توبة المبتدع
بسم الله الرحمن الرحيم :الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذا كلام جمعته من مشاركات في هذا الموضوع داخل المنتديات السلفية ، فأحببت بذلك أن أطلع إخواني على ما ابتضعت من الزاد ، فجزا الله خيرا كل من أفادني.
الموضوع:جرت العادات أن المبتدع لا يخلوا عمله من إحداث ، وإدراج في الدين ما ليس منه فوهب الله لنا العلماء ورثة الأنبياء يذبون عن الدين ويردعون كل من سولت له نفسه بنشر الضلال فمن أجل ذلك حذروا وذموا وقدحوا ، فرزق الله التوبة من رزق بفضله وجعل السبب هم العلماء فمن تاب بعد تبديعهم له فهم من يقررون توبته فهذا منهج السلف رضي الله عنهم .
قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم) [البقرة:160] .
قال ابن كثير في تفسيره: ( 1/288):
"أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبيّنوا للناس ما كانوا يكتمون، وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفرٍ، أو بدعةٍ إذا تاب؛ تاب الله عليه".اهـ.
وإليك قصة الثلاثة الذين خلفوا ، كعب ابن مالك، ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية، الذين هجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتبين صدق توبتهم رضوان الله عليهم فنزل الوحي المبين بصدق توبته فأمر بإنهاء هجرهم.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله:" صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ لَمَّا تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَظَهَرَتْ مَعْصِيَتُهُمْ وَخِيفَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقُ فَهَجَرَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ خَمْسِينَ لَيْلَةً إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ السَّمَاءِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِ صبيغ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ لَمَّا رَآهُ مِنْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْكِتَابِ إلَى أَنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي التَّوْبَةِ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمُرَاجَعَتِهِ . فَبِهَذَا وَنَحْوِهِ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَهْجُرُوا مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الزَّيْغِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْبِدَعِ الدَّاعِينَ إلَيْهَا وَالْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ ...... " اهـ
وفي الأثر أنه :لما أرسل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:أن صبيغ ابن عسل يسأل عن الذاريات ذروا
بتنطع
فقال له عمر أرسله إلي
فلما جاؤوا به قال له عمر : من أنت
فقال :أنا عبد الله صبيغ
فأجابه عمر : وأنا عبد الله عمر
وأخذ درة يضربه بها حتى أدما رأسه فأمر بحبسه
ولما برئ استدعاه فضربه حتى كاد يهلك فأعاده إلى الحبس
ولما برئ استدعاه فلما أخذ عمر الدرة قال صبيغ ابن عسل لعمر : يا عمر إن أردت قتلي فأحسن قتلتي
وإن أردت أن تشفيني فوالله لقد شفيت
فأمسك عنه وصفده إلى العراق وأمر بهجره
فهجر سنة حتى إذا أراد الرجل أن يكلمه قيل له : عزمة أمير المؤمنين
حتى قال بعضهم : فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا
فأرسل إليه أبو موسى الأشعري أن قد حسنت توبته فأمر به فكلمه الناس.اهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية " وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ لَمَّا أَجَّلَهُ سَنَةً ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً كَمَا أَجَّلَ عُمَرُ صَبِيغَ بْنَ عَسَلٍ ".اهـ (مجموع فتاوى ابن تيمية 2 / 96)
و كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَقُولُ مَا أَحْوَجَك أَنْ يُصْنَعَ بِك كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بِصَبِيغِ.
وجاء عن ابن المبارك رحمه الله:لما أراد أن يجالسه أحد التائبين عن مذهب الجهمية
فقام وقال له إما أن تقوم وإما أن أقوم
فقال ولم ؟ فقال ابن المبارك لأنك جهمي
فقال ولكنني تبت
فأجابه عبد الله ابن المبارك : لا حتى تظهر من توبتك كما أظهرت من بدعتك.
وهذا أيوب السختياني قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه فأتيت محمد بن سيرين فرحا بذلك أخبره فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظر إلى مَا يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول، أوله: (يمرقون من الدين) وآخره: (ثم لا يعودون).اهـ [ الشيخ محمد الإمام في مقالته بعنوان: أصل منشأ الفتن في الدين ممن لم يرسخ في علم الشريعة].
قال ابن القيم رحمه الله:في كتابه "عدة الصابرين" ( ص/ 93ء 94): "من توبة الداعي إلى البدعة أن يبين أنّ ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأن الهدى في ضده، كما شرط تعالى في توبة أهل الكتاب الذين كان ذنبهم كتمان ما أنزل الله من البيّنات والهدى ليضلوا الناس بذلك: أن يصلحوا العمل في نفوسهم، ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم إياه، فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُـونَ إِلا الَّذِينَ تَابُـوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
[البقرة:159ء160].
