إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
أما بعد :
فإن داء الكذب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ داء استفحل أمره واستطار شره فأحببت أن أكتب فيه نصحاً لنفسي ولإخواني المسملين ـ وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ـ فدونك هذه الرسالة في خطر الكذب على النبي ـ صلى الله ـ عليه وسلم ـ وحكمه
أما بعد :
فإن داء الكذب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ داء استفحل أمره واستطار شره فأحببت أن أكتب فيه نصحاً لنفسي ولإخواني المسملين ـ وفق الله الجميع لما يحب ويرضى ـ فدونك هذه الرسالة في خطر الكذب على النبي ـ صلى الله ـ عليه وسلم ـ وحكمه
أنقله مما كنت علقته في تعليقي على كتاب الإيمان من كتاب اللؤلؤ والمرجان لمحمد فؤاد عبد الباقي ـ رحمه الله ـ
تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديث عليّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا تكذِبوا عليّ، فإنه من كَذَبَ عليّ فَلْيَلِجِ النارَ
أخرجه البخاري في: 3 كتاب العلم: 38 باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم
حديث أَنَسٍ قال: إِنه لَيَمْنَعُنِى أَنْ أحدّثكم حديثًا كثيرًا أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ تعمَّدَ عليّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار
أخرجه البخاري في: 3 كتاب العلم: 38 باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم
حديث أبي هُرَيْرَةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ومَن كَذَب عليّ مُتعمِّدًا فليتبوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار
أخرجه البخاري في: 3 كتاب العلم: 38 باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم
حديث الْمُغِيرَةِ قال سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ كذِبًا عليّ ليس ككذِبٍ على أحدٍ، مَن كَذَبَ عليَّ مُتعمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ منَ النار
أخرجه البخاري في: 23 كتاب الجنائز: 34 باب ما يكره من النياحة على الميت
غريب الحديث
قوله "فاليلج " فعل أمر مأخوذ من الولوج وهو بمعنى الدخول ولج البيت ولوجاً ولجة [ لسان العرب 16/226]
قال الحافظ ـ رحمه الله ـ (قَوْله : ( فَلْيَلِجْ النَّار ) جَعَلَ الْأَمْر بِالْوُلُوجِ مُسَبَّبًا عَنْ الْكَذِب ؛ لِأَنَّ لَازِم الْأَمْر الْإِلْزَام وَالْإِلْزَام بِوُلُوجِ النَّار سَبَبه الْكَذِب عَلَيْهِ أَوْ هُوَ بِلَفْظِ الْأَمْر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم مِنْ طَرِيق غُنْدَر عَنْ شُعْبَة بِلَفْظِ " مَنْ يَكْذِب عَلَيَّ يَلِج النَّار " وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيق شَرِيك عَنْ مَنْصُور قَالَ : " الْكَذِب عَلَيَّ يُولِج - أَيْ : يُدْخِل - النَّار " .) [ الفتح 1/271]
وقوله "فَلْيَتَبَوَّأْ" قال العيني ـ رحمه الله ـ (بكسر اللام هو الأصل وبالسكون هو المشهور وهو أمر من التبوء وهو اتخاذ المباءة أي المنزل يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه موضعا لمقامه) [ عمدة القاري 1/266]
وقال ـ رحمه الله ـ (قوله فليتبوأ مقعده من النار قال الخطابي ظاهره أمر ومعناه خبر يريد أن الله تعالى يبوؤه مقعده من النار وقال الطيبي الأمر بالتبوء تهكم وتغليظ إذ لو قيل كان مقعده في النار لم يكن كذلك وأيضا فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد في جزائه التبوء ) [ عمدة القاري 1/266]
وقال الكرماني ـ رحمه الله ـ (ويحتمل أن يكون الأمر على حقيقته بأن يكون معناه من كذب فيأمر نفسه بالتبوأ ويلزم عليه ) [ شرح الكرماني على صحيح البخاري 1/112]
وقال العيني ـ رحمه الله ـ (قلت والأولى أن يكون أمر تهديد أو يكون دعاء على معنى بوأه الله ) [ عمدة القاري 1/266]
هذا ملخص الكلام على غريب الحدث وهو حديث متواتر قال بعضهم :ـ
مما تواتر حديثُ مَنْ كَذَبْ وَمَنْ بَنَى للهِ بيتاً واحْتَسَبْ
ورؤيةٌ شَفَاعَةٌ والْحَوضُ وَمْسُحُ خُفَّيْنِ وَهذى بَعْضُ
الشاهد قوله " مما تواتر حديثُ مَنْ كَذَبْ " قال الإمام ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ (وهذا الحديث أعنى قوله: " من كذب على متعمدا " قد رواه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وستون نفسا وأنا أذكره عنهم إن شاء الله قال الشيخ شاهدته فذكره في غير هذه النسخة عن ثمانية وتسعين منهم عبدالرحمن بن عوف، ومنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.) [ الموضوعات 1/56]
قال ابن حجر الهيثمي (وَقَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : جَاءَ الْوَعِيدُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ بِأَنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ .
