الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله الغر الميامين وبعد : أحببت إخواني الكرام أن أنقل لكم هذا الفصل الماتع في كيفية تغيير المنكر باليد من كتاب الشيخ الفاضل سعيد بن دعاس اليافعي حفظه الله .
فصل
في كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
باليد وللسان والقلب
لا شك أن الله سبحانه وتعالى خاطب الناس بما يفهمون معناه, ويعقلون المراد منه, بلسان عربي مبين, فالخطاب في ذلك جاء بلفظ: <الأمر بالمعروف>, و <وفعل الخير>, و <النهي عن المنكر>, و <وتغيير المنكر>, ولا خفاء في معنى شيء من هذه الألفاظ.
وقد أبان أهل العلم ذلك بياناً شافياً كافياً, فذكر أبو حامد الغزالي في "الإحياء" (2/423), و (2/413), أن النهي عن المنكر يكون بإعدام وإبطال المنكر.
قال الطوفي في "التعيين" (ص/288), وابن الملقن في "المعين" (ص/292) في شرح قوله: (فليغيره): يزيله ويبدله بغيره.اهـ
وبذلك فسره ابن سيدة في "المحكم" (6/12), قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (8/188): معنى: (يغيرونه) أي: يدفعون ذلك المنكر بغيره من الحق. اهـ
قال الراغب في "المفردات": التغير يقال على وجهين: الأول: لتغيير لصورة الشيء دون ذاته, نحو غيرت داري. الثاني: لتبديله بغيره, نحو غيرت غلامي ودابتي.اهـ مختصراً
وذكر ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (1/314): أن التغيير باليد أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه, بنزعه منه, وبجذبه منه. اهـ
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/290), في شرح حديث أبي سعيد: الحديث أصل في صفة تغيير المنكر, فيكسر آلات الباطل, ويريق ظروف المسكر بنفسه, أو يأمر بقوله من يتولى ذلك, وينزع المغصوب من أيدي المعتدين بيده, أو يأمر بأخذها منهم ويمكن منها أربابها. اهـ
وقاله القرطبي في "المفهم" (1/233), والغزالي في "الإحياء" (2/422), والمناوي في "الفيض" ( 6/169) وصاحب "تحفة الأحوذي" (6/393). هذا وصف الإنكار باليد.
وأما باللسان: فيكون بالنهي, وبالوعظ, والنصح, والتخويف, ويكون بالتعريف والتعليم لمن وقع في المنكر جاهلاً, كما في حديث الأعرابي, ويكون بالسب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن, بأن يخاطبه بما فيه, كيا فاسق, ويا أحمق, وياجاهل, ألا تخاف الله.
ذكره الغزالي في درجات الاحتساب في "الإحياء" (2/420-422), و ذكر(2/424) من ذلك التهديد والتخويف, كقوله: دع هذا أو لأكسرن رأسك, أو لأضربن رقبتك ونحوه.
قال ابن الجوزي في "كشف المشكل" (3/174), رقم الحديث (1498): والإنكار بالقلب هو كراهية ذلك الفعل, وتلك فريضة لازمة على كل حال.اهـ
وقاله ابن رجب في "جامع العلوم" (2/245).
لقوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم }, وقوله: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}, وقوله: {والذين لا يشهدون الزور} أي: لا يحضرونه, والزور يشمل كل منكر, ذكر معنى ذلك ابن كثير في تفسير الآية, والبغوي في تفسيره قريباً من ذلك. ذكره ابن باز كما في "مجموع فتاويه" (3/212), جمع الشويعر.
قال شيخ الإسلام في "الأمر بالمعروف والنهي عن النكر" (ص/18): فأما القلب فيجب بكل حال, إذ لا ضرر في فعله, ومن لم يفعله فليس بمؤمن, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: <وذلك أضعف الإيمان>, وقال: <وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان>.اهـ
فائدة مهمة
في شمول لفظ النهي لمراتب التغيير الثلاث
لفظ النهي الوارد في الأدلة يشمل مراتب النهي عن المنكر الأولى والثانية, فإن النهي عن الشيء معناه: كف متعاطيه عنه كما في "تهذيب اللغة" للإمام الأزهري (6/440), و"الصحاح" للجوهري (6/2517), فهو لفظ يدور على معنى المنع والكف.
قال الراغب الأصفهاني في "المفردات" (ص/826): النهي الزجر عن الشيء, قال تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}, وهو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره.. وكذا المنكر يكون تارة باليد, وتارة باللسان, وتارة بالقلب.اهـ
ومن تأمل في سبب نزول قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} أدرك أن المنع من الشيء باليد داخل في مسمى النهي, فإن أبا جهل –لعنه الله- أراد منع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالفعل. كما في مسلم, وغيره.
وقوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} على أحد وجهي الآية, -وهو الصحيح الذي رجحه ابن كثير في "تفسيره",وابن جرير في "تفسيره"- الذي معناه: وهم يصدون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وينهون عن ذلك.
ولا يخفى أن نهيهم عنه كان باللسان, بالسب, والشتم, والقدح, والتنفير, ونحو ذلك, وبالفعل بالتعذيب لأتباعه, كما عذبوا بلالاً وعمار بن ياسر رضي الله عنهما, وبقتلهم كما قتلوا سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنها, وأرادوا قتل عمر رضي الله عنه لما أسلم, وبمتابعتهم لمن أسلم وأراد الهجرة, كما تبعوا من هاجر إلى الحبشة, وبقتالهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه, كل ذلك داخل تحت مسمى النهي.
ولذلك قال الطوفي في "التعين" (ص/292), وابن الملقن في "المعين" (ص/287) في شرح حديث أبي سعيد: <من رأى منكم منكراً فليغيره..الحديث>: هذا الحديث يرجع إلى قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}, وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}, و {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}.اهـ
ومعنى ذلك أنه يفسرها ويوضحها, ويشرح معناها, ويبين المراد منها, فالأمر بالنهي فيها يشمل ما ذكر في حديث أبي سعيد, من مراتب التغيير الثلاث, ولهذا يطلق أهل العلم لفظ النهي على الإنكار بمراتبه الثلاث, كما ترى ذلك في كتب الحديث وشروحه.
