من فقه الدعوة والداعية
وضع الحكمة في نصابهابقلم: رائد بن عبد الجبار المهداوي
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإنَّ الحكمة (المفترى عليها) !! صارت ـ في واقع من يدعو إليها ـ بين طرفين ووسط:
طرفٍ غلا في فهمها وتطبيقها في كل ما يدعو إليه، فنتج عن ذلك الغلوّ تقصير في تبليغ الحق بدعوى الحكمة؛ لأنه ـ أي الحق ـ يؤدي إلى انفضاض الناس، وافتراق جمعهم، وعدم سماعهم واتِّباعهم ، ؛ بل ومناصبتهم العداء لمن يدعو إليه، والأوْلى ـ فيما يزعمون ـ جمع الكلمة، ووحدة الأمة.
ومثال هذا الصنف:
ـ من يترك الدعوة إلى التوحيد؛ بدعوى الحكمة (!)ـ ومن يترك إنكار المحدثات العقدية والعبادية والمنهجية؛ بدعوى الحكمة (!)
ـ ومن يجانب الحق، ويتحفظ في إظهار زيف الدعوات الباطلة والتحذير منها؛ كالإخوانية، والقطبية، والتكفيرية، والسرورية، والتحريرية، والتبليغية، والصوفية، والرافضية ... الخ بدعوى الحكمة(!)
ـ ومن يأبى التحذير من دعاة الضلالة، والمجروحين، والمتكلم فيهم ـ بحق ـ بدعوى الحكمة (!)
ـ ومن يرفض استخدام مصطلح (الدعوة السلفية) مكتفياً بـمصطلحات أخرى مثل (الدعوة الإسلامية)، أو (أهل السنة والجماعة)، بدعوى الحكمة (!)
وهذا الصنف أصدق ما يطلق عليه من أوصاف: الجهل بدين الله، والجهل بالحكمة التي يدّعيها، والجبن، والحرص على المصلحة الشخصية لا على مصلحة الدعوة المزعومة، وحب الرياسة، والاغترار بالكثرة، والاغترار بالنفس.
وبعض هذا الصنف حدثاء أسنان، لم يقنعوا بما قرره الأئمة السلفيون الأكابر في منهج الدعوة السلفية، فأطلقوا العنان لاجتهاداتهم الشخصية، وتأويلاتهم البدعية، فوقعوا ـ وأوقعوا ـ بما يضرُّ الدعوة ويشينها، ويسيء إلى أهلها وحملتها.
وبعضهم ربما زيّن له الشيطان طريقاً ـ هو بلا شك ـ غير طريق الأنبياء الحكماء، ولا السلف الأصفياء، مفاده: فلنجمع الناس أولا على المتفق عليه، ولنمهّد لهم فيما نروم إليه، ثم إذا اجتمعوا وأحبونا دَعوْناهم إلى منهجنا ودعوتنا؛ وقد دل الشرع والواقع على فساد هذه الطريقة، التي لا يجني أصحابها إلا الفشل، وضياع الأوقات، وهدر الطاقات، هذا إن لم يقعوا في أَتَاتِينَ فتن التجميع ويغتروا بها كما وقع ـ واغترّ ـ بها غيرهم، نسأل الله السلامة.
وأما الطرف الثاني، فهو طرف جفا عن الحكمة وفرّط فيها، فتراه يغلّب الوسيلة على الهدف، ويهتم بالجزئيات ويدع الكليات، ويفرّط بالأصول على حساب الفروع، وربما جاهد على خصلة مستحبة أراد أن يقيمها، أو فضل أراد ان يحييه، بينما هو يفرّط في مهمّات ما يجب أن يدعو إليه، وينبغي أن يجاهد فيه.
وتراه يقدم متهوّراً حينما يكون الإحجام حكمة، ويحجم جبناً عندما يكون الإقدام حكمة.