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ : قَالَ الْبَزَّارُ : رَوَاهُ مَرْفُوعًا نَحْوُ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا .
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : إنَّهُ حَدِيثٌ بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ ، رَوَاهُ الْجَمُّ الْكَثِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ ، قِيلَ إنَّهُمْ يَبْلُغُونَ ثَمَانِينَ نَفْسًا ، وَجَمَعَ الْحَافِظُ طُرُقَهُ فِي جُزْءٍ ضَخْمٍ ، قِيلَ : رُوَاتُهُ فَوْقَ سَبْعِينَ صَحَابِيًّا ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَاهُ الْعَشَرَةَ إلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَبَلَغَ بِهِمْ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ سَبْعَةً وَثَمَانِينَ مِنْهُمْ الْعَشَرَةُ .) [الزوجر عن اقتراف الكبائر1/162ـ163]
تعريف الكذب
هُوَ الْإِخْبَار بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأخلافاً للمعتزلة والجهمية الذين يشترطون التعمد .
قال الحافظ ـ رحمه الله ـ :( وَفِي تَمَسُّك الزُّبَيْر بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ اِخْتِيَار قِلَّة التَّحْدِيث دَلِيل لِلْأَصَحِّ فِي أَنَّ الْكَذِب هُوَ الْإِخْبَار بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأ ، وَالْمُخْطِئ وَإِنْ كَانَ غَيْر مَأْثُوم بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الزُّبَيْر خَشِيَ مِنْ الْإِكْثَار أَنْ يَقَع فِي الْخَطَأ وَهُوَ لَا يَشْعُر ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَأْثَم بِالْخَطَأِ لَكِنْ قَدْ يَأْثَم بِالْإِكْثَارِ إِذْ الْإِكْثَار مَظِنَّة الْخَطَأ ، وَالثِّقَة إِذَا حَدَّثَ بِالْخَطَأِ فَحُمِلَ عَنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُر أَنَّهُ خَطَأ يُعْمَل بِهِ عَلَى الدَّوَام لِلْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ ، فَيَكُون سَبَبًا لِلْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ الشَّارِع ، فَمَنْ خَشِيَ مِنْ إِكْثَار الْوُقُوع فِي الْخَطَأ لَا يُؤْمَن عَلَيْهِ الْإِثْم إِذَا تَعَمَّدَ الْإِكْثَار ، فَمِنْ ثَمَّ تَوَقَّفَ الزُّبَيْر وَغَيْره مِنْ الصَّحَابَة عَنْ الْإِكْثَار مِنْ التَّحْدِيث . وَأَمَّا مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فَمَحْمُول عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا وَاثِقِينَ مِنْ أَنْفُسهمْ بِالتَّثَبُّتِ ، أَوْ طَالَتْ أَعْمَارهمْ فَاحْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدهمْ فَسُئِلُوا فَلَمْ يُمْكِنهُمْ الْكِتْمَان . رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ .) [ الفتح 1/174]
ما حكم الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟
جمهور أهل العلم على أنه كبيرة من الكبائر يستحق مرتكبها دخول النار إلا أنه لا تصل به إلى حد الكفر . وخالفت طائفة منهم والد إمام الحرمين ـ رحمه الله ـ أنه يكفر نقل ذلك إمام الحرمين ووهاه وعده من هفوات أبيه .