فصل
حكم دخول الضرب والتأديب في إنكار المنكر باليد
بما ليس فيه شهر سلاح أو قتل
لفاعل المنكر
ذكر ابن النحاس في "تنبيه الغافلين" (ص/58) عن الرافعي أنه قال: من أقدم على محرم فهل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على النفس, فيه وجهان:
(أحدهما): نعم نهياً عن المنكر, ومنعاً عن المعصية.
(والثاني): لا خوفاً من الفتن التي تتولد منه, ونسب الإمام هذا الثاني إلى الأصوليين, والأول إلى الفقهاء, وهو الذي يوجد للأصحاب في كتب المذهب, ثم عزاه للفوراني, والبغوي صاحب "التهذيب", والروياني وغيرهم.
قلت: وذهب إلى الأول أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (2/317), وصرح بوجوبه, إذا لم يمكن إزالته إلا بذلك, وعزاه ابن مفلح في "الآداب" (1/196) لابن الجوزي.
وصرح به الغزالي في "الإحياء" (2/420و 424, 425), وابن النحاس في "تنبيه الغافلين" (ص/57), وأشار إليه الهيتمي في "الزواجر" (2/281).
وبه قال ابن المناصف في "تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام" (ص/320-323) في سياق ذكر مراتب تغيير المنكر, وذكر التغيير بالضرب, وإيقاع التنكيل والعقوبة بالفاعل, كما نقل ذلك محقق كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1/12) في تحقيقة, واختاره الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" (4/587).
وهذا الذي كان عليه أهل العلم في بغداد في زمن المأمون كما رواه الخطيب في "تاريخه" (12/350), بسند لا بأس به إلى عبد الصمد بن المهتدي: أن المأمون لما دخل بغداد, نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذلك أن الشيوخ ببغداد كانوا يضربون ويعاقبون في المحال ويحبسون. أي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وجاء في "سير الذهبي" (21/454) قال الضياء: قال الموفق: كان الحافظ عبد الغني المقدسي لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه, وكنا مرة أنكرنا على قوم وأرقنا خمورهم وتضاربنا, فسمع خالي أبو عمر, فضاق صدره وخاصمنا, فلما جئنا إلى الحافظ طيَّب قلوبنا, وصوب فعلنا, وتلا: {وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك}.
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/11), أن شيخ الإسلام وأصحابه, داروا يوم جمعة على الخمارات والحانات, فكسروا آنية الخمور, وشققوا الظروف, وأراقوا الخمور, وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش.اهـ
وأنبه على أن بعض من ذهب إلى هذا, يرى شرعيته ولو أدى إلى قتل صاحب المنكر , وشرطوا ذلك بالعجز عما هو دونه, كما هو اختيار الجصاص, والغزالي, والشوكاني, وأنه بالحق والشرع قتل.
قلت: وهو بعيد عن الصواب جداً, لأن الذي شرع إنكار المنكر باليد, ولو بالضرب والتأديب, نهى وزجر نهياً وزجراً بالغاً عن قتل المسلم, فقال تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: <لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً>.
ودم المسلم حرام إلا بإحدى ثلاث توجب قتله, كما في مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رقم (4351).
وعن عثمان رضي الله عنه في أبي داود (12/215) وغيره كما في "الصحيح المسند" لشيخنا الوادعي (2 /9) رقم (908), أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: <لايحل دم امرء مسلم يشهد ألا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة>. وهذا لفظ مسلم.
وحرف الاستثناء في الحديث يفيد الحصر, فيدل على تحريم دم المسلم مطلقاً, ما لم يقارف إحدى هذه الثلاث, وليس منها قتله لفعله معصية لا توجب قتله, وليس ثَمَّ إذن شرعي في قتل المسلم العاصي.
بل جاء الوعيد على قتله وتعظيم ذلك, كما ذكرنا, وأيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: <لزوال الدنيا عند الله, أهون من قتل رجل مسلم>. وهو شامل للعاصي وغيره, إلا ما استثني بالنص.
كيف وقتل المسلم منكر أعظم من شرب الخمر, أو سماع الغناء, أو نحو ذلك من المعاصي, والغرض من إنكار المنكر إزالته وتبديله بغيره من المعروف, فإنكاره بقتل فاعله, تغيير له بمنكر أنكر منه, وليس هذا من مقاصد الشرع الحنيف, بل مخالف له, وسيأتي بيان ذلك عند شروط الأمر والنهي.
قال الإمام الصنعاني في "الإشاعة" (ص/52): وقد اتفق العلماء من الفرق كلها, أنه إذا أدى إنكار المنكر إلى أنكر منه لم يجز تغييره.اهـ
وأما الأدلة على شرعية التأديب والضرب في إنكار المنكر, بغير قتل لصاحب المنكر, فهي:
1- حديث بي سعيد رضي الله عنه السابق: <من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..>.
ووجهه في الحديث: أنه أطلق التغيير باليد, ولم يقيده بهيئة معينة, فيتناول ذلك كل وسيلة يدوية يحصل بها انتهاء المنكر وزواله, ما لم يؤد إلى منكر أنكر منه, فيشمل الإتلاف للمنكر ودفع صاحبه, وتأديبه بشيء من الضرب ليكفه عن منكره, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, والله أعلم
وقد نص الإمام ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (10/255), وفي (13/230), على أن التغيير باليد يكون بالضرب والتأديب.
وصرح به إمام المحدثين وسيد الفقهاء في زمنه, أبو عبدالله البخاري في "صحيحه", في كتاب الحدود, حيث قال: باب من أدب أهله وغيره دون السلطان, وقال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: <إذا صلى فأراد أن يمر بين يديه فليدفعه, فإن أبى فليقاتله>. وفعله أبو سعيد.
قلت: وقد رواه البخاري موصولاً في الصلاة برقم (509).
2- ثم ذكر البخاري رحمه الله في الباب حديث عائشة رضي الله عنها برقم (6844), و (6846) قالت: جاء أبو بكر رضي الله عنه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي, فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس, وليسوا على ماء, فعاتبني وجعل يطعن بيده في خاصرتي. وفي لفظ الحديث: <فلكزني أبو بكر لكزةً شديدة>.
قال ابن بطال كما في "الفتح" (13/215): وفي هذين الحديثين دلالة على جواز تأديب الرجل أهله وغيره أهله بحضرة السلطان, ولو لم يأذن له إذا كان ذلك في حق.اهـ
ولا شك أن ذلك من باب إنكار المنكر, فلا تعدل –سددنا الله وإياك- بالإمام البخاري, وابن حزم, في الفهم والاستنباط, فهما ابنا بجدة التحقيق.
