الصراع وتجارة الولاءات في زمن الفتن
إعداد: هشام بن فهمي العارف
تاريخ 10/5/1429 الموافق 15/5/2008
توسعت رقعة الفتن هذه الأيام فانتقلت من العراق "المشرق" إلى الشام "المغرب"، جاءت الفتن بقوة لتبدأ في أدوار سلسلتها من جديد، ونشاهد كرتها وهي تتدحرج باتجاه طوائف متعددة لها مسميات مختلفة، وعقائد متضاربة، قديمة حديثة، ويتسارع الجميع في سوق تجارة الولاءات لشراء المزيد من الأصوات، لاقتراب وقوع المعمعة، لينخلع في إعصارها اللئيم من ينخلع من ولائه لله ليكون في ولاء غيره من الفسقة الفجرة أو الكفرة.
إن تحوُِّل الفتن من المشرق إلى المغرب له خطورته ومغزاه، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (19100) عن عاصم بن عمرو البجلي قوله:
(1) "إذا فتح باب المغرب لم يغلق". وله شاهد عن عصمة بن قيس صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(2) "أنه كان يتعوَّذ في صلاته من فتنة المغرب". [أخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (749) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رجاله ثقات] وفي رواية:
(3) "أنه كان يتعوذ بالله من فتنة المشرق، فقيل له: كيف فتنة المغرب؟ قال: تلك أعظم وأطم".[أخرجه نعيم بن حماد في"الفتن" (748)]
وقال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ:
(4) "هذه فتن قد أظلت كجباه البقر، يهلك فيها أكثر الناس، إلا من كان يعرفها قبل ذلك". [أخرجه ابن أبي شيبة (7/457)].
ومقصود حذيفة ـ رضي الله عنه ـ في قوله"إلا من كان يعرفها": من بادر بالأعمال الصالحة لها فعصمه الله منها، فعنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(5) "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا". ["الصحيحة" (758)]
فأمَرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة، ولا شك أن العمل في الدعوة إلى الله على بصيرة، من أحسن الأعمال الصالحة، والجهاد مع الطائفة المنصورة في بيان الحق ورفع كلمة التوحيد على رأس الأعمال الصالحة، وبهذا العمل الصالح يتحصَّل من كان ينتهج منهج النبوة والسلف على الوقاية والتحصين ـ بفضل من الله ـ ضد أوباء الفتن بشتى أشكالها وصورها المقززة، التي منها فتنة الهرج، وقد أشار إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث، ووصَف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل لحيرته فيها أنه ينقلب في اليوم الواحد انقلاباً يُستغرَب له، فيصبح مؤمناً، لكنه يمسي كافراً، أو عكسه، وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على مدى التخبط الذي تحدثه الفتن في قرارات المفتونين في فترة وجيزة من الزمن نكالاً لبُعدهم عن الدعوة السلفية، وانصرافهم إعراضاً عن ذكر الله، واستخفافاً بمقالة العلماء السلفيين.
والحديث، يعني أيضاً: أن من فاتته المبادرة ـ لإعراضه المتعمِّد ـ قبل حدوث الفتن أو توسعها، وقبل ظهور هذه الأمارات التي أشار إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يلومنَّ إلا نفسه. فإن الفتن تعمل عملها في رؤوس الرجال كما تعمل الخمر وأشدّ، قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ:
(6) "ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتنة" [أخرجه ابن أبي شيبة (15/88-89)]
وأنه من كان على بصيرة من دينه، عاملاً صالحاً، جنَّبه الله ـ تعالى ـ الفتن، ويدخل في هذا الباب أنه لو قُدِّر له أن يكون في دائرةِ وقوعها فإنه يتعامل معها تعامل العاقل المحظوظ لأنه موفق للسعادة، فإذا ابتلي بشيء منها، أو بشيء من آثارها مما لا بد أن يقع لحكمة اقتضاها رب العزة، فعليه أن يصبر. وعلى هذا شاهد من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(7) "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا". ["الصحيحة" (975)]
وبسبب هذا الضغط الذي تحدثه الفتن بتزاحمها الخطير، فإن الرجل الذي اضطرته الفتنة إلى استحلال دم أخيه المسلم، يكون على استعداد أيضاً أن يبيع دينه بحطام الدنيا، أو أن الذي يبيع دينه على استعداد أن يستحل دم أخيه بأي ثمن، إنه البيع !! ليس بيع الأثاث، ولا بيع سلع أخرى، بل بيع الدين، وبيع الولاء.
