرساً في مدارس، وكان علمه علماً شرعياً دينياً، فلا يجوز له أن يأخذ عليه أجراً، وعليه أن يأخذه بغير معنى الأجر، لما ذكرناه من الأدلة القاطعة، التي توجب على كل مسلم أن تكون عبادته خالصة لوجه الله تبارك وتعالى.
ولكن الحق والحق أقول: أن مثل هذا الأمر يحتاج إلى نفس مؤمنة قوية جداً، بمعنى أنه لا فرق عند المؤمن عندما يقوم بواجبه الديني في أي علم كان، ابتغاء لوجه الله حقاً، فلا فرق عنده أعطي المال أم لم يعطه؛ لأنه إنما يعمل لوجه الله تبارك وتعالى.
وبهذا أنهي الجواب عن سؤالك، والإضافة التي ألحقتها لإزالة حرج قد يجده بعض الناس في نفوسهم، وقد لا يشعر به الآخرون، فيقعون في إثم الأكل للمال أجراً على عبادة لا يجوز لهم أن يأخذوا مقابلها أجراً.
وبعد هذه الجولة السريعة في نقل كلام أهل العلم نذكر
خلاصة القول في هذه المسألة
اختلف أهل العلم فيها على قولين:-
القول الأول: جواز أخذ الاجرة على تعليم القرآن وهو قول الجمهور ولم يشترطوا أي شرط وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد في رواية
ومنهم من قال جواز أحذ الأجرة على تعليم القرآن إذا لم يتعين عليه التعليم
ومنهم من قال جواز أخذ الأجرة إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة كما ذكر ابن كثير في تفسيره
ومنهم من قال جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن إذا احتاج إليها وهو قول أحمد كما ذكر ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى
القول الثاني: تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن وهو قول أبو حنيفة وأحمد في رواية والضحاك بن قيس وعطاء والزهري وإسحاق وعبد الله بن شقيق وغيرهم وهو ترجيح ابن تيمية وابن القيم والجصاص
والسعدي وعبد الله ابن عقيل والباني وللجنة في رواية رحمهم الله تعالى.
القول الراجح هو القول الثاني للأدلة المذكورة, لأن تعليم القران من أفضل العبادات ولايجوز أخد الأجرة على العبادات وإنما يعمل لأجل الله وحده لاشرك له وكان هذا طريق الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم, والصحابة والتابعين كان والعلماء المتقدمين يعلمون الناس بغير أجرة , وفوجئنا في هذا العصر من يعلم القرآن بأجرة . والله أعلى وأعلم .
([1] ) مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه . الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح - (3 / 91)
وهو قول ابن عثيمين والسعدي وابن القيم وغيرهم وهو الراجح
([2] )- سنن أبي داود برقم (3664) وصححه الألباني رحمه الله .
([3] ) صحيح البخاري برقم (5007) وهذا اللفظ هو لفظ حديث ابن عباس.
([4] ) رواه البخاري في صحيحه برقم (5149) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
([5] ) سنن أبي داود برقم (3416). وصححه الألباني رحمه الله .
([6] ) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/125) وصححه الألباني رحمه الله.
([7]) متفق عليه من حديث حذيفة وعند مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنهما
([8] ) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
([9] ) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
.................................................. .................................................. .......................................
إنتهى نهار يوم السبت 29 جمادى الأول 1433 هـ الموافق 21/04/2012
أخوكم في الله أبو عبدالرحمن قاسم الصومالي
الصومال - بورما .
إنتهى نهار يوم السبت 29 جمادى الأول 1433 هـ الموافق 21/04/2012
أخوكم في الله أبو عبدالرحمن قاسم الصومالي
الصومال - بورما .
تعليق