ولا سيما إذا كان المنكر مما لا يمكن استقلال آلته حتى تتلف وتزال, كسبِّ الله وملائكته, والاستهزاء بدين الله تعالى, والغيبة والنميمة, ونحو ذلك.
وقد أبان هذا الغزالي في "الإحياء" (2/402) في الكلام على مراتب التغيير, فقال: الخامس: التخويف والتهديد بالضرب, ومباشرة الضرب له, حتى يمتنع عما هو عليه, كالمواظب على الغيبة والقذف, فإن سلب لسانه غير ممكن, ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب.اهـ
وكذا بينه ابن المناصف في "نبيه الحكام على خآخذ الأحكام" (ص/320-323), كما نقله محقق كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1/12) لابن المناصف, في تحقيقه, فقال ابن المناصف, بعد ذكره شرعية تغيير المنكر بالضرب والتأديب: وذلك في حق من تلبس, ولم يقدر على دفعه عنه إلا بذلك.اهـ
قلت: وترك ذلك داعٍ إلى ازدياد المنكرات, التي طلب الشرع إزالتها, فإن المنكر إذا لم يغير ويقهر أهله على تركه, قوي أهله, وقويت عزائمهم وجرأتهم على فعل المنكرات, وضعف المعروف, وتعرضت الأمم للهلاك والدمار الديني والدنيوي.
فيجب على كل مسلم أن يسلك الطريق التي تندفع بها هذه المفاسد العظيمة, بحسب القدرة والاستطاعة, والله الموفق.
• (موقف شيخنا الإمام الوادعي وبيان خسَّة الطاعنين).
وهذا الذي كان عليه شيخنا الإمام الوادعي –رحمه لله ورفع درجته-, ولقد أُخبرتُ عن أحد التائهين من أشباه العوام, ممن لا وزن لكلامه, ولا قيمة له, أُخبرتُ أنه طعن على شيخنا –رحمه الله- إفتاءه في ذلك, بسوء أدب, وقلة حياء, فأقحم نفسه فيما لا يحسنة, وليس هو من أهله, (عادياً طوره), فقال: بجرأة ووقاحة: هذه فتوى زائغة!!!, وهي مقالة تدل على خسة قائلها, وترمز إلى سوء طوية عنده, وتشير إلى خواءه عن البصيرة والمعرفة:
كمثل الطبل تسمع من بعيد=جعاجع بطنه والجوف خالي
إذ كيف يتفوه هذا الوغد بمثل هذه المقالة الساقطة, التي تدل على سقوط قائلها, ويناوش بالباطل من مكان بعيد, ويلوِّح بنسبة الزيغ إلى شيخنا الذي جدد الله به الإسلام والسنة, وقمع الله به البدعة, وأعز الله به الحق وأهله, حتى تبدد غبار الباطل, وصارت أركانه بلاقعاً.
كيف والزائغ إنما هو من جانب الحق ومال عنه, مخالفاً بذلك الكتاب والسنة, فلعمري إن هذا القائل أحق بهذا الوصف, كيف وقد كان شيخنا -رحمه الله- ناراً على علم في الوقوف عند نصوص الوحي, لا يتعداها باقتحام التعليل العقيم, والتأويل السقيم, ولكن:
من أراد الله فضحته=غرَّى يديه لكشف عورته
وإليك -أخي في الله- بقية الأدلة على شرعية الضرب والتأديب في إنكار المنكر, إضافة إلى ما سبق ذكره.
3- فروى مسلم في الإيمان برقم (146), عن أبي هريرة رضي الله عنه, أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في حائط بني النجار, فقال له: <يا أبا هريرة –وأعطاه نعليه- اذهب بنعليَّ هاتين, فمن لقيت من رواء هذا الحائط, يشهد ألا إله إلا الله, مستيقناً بها قلبه, فبشره بالجنة> قال أبو هريرة: فكان أول من لقيت عمر, فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعثني بهما من لقيت يشهد ألا إله إلا الله, مستيقناً بها قلبه, بشرته بالجنة. قال: فضرب عمر بيده بين ثدييَّ, فخررت لإستي, فقال: ارجع يا أبا هريرة, فرجع أبو هريرة يبكي, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال: <ياعمر, ما حملك على ما فعلت>؟ قال: يارسول الله: بأبي أنت وأمي, أبعثت أبا هريرة بنعليك, من لقي يشهد ألا إله إلا الله, مستيقناً بها قلبه, بشره بالجنة؟ قال: <نعم>. قال: فلا تفعل, فإني أخشى أن يتكل الناس, فخلهم يعملون. قال: <فخلهم>.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/264), والنووي في "شرح مسلم" (1/183), والقرطبي في "المفهم" (1/206): وأما ضرب عمر ودفعه لأبي هريرة رضي الله عنه, لم يقصد به سقوطه, وأن يؤذيه ويوقعه, بل قصده رده وإيقافه, ومنعه عما هو عليه من النهوض بالبشرى, وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره.اهـ
قال القرطبي في "المفهم" (1/207): فضربه تلك الضربة تأديباً وتذكيراً.اهـ
ولا يخفى أن فعل عمر رضي الله عنه, من باب النهي عما يحتمل فيه على الناس مضرة, وقد أقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك, لما كان مبنياً على قصد شرعي نبيل, , فدل ذلك على جواز التأديب في حق من يستحق ذلك من أهل المنكرات, ليكف عن منكره, من باب أولى.
4- وروى البخاري في الجهاد (2907), ومسلم ف العيدين برقم (2060), عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينما الحبشة يلعبون في المسجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم, إذ دخل عمر بن الخطاب, فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: <دعهم ياعمر>.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (3/310): وإنكار عمر وحصبه لهم بالحصباء, مخافة أن يكون ذلك فيما لا يباح, حتى زجره النبي صلى الله عليه وسلم عنهم, ولعله لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى لعبهم, حتى سمع كلامه.اهـ
وإنكار عمر بالحصب, من قبيل إنكار المنكر بالتأديب, بناءً على اعتقاده عدم إباحة ذلك, ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه, إلا لأنه إنكار لما ليس بمنكر, لا أنه لا يشرع الإنكار بهذه الطريقة, وإلا لأبان له ذلك, في هذا وفي قضية أبي هريرة, لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, وذلك الوقت وقت حاجة إلى معرفة الحكم, لو كان على خلاف ما صدر من عمر, فلما لم يكن, والحاجة داعية إلى معرفته, دل على شرعية المسكوت عليه, والله أعلم.