فتجارة بيع الولاءات أو شراؤها مفتوح على مصراعيه في زمن الفتن. وليس بالضرورة أن تنتعش تجارة الولاءات في الوهلة الأولى لقدوم الفتنة، بل سوقها مفتوح ما دامت الفتنة قائمة، وتتعزز تجارة الولاءات كلما ازدادت الفتن حدة، فنسأل الله ـ تعالى ـ السلامة والنجاة.
وبيع الدين يعني أشياء كثيرة يمكن أن يفعلها البائع من غير تورّع، وورد في رواية صحيحة النص على الثمن الذي يقبضه بائعُ دينِه، وأنه قليل بالنسبة لجرم فعله، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله:
(8) "يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل". ["صحيح الجامع" (2814)]
وقد فسَّر الحسن البصري ـ رحمه الله ـ القليل بقوله:
(9) "فوالله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً، فراش نار وذباب طمع، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز". [أخرجه أحمد (4/272)]
وفي رواية صحيحة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(10) "ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل". ["الصحيحة" (1267)] فجاء في هذه الرواية ما يبيِّن أن أقواماً يبيعون دينهم، بعرض من الدنيا قليل.
قال الآجري في باب: "فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله ـ تعالى ـ، ولزوم البيوت والعبادة لله ـ تعالى ـ": "قد ذكرت هذا الباب في كتاب الفتن في أحاديث كثيرة، وقد ذكرت هاهنا طرفاً منه؛ ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه، فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة، نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام، باتباعهم الهوى وإيثارهم للدنيا، فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم المحجة الواضحة، ولم يتلون في دينه، وعبد ربه ـ تعالى ـ فترك الخوض في الفتنة؛ فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير، ألم تسمع إلى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو محذِّر أمته الفتن، قال: "يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، و يمسي مؤمناً ويصبح كافراً"["كتاب الشريعة"(1/392-393) ـ دار الوطن]
وقول الآجري: "فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير" أيده بما نقله عن سعيد بن جبير، قال: قال لي راهب:
(11) "يا سعيد، في الفتنة يتبيَّن لك من يعبد الله، أويعبد الطاغوت". ["الشريعة" (1/396)]
وفي قصة أبي القرن العبرة القوية لمن أحب أن يثبت على ولائه لرب العالمين، ففي الحديث الذي أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ربيع بن عميلة قال: حدثنا عبد الله، ما سمعنا حديثاً هو أحسن منه إلا ـ كتاب الله ـ عز وجل ـ، ورواية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال:
(12)"إن بني إسرائيل لما طال الأمد وقست قلوبهم، اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلَّته ألسنتهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم عليه، فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، قال: لا، بل ابعثوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فإن تابعكم فلن يختلف عليكم بعده أحد، فأرسلوا إليه فدعوه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله، ثم أدخلها في قرن، ثم علقها في عنقه، ثم لبس عليها الثياب، ثم أتاهم، فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: تؤمن بهذا؟ فأشار إلى صدره ـ يعني الكتاب الذي في القرن ـ فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أؤمن بهذا؟ فخلوا سبيله. قال: وكان له أصحاب يغشونه فلما حضرته الوفاة أتوه، فلما نزعوا ثيابه وجدوا القرن في جوفه الكتاب، فقالوا: ألا ترون إلى قوله: آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا، فإنما عنى بـ (هذا) هذا الكتاب الذي في القرن قال: فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين فرقة، خير مللهم أصحاب أبي القرن. ["الصحيحة" (2694)].
إن تعلم الكتاب والسنة وفق هدي النبـوة والسلف الصالح نجاة من الشر، وعلامة ذلك كما قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ وهو الصحابي العالم الضابط للفتن الكائنة في الأمة، والذي قال عن نفسه:
(13) "والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة" .
قال ـ فيما رواه ابن أبي شيبة (51/88) والحاكم (4/467و468) وغيرهما ـ بسند صحيح ـ:
(14) "إن الفتنة تعرض على القلوب، فأي قلب أُشْرِبْها نُكتت فيه نُكتة سوداء، فإن أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، فمن أحب منكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر فإن كان يرى حراماً ما كان يراه حلالاً، أو يرى حلالاً ما كان يراه حراماً؛ فقد أصابته الفتنة".
