الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن لأهل البدع أسلحة عديدة وأبواب كثيرة يستعملونها لإضلال الناس وإبعادهم عن المنهج الحق، ومن تلك الطرق التي يستعملونها التكلم بالعبارات المشتبهة المجملة لخداع الجهال وخبط أذهانهم فلا يتنبهوا لهذه الإطلاقات والإجمالات لقصر نظرهم وقلة إدراكهم للحقائق.
وقد ذم سلفنا الصالح هذا المسلك وشنعوا على من استعمله وإن كان قصده حسنا إلا أن على المتكلم البيان والتفصيل والتصريح كما هو سبيل أهل السنة والحق، كما قال ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية: "والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة".
وقد جمعت بعض أقوال علمائنا من المتقدمين والمتأخرين رحمهم الله جميعا ليتبين لك وفقك الله لكل خير بشاعة هذا العمل وإليك هذه الأقوال:
قال الإمام أحمد رحمه الله في خطبة كتابه في الرد على الجهمية والزنادقة: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علىمخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين"
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في مجموع فتاويه: "ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث".
وقال رحمه الله منتقدا بعض العبارات المجملة في رده على البكري في "الاستغاثة": "لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا، وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسدا، لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس، إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس".
وقال رحمه الله تعالى في مجموع فتاويه: "فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ "الجوهر" و "العرض" و "الجسم" وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفس والإثبات"
وقال أيضا في موضع آخر من فتاويه رحمه الله: "ليس لأحد أن يبتدع اسما مجملا يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين ولو كان قد نطق باللغة العربية كيف إذا أحدث اللفظ معنى آخر"
وقال رحمه الله في "درء تعارض العقل والنقل: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل. ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه. ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلا بباطل".
قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله معلقا على هذا الكلام في إحدى فتاويه: "أقول: في هذا النص بيان أمور عظيمة ومهمة يسلكها السلف الصالح للحفاظ على دينهم الحق وحمايته من غوائل البدع والأخطاء، منها:
1 ـ شدة حذرهم من البدع، ومراعاتهم للألفاظ والمعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، فلا يعبرون ـ قدر الإمكان ـ إلا بالألفاظ الشرعية، ولا يطلقونها إلا على المعاني الشرعية الصحيحة الثابتة بالشرع المحمدي.
2 ـ أنهم حراس الدين وحماته، فمن تكلم بكلام فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة، ولو كان يرد على أهل الباطل، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة أخرى، ورد باطلا بباطل، ولو كان هذا الراد من أفاضل أهل السنة والجماعة، ولا يقولون ولن يقولوا: يحمل مجمله على مفصله، لأننا نعرف أنه من أهل السنة.
قال شيخ الإسلام ـ بعد حكاية هذه الطريقة عن السلف والأئمة ـ : "ومن هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ والجبر"
أقول: يشير ـ رحمه الله تعالى ـ إلى تبديع أئمة السنة من يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق" لأنه يحتمل حقا وباطلا، وكذلك لفظ "الجبر" يحتمل حقا وباطلا.
وذكر شيخ الإسلام أن الأئمة كالأوزاعي وأحمد بن حنبل ونحوهما قد أنكروه على الطائفتين التي تنفيه والتي تثبته.
وقال رحمه الله: ويروى إنكار إطلاق (الجبر) عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، وقال الأوزاعي وأحمد وغيرهما: من قال جبر فقد أخطأ، ومن قال لم يجبر فقد أخطأ، بل يقال: إن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ونحو ذلك.
وقالوا: ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة، وإنما الذي في السنة لظ (الجِبِلّ) لا لفظ (الجبر)، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقتين يحبهما الله: الحلم والأناة" فقال: أخلقين تخلقت بهما، أم خلقين جُبِلْتُ عليهما؟ فقال: "بل خلقين جبلت عليهما"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
وقالوا: إن لفظ (الجبر) لفظ مجمل.
ثم بين أنه قد يكون باعتبار حقا وباعتبار باطلا، وضرب لكل منهما مثالا، ثم قال: "فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه، لأنه بدعة يتناول حقا وباطلا".