5- ويشبه ما في الحديثين السابقين ما جاء عند مسلم في الطهارة برقم (714), عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء حبر من أحبار اليهود, فقال: السلام عليك يامحمد , فدفعته دفعة كاد يصرع منها, فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يارسول الله..الحديث.
6- وأيضاً ما في البخاري برقم (4815), عن ابن عمر قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بقناء الكعبة, إذ أقبل عقبة بن أبي معيط, فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولوى ثوبه في عنقه, فخنقه خنقاً شديداً, فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه, ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
وفي الحديثين تأديب صاحب المنكر ودفعه عن منكره بقوة, والله أعلم.
6- وجاء في البخاري في فضائل القرآن برقم (5041), عمر رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان, في حياة النبي صلى الله عليه وسلم , فاستمعت لقراءته, فإذا هو يقرأها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكدت أساوره في الصلاة, فانتظرته حتى سلم, فلببته فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ, قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت, فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك, فأنطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوده.. وقص الحديث.
ومعنى لببته: أي: جعلت في عنقه ثوباً أو غيره, وجررته به. وقوله: أقوده: أي: أجره خلفي كما في "النهاية لابن الأثير", وهو يدل على شرعية أخذ صاحب المنكر عند الإنكار باليد بالقوة, والله أعلم.
8- وفي مسلم برقم (5603), ورقم (6901), ورقم (6241), ومواضع, عن سهل بن سعد رضي لله عنه, أن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع رسول الله صلى الله علي وسلم مدىً يحك به رأسه, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: <لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت بها في عينك>.
9- وجاءعند أبي داود برقم (4361), والنسائي برقم (4081) من طريق عثمان الشحام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً كانت له أم ولد, وكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه, فينهاها فلا تنتهي, ويزجرها فلا تنزجر, فقتلها ذات ليلة, فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: <ألا اشهدوا أن دمها هدر>.
قلت: وإسناده صحيح رواته ثقات, وعثمان الشحام روى له مسلم, ووثقه أبو زرعة, وابن معين, كما في "الجرح والتعديل".
والحديث ذكره شيخنا في الصحيح المسند برقم (605) وحسنه, وقال: رجاله رجال الصحيح.
فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ القوة في إنكار المنكر باليد, ولم ينكر عليه ذلك, فأهدر دمها, والله أعلم.
10- وجاء عند الدارقطني (3/114), ومن طريقه البيهقي في "الكبرى "(8/136), عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه, أنه قتل ساحراً كان عند الوليد بن عقبة, ثم قال: أتأتون السحر وأنتم تبصرون. وسنده صحيح.
ورواه الحاكم (4/361) بسند صحيح, رواته ثقات إلى الحسن البصري, وذكر فيه القصة, والحسن سمع من جندب بن عبدالله رضي الله عنه وروايته عنه في الصحيح.
ورواها –أيضاً- البيهقي في "الكبرى" (8/360), بسند فيه عبد الله بن لهيعة, وباقي رواته ثقات, وابن لهيعة متابع بإسناد الحاكم.
وجاء الحديث مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ولم يثبت, قال الترمذي في سننه عند حديث (1460): والصحيح عن جندب موقوف.اهـ
11- وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/1863), في ترجمة سمراء بنت نهيك رضي الله عنها: كانت تمرُّ في الأسواق, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر, وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها.
قلت: وخبرها هذا رواه الخلال في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص/62), وأبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة" (6/3369), من طريق محمد بن يزيد الواسطي, عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم, قال: رأيت سمراء بنت نهيك, وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم, عليها درع غليظ, وخمار غليظ, بيدها سوط تؤدب الناس, تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وسند الخبر صحيح, وأبو بلج وثقه ابن معين, وابن سعد, والنسائي, والدارقطني, كما في "الجرح والتعديل", و"تهذيب الكمال", و"تهذيب التهذيب".
فهذا ما كان عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, رضي الله عنهم, من اتخاذ القوة في إنكار المنكر باليد, حتى النساء, والله أعلم.
وروى الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص/68) قال: أخبرنا علي بن الحسين, قال: قرأت على أبي الفضل الوراق, عن أحمد الدورقي, قال:سمعت وكيعاً يقول: خذ الطنبور فاكسره على رأس صاحبه, كما فعل ابن عمر في الشهاردة.
ورجاله:
أحمد الدورقي, هو ابن إبراهيم بن كثير العبدي, أخو يعقوب بن إبراهيم الدورقي, وهو ثقة حافظ.
وأبو الفضل بن الوراق: هو محمد بن أبي هارون الملقب بزريق, ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/241), ونقل عن الخلال أنه قال فيه: رجل ويالك من رجل.اهـ
ونقل عن ابن المنادي أنه قال: كان مشهوراً بالصدق والصلاح.اهـ
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (ص/291) وفيات (281-290): صالح فاضل, واسع العلم.
وعلي بن الحسين شيخ الخلال, صوابه: علي بن الحسن, الذي يظهر أنه علي بن الحسن بن هارون بن رستم السقطي, وثقه القواس, وقال الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (2/1045): صدوق ونقله الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/381), ووثقه الذهبي في "تاريخ الإسلام" (ص/307), وفيات (321-330 ), فالإسناد لا بأس به, يصلح أن يذكر الأثر المروي به في الباب.
قلت: والمراد بما ذكره عن ابن عمر ما رواه مالك في "الموطأ" برقم (1853) (4/356) مع "شرح الزرقاني" عن نافع, أن ابن عمر رضي الله عنه, كان إذا وجد أحداً من أهله يلعب بالنرد, ضربه وكسرها.
ورواه من طريقه البخاري في "الأدب المفرد" (ص/434) برقم (1273), والبيهقي في "الكبرى" (10/216).
وإسناده صحيح كالشمس, وهو من أصح الأسانيد, وهو سلسلة الذهب.
فأمر وكيع باتخاذ التأديب والقوة في إزالة المنكر, وفعله ابن عمر كما ترى.