وكلا هذين الطرفين مذموم، ومجانب للحكمة والبصيرة والفهم الصحيح لدين الله.
وأما الوسط فهو الصنف الذي فهم الحكمة على أصولها كما فهمها السلف، وطبقها في واقع دعوته كذلك بغير غلوّ أو تفريط، كما سأوضح ذلك في السطور القادمة إن شاء الله، فعلى الله المتكل، وإليه الأمر الآخر والأوّل.
معنى الحكمة في اللغة:
قال ابن فارس: "الحاء والكاف والميم أصلٌ واحد، وهو المنْع، وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم. وسميت حكمة الدابة لأنها تمنعها يقال حكمت الدابة وأحكمتها. ويقال: حكمت السفيه وأحكمته، إذا أخذت على يديه، قال جرير:أبَنِي حَنيفة أحْكِمُوا سُفهاءَكم *** إنّي أخاف عليكم أن أغْضَبَا
والحكمة هذا قياسها، لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكَّمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد. وحُكِّم فلان في كذا، إذا جُعل أمره إليه. والمحكَّم: المجرِّبُ المنسوب إلى الحكمة. قال طرفة:
ليت المحكَّمَ والموعوظَ صَوْتَكُما *** تحتَ التُّرَاب إذا ما الباطلُ انكشَفَا
أراد بالمحكَّم: الشيخَ المنسوبَ إلى الحكمة." [معجم مقاييس اللغة (2/91)، تحقيق: عبد السلام هارون، ط: دار الفكر].
وقال ابن الأثير: "والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وقيل لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم،... وفي الحديث: "إنَّ من الشعر لحكماً"؛ أي: إن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما . قيل: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس. والحُكْمُ : العلم والفقه، والقضاء بالعدل، وهو مصدر حكم يحكم . ويروى: "إن من الشعر لحكمة" وهي بمعنى الحكم" [النهاية في غريب الحديث والأثر (1/419) ط: دار الفكر بتصرف يسير]
وقال مرتضى الزبيدي: "والحكمة ـ بالكسر ـ: العدلُ في القضاء كالحكم، و الحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والعمل بمقتضاها... وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ) فالمراد به: حجة العقل على وفق أحكام الشريعة، وقيل: الحكمة إصابة الحق بالعلم والعمل، فالحكمة من الله معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفته وفعل الخيرات." [تاج العروس من جواهر القاموس، باب الميم، فصل الحاء، مادة (حكم)].
وقال الفيروز أبادي: "وأَصل المادّة موضوع لمنع يُقصد به إِصلاح، ومنه سمّى حَكمة الدّابة فقيل: حكمته وحكمت الدّابة منعتها بالحَكَمة، وأَحكمتها: جعلت لها حَكَمةً والحُكْم بالشيء أَن تقضى بأَنه كذا أَو ليس بكذا سواء أَلْزمت ذلك غيرك أَولم تلزمه..." [بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز]
قلت: فمدار أصل كلمة الحكمة على (المنع)؛ وإن فُسّرت بالعلم، والفقه، والحلم، والكلام النافع، والقضاء بالعدل، والإتقان والإحكام؛ فالعلم يمنع من الجهل، والحلم يمنع من الغضب، والكلام النافع يمنع من السفه والهذر، والعدل يمنع من الظلم، وإتقان صنعة الشيء يمنع من تطرق الخلل إليه وهكذا، ولذا عرّفها ابن حجر بأصل جامع لكل معانيها بقوله: "ما منع من الجهل، وزجر عن القبح" [فتح الباري (13/173)، كتاب(93)، باب(3)، حديث (7141)].