وقال الذهبي رحمه الله: "قال أحمد بن كامل القاضي: كان يعقوب بن شيبة من كبار أصحاب أحمد بن المعذل، والحارث بن مسكين، فقيها سريا، وكان يقف في القرآن.
قال الذهبي: قلت: أخذ الوقف عن شيخه أحمد المذكور، وقد وقف علي بن الجعد، ومصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وجماعة، وخالفهم نحو من ألف إمام، بل سائر أئمة السلف والخلف عن نفي الخليقة على القرآن، وتكفير الجهمية، نسأل الله السلامة في الدين.
قال أبو بكر المروذي: أظهر يعقوب بن شيبة الوقف في ذلك الجانب من بغداد، فحذر أبو عبد الله منه، وقد كان المتوكل أمر عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان أن يسأل أحمد بن حنبل عمن يقلد القضاء، قال عبد الرحمن: فسألته عن يعقوب بن شيبة، فقال: مبتدع صاحب هوى.
قال الخطيب: وصفه بذلك لأجل الوقف" اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن هؤلاء المعارضين للكتاب و السنة بعقلياتهم،التي هي في الحقيقة جهليات، إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة، تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى، والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق وباطل، فبما فيها من الحق يَقْبَلُ ـ مَن لم يُحِطْ بها علما ـ ما فيها من الباطل، لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لَمَا قبلت، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقًّا محضًا لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة، ولكنها تشتمل على حق وباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل، كما قال تعالى: {زلا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}.
فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه التلبيس، وهو التدليس والغش، الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، هذا من الإجمال في اللفظ.
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حق من أحدهما، وباطل من الآخر، فيوهم إرادة الوجه الصحيح، ويكون مراده الباطل، فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة، والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب؟ فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه، وأن لا يوقعك في هذه الظلمات".
قال ابن حزم رحمه الله: "والكلام إذا أُجمل اندرج فيه تحسين القبيح وتقبيح الحسن ألا ترى لو أن قائلاً قال: إن فلاناً يطأ أخته! لفحش ذلك ولاستقبحه كل سامع له حتى إذا فُسّر فقال: هي أخته في الإسلام ظهر فُحش هذا الإجمال وقبحه".
قال العـلامة عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله "فإن الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن، قال ابن القيم في كافيته – رحمه الله تعالى - :
فعليك بالتفصيل والتبيين فالــ إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان"
وقال العلامة محمد خليل هراس رحمه الله: "فيجب أن تفرق وتميز بين الأمرين ، وأن لا تحكم حكما إجماليا مطلقا دون تفصيل فإنه ما أفسد هذا الوجود وأوقع الشجار والنزاع بين الطوائف وأضل العقول والأفكار إلا عدم التفصيل والبيان ، والتحديد لمعاني الألفاظ المجملة التي قد يقع في معانيها احتمال واشتباه . وبعض هذه المعاني يكون صحيحا مرادا ، وبعضها يكون فاسدا غير مراد ، فتتشبث طوائف المبتدعة بتلك المعاني الفاسدة ، وتفسير الألفاظ بها فتقع في الضلال ، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعنى بتحديد معاني الألفاظ عند مناقشته لفرق الزيغ والضلال ويطالبهم بتحديد مرادهم منها ، وهذا تلميذه النابغة يوصي بما أوصى به شيخه ، مبينا أن الفساد كله إنما ينشأ عن الإطلاق والاجمال"
وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في رسالته: "تنبيه أبي الحسن إلى القول بالتي هي أحسن": "والإجمال والإطلاق هو سلاح أهل الأهواء ومنهجهم، والبيان والتفصيل والتصريح هو سبيل أهل السنة والحق. قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وعـلـيك بالتفصيل والتبيين فالـ إجمال والإطلاق دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبـطا الـ أذهان والآراء كل زمـان".