فصل
في كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
باليد وللسان والقلب
لا شك أن الله سبحانه وتعالى خاطب الناس بما يفهمون معناه, ويعقلون المراد منه, بلسان عربي مبين, فالخطاب في ذلك جاء بلفظ: <الأمر بالمعروف>, و <وفعل الخير>, و <النهي عن المنكر>, و <وتغيير المنكر>, ولا خفاء في معنى شيء من هذه الألفاظ.
وقد أبان أهل العلم ذلك بياناً شافياً كافياً, فذكر أبو حامد الغزالي في "الإحياء" (2/423), و (2/413), أن النهي عن المنكر يكون بإعدام وإبطال المنكر.
قال الطوفي في "التعيين" (ص/288), وابن الملقن في "المعين" (ص/292) في شرح قوله: (فليغيره): يزيله ويبدله بغيره.اهـ
وبذلك فسره ابن سيدة في "المحكم" (6/12), قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (8/188): معنى: (يغيرونه) أي: يدفعون ذلك المنكر بغيره من الحق. اهـ
قال الراغب في "المفردات": التغير يقال على وجهين: الأول: لتغيير لصورة الشيء دون ذاته, نحو غيرت داري. الثاني: لتبديله بغيره, نحو غيرت غلامي ودابتي.اهـ مختصراً
وذكر ابن العربي المالكي في "أحكام القرآن" (1/314): أن التغيير باليد أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه, بنزعه منه, وبجذبه منه. اهـ
وقال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/290), في شرح حديث أبي سعيد: الحديث أصل في صفة تغيير المنكر, فيكسر آلات الباطل, ويريق ظروف المسكر بنفسه, أو يأمر بقوله من يتولى ذلك, وينزع المغصوب من أيدي المعتدين بيده, أو يأمر بأخذها منهم ويمكن منها أربابها. اهـ
وقاله القرطبي في "المفهم" (1/233), والغزالي في "الإحياء" (2/422), والمناوي في "الفيض" ( 6/169) وصاحب "تحفة الأحوذي" (6/393). هذا وصف الإنكار باليد.
وأما باللسان: فيكون بالنهي, وبالوعظ, والنصح, والتخويف, ويكون بالتعريف والتعليم لمن وقع في المنكر جاهلاً, كما في حديث الأعرابي, ويكون بالسب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن, بأن يخاطبه بما فيه, كيا فاسق, ويا أحمق, وياجاهل, ألا تخاف الله.
ذكره الغزالي في درجات الاحتساب في "الإحياء" (2/420-422), و ذكر(2/424) من ذلك التهديد والتخويف, كقوله: دع هذا أو لأكسرن رأسك, أو لأضربن رقبتك ونحوه.
قال ابن الجوزي في "كشف المشكل" (3/174), رقم الحديث (1498): والإنكار بالقلب هو كراهية ذلك الفعل, وتلك فريضة لازمة على كل حال.اهـ
وقاله ابن رجب في "جامع العلوم" (2/245).
لقوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم }, وقوله: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره}, وقوله: {والذين لا يشهدون الزور} أي: لا يحضرونه, والزور يشمل كل منكر, ذكر معنى ذلك ابن كثير في تفسير الآية, والبغوي في تفسيره قريباً من ذلك. ذكره ابن باز كما في "مجموع فتاويه" (3/212), جمع الشويعر.
قال شيخ الإسلام في "الأمر بالمعروف والنهي عن النكر" (ص/18): فأما القلب فيجب بكل حال, إذ لا ضرر في فعله, ومن لم يفعله فليس بمؤمن, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: <وذلك أضعف الإيمان>, وقال: <وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان>.اهـ
فائدة مهمة
في شمول لفظ النهي لمراتب التغيير الثلاث
لفظ النهي الوارد في الأدلة يشمل مراتب النهي عن المنكر الأولى والثانية, فإن النهي عن الشيء معناه: كف متعاطيه عنه كما في "تهذيب اللغة" للإمام الأزهري (6/440), و"الصحاح" للجوهري (6/2517), فهو لفظ يدور على معنى المنع والكف.
قال الراغب الأصفهاني في "المفردات" (ص/826): النهي الزجر عن الشيء, قال تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}, وهو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره.. وكذا المنكر يكون تارة باليد, وتارة باللسان, وتارة بالقلب.اهـ
ومن تأمل في سبب نزول قوله: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} أدرك أن المنع من الشيء باليد داخل في مسمى النهي, فإن أبا جهل –لعنه الله- أراد منع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالفعل. كما في مسلم, وغيره.
وقوله تعالى: {وهم ينهون عنه وينأون عنه} على أحد وجهي الآية, -وهو الصحيح الذي رجحه ابن كثير في "تفسيره",وابن جرير في "تفسيره"- الذي معناه: وهم يصدون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وينهون عن ذلك.
ولا يخفى أن نهيهم عنه كان باللسان, بالسب, والشتم, والقدح, والتنفير, ونحو ذلك, وبالفعل بالتعذيب لأتباعه, كما عذبوا بلالاً وعمار بن ياسر رضي الله عنهما, وبقتلهم كما قتلوا سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنها, وأرادوا قتل عمر رضي الله عنه لما أسلم, وبمتابعتهم لمن أسلم وأراد الهجرة, كما تبعوا من هاجر إلى الحبشة, وبقتالهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه, كل ذلك داخل تحت مسمى النهي.
ولذلك قال الطوفي في "التعين" (ص/292), وابن الملقن في "المعين" (ص/287) في شرح حديث أبي سعيد: <من رأى منكم منكراً فليغيره..الحديث>: هذا الحديث يرجع إلى قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}, وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}, و {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}.اهـ
ومعنى ذلك أنه يفسرها ويوضحها, ويشرح معناها, ويبين المراد منها, فالأمر بالنهي فيها يشمل ما ذكر في حديث أبي سعيد, من مراتب التغيير الثلاث, ولهذا يطلق أهل العلم لفظ النهي على الإنكار بمراتبه الثلاث, كما ترى ذلك في كتب الحديث وشروحه.
فصل
حكم دخول الضرب والتأديب في إنكار المنكر باليد
بما ليس فيه شهر سلاح أو قتل
لفاعل المنكر
ذكر ابن النحاس في "تنبيه الغافلين" (ص/58) عن الرافعي أنه قال: من أقدم على محرم فهل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على النفس, فيه وجهان:
(أحدهما): نعم نهياً عن المنكر, ومنعاً عن المعصية.