إنه المعيار المهم للمراجعة، انظر أفعلك الذي أنت عليه الآن، وحكمك الذي أنت عليه الآن أهو هو، كما كان، أم اختلف؟ قف وتأمل بتجرد وحكمة وخشية، انصف نفسك. وإلا فاعلم أن الفتنة قد أصابتك بمقتل.
إن عصر العولمة الذي سميته عصر الفتن في مقالتي التي نَشَرَتها "جريدة القدس" في عددها (12608) تاريخ 10/8/1425 الموافق 24/9/2004 وصفْتُه: بعصر القرارات العشوائية الجاهلة، عصر المفاجآت الخطيرة، لأنه عصر المعاصي والضلال، فهو: عصر السفور، والاختلاط، والإباحية، وصناعة الرذيلة، وأكل مال الحرام، وحقوق الآخرين.
عصر الأمراض الخطيرة، عصر الفرق، والأحزاب، والجماعات، عصر يوسدُّ الأمرُ فيه لغير أهله، عصر الرويبضة، عصر يظهر فيه النفاق، وترفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويخوَّن فيه الأمين، ويؤتمن الخائن.
عصر لا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل.
عصر قريب مما نبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به عبد الله بن عمرو، فقد ثبت عنه أنه قال:
(15) "كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حُثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه".
والحُثالة: الرديء من كل شيء.
وفي رواية:
(16) "كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة" فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟
(17) قال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة". ["الصحيحة" (205)]
وفي نشرتنا رقم (86) من منشورات الدعوة السلفية، بعنوان "كيف النجاة في زمن الفتن..؟ قلت: ومن الخلل الذي يصيب المعتقد في الفتن:
الحيرة والتخبط في مسألة الموالاة والمعاداة، فإن الضعيف من المسلمين في دينه تصير تصوراته في فهم مجريات الأمور في زمن الفتن خلاف ما عليه أهل البصيرة في الدين، وبناء عليه: فلعله بعد أن يبيع ولاءه يرمي أهل البصيرة بالضلال ـ والعياذ بالله ـ أو يشهِّر بهم بين الناس، وقد يجعل ولايته لمن يعادونهم، أو يجعل معـاداته لمن يوالـونهم.
ومعلوم أن مسألة الموالاة والمعاداة مسألة مهمة، وهي من مسائل الإيمان في عقيدة السلفيين. فالتلاعب في هذا الباب خطير جداً لأنه يفضي إلى الذي حذر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل".
إن ما يعيشه أفراد الأمة اليوم ـ إلا من رحم ربي ـ من خلل في الاعتقاد، وجهل كبير بمسائل الإيمان، أو تقصير حاد في تزكية النفس، أفضى إلى فتح بوابات الفتن.
إن كرة الفتن تتدحرج في كل اتجاه ولن ينجو منها إلا من أحب الله نجاته، فالسعيد كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن جنب الفتن. واعلم أنه لا يكون المخرج من ذلك إلا اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء والتضرع، والتمسك بدينه وهدي نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . روى ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: (18) "ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق".
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال:
(19)"تكون ثلاث فتن، الرابعة تسوقهم إلى الدجال، التي ترمي بالنشف والتي ترمي بالرضف، والمظلمة التي تموج كموج البحر".
ومعنى النشف: قال في "لسان العرب": النَّشَف وهي حجارة سود كأَنها أُحْرقت بالنار، وإذا تركت على رأْس الماء طفَت ولم تغُص فيه، وهي التي يُحَكُّ بها الوسخ عن اليد والرجل. وقال: "ثم التي تليها ترمي بالرَّضْف يعني أَنَّ الأُّولى من الفِتَن لا تؤثِّر في أَديان الناس لخِفَّتِها، والتي بعدها كهيئة حجارة قد أُحميت بالنار فكانت رضْفاً فهي أَبلغ في أَديانهم وأَثْلَم لأَبدانهم".
وهذا مشاهد ملموس فإننا نجد اليوم تيارات ومنظمات كانت لها انتماءات، فإذا بها بين عشية وضحاها تشيعت إلى دين الرافضة، منها على سبيل المثال "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"، أو صارت خوارج همَّها التكفير فالتفجير على درب القاعدة التي هي من فكر ابن لادن.