هذا ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين
فإن لأهل البدع أسلحة عديدة وأبواب كثيرة يستعملونها لإضلال الناس وإبعادهم عن المنهج الحق، ومن تلك الطرق التي يستعملونها التكلم بالعبارات المشتبهة المجملة لخداع الجهال وخبط أذهانهم فلا يتنبهوا لهذه الإطلاقات والإجمالات لقصر نظرهم وقلة إدراكهم للحقائق.
وقد ذم سلفنا الصالح هذا المسلك وشنعوا على من استعمله وإن كان قصده حسنا إلا أن على المتكلم البيان والتفصيل والتصريح كما هو سبيل أهل السنة والحق، كما قال ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية: "والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة".
وقد جمعت بعض أقوال علمائنا من المتقدمين والمتأخرين رحمهم الله جميعا ليتبين لك وفقك الله لكل خير بشاعة هذا العمل وإليك هذه الأقوال:
قال الإمام أحمد رحمه الله في خطبة كتابه في الرد على الجهمية والزنادقة: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علىمخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين"
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في مجموع فتاويه: "ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي، فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث".
وقال رحمه الله منتقدا بعض العبارات المجملة في رده على البكري في "الاستغاثة": "لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحا، وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنى فاسدا، لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس، إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس".
وقال رحمه الله تعالى في مجموع فتاويه: "فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ "الجوهر" و "العرض" و "الجسم" وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفس والإثبات"
وقال أيضا في موضع آخر من فتاويه رحمه الله: "ليس لأحد أن يبتدع اسما مجملا يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين ولو كان قد نطق باللغة العربية كيف إذا أحدث اللفظ معنى آخر"
وقال رحمه الله في "درء تعارض العقل والنقل: "فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل. ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية، فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه. ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلا بباطل".
قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله معلقا على هذا الكلام في إحدى فتاويه: "أقول: في هذا النص بيان أمور عظيمة ومهمة يسلكها السلف الصالح للحفاظ على دينهم الحق وحمايته من غوائل البدع والأخطاء، منها:
1 ـ شدة حذرهم من البدع، ومراعاتهم للألفاظ والمعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، فلا يعبرون ـ قدر الإمكان ـ إلا بالألفاظ الشرعية، ولا يطلقونها إلا على المعاني الشرعية الصحيحة الثابتة بالشرع المحمدي.
2 ـ أنهم حراس الدين وحماته، فمن تكلم بكلام فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة، ولو كان يرد على أهل الباطل، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة أخرى، ورد باطلا بباطل، ولو كان هذا الراد من أفاضل أهل السنة والجماعة، ولا يقولون ولن يقولوا: يحمل مجمله على مفصله، لأننا نعرف أنه من أهل السنة.
قال شيخ الإسلام ـ بعد حكاية هذه الطريقة عن السلف والأئمة ـ : "ومن هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ والجبر"
أقول: يشير ـ رحمه الله تعالى ـ إلى تبديع أئمة السنة من يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق" لأنه يحتمل حقا وباطلا، وكذلك لفظ "الجبر" يحتمل حقا وباطلا.
وذكر شيخ الإسلام أن الأئمة كالأوزاعي وأحمد بن حنبل ونحوهما قد أنكروه على الطائفتين التي تنفيه والتي تثبته.
وقال رحمه الله: ويروى إنكار إطلاق (الجبر) عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، وقال الأوزاعي وأحمد وغيرهما: من قال جبر فقد أخطأ، ومن قال لم يجبر فقد أخطأ، بل يقال: إن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ونحو ذلك.
وقالوا: ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة، وإنما الذي في السنة لظ (الجِبِلّ) لا لفظ (الجبر)، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقتين يحبهما الله: الحلم والأناة" فقال: أخلقين تخلقت بهما، أم خلقين جُبِلْتُ عليهما؟ فقال: "بل خلقين جبلت عليهما"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.
وقالوا: إن لفظ (الجبر) لفظ مجمل.
ثم بين أنه قد يكون باعتبار حقا وباعتبار باطلا، وضرب لكل منهما مثالا، ثم قال: "فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه، لأنه بدعة يتناول حقا وباطلا".