(والثاني): لا خوفاً من الفتن التي تتولد منه, ونسب الإمام هذا الثاني إلى الأصوليين, والأول إلى الفقهاء, وهو الذي يوجد للأصحاب في كتب المذهب, ثم عزاه للفوراني, والبغوي صاحب "التهذيب", والروياني وغيرهم.
قلت: وذهب إلى الأول أبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" (2/317), وصرح بوجوبه, إذا لم يمكن إزالته إلا بذلك, وعزاه ابن مفلح في "الآداب" (1/196) لابن الجوزي.
وصرح به الغزالي في "الإحياء" (2/420و 424, 425), وابن النحاس في "تنبيه الغافلين" (ص/57), وأشار إليه الهيتمي في "الزواجر" (2/281).
وبه قال ابن المناصف في "تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام" (ص/320-323) في سياق ذكر مراتب تغيير المنكر, وذكر التغيير بالضرب, وإيقاع التنكيل والعقوبة بالفاعل, كما نقل ذلك محقق كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1/12) في تحقيقة, واختاره الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" (4/587).
وهذا الذي كان عليه أهل العلم في بغداد في زمن المأمون كما رواه الخطيب في "تاريخه" (12/350), بسند لا بأس به إلى عبد الصمد بن المهتدي: أن المأمون لما دخل بغداد, نادى بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذلك أن الشيوخ ببغداد كانوا يضربون ويعاقبون في المحال ويحبسون. أي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وجاء في "سير الذهبي" (21/454) قال الضياء: قال الموفق: كان الحافظ عبد الغني المقدسي لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه, وكنا مرة أنكرنا على قوم وأرقنا خمورهم وتضاربنا, فسمع خالي أبو عمر, فضاق صدره وخاصمنا, فلما جئنا إلى الحافظ طيَّب قلوبنا, وصوب فعلنا, وتلا: {وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك}.
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/11), أن شيخ الإسلام وأصحابه, داروا يوم جمعة على الخمارات والحانات, فكسروا آنية الخمور, وشققوا الظروف, وأراقوا الخمور, وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش.اهـ
وأنبه على أن بعض من ذهب إلى هذا, يرى شرعيته ولو أدى إلى قتل صاحب المنكر , وشرطوا ذلك بالعجز عما هو دونه, كما هو اختيار الجصاص, والغزالي, والشوكاني, وأنه بالحق والشرع قتل.
قلت: وهو بعيد عن الصواب جداً, لأن الذي شرع إنكار المنكر باليد, ولو بالضرب والتأديب, نهى وزجر نهياً وزجراً بالغاً عن قتل المسلم, فقال تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: <لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً>.
ودم المسلم حرام إلا بإحدى ثلاث توجب قتله, كما في مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رقم (4351).
وعن عثمان رضي الله عنه في أبي داود (12/215) وغيره كما في "الصحيح المسند" لشيخنا الوادعي (2 /9) رقم (908), أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: <لايحل دم امرء مسلم يشهد ألا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة>. وهذا لفظ مسلم.
وحرف الاستثناء في الحديث يفيد الحصر, فيدل على تحريم دم المسلم مطلقاً, ما لم يقارف إحدى هذه الثلاث, وليس منها قتله لفعله معصية لا توجب قتله, وليس ثَمَّ إذن شرعي في قتل المسلم العاصي.
بل جاء الوعيد على قتله وتعظيم ذلك, كما ذكرنا, وأيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: <لزوال الدنيا عند الله, أهون من قتل رجل مسلم>. وهو شامل للعاصي وغيره, إلا ما استثني بالنص.
كيف وقتل المسلم منكر أعظم من شرب الخمر, أو سماع الغناء, أو نحو ذلك من المعاصي, والغرض من إنكار المنكر إزالته وتبديله بغيره من المعروف, فإنكاره بقتل فاعله, تغيير له بمنكر أنكر منه, وليس هذا من مقاصد الشرع الحنيف, بل مخالف له, وسيأتي بيان ذلك عند شروط الأمر والنهي.
قال الإمام الصنعاني في "الإشاعة" (ص/52): وقد اتفق العلماء من الفرق كلها, أنه إذا أدى إنكار المنكر إلى أنكر منه لم يجز تغييره.اهـ
وأما الأدلة على شرعية التأديب والضرب في إنكار المنكر, بغير قتل لصاحب المنكر, فهي:
1- حديث بي سعيد رضي الله عنه السابق: <من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..>.
ووجهه في الحديث: أنه أطلق التغيير باليد, ولم يقيده بهيئة معينة, فيتناول ذلك كل وسيلة يدوية يحصل بها انتهاء المنكر وزواله, ما لم يؤد إلى منكر أنكر منه, فيشمل الإتلاف للمنكر ودفع صاحبه, وتأديبه بشيء من الضرب ليكفه عن منكره, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, والله أعلم
وقد نص الإمام ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (10/255), وفي (13/230), على أن التغيير باليد يكون بالضرب والتأديب.
وصرح به إمام المحدثين وسيد الفقهاء في زمنه, أبو عبدالله البخاري في "صحيحه", في كتاب الحدود, حيث قال: باب من أدب أهله وغيره دون السلطان, وقال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: <إذا صلى فأراد أن يمر بين يديه فليدفعه, فإن أبى فليقاتله>. وفعله أبو سعيد.
قلت: وقد رواه البخاري موصولاً في الصلاة برقم (509).
2- ثم ذكر البخاري رحمه الله في الباب حديث عائشة رضي الله عنها برقم (6844), و (6846) قالت: جاء أبو بكر رضي الله عنه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي, فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس, وليسوا على ماء, فعاتبني وجعل يطعن بيده في خاصرتي. وفي لفظ الحديث: <فلكزني أبو بكر لكزةً شديدة>.
قال ابن بطال كما في "الفتح" (13/215): وفي هذين الحديثين دلالة على جواز تأديب الرجل أهله وغيره أهله بحضرة السلطان, ولو لم يأذن له إذا كان ذلك في حق.اهـ
ولا شك أن ذلك من باب إنكار المنكر, فلا تعدل –سددنا الله وإياك- بالإمام البخاري, وابن حزم, في الفهم والاستنباط, فهما ابنا بجدة التحقيق.
