" لا أشبع الله بطنه. يعني معاوية ".
رواه أبو داود الطيالسي في " مسنده " (2746) : حدثنا هشام وأبو عوانة عن أبي حمزة القصاب عن ابن عباس:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى معاوية ليكتب له: فقال: إنه يأكل ثم بعث إليه، فقال: إنه يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكره.
قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم، وفي أبي حمزة القصاب واسمه عمران بن أبي عطاء كلام من بعضهم لا يضره، فقد وثقه جماعة من الأئمة منهم أحمد وابن معين وغيرهما، ومن ضعفه لم يبين السبب، فهو جرح مبهم غير مقبول، وكأنه لذلك احتج به مسلم، وأخرج له هذا الحديث في "صحيحه " (8 /27) من طريق شعبة عن أبي حمزة القصاب به.
وأخرجه أحمد (1 / 240، 291، 335، 338) عن شعبة وأبي عوانة عنه به،دون قوله: " لا أشبع الله بطنه " وكأنه من اختصار أحمد أو بعض شيوخه، وزاد في رواية:" وكان كاتبه " وسندها صحيح.
وقد يستغل بعض الفرق هذا الحديث ليتخذوا منه مطعنا في معاوية رضي الله عنه، وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولذلك قال الحافظ ابن عساكر (16 / 349 / 2) " إنه أصح ما ورد في فضل معاوية " فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم غير مقصود، بل هو ما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه " عقرى حلقى "و" تربت يمينك ". ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه عليه السلام في أحاديث كثيرة متواترة.منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه، فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت:يا رسول الله من أصاب من الخير شيئا ما أصابه هذان؟ قال: وما ذاك؟ قالت:قلت: لعنتهما وسببتهما، قال: " أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا ".
٨٣- " أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا ".
رواه مسلم مع الحديث الذي قبله في باب واحد هو " باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا لذلك كان له زكاة وأجرا ورحمة ".
ثم ساق فيه من حديث أنس بن مالك قال:" كانت عند أم سليم يتيمة وهي أم أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: آنت هي؟ لقد كبرت لا كبر سنك فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ فقالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكبر سني أبدا، أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم مستعجله تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم سليم؟ فقالت يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال:وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي؟ أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ".
٨٤- " يا أم سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي؟ أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ".
(عن أم سليم) :ثم أتبع الإمام مسلم هذا الحديث بحديث معاوية وبه ختم الباب، إشارة منه رحمه الله إلى أنها من باب واحد، وفي معنى واحد، فكما لا يضر اليتيمة دعاؤه صلى الله عليه وسلم عليه بل هو لها زكاة وقربة، فكذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم على معاوية.
وقد قال الإمام النووي في" شرحه على مسلم " (2 / 325 طبع الهند) : " وأما دعاؤه صلى الله عليه وسلم على معاوية ففيه جوابان: أحدهما: أنه جرى على اللسان بلا قصد.
والثانى: أنه عقوبة له لتأخره، وقد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا الدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه في الحقيقة يصير دعاء له ".
وقد أشار الذهبي إلى هذا المعنى الثاني فقال في " سير أعلام النبلاء " (9 / 171 / 2) : " قلت: لعل أن، يقال: هذه منقبة لمعاوية لقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم من لعنته أو سببته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة ".
واعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث:" إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر.. " إنما هو تفصيل لقول الله تبارك وتعالى: (قل إنما أنا بشرمثلكم، يوحى إلي....) الآية.
وقد يبادر بعض ذوي الأهواء أو العواطف الهوجاء، إلى إنكار مثل هذا الحديث بزعم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيهه عن النطق به! ولا مجال إلى مثل هذا الإنكار فإن الحديث صحيح، بل هو عندنا متواتر، فقد رواه مسلم من حديث عائشة وأم سلمة كما ذكرنا، ومن حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما، وورد من حديث سلمان وأنس وسمرة وأبي الطفيل وأبي سعيد وغيرهم. انظر " كنز العمال " (2 / 124) .
وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما مشروعا، إنما يكون بالإيمان بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم صحيحا ثابتا، وبذلك يجتمع الإيمان به صلى الله عليه وسلم عبدا ورسولا، دون إفراط ولا تفريط، فهوصلى الله عليه وسلم بشر،بشهادة الكتاب والسنة، ولكنه سيد البشر وأفضلهم إطلاقا بنص الأحاديث الصحيحة.
وكما يدل عليه تاريخ حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته، وما حباه الله تعالى به من الأخلاق الكريمة، والخصال الحميدة، التي لم تكتمل في بشر اكتمالها فيه صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم، إذ خاطبه بقوله الكريم: (وإنك لعلى خلق عظيم) .
السلسلة الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها للعلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
تعليق