وقال الذهبي رحمه الله: "قال أحمد بن كامل القاضي: كان يعقوب بن شيبة من كبار أصحاب أحمد بن المعذل، والحارث بن مسكين، فقيها سريا، وكان يقف في القرآن.
قال الذهبي: قلت: أخذ الوقف عن شيخه أحمد المذكور، وقد وقف علي بن الجعد، ومصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وجماعة، وخالفهم نحو من ألف إمام، بل سائر أئمة السلف والخلف عن نفي الخليقة على القرآن، وتكفير الجهمية، نسأل الله السلامة في الدين.
قال أبو بكر المروذي: أظهر يعقوب بن شيبة الوقف في ذلك الجانب من بغداد، فحذر أبو عبد الله منه، وقد كان المتوكل أمر عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان أن يسأل أحمد بن حنبل عمن يقلد القضاء، قال عبد الرحمن: فسألته عن يعقوب بن شيبة، فقال: مبتدع صاحب هوى.
قال الخطيب: وصفه بذلك لأجل الوقف" اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن هؤلاء المعارضين للكتاب و السنة بعقلياتهم،التي هي في الحقيقة جهليات، إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة، تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى، والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحق وباطل، فبما فيها من الحق يَقْبَلُ ـ مَن لم يُحِطْ بها علما ـ ما فيها من الباطل، لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء، وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع كلها، فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لَمَا قبلت، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها، ولو كانت حقًّا محضًا لم تكن بدعة، وكانت موافقة للسنة، ولكنها تشتمل على حق وباطل، ويلتبس فيها الحق بالباطل، كما قال تعالى: {زلا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}.
فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه، ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه التلبيس، وهو التدليس والغش، الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق، وتكلم بلفظ له معنيان: معنى صحيح، ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح، ومراده الباطل، هذا من الإجمال في اللفظ.
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان، هو حق من أحدهما، وباطل من الآخر، فيوهم إرادة الوجه الصحيح، ويكون مراده الباطل، فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة، والمعاني المشتبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب؟ فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه، وأن لا يوقعك في هذه الظلمات".
قال ابن حزم رحمه الله: "والكلام إذا أُجمل اندرج فيه تحسين القبيح وتقبيح الحسن ألا ترى لو أن قائلاً قال: إن فلاناً يطأ أخته! لفحش ذلك ولاستقبحه كل سامع له حتى إذا فُسّر فقال: هي أخته في الإسلام ظهر فُحش هذا الإجمال وقبحه".
قال العـلامة عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله "فإن الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن، قال ابن القيم في كافيته – رحمه الله تعالى - :
فعليك بالتفصيل والتبيين فالــ إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان"
وقال العلامة محمد خليل هراس رحمه الله: "فيجب أن تفرق وتميز بين الأمرين ، وأن لا تحكم حكما إجماليا مطلقا دون تفصيل فإنه ما أفسد هذا الوجود وأوقع الشجار والنزاع بين الطوائف وأضل العقول والأفكار إلا عدم التفصيل والبيان ، والتحديد لمعاني الألفاظ المجملة التي قد يقع في معانيها احتمال واشتباه . وبعض هذه المعاني يكون صحيحا مرادا ، وبعضها يكون فاسدا غير مراد ، فتتشبث طوائف المبتدعة بتلك المعاني الفاسدة ، وتفسير الألفاظ بها فتقع في الضلال ، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعنى بتحديد معاني الألفاظ عند مناقشته لفرق الزيغ والضلال ويطالبهم بتحديد مرادهم منها ، وهذا تلميذه النابغة يوصي بما أوصى به شيخه ، مبينا أن الفساد كله إنما ينشأ عن الإطلاق والاجمال"
وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في رسالته: "تنبيه أبي الحسن إلى القول بالتي هي أحسن": "والإجمال والإطلاق هو سلاح أهل الأهواء ومنهجهم، والبيان والتفصيل والتصريح هو سبيل أهل السنة والحق. قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وعـلـيك بالتفصيل والتبيين فالـ إجمال والإطلاق دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبـطا الـ أذهان والآراء كل زمـان".
هذا ما تيسر جمعه والحمد لله رب العالمين