ولا سيما إذا كان المنكر مما لا يمكن استقلال آلته حتى تتلف وتزال, كسبِّ الله وملائكته, والاستهزاء بدين الله تعالى, والغيبة والنميمة, ونحو ذلك.
وقد أبان هذا الغزالي في "الإحياء" (2/402) في الكلام على مراتب التغيير, فقال: الخامس: التخويف والتهديد بالضرب, ومباشرة الضرب له, حتى يمتنع عما هو عليه, كالمواظب على الغيبة والقذف, فإن سلب لسانه غير ممكن, ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب.اهـ
وكذا بينه ابن المناصف في "نبيه الحكام على خآخذ الأحكام" (ص/320-323), كما نقله محقق كتاب "الإنجاد في أبواب الجهاد" (1/12) لابن المناصف, في تحقيقه, فقال ابن المناصف, بعد ذكره شرعية تغيير المنكر بالضرب والتأديب: وذلك في حق من تلبس, ولم يقدر على دفعه عنه إلا بذلك.اهـ
قلت: وترك ذلك داعٍ إلى ازدياد المنكرات, التي طلب الشرع إزالتها, فإن المنكر إذا لم يغير ويقهر أهله على تركه, قوي أهله, وقويت عزائمهم وجرأتهم على فعل المنكرات, وضعف المعروف, وتعرضت الأمم للهلاك والدمار الديني والدنيوي.
فيجب على كل مسلم أن يسلك الطريق التي تندفع بها هذه المفاسد العظيمة, بحسب القدرة والاستطاعة, والله الموفق.
• (موقف شيخنا الإمام الوادعي وبيان خسَّة الطاعنين).
وهذا الذي كان عليه شيخنا الإمام الوادعي –رحمه لله ورفع درجته-, ولقد أُخبرتُ عن أحد التائهين من أشباه العوام, ممن لا وزن لكلامه, ولا قيمة له, أُخبرتُ أنه طعن على شيخنا –رحمه الله- إفتاءه في ذلك, بسوء أدب, وقلة حياء, فأقحم نفسه فيما لا يحسنة, وليس هو من أهله, (عادياً طوره), فقال: بجرأة ووقاحة: هذه فتوى زائغة!!!, وهي مقالة تدل على خسة قائلها, وترمز إلى سوء طوية عنده, وتشير إلى خواءه عن البصيرة والمعرفة:
كمثل الطبل تسمع من بعيد=جعاجع بطنه والجوف خالي
إذ كيف يتفوه هذا الوغد بمثل هذه المقالة الساقطة, التي تدل على سقوط قائلها, ويناوش بالباطل من مكان بعيد, ويلوِّح بنسبة الزيغ إلى شيخنا الذي جدد الله به الإسلام والسنة, وقمع الله به البدعة, وأعز الله به الحق وأهله, حتى تبدد غبار الباطل, وصارت أركانه بلاقعاً.
كيف والزائغ إنما هو من جانب الحق ومال عنه, مخالفاً بذلك الكتاب والسنة, فلعمري إن هذا القائل أحق بهذا الوصف, كيف وقد كان شيخنا -رحمه الله- ناراً على علم في الوقوف عند نصوص الوحي, لا يتعداها باقتحام التعليل العقيم, والتأويل السقيم, ولكن:
من أراد الله فضحته=غرَّى يديه لكشف عورته
وإليك -أخي في الله- بقية الأدلة على شرعية الضرب والتأديب في إنكار المنكر, إضافة إلى ما سبق ذكره.
3- فروى مسلم في الإيمان برقم (146), عن أبي هريرة رضي الله عنه, أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في حائط بني النجار, فقال له: <يا أبا هريرة –وأعطاه نعليه- اذهب بنعليَّ هاتين, فمن لقيت من رواء هذا الحائط, يشهد ألا إله إلا الله, مستيقناً بها قلبه, فبشره بالجنة> قال أبو هريرة: فكان أول من لقيت عمر, فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعثني بهما من لقيت يشهد ألا إله إلا الله, مستيقناً بها قلبه, بشرته بالجنة. قال: فضرب عمر بيده بين ثدييَّ, فخررت لإستي, فقال: ارجع يا أبا هريرة, فرجع أبو هريرة يبكي, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال: <ياعمر, ما حملك على ما فعلت>؟ قال: يارسول الله: بأبي أنت وأمي, أبعثت أبا هريرة بنعليك, من لقي يشهد ألا إله إلا الله, مستيقناً بها قلبه, بشره بالجنة؟ قال: <نعم>. قال: فلا تفعل, فإني أخشى أن يتكل الناس, فخلهم يعملون. قال: <فخلهم>.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/264), والنووي في "شرح مسلم" (1/183), والقرطبي في "المفهم" (1/206): وأما ضرب عمر ودفعه لأبي هريرة رضي الله عنه, لم يقصد به سقوطه, وأن يؤذيه ويوقعه, بل قصده رده وإيقافه, ومنعه عما هو عليه من النهوض بالبشرى, وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره.اهـ
قال القرطبي في "المفهم" (1/207): فضربه تلك الضربة تأديباً وتذكيراً.اهـ
ولا يخفى أن فعل عمر رضي الله عنه, من باب النهي عما يحتمل فيه على الناس مضرة, وقد أقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك, لما كان مبنياً على قصد شرعي نبيل, , فدل ذلك على جواز التأديب في حق من يستحق ذلك من أهل المنكرات, ليكف عن منكره, من باب أولى.
4- وروى البخاري في الجهاد (2907), ومسلم ف العيدين برقم (2060), عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينما الحبشة يلعبون في المسجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم, إذ دخل عمر بن الخطاب, فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: <دعهم ياعمر>.
قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (3/310): وإنكار عمر وحصبه لهم بالحصباء, مخافة أن يكون ذلك فيما لا يباح, حتى زجره النبي صلى الله عليه وسلم عنهم, ولعله لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى لعبهم, حتى سمع كلامه.اهـ
وإنكار عمر بالحصب, من قبيل إنكار المنكر بالتأديب, بناءً على اعتقاده عدم إباحة ذلك, ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه, إلا لأنه إنكار لما ليس بمنكر, لا أنه لا يشرع الإنكار بهذه الطريقة, وإلا لأبان له ذلك, في هذا وفي قضية أبي هريرة, لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, وذلك الوقت وقت حاجة إلى معرفة الحكم, لو كان على خلاف ما صدر من عمر, فلما لم يكن, والحاجة داعية إلى معرفته, دل على شرعية المسكوت عليه, والله أعلم.