والصراع بين هاذين النقيضين (الخوارج والشيعة) له أبعاده الشاقة على جميع الأصعدة، لأنه غير محصور عليهما بل يمتد لينال من سوَّلت له نفسه الدخول بينهما أو في صف واحد منهما.
إن الذي ساعد على فتح بوَّابات الفتن ـ ونعوذ بالله منها ـ أسباباً مشاهدة ملموسة على أرض الواقع على رأسها :
أولاً : فتنة التفرق والافتراق، وأصل انتعاشها: انتهاج مناهج متعددة بعيدة عن منهج النبوة والسلف. فكانوا في الأمة كما قال ـ تعالى ـ في سورة المؤمنون:
(20) (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
ونشأت هذه الفتنة بسبب فتن أخرى منها:
فتنة ترك التعلم الشرعي الصحيح، وفتنة ابتداع البدع والمحدثات، وأخطرها المعتقدات المخالفة لهدي النبوة وجراءة أهلها على سب الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ أو غمز أو لمز أحد منهم، وفتنة استغراب السنة، وفتنة التشهير بالعلماء، وفتنة دُعاةٍ على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. وفتنة تضييع الأمانة، وسبب ذلك أن الأمر وسِّد لغير أهـله، وفتنة قبض العلماء واتخاذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وفتنة التعلق بأقوال الخلف وترك أقوال السلف، وفتنة الخروج على الحكام العلماء منهم قبل الأمراء، وفتنة التكفير، وما تلاها من أعمال القتل والتفجير، وفتنة الطعن في الدعوة السلفية ووصف دعاتها بالعمالة، وغير ذلك من الأوصاف المشينة بحقهم عاملهم الله بما يستحقون. وفتنة النساء، وفتنة الدنيا، التي نشأ فيها عدم مبالاة المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام!! فقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ:
(21) "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام". ["صحيح الجامع" (5344)]
وتنتهي هذه الفتنة؛ فتنة التفرق والافتراق في أغلب الأحيان إلى الهرج ـ والعياذ بالله ـ والهرج: القتل. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
(22) "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان، لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول في أي شيء قُتل". ["صحيح الجامع" (7076)]
إعداد: هشام بن فهمي العارف
تاريخ 10/5/1429 الموافق 15/5/2008
توسعت رقعة الفتن هذه الأيام فانتقلت من العراق "المشرق" إلى الشام "المغرب"، جاءت الفتن بقوة لتبدأ في أدوار سلسلتها من جديد، ونشاهد كرتها وهي تتدحرج باتجاه طوائف متعددة لها مسميات مختلفة، وعقائد متضاربة، قديمة حديثة، ويتسارع الجميع في سوق تجارة الولاءات لشراء المزيد من الأصوات، لاقتراب وقوع المعمعة، لينخلع في إعصارها اللئيم من ينخلع من ولائه لله ليكون في ولاء غيره من الفسقة الفجرة أو الكفرة.
إن تحوُِّل الفتن من المشرق إلى المغرب له خطورته ومغزاه، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (19100) عن عاصم بن عمرو البجلي قوله:
(1) "إذا فتح باب المغرب لم يغلق". وله شاهد عن عصمة بن قيس صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(2) "أنه كان يتعوَّذ في صلاته من فتنة المغرب". [أخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (749) وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رجاله ثقات] وفي رواية:
(3) "أنه كان يتعوذ بالله من فتنة المشرق، فقيل له: كيف فتنة المغرب؟ قال: تلك أعظم وأطم".[أخرجه نعيم بن حماد في"الفتن" (748)]
وقال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ:
(4) "هذه فتن قد أظلت كجباه البقر، يهلك فيها أكثر الناس، إلا من كان يعرفها قبل ذلك". [أخرجه ابن أبي شيبة (7/457)].