الحكمة في القرآن:
جاءت كلمة (الحكمة) في القرآن بسياقاتها المتعددة ـ كما ذكر المفسرون ـ على عدة معانٍ مختلفة الألفاظ قريبة المعنى، قوية الصلة بالمعنى اللغوي الذي أشرنا إليه آنفاً؛ فقيل: هي المعرفة بالقرآن؛ فقهه، ونسخه، ومحكمه، ومتشابهه، وغريبه، ومقدمه، ومؤخره، وقيل: هي الفقه في القرآن، وقيل: هي الإصابة في القول والفعل، وقيل: هي العقل في الدين، وقيل: هي المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له، وقيل: هي التفكر في أمر الله والاتباع له، وقيل: هي طاعة الله والفقه في الدين والعمل به، وقيل: هي الخشية والورع، وقيل: هي السنة، وقيل: هي النبوّة. وانظر في ذلك: تفسير الطبري (3/87 ط:الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر)، وتفسير القرطبي (3/213ـ214ط:العلمية)، و تفسير ابن كثير (2/417 ط: مكتبة أولاد الشيخ)، وتفسير البغوي (1/194 ط:العلمية)، وزاد المسير (1/266 ط: العلمية)، والمحرر الوجيز ص(247 ط: ابن حزم) وتفسير الفيروز أبادي الموسوم بـ(بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) كلهم عند تفسير الآية (269) من سورة البقرة.
قال القرطبي ـ بتصرف يسير ـ: "وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض، لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة.وأصل الحكمة ما يُمْتَنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة، لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم." اهـ.
وقال ابن كثير: "والصحيح أن الحكمة -كما قاله الجمهور -لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع..." اهـ.
التعريف المختار للحكمة:
قال ابن القيّم: "وأحسن ما قيل في الحكمة : قول مجاهد ومالك : إنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان" [مدارج السالكين (2/478) ط:دار الكتاب العربي، تحقيق: محمد حامد الفقي].أقسام الحكمة:
قسّم ابن القيّم ـ رحمه الله ـ الحكمة في كتابه "مدارج السالكين" (2/478 ـ 482 بتصرف ) إلى قسمين:
ـ حكمة علمية: وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها؛ خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاَ.
ـ وحكمة عملية: وهي وضع الشيء في موضعه، وتقع على ثلاث درجات:
الأولى: أن تعطي كل شيء حقَّهُ، ولا تعديه حدَّهُ، ولا تُعجلْهُ عن وقته، ولا تُؤَخِّرْه عنه.
قال ابن القيّم: " فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة، وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه الإخلال بها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً، ولها ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وآفاتها وأضدادها: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول والله أعلم"اهـ.
الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ برَّه في منعه.
أي تعرف الحكمة في الوعد والوعيد وتشهد حكمه في قوله : (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : 40].
فتشهد عدلَه في وعيده، وإحسانَه في وعده، وكلَّ قائم بحكمته.
وكذلك تعرف عدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق؛ فإنه لا ظلم فيها ولا حيف ولا جور، وإن أجراها على أيدي الظلمة فهو أعدل العادلين، ومن جرت على يديه هو الظالم.
وكذلك تعرف برَّه في منعه؛ فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا يُنقص خزائنَه الإنفاقُ، ولا يغيض ما في يمينه سعةُ عطائه، فما منعَ مَنْ مَنَعَهُ فَضْلَهُ إلا لحكمة كاملة في ذلك؛ فإنه الجواد الحكيم، وحكمته لا تناقض جوده، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، ولو بسط الله الرزق لعباده لفسدوا وهلكوا، ولو علم في الكفار خيراً وقبولاً لنعمة الإيمان وشكراً له عليها ومحبة له واعترافاً بها لهداهم إلى الإيمان؛ ولهذا لما قالوا للمؤمنين: (أَهَـؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا) [الأنعام:53] أجابهم بقوله:(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)...
الثالثة: البصيرة بالاستدلال، وهي أعلى درجات العلم، بأن تكون نسبة العلم إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، من قوة الحجة، وبراعة الاستدلال.
"فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والِإدراك ، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين ؛ لأن كمال الِإنسان في أمرين : أن يعرف الحق لذاته ، وأن يعمل به ، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح" [الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ص(26)]
من هو الحكيم:
وبناء على ما سبق فإنّ الحكيم هو الذي يضع الأمور في نصابها، فيصيب في قوله وعمله، بناء على معرفته بالحق، وعمله به، وفقهه في القرآن، وبصيرته في الدين، وعلمه بسنن الله وآياته الشرعية والكونية، ويتأكد هذا الوصف (الحكيم) في حق من اجتمعت فيه تلك الصفات، وأضيف إليها طول الخبرة في معاينة الناس، وحيازة مفاتيح الوصول إلى أصنافهم لسياستهم، وكبر السن، وممارسة الدعوة والجهاد فيها ـ ومن أجلها ـ على أرض الواقع.ولابد للحكيم من محاسن الأخلاق التي تزيّن حكمته، وتعينه على وضع الأمور في نصابها، كالحلم، والأناة، وسعة الصدر، وكبح جماح الغضب، والرفق، والبشاشة، وهضم حظوظ النفس وشهواتها الخفية. مع تعاهدها الدائم بلزوم الاستقامة، وتصديق القول بالفعل، والزهد بالحرام، والقناعة بالحلال.
الحكمة في الدعوة السلفية
:ولما زاغ كثير من الناس عن منهج الدعوة السلفية ـ منهج الحكمة ـ في الدعوة إلى الله واستبدلوه بمناهج أرضية ونظم فكرية، جنَوْا نتائج سيئة وخطيرة في واقعهم تُعدّ بمنظور الشرع عذابات وعقوبات إلهية، وكل فرق الضلال وإن اختلفت أسماؤها، وتعددت دعواتها فإن هذا الأصل (الزيغ عن منهج الحكمة) يجتمعون عليه جميعاً.فالحكمة كل الحكمة في الدعوة السلفية؛ والجهل والسفه والطيش والتهوّر والعجلة والجبن وكل ما هو نقص في الحكمة أو ضد لها هو بعينه منهج الدعوات الزائغة عن الدعوة السلفية:
فأين الحكمة فيما جنته الأحزاب (الإسلامية)(!!) على الأمة قديماً وحديثاً من تفرّق، وتشرذم، وشقاق، وتنازع؟!
وأين الحكمة في حيدة تلك الأحزاب عن الدعوة إلى العقيدة الصافية الصحيحة ونبذ المحدثات وتحذير المسلمين منها مما أدى إلى شيوع الشرك وتفشي البدع؟!
وأين الحكمة في الدعوة إلى التقارب مع الشيعة الروافض الذي يتولى كِبْرَهُ في العالم الآن الإخوان المسلمون، مع بقاء الروافض على رفضهم وفجورهم وعقائدهم الباطلة وفقههم الشاذ، واستمرار الإخوان المسلمين بالتلبيس على الناس بأنّ خلاف السنة مع الشيعة خلاف فرعيّ؟!!!
وأين الحكمة في تحالف حماس (البنت المدللة للإخوان المسلمين) مع حزب اللات، وإيران، وسوريا النصيرية من أجل الحصول على دريهمات (لا يُدرى أين تذهب) في مقابل دخول التشيّع والرفض إلى حظيرة القدس وفلسطين؟!!
وأين الحكمة فيما قام ـ ويقوم ـ به خوارج اليوم (التكفيريون) أدعياء الجهاد، وانصارهم الحزبيون من استعداء للكافرين على المسلمين المستضعفين في أنحاء المعمورة من خلال التحرش بهم هنا وهناك بعمليات يزعمون أنها (جهادية) جرّت ـ وتجرُّ ـ على الأمة نكبات وويلات؟!
وفّق الله المسلمين لنصرة الدعوة السلفية (دعوة الحكمة)، والحمد لله أولاً وآخراً.
مصدر المقال: [مجلة الدعوة السلفية - العدد (15) - السنة الثالثة]