5- ويشبه ما في الحديثين السابقين ما جاء عند مسلم في الطهارة برقم (714), عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء حبر من أحبار اليهود, فقال: السلام عليك يامحمد , فدفعته دفعة كاد يصرع منها, فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يارسول الله..الحديث.
6- وأيضاً ما في البخاري برقم (4815), عن ابن عمر قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بقناء الكعبة, إذ أقبل عقبة بن أبي معيط, فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولوى ثوبه في عنقه, فخنقه خنقاً شديداً, فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه, ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
وفي الحديثين تأديب صاحب المنكر ودفعه عن منكره بقوة, والله أعلم.
6- وجاء في البخاري في فضائل القرآن برقم (5041), عمر رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان, في حياة النبي صلى الله عليه وسلم , فاستمعت لقراءته, فإذا هو يقرأها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكدت أساوره في الصلاة, فانتظرته حتى سلم, فلببته فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ, قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت, فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك, فأنطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوده.. وقص الحديث.
ومعنى لببته: أي: جعلت في عنقه ثوباً أو غيره, وجررته به. وقوله: أقوده: أي: أجره خلفي كما في "النهاية لابن الأثير", وهو يدل على شرعية أخذ صاحب المنكر عند الإنكار باليد بالقوة, والله أعلم.
8- وفي مسلم برقم (5603), ورقم (6901), ورقم (6241), ومواضع, عن سهل بن سعد رضي لله عنه, أن رجلاً اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع رسول الله صلى الله علي وسلم مدىً يحك به رأسه, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: <لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت بها في عينك>.
9- وجاءعند أبي داود برقم (4361), والنسائي برقم (4081) من طريق عثمان الشحام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً كانت له أم ولد, وكانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه, فينهاها فلا تنتهي, ويزجرها فلا تنزجر, فقتلها ذات ليلة, فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: <ألا اشهدوا أن دمها هدر>.
قلت: وإسناده صحيح رواته ثقات, وعثمان الشحام روى له مسلم, ووثقه أبو زرعة, وابن معين, كما في "الجرح والتعديل".
والحديث ذكره شيخنا في الصحيح المسند برقم (605) وحسنه, وقال: رجاله رجال الصحيح.
فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ القوة في إنكار المنكر باليد, ولم ينكر عليه ذلك, فأهدر دمها, والله أعلم.
10- وجاء عند الدارقطني (3/114), ومن طريقه البيهقي في "الكبرى "(8/136), عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه, أنه قتل ساحراً كان عند الوليد بن عقبة, ثم قال: أتأتون السحر وأنتم تبصرون. وسنده صحيح.
ورواه الحاكم (4/361) بسند صحيح, رواته ثقات إلى الحسن البصري, وذكر فيه القصة, والحسن سمع من جندب بن عبدالله رضي الله عنه وروايته عنه في الصحيح.
ورواها –أيضاً- البيهقي في "الكبرى" (8/360), بسند فيه عبد الله بن لهيعة, وباقي رواته ثقات, وابن لهيعة متابع بإسناد الحاكم.
وجاء الحديث مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ولم يثبت, قال الترمذي في سننه عند حديث (1460): والصحيح عن جندب موقوف.اهـ
11- وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/1863), في ترجمة سمراء بنت نهيك رضي الله عنها: كانت تمرُّ في الأسواق, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر, وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها.
قلت: وخبرها هذا رواه الخلال في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص/62), وأبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة" (6/3369), من طريق محمد بن يزيد الواسطي, عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم, قال: رأيت سمراء بنت نهيك, وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم, عليها درع غليظ, وخمار غليظ, بيدها سوط تؤدب الناس, تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وسند الخبر صحيح, وأبو بلج وثقه ابن معين, وابن سعد, والنسائي, والدارقطني, كما في "الجرح والتعديل", و"تهذيب الكمال", و"تهذيب التهذيب".
فهذا ما كان عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, رضي الله عنهم, من اتخاذ القوة في إنكار المنكر باليد, حتى النساء, والله أعلم.
وروى الخلال في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (ص/68) قال: أخبرنا علي بن الحسين, قال: قرأت على أبي الفضل الوراق, عن أحمد الدورقي, قال:سمعت وكيعاً يقول: خذ الطنبور فاكسره على رأس صاحبه, كما فعل ابن عمر في الشهاردة.
ورجاله:
أحمد الدورقي, هو ابن إبراهيم بن كثير العبدي, أخو يعقوب بن إبراهيم الدورقي, وهو ثقة حافظ.
وأبو الفضل بن الوراق: هو محمد بن أبي هارون الملقب بزريق, ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/241), ونقل عن الخلال أنه قال فيه: رجل ويالك من رجل.اهـ
ونقل عن ابن المنادي أنه قال: كان مشهوراً بالصدق والصلاح.اهـ
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (ص/291) وفيات (281-290): صالح فاضل, واسع العلم.
وعلي بن الحسين شيخ الخلال, صوابه: علي بن الحسن, الذي يظهر أنه علي بن الحسن بن هارون بن رستم السقطي, وثقه القواس, وقال الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (2/1045): صدوق ونقله الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/381), ووثقه الذهبي في "تاريخ الإسلام" (ص/307), وفيات (321-330 ), فالإسناد لا بأس به, يصلح أن يذكر الأثر المروي به في الباب.
قلت: والمراد بما ذكره عن ابن عمر ما رواه مالك في "الموطأ" برقم (1853) (4/356) مع "شرح الزرقاني" عن نافع, أن ابن عمر رضي الله عنه, كان إذا وجد أحداً من أهله يلعب بالنرد, ضربه وكسرها.
ورواه من طريقه البخاري في "الأدب المفرد" (ص/434) برقم (1273), والبيهقي في "الكبرى" (10/216).
وإسناده صحيح كالشمس, وهو من أصح الأسانيد, وهو سلسلة الذهب.
فأمر وكيع باتخاذ التأديب والقوة في إزالة المنكر, وفعله ابن عمر كما ترى.
تعليق