وممن قال بتكفير من تعمد الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو الفضل الهمذاني شيخ ابن عقيل نقل عنه الحافظ ابن كثير وكذلك ممن أيد هذا القول ابن الوزير في التنقيح [ انظر شرح الإتيوبي على ألفية السيوطي ـ رحمه الله ـ 1/361]
وممن قال بذلك ابن المنير كما ذكر ذلك الحافظ ـ رحمه الله ـ [فتح الباري 1/274]
وكذلك العلامة أحمد شاكر في الباعث الحثيث حيث قال بعد أن نقل كلام والد إمام الحرمين قال : وهو الحق [1/ 239 طبعة الحلبي ]
وممن مال إلى ذلك ابن العربي المالكي ـ رحمه الله ـ قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر مذهب أبي محمد الجويني (وَكَلَام الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْن الْعَرَبِيّ يَمِيل إِلَيْهِ) " الفتح 10/261"
وقال ابن حجر الهيثمي بعد أن نقل خطر الكذب على الله وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ(تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ : إنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفْرٌ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ[1] : وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يُخْرِجُ عَنْ الْمِلَّةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ كُفْرٌ مَحْضٌ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ .) [ الزواجر 1/162]
قال السفاريني ـ رحمه الله ـ بعد نقله لكلام ابن حجر (وقد يقال :أطلق عليه بعض العلماء اسم الكفر؛ مرادهم إن حلل حراماً أو حرم حلالاً وحينئذ لا إشكال فإن خلا عن ذلك فكبيرة والله أعلم [ الذخائر شرح منظومة الكبائر 284ـ285]
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ كما في كتاب الكبائر (تحت عنوان الكبيرة الرابعة عشرة : الكذب على الله عز و جل و على رسوله صلى الله عليه و سلم
قال الله عز و جل :
{ و يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة }
قال الحسن : هم الذين يقولون : إن شئنا فعلنا و إن شئنا لم نفعل قال ابن الجوزي في تفسيره : و قد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الكذب على الله و على رسوله كفر ينقل عن الملة و لا ريب أن الكذب على الله و على رسوله في تحليل حرام و تحريم حلال كفر محض و إنما الشأن في الكذب عليه فيما سوى ذلك ) [الكبائر114]]
قوله في تفسيره لم أجد هذا الكلام في تفسير ابن الجوزي بعد البحث عنه ولعله قصوراً مني ـ والله يغفر لي ـ أو سبق قلم من الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ وكلام ابن الجوزي موجود في كتاب الكبائر الموسوم بـ" تذكرة أولي البصائر في الكبائر "
الكبيرة التاسعة (114)والله ولي التوفيق .
يتلخص مما سبق أن للعلماء قولين في الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
القول الأول : أنه كبيرة من الكبائر ـ يستحق صاحبها عذاب الله ومقته ـ إن لم يتجاوز الله عنه وهذا هو قول جمهور العلماء .
القول الثاني : أنه كفر مخرج عن الملة وهذا هو قول والد إمام الحرمين ومن وافقه على ذلك كما تقدم .
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ وهو يعدد فوائد الحديث المتقدم ـ (الثانية تعظيم
تحريم الكذب عليه صلى الله عليه و سلم وأنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف وقال الشيخ أبو محمد الجوينى والد إمام الحرمين أبى المعالي من أئمة أصحابنا يكفر بتعمد الكذب عليه صلى الله عليه و سلم حكى إمام الحرمين عن والده هذا المذهب وأنه كان يقول في درسه كثيرا من كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم عمدا كفر وأريق دمه وضعف إمام الحرمين هذا القول وقاله انه لم يره لأحد من الأصحاب وانه هفوة عظيمة والصواب ما قدمناه عن الجمهور والله أعلم ) [ شرح مسلم 1/67]
فالخلاصة في حكم الكذب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كبيرة من الكبائر يستحق صاحبه عذاب الله ـ إن لم يعف عنه ـ أما إذا كان فيه تحليل حرام أو تحريم حلال أو استحل ذلك فكفر بالاتفاق والخلاف إنما في الحالة الأولى والصحيح قول الجمهور ما لم يستحل وعلى كل فالكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أكبر الكبائر ومن أوسع أبواب النار ونسأل الله العصمة وللمزيد انظر [فتح الباري 1/274] و [ عمدة القاري 2/221] وبالله التوفيق .
سؤال : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار) أهو إلى الكاذب بتبوء مقعده من النار فيؤمر بذلك أم ذلك إلى الله ؟
نقل ابن البطال في شرحه عن الطبري الجواب عن هذا فقال :( قال الطبري: إن قيل: معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: تمت فليتبوأ مقعده من النار - أهو إلى الكاذب بتبوء مقعده من النار فيؤمر بذلك، أم ذلك إلى الله؟ فإن يكن ذلك إليه فلا شك أنه لا يُبَوِّء نفسه ذلك، وله إلى تركه سبيل.