ومقصود حذيفة ـ رضي الله عنه ـ في قوله"إلا من كان يعرفها": من بادر بالأعمال الصالحة لها فعصمه الله منها، فعنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(5) "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا". ["الصحيحة" (758)]
فأمَرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة، ولا شك أن العمل في الدعوة إلى الله على بصيرة، من أحسن الأعمال الصالحة، والجهاد مع الطائفة المنصورة في بيان الحق ورفع كلمة التوحيد على رأس الأعمال الصالحة، وبهذا العمل الصالح يتحصَّل من كان ينتهج منهج النبوة والسلف على الوقاية والتحصين ـ بفضل من الله ـ ضد أوباء الفتن بشتى أشكالها وصورها المقززة، التي منها فتنة الهرج، وقد أشار إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث، ووصَف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل لحيرته فيها أنه ينقلب في اليوم الواحد انقلاباً يُستغرَب له، فيصبح مؤمناً، لكنه يمسي كافراً، أو عكسه، وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على مدى التخبط الذي تحدثه الفتن في قرارات المفتونين في فترة وجيزة من الزمن نكالاً لبُعدهم عن الدعوة السلفية، وانصرافهم إعراضاً عن ذكر الله، واستخفافاً بمقالة العلماء السلفيين.
والحديث، يعني أيضاً: أن من فاتته المبادرة ـ لإعراضه المتعمِّد ـ قبل حدوث الفتن أو توسعها، وقبل ظهور هذه الأمارات التي أشار إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يلومنَّ إلا نفسه. فإن الفتن تعمل عملها في رؤوس الرجال كما تعمل الخمر وأشدّ، قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ:
(6) "ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتنة" [أخرجه ابن أبي شيبة (15/88-89)]
وأنه من كان على بصيرة من دينه، عاملاً صالحاً، جنَّبه الله ـ تعالى ـ الفتن، ويدخل في هذا الباب أنه لو قُدِّر له أن يكون في دائرةِ وقوعها فإنه يتعامل معها تعامل العاقل المحظوظ لأنه موفق للسعادة، فإذا ابتلي بشيء منها، أو بشيء من آثارها مما لا بد أن يقع لحكمة اقتضاها رب العزة، فعليه أن يصبر. وعلى هذا شاهد من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(7) "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا". ["الصحيحة" (975)]
وبسبب هذا الضغط الذي تحدثه الفتن بتزاحمها الخطير، فإن الرجل الذي اضطرته الفتنة إلى استحلال دم أخيه المسلم، يكون على استعداد أيضاً أن يبيع دينه بحطام الدنيا، أو أن الذي يبيع دينه على استعداد أن يستحل دم أخيه بأي ثمن، إنه البيع !! ليس بيع الأثاث، ولا بيع سلع أخرى، بل بيع الدين، وبيع الولاء.
فتجارة بيع الولاءات أو شراؤها مفتوح على مصراعيه في زمن الفتن. وليس بالضرورة أن تنتعش تجارة الولاءات في الوهلة الأولى لقدوم الفتنة، بل سوقها مفتوح ما دامت الفتنة قائمة، وتتعزز تجارة الولاءات كلما ازدادت الفتن حدة، فنسأل الله ـ تعالى ـ السلامة والنجاة.
وبيع الدين يعني أشياء كثيرة يمكن أن يفعلها البائع من غير تورّع، وورد في رواية صحيحة النص على الثمن الذي يقبضه بائعُ دينِه، وأنه قليل بالنسبة لجرم فعله، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله:
(8) "يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل". ["صحيح الجامع" (2814)]
وقد فسَّر الحسن البصري ـ رحمه الله ـ القليل بقوله:
(9) "فوالله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً، فراش نار وذباب طمع، يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز". [أخرجه أحمد (4/272)]
وفي رواية صحيحة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(10) "ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل". ["الصحيحة" (1267)] فجاء في هذه الرواية ما يبيِّن أن أقواماً يبيعون دينهم، بعرض من الدنيا قليل.