وهذا كما شرط في توبة المنافقين، الذين كان ذنبهم إفساد قلوب ضعفاء المؤمنين، وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول، وإظهارهم الإسلام رياءً وسمعة: أن يُصلحوا بدل إفسادهم، وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين، وأن يُخلِصوا دينهم لله بدل إظهارهم رياء وسمعة.
فهكذا تُفهم شرائط التوبة وحقيقتها، والله المستعان".ا هـ .
وهذا إمام العصر سماحة الشيخ المفتي عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – وهو يرد على عبد الرحمن عبد الخالق في أخطائه ويخاطبه؛ يؤكد هذا الشرط، فيقول:
"فالواجب عليكم الرجوع عن هذا الكلام، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في الكويت والسعودية، وفي مؤلف خاص يتضمن رجوعكم عن كل ما أخطأتم فيه". ا هـ.
"مجموع الرسائل والمقالات": ( 8/242، 244، 245 ).
وقد سأل الأخ أبو جميل الرحمن الشيخ عبيد الجابري حفظه الله وضح في سؤاله بعض مراوغات العيد شريفي الجزائري وكيف يلبس على أتباعه أنه تراجع عن ماانتُقِد فيه ثم سأل : هل مجرد أن يقول تراجعت يقبل منه ؟
فأجابه الشيخ حفظه الله:لا حتى يصفو بارك الله فيك .اهـ
وعن أمثلة الذين تابوا:
الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله :
أقر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية (١١/١٨٧) ؛ قال رحمه الله :"وقد كان الأشعري معتزلياً فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم.اهـ
وقال بهذا أيضا الحافظ الذهبي في كتابه "العلو للعلي الغفار".
وقرر هذا المحدث السلفي المصري محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي تعليق محب الدين الخطيب رحمه الله . قال :إن الأشعريين منسوبون إلى أبي الحسن الأشعري، وقد علمتَ أن أبا الحسن الأشعري كانت له ثلاثة أطوار:
أولها: انتماؤه إلى المعتزلة.
ثانيها: خروجه عليهم ومعارضته لهم بأساليب متوسطة بين أساليبهم ومذهب السلف.
والطور الثالث: انتقاله إلى مذهب السلف وتأليفه في ذلك كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وأمثاله، وقد أراد أن يلقى الله على ذلك اهـ.
وقال رحمه الله في موضع آخر في تعليقه على المنتقى: أما الأشعرية اسم المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري في علم الكلام، فكما أنه لا يمثل الأشعري ما كان عليه في طور اعتزاله فإنه ليس من الإنصاف أن تلصق به الأشعرية بعد أن رجع إلى عقيدة السلف التي أراد أن يلقى الله بها، بل إن المذهب الأشعري المنسوب إليه إنما ينسب إلى ما كان عليه ابن كلاب البصري المتوفى سنة 240هـ كما أوضح ذلك تقي الدين ابن تيمية في كتابة (العقل والنقل) 2/5 طبعة الشيخ حامد الفقي رحمه الله، ثم عدل أبو الحسن في آخر حياته عن كثير من تلك التأويلات وأثبت جميع الصفات، وأمرّها دون تأويل، وأثبتها دون تشبيه على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهكذا ختم الله له بالحسنى.
وانظر أخي بارك الله فيك ، أنه تاب فوق المنبر ثم بين بفضح المعتزلة وألف الكتب في ذلك :كتاب "الإبانة في أصول الديانة" و "مقالات إسلاميين".
ومن أمثلة المراوغين في توبتهم المزعومة من أهل البدع:
غيلان الدمشقي أظهر الرجوع عن بدعة القدر عند الخليفة عمر بن عبد العزيز ثم بعد ذلك عاد يدعو إليها حتى قتل في عهد هشام بن عبد الملك.
(أصل منشأ الفتن في الدين ممن لم يرسخ في علم الشريعة).
تم بحمد الله هذا المقال ،والله أعلم .
كتبه أيوب ابن المبارك المغربي
بسم الله الرحمن الرحيم :الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذا كلام جمعته من مشاركات في هذا الموضوع داخل المنتديات السلفية ، فأحببت بذلك أن أطلع إخواني على ما ابتضعت من الزاد ، فجزا الله خيرا كل من أفادني.