وإن يكن ذلك إلى الله، فكيف أمر بتبوء المقعد، وأمرُ العبدِ بما لا سبيل إليه غَيْرُ جائز؟.
قيل: معنى ذلك غير ما ذكرت، وهو بمعنى الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - على من كذب عليه، كأنه قال: مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به وذلك كثير في كلام العرب. ) [ شرح ابن بطال على صحيح البخاري 1/176]
سؤال آخر : ما المقصود بالكذب عليه في الحديث صلى الله عليه وسلم ـ
نقل ابن بطال ـ رحمه الله ـ في شرحه ثلاثة أقوال في هذه المسألة وانقله هنا قال ـ رحمه الله ـ (فإن قيل: ذلك عامٌ في كل كذب في أمر الدين، وغيره أو في بعض الأمور؟.
قيل: قد اختلف السلف في ذلك،
1: فقال بعضهم: معناه الخصوص، والمراد: من كذب عليه في الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدًا.
2: وقال آخرون: بل كان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - في رجل بعينه كذب عليه في حياته، وادَّعى عند قوم أنه بعثه إليهم ليحكم في أموالهم ودمائهم. فأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتله إن وجد، أو بإحراقه إن وُجِد ميتًا.
3: وقال آخرون: ذلك عام فيمن تعمد عليه كذبًا في دين أو دنيا، واحتجوا بتهيب الزبير، وأنس كثرة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبقول عمر: أقلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا شريككم. وقالوا: لو كان ذلك في شخص بعينه لم يكن لاتقائهم ما اتقوا من ذلك، ولا لحذرهم ما حذروا من الزلل في الرواية والخطأ وجه مفهوم، والصواب في ذلك أن قوله على العموم في كل من تعمد عليه كذبًا في دين أو دنيا، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن معاني الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته، وكذلك في الحرب، والإصلاح بين الناس، وإذا كان الكذب لا يصلح في شيء إلا في هذه الثلاث، فالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجدر ألا يصلح في دين ولا دنيا، إذْ الكذب عليه ليس كالكذب على غيره.
وأن الدعاء الذي دعا على من كذب عليه لأحق بمن كذب عليه في كل شيء. ) [ 1/176]
أقول : وهذا الذي صوبه ابن بطال ـ رحمه الله ـ هو الحق الذي لا يظهر سواه ـ فتنبه وفقنا الله وإياك ـ
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ومَن كَذَب عليّ مُتعمِّدًا) هل يفهم منه جواز الكذب له كما قد يتبادر إلى ذهن من طمس الله بصيرته ؟!
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ (قَوْله : ( لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ ) هُوَ عَامّ فِي كُلّ كَاذِب ، مُطْلَق فِي كُلّ نَوْع مِنْ الْكَذِب ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوا الْكَذِب إِلَيَّ . وَلَا مَفْهُوم لِقَوْلِهِ : " عَلَيَّ " لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّر أَنْ يُكْذَب لَهُ لِنَهْيِهِ عَنْ مُطْلَق الْكَذِب . وَقَدْ اِغْتَرَّ قَوْم مِنْ الْجَهَلَة فَوَضَعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب وَقَالُوا : نَحْنُ لَمْ نَكْذِب عَلَيْهِ بَلْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَته ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ تَقْوِيله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ يَقْتَضِي الْكَذِب عَلَى اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات حُكْم مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة سَوَاء كَانَ فِي الْإِيجَاب أَوْ النَّدْب ، وَكَذَا مُقَابِلهمَا وَهُوَ الْحَرَام وَالْمَكْرُوه . وَلَا يُعْتَدّ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْكَرَامِيَّة حَيْثُ جَوَّزُوا وَضْع الْكَذِب فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب فِي تَثْبِيت مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ كَذِب لَهُ لَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَهْل بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّة وَتَمَسَّكَ بَعْضهمْ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث مِنْ زِيَادَة لَمْ تَثْبُت وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِلَفْظِ : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ لِيُضِلّ بِهِ النَّاس " الْحَدِيث ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَصْله وَإِرْسَاله ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِم إِرْسَاله ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيث يَعْلَى بْن مُرَّة بِسَنَدٍ ضَعِيف ، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَتْ اللَّام فِيهِ لِلْعِلَّةِ بَلْ لِلصَّيْرُورَةِ كَمَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : ( فَمَنْ أَظْلَم مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا لِيُضِلّ النَّاس ) وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآل أَمْره إِلَى الْإِضْلَال ، أَوْ هُوَ مِنْ تَخْصِيص بَعْض أَفْرَاد الْعُمُوم بِالذِّكْرِ فَلَا مَفْهُوم لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة - وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادكُمْ مِنْ إِمْلَاق ) فَإِنَّ قَتْل الْأَوْلَاد وَمُضَاعَفَة الرِّبَا وَالْإِضْلَال فِي هَذِهِ الْآيَات إِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ الْأَمْر فِيهَا لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْم . ) [ الفتح 1/270]
أقول : كلام الحافظ ـ رحمه الله ـ في غاية النفاسة ـ والله أعلم ـ
وقال العيني ـ رحمه الله ـ (فإن قلت هل فرق بين كذب عليه وكذب له أم الحكم فيهما سواء قلت معنى كذب عليه نسبة الكلام إليه كاذبا سواء كان عليه أو له ) [ عمدة القاري 2/220]
وقال النووي ـ رحمه الله ـ (وزعم بعضهم إن هذا كذب له عليه الصلاة و السلام لا كذب عليه وهذا الذي انتحلوه وفعلوه واستدلوا به غاية الجهالة ونهاية الغفلة وأدل الدلائل على بعدهم من معرفة شيء من قواعد الشرع وقد جمعوا فيه جملا من الاغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة وأذهانهم البعيدة الفاسدة فخالفوا قول الله عز و جل ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور وخالفوا إجماع أهل الحل والعقد وغير ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على آحاد الناس فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي وإذا نظر في قولهم وجد كذبا على الله تعالى قال الله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ومن أعجب الأشياء قولهم هذا كذب له وهذا جهل منهم بلسان العرب وخطاب الشرع فإن كل ذلك عندهم كذب عليه وأما الحديث الذي تعلقوا به فأجاب العلماء عنه بأجوبة أحسنها وأخصرها أن قوله ليضل الناس زيادة باطلة اتفق الحفاظ على إبطالها وأنها لا تعرف صحيحة بحال الثاني جواب أبى جعفر الطحاوي أنها لو صحت لكانت للتأكيد كقول الله تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس الثالث أن اللام في ليضل ليست لام التعليل بل هي لام الصيرورة والعاقبة معناه أن عاقبة كذبه ومصيره إلى الإضلال به كقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ونظائره في القرآن وكلام العرب أكثر من أن يحصر وعلى هذا يكون معناه فقد يصير أمر كذبه إضلالا وعلى الجملة مذهبهم أرك من أن يعتنى بإيراده وأبعد من أن يهتم بإبعاده وأفسد من أن يحتاج إلى إفساده والله أعلم ) [ 1/67 شرح مسلم ]
فهذا خلاصة ـ ما علقته على هذا الفصل من ذلك الكتاب العظيم ـ اللؤلؤ والمرجان فأسأل الله الإعانة في تتميمه وقد شغلت عنه والله المستعان ـ في خطورة الكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتوق أخي! ـ في الله ـ هذه الكبيرة . ولا تنسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ما تعلم ثبوته عنه ، وأما إذا لم تعلم ؛ فحسبك أن تقول : فيما يُروى أو رُوي وغيره مما يشعر بعدم الجزم في نسبة ذلك القول إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تفسر شيئاً من أحاديثه إلا إذا كنت على علم باللغة العربية بصرفها ونحوها وبلاغتها ولا أقول ـ أحط بها علماً ؛ فإن اللغة العربية لا يحيط بها إلا نبي ـ وإنما أقول : لا بد أن يكون لديك شيء من اللغة يعينك على فهم مراد الله ، عن الله على ما أراده هو . وعلى فهم مراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أراده هو واستعن على ذلك ـ بل لا غنى لك عنه ـ بشروحات الأئمة فكم من معضلة مستصعبة بينوها وكم من مسألة محيرة كشفوها بتوفيق الله لهم فسبحان { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} ولا تصغ إلى كل ناعق ممن ينسبون إلى رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل شيء سمعوه وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع .
1) يقصد به ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ وسيأتي كلامه ـ إن شاء الله ـ
تعليق