قال الآجري في باب: "فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله ـ تعالى ـ، ولزوم البيوت والعبادة لله ـ تعالى ـ": "قد ذكرت هذا الباب في كتاب الفتن في أحاديث كثيرة، وقد ذكرت هاهنا طرفاً منه؛ ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه، فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة، نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام، باتباعهم الهوى وإيثارهم للدنيا، فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم المحجة الواضحة، ولم يتلون في دينه، وعبد ربه ـ تعالى ـ فترك الخوض في الفتنة؛ فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير، ألم تسمع إلى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو محذِّر أمته الفتن، قال: "يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، و يمسي مؤمناً ويصبح كافراً"["كتاب الشريعة"(1/392-393) ـ دار الوطن]
وقول الآجري: "فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير" أيده بما نقله عن سعيد بن جبير، قال: قال لي راهب:
(11) "يا سعيد، في الفتنة يتبيَّن لك من يعبد الله، أويعبد الطاغوت". ["الشريعة" (1/396)]
وفي قصة أبي القرن العبرة القوية لمن أحب أن يثبت على ولائه لرب العالمين، ففي الحديث الذي أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" عن ربيع بن عميلة قال: حدثنا عبد الله، ما سمعنا حديثاً هو أحسن منه إلا ـ كتاب الله ـ عز وجل ـ، ورواية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال:
(12)"إن بني إسرائيل لما طال الأمد وقست قلوبهم، اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلَّته ألسنتهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فقالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم عليه، فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، قال: لا، بل ابعثوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فإن تابعكم فلن يختلف عليكم بعده أحد، فأرسلوا إليه فدعوه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله، ثم أدخلها في قرن، ثم علقها في عنقه، ثم لبس عليها الثياب، ثم أتاهم، فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: تؤمن بهذا؟ فأشار إلى صدره ـ يعني الكتاب الذي في القرن ـ فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أؤمن بهذا؟ فخلوا سبيله. قال: وكان له أصحاب يغشونه فلما حضرته الوفاة أتوه، فلما نزعوا ثيابه وجدوا القرن في جوفه الكتاب، فقالوا: ألا ترون إلى قوله: آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا، فإنما عنى بـ (هذا) هذا الكتاب الذي في القرن قال: فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين فرقة، خير مللهم أصحاب أبي القرن. ["الصحيحة" (2694)].
إن تعلم الكتاب والسنة وفق هدي النبـوة والسلف الصالح نجاة من الشر، وعلامة ذلك كما قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ وهو الصحابي العالم الضابط للفتن الكائنة في الأمة، والذي قال عن نفسه:
(13) "والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة" .
قال ـ فيما رواه ابن أبي شيبة (51/88) والحاكم (4/467و468) وغيرهما ـ بسند صحيح ـ:
(14) "إن الفتنة تعرض على القلوب، فأي قلب أُشْرِبْها نُكتت فيه نُكتة سوداء، فإن أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، فمن أحب منكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر فإن كان يرى حراماً ما كان يراه حلالاً، أو يرى حلالاً ما كان يراه حراماً؛ فقد أصابته الفتنة".
إنه المعيار المهم للمراجعة، انظر أفعلك الذي أنت عليه الآن، وحكمك الذي أنت عليه الآن أهو هو، كما كان، أم اختلف؟ قف وتأمل بتجرد وحكمة وخشية، انصف نفسك. وإلا فاعلم أن الفتنة قد أصابتك بمقتل.
إن عصر العولمة الذي سميته عصر الفتن في مقالتي التي نَشَرَتها "جريدة القدس" في عددها (12608) تاريخ 10/8/1425 الموافق 24/9/2004 وصفْتُه: بعصر القرارات العشوائية الجاهلة، عصر المفاجآت الخطيرة، لأنه عصر المعاصي والضلال، فهو: عصر السفور، والاختلاط، والإباحية، وصناعة الرذيلة، وأكل مال الحرام، وحقوق الآخرين.
عصر الأمراض الخطيرة، عصر الفرق، والأحزاب، والجماعات، عصر يوسدُّ الأمرُ فيه لغير أهله، عصر الرويبضة، عصر يظهر فيه النفاق، وترفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويخوَّن فيه الأمين، ويؤتمن الخائن.
عصر لا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل.
عصر قريب مما نبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به عبد الله بن عمرو، فقد ثبت عنه أنه قال:
(15) "كيف بك يا عبد الله بن عمرو إذا بقيت في حُثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه".
والحُثالة: الرديء من كل شيء.
وفي رواية:
(16) "كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة" فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟
(17) قال: "الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة". ["الصحيحة" (205)]
وفي نشرتنا رقم (86) من منشورات الدعوة السلفية، بعنوان "كيف النجاة في زمن الفتن..؟ قلت: ومن الخلل الذي يصيب المعتقد في الفتن:
الحيرة والتخبط في مسألة الموالاة والمعاداة، فإن الضعيف من المسلمين في دينه تصير تصوراته في فهم مجريات الأمور في زمن الفتن خلاف ما عليه أهل البصيرة في الدين، وبناء عليه: فلعله بعد أن يبيع ولاءه يرمي أهل البصيرة بالضلال ـ والعياذ بالله ـ أو يشهِّر بهم بين الناس، وقد يجعل ولايته لمن يعادونهم، أو يجعل معـاداته لمن يوالـونهم.