الموضوع:جرت العادات أن المبتدع لا يخلوا عمله من إحداث ، وإدراج في الدين ما ليس منه فوهب الله لنا العلماء ورثة الأنبياء يذبون عن الدين ويردعون كل من سولت له نفسه بنشر الضلال فمن أجل ذلك حذروا وذموا وقدحوا ، فرزق الله التوبة من رزق بفضله وجعل السبب هم العلماء فمن تاب بعد تبديعهم له فهم من يقررون توبته فهذا منهج السلف رضي الله عنهم .
قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم) [البقرة:160] .
قال ابن كثير في تفسيره: ( 1/288):
"أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وأحوالهم وبيّنوا للناس ما كانوا يكتمون، وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفرٍ، أو بدعةٍ إذا تاب؛ تاب الله عليه".اهـ.
وإليك قصة الثلاثة الذين خلفوا ، كعب ابن مالك، ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية، الذين هجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تتبين صدق توبتهم رضوان الله عليهم فنزل الوحي المبين بصدق توبته فأمر بإنهاء هجرهم.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله:" صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ لَمَّا تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَظَهَرَتْ مَعْصِيَتُهُمْ وَخِيفَ عَلَيْهِمْ النِّفَاقُ فَهَجَرَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِهِمْ حَتَّى أَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ أَزْوَاجِهِمْ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ خَمْسِينَ لَيْلَةً إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ مِنْ السَّمَاءِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ بِهَجْرِ صبيغ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيِّ لَمَّا رَآهُ مِنْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْكِتَابِ إلَى أَنْ مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي التَّوْبَةِ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِمُرَاجَعَتِهِ . فَبِهَذَا وَنَحْوِهِ رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَهْجُرُوا مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الزَّيْغِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْبِدَعِ الدَّاعِينَ إلَيْهَا وَالْمُظْهِرِينَ لِلْكَبَائِرِ ...... " اهـ
وفي الأثر أنه :لما أرسل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:أن صبيغ ابن عسل يسأل عن الذاريات ذروا
بتنطع
فقال له عمر أرسله إلي
فلما جاؤوا به قال له عمر : من أنت
فقال :أنا عبد الله صبيغ
فأجابه عمر : وأنا عبد الله عمر
وأخذ درة يضربه بها حتى أدما رأسه فأمر بحبسه
ولما برئ استدعاه فضربه حتى كاد يهلك فأعاده إلى الحبس
ولما برئ استدعاه فلما أخذ عمر الدرة قال صبيغ ابن عسل لعمر : يا عمر إن أردت قتلي فأحسن قتلتي
وإن أردت أن تشفيني فوالله لقد شفيت
فأمسك عنه وصفده إلى العراق وأمر بهجره
فهجر سنة حتى إذا أراد الرجل أن يكلمه قيل له : عزمة أمير المؤمنين
حتى قال بعضهم : فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا
فأرسل إليه أبو موسى الأشعري أن قد حسنت توبته فأمر به فكلمه الناس.اهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية " وَلِهَذَا شَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَنْ يَصْلُحَ وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسَنَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِصَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ لَمَّا أَجَّلَهُ سَنَةً ، وَبِذَلِكَ أَخَذَ أَحْمَد فِي تَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ أَنَّهُ يُؤَجَّلُ سَنَةً كَمَا أَجَّلَ عُمَرُ صَبِيغَ بْنَ عَسَلٍ ".اهـ (مجموع فتاوى ابن تيمية 2 / 96)
و كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إذَا أَلَحَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَقُولُ مَا أَحْوَجَك أَنْ يُصْنَعَ بِك كَمَا صَنَعَ عُمَرُ بِصَبِيغِ.
وجاء عن ابن المبارك رحمه الله:لما أراد أن يجالسه أحد التائبين عن مذهب الجهمية
فقام وقال له إما أن تقوم وإما أن أقوم
فقال ولم ؟ فقال ابن المبارك لأنك جهمي
فقال ولكنني تبت
فأجابه عبد الله ابن المبارك : لا حتى تظهر من توبتك كما أظهرت من بدعتك.
وهذا أيوب السختياني قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه فأتيت محمد بن سيرين فرحا بذلك أخبره فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: انظر إلى مَا يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول، أوله: (يمرقون من الدين) وآخره: (ثم لا يعودون).اهـ [ الشيخ محمد الإمام في مقالته بعنوان: أصل منشأ الفتن في الدين ممن لم يرسخ في علم الشريعة].
قال ابن القيم رحمه الله:في كتابه "عدة الصابرين" ( ص/ 93ء 94): "من توبة الداعي إلى البدعة أن يبين أنّ ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأن الهدى في ضده، كما شرط تعالى في توبة أهل الكتاب الذين كان ذنبهم كتمان ما أنزل الله من البيّنات والهدى ليضلوا الناس بذلك: أن يصلحوا العمل في نفوسهم، ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم إياه، فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُـونَ إِلا الَّذِينَ تَابُـوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
[البقرة:159ء160].
وهذا كما شرط في توبة المنافقين، الذين كان ذنبهم إفساد قلوب ضعفاء المؤمنين، وتحيزهم واعتصامهم باليهود والمشركين أعداء الرسول، وإظهارهم الإسلام رياءً وسمعة: أن يُصلحوا بدل إفسادهم، وأن يعتصموا بالله بدل اعتصامهم بالكفار من أهل الكتاب والمشركين، وأن يُخلِصوا دينهم لله بدل إظهارهم رياء وسمعة.
فهكذا تُفهم شرائط التوبة وحقيقتها، والله المستعان".ا هـ .
وهذا إمام العصر سماحة الشيخ المفتي عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – وهو يرد على عبد الرحمن عبد الخالق في أخطائه ويخاطبه؛ يؤكد هذا الشرط، فيقول:
"فالواجب عليكم الرجوع عن هذا الكلام، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في الكويت والسعودية، وفي مؤلف خاص يتضمن رجوعكم عن كل ما أخطأتم فيه". ا هـ.
"مجموع الرسائل والمقالات": ( 8/242، 244، 245 ).
وقد سأل الأخ أبو جميل الرحمن الشيخ عبيد الجابري حفظه الله وضح في سؤاله بعض مراوغات العيد شريفي الجزائري وكيف يلبس على أتباعه أنه تراجع عن ماانتُقِد فيه ثم سأل : هل مجرد أن يقول تراجعت يقبل منه ؟
فأجابه الشيخ حفظه الله:لا حتى يصفو بارك الله فيك .اهـ
وعن أمثلة الذين تابوا:
الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله :
أقر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية (١١/١٨٧) ؛ قال رحمه الله :"وقد كان الأشعري معتزلياً فتاب منه بالبصرة فوق المنبر، ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم.اهـ
وقال بهذا أيضا الحافظ الذهبي في كتابه "العلو للعلي الغفار".
وقرر هذا المحدث السلفي المصري محب الدين الخطيب في تعليقه على المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي تعليق محب الدين الخطيب رحمه الله . قال :إن الأشعريين منسوبون إلى أبي الحسن الأشعري، وقد علمتَ أن أبا الحسن الأشعري كانت له ثلاثة أطوار:
أولها: انتماؤه إلى المعتزلة.
ثانيها: خروجه عليهم ومعارضته لهم بأساليب متوسطة بين أساليبهم ومذهب السلف.
والطور الثالث: انتقاله إلى مذهب السلف وتأليفه في ذلك كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وأمثاله، وقد أراد أن يلقى الله على ذلك اهـ.
وقال رحمه الله في موضع آخر في تعليقه على المنتقى: أما الأشعرية اسم المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الأشعري في علم الكلام، فكما أنه لا يمثل الأشعري ما كان عليه في طور اعتزاله فإنه ليس من الإنصاف أن تلصق به الأشعرية بعد أن رجع إلى عقيدة السلف التي أراد أن يلقى الله بها، بل إن المذهب الأشعري المنسوب إليه إنما ينسب إلى ما كان عليه ابن كلاب البصري المتوفى سنة 240هـ كما أوضح ذلك تقي الدين ابن تيمية في كتابة (العقل والنقل) 2/5 طبعة الشيخ حامد الفقي رحمه الله، ثم عدل أبو الحسن في آخر حياته عن كثير من تلك التأويلات وأثبت جميع الصفات، وأمرّها دون تأويل، وأثبتها دون تشبيه على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهكذا ختم الله له بالحسنى.
وانظر أخي بارك الله فيك ، أنه تاب فوق المنبر ثم بين بفضح المعتزلة وألف الكتب في ذلك :كتاب "الإبانة في أصول الديانة" و "مقالات إسلاميين".
ومن أمثلة المراوغين في توبتهم المزعومة من أهل البدع:
غيلان الدمشقي أظهر الرجوع عن بدعة القدر عند الخليفة عمر بن عبد العزيز ثم بعد ذلك عاد يدعو إليها حتى قتل في عهد هشام بن عبد الملك.
(أصل منشأ الفتن في الدين ممن لم يرسخ في علم الشريعة).
تم بحمد الله هذا المقال ،والله أعلم .
كتبه أيوب ابن المبارك المغربي