ومعلوم أن مسألة الموالاة والمعاداة مسألة مهمة، وهي من مسائل الإيمان في عقيدة السلفيين. فالتلاعب في هذا الباب خطير جداً لأنه يفضي إلى الذي حذر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل".
إن ما يعيشه أفراد الأمة اليوم ـ إلا من رحم ربي ـ من خلل في الاعتقاد، وجهل كبير بمسائل الإيمان، أو تقصير حاد في تزكية النفس، أفضى إلى فتح بوابات الفتن.
إن كرة الفتن تتدحرج في كل اتجاه ولن ينجو منها إلا من أحب الله نجاته، فالسعيد كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن جنب الفتن. واعلم أنه لا يكون المخرج من ذلك إلا اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ بالدعاء والتضرع، والتمسك بدينه وهدي نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ . روى ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: (18) "ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق".
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال:
(19)"تكون ثلاث فتن، الرابعة تسوقهم إلى الدجال، التي ترمي بالنشف والتي ترمي بالرضف، والمظلمة التي تموج كموج البحر".
ومعنى النشف: قال في "لسان العرب": النَّشَف وهي حجارة سود كأَنها أُحْرقت بالنار، وإذا تركت على رأْس الماء طفَت ولم تغُص فيه، وهي التي يُحَكُّ بها الوسخ عن اليد والرجل. وقال: "ثم التي تليها ترمي بالرَّضْف يعني أَنَّ الأُّولى من الفِتَن لا تؤثِّر في أَديان الناس لخِفَّتِها، والتي بعدها كهيئة حجارة قد أُحميت بالنار فكانت رضْفاً فهي أَبلغ في أَديانهم وأَثْلَم لأَبدانهم".
وهذا مشاهد ملموس فإننا نجد اليوم تيارات ومنظمات كانت لها انتماءات، فإذا بها بين عشية وضحاها تشيعت إلى دين الرافضة، منها على سبيل المثال "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"، أو صارت خوارج همَّها التكفير فالتفجير على درب القاعدة التي هي من فكر ابن لادن.
والصراع بين هاذين النقيضين (الخوارج والشيعة) له أبعاده الشاقة على جميع الأصعدة، لأنه غير محصور عليهما بل يمتد لينال من سوَّلت له نفسه الدخول بينهما أو في صف واحد منهما.
إن الذي ساعد على فتح بوَّابات الفتن ـ ونعوذ بالله منها ـ أسباباً مشاهدة ملموسة على أرض الواقع على رأسها :
أولاً : فتنة التفرق والافتراق، وأصل انتعاشها: انتهاج مناهج متعددة بعيدة عن منهج النبوة والسلف. فكانوا في الأمة كما قال ـ تعالى ـ في سورة المؤمنون:
(20) (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
ونشأت هذه الفتنة بسبب فتن أخرى منها:
فتنة ترك التعلم الشرعي الصحيح، وفتنة ابتداع البدع والمحدثات، وأخطرها المعتقدات المخالفة لهدي النبوة وجراءة أهلها على سب الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ أو غمز أو لمز أحد منهم، وفتنة استغراب السنة، وفتنة التشهير بالعلماء، وفتنة دُعاةٍ على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. وفتنة تضييع الأمانة، وسبب ذلك أن الأمر وسِّد لغير أهـله، وفتنة قبض العلماء واتخاذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وفتنة التعلق بأقوال الخلف وترك أقوال السلف، وفتنة الخروج على الحكام العلماء منهم قبل الأمراء، وفتنة التكفير، وما تلاها من أعمال القتل والتفجير، وفتنة الطعن في الدعوة السلفية ووصف دعاتها بالعمالة، وغير ذلك من الأوصاف المشينة بحقهم عاملهم الله بما يستحقون. وفتنة النساء، وفتنة الدنيا، التي نشأ فيها عدم مبالاة المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام!! فقد ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ:
(21) "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام". ["صحيح الجامع" (5344)]
وتنتهي هذه الفتنة؛ فتنة التفرق والافتراق في أغلب الأحيان إلى الهرج ـ والعياذ بالله ـ والهرج: القتل. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
(22) "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان، لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول في أي شيء قُتل". ["صحيح الجامع" (7076)]
تعليق