تحريم اعتداء الإنسان على نفسه
نفس الإنسان ليست ملكًا له ، وإنما هي ملك لخالقها وموجدها عز وجل ، وهي أمانة عند صاحبها ، سيسأل عنها يوم القيامة ، أحفظها وقام بحقها ، أم ضيعها وظلمها ، ولم يقم بما يجب لها؟
ولهذا فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه ، ولا أن يغرر بها في غير مصلحة شرعية ، ولا أن يتصرف بشيء من أجزائها إلا بما يعود عليها بالمصلحة ، أو يدرأ عنها المفسدة ، وليس له أن يُضر بنفسه بحجة أنه يتصرف فيما يخصه ، وأنه لم يعتد على غيره ، فإن اعتداءه على نفسه كاعتدائه على غيره عند الله تعالى .
قال الله تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
فهذا نهي للمؤمنين أن يقتل بعضهم بعضًا ونهي للإنسان عن قتل نفسه ، سواء كان ذلك بتعمد قتلها مباشرة ، أو بفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك ، ثم توعّد من يقتل نفسه أو نفس غيره بغير حق بأن يصليه نار جهنم وساءت مصيرًا .
قال القرطبي : "أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضًا ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصدٍ منه للقتل : في الحرص على الدنيا وطلب المال ، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدّي إلى التلف . . أو في حال ضجر أو غضب ، فهذا كله يتناوله النهي" .
وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص رضي الله عنه حين أجنب ثم تيمم ، وخشي إن اغتسل بالماء أن يهلك من شدة البرد ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقره على احتجاجه .
وقال تعالى : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
والإلقاء : هو طرح الشيء ، والمراد بالأيدي : الأنفس ، عبّر بالبعض عن الكل ، بناء على أن أكثر أفعال النفس بالأيدي ، والتهلكة : مصدر من هلك يهلك هلاكًا وهُلْكًا وتهلكة ، أي : لا توقعوا أنفسكم في الهلاك .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : "والإلقاء باليد إلى التهلكة ، يرجع إلى أمرين : لترْك ما أمر به العبد ، إذا كان تركه موجبًا أو مقاربًا لهلاك البدن أو الروح .
وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح ، فيدخل في ذلك أمور كثيرة . . ومن ذلك : تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة ، أو سفر مخوف ، أو محل مَسبَعة ، أو حيات ، أو يصعد شجرًا أو بنيانًا خطرًا ، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ، ونحو ذلك ، فهذا ونحوه ، ممن ألقى بيده إلى التهلكة" .
وجاءت السنة النبوية مؤكدةً لما في القرآن ، ومنذرةً بالوعيد الشديد ، والعذاب الأليم لمن قتل نفسه .
ففي الصحيحين عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان فيمن كان قبلكم رجل به جُرح ، فجزع ، فأخذ سكينًا ، فحزّ بها يده ، فما رقأ الدمُ حتى مات ، قال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه ، حرّمت عليه الجنة .
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يتوجّأُ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ، ومن شرب سمًا ، فقتل نفسه ، فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه ، فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا وفي رواية للبخاري : الذي يخنُقُ نفسه ، يخنقها في النار ، والذي يطعُن نفسه ، يطعُنُها في النار .
وفي الباب أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة ، منها : أنه محمول على من فعل ذلك مستحلًا له بلا تأويل ، مع علمه بتحريمه ، فإنه يصير باستحلاله لما حرمه الله كافرًا ، والكافر مخلد في النار بلا ريب .
ومنها : أنه ورد مورد الزجر والتغليظ ، وحقيقته غير مرادة .
ولكن هذا كما يقول أبو عبيد القاسم بن سلام : "من أفظع ما تُؤوِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدًا لا حقيقة له ، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب ، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكنًا في العقوبات كلها" .
ومنها : أنه يستحق هذا الجزاء لشناعة جرمه ، وهذا جزاؤه لو أراد الله أن يجازيه بما يكافئ جرمه ، ولكنه تكرم على عباده الموحدين ، فأخبر أنهم يخرجون من النار بتوحيدهم ، وأنه لا يُخلِّد في النار من مات موحدًا .
وقد رجّح ابن حجر هذا الجواب الأخير ، فقال : " وأولى ما حمل عليه هذا الحديث ونحوه من أحاديث الوعيد ، أن المعنى المذكور جزاء من فعل ذلك ، إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه " . ويدل لذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) فبين أن ما دون الشرك من الكبائر ، ومنها القتل بغير حق ، لا يخلد صاحبها في النار ، بل هو تحت مشيئة الله تعالى ، فإن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه ثم يكون مآله إلى الجنة ، ويؤيده حديث عبادة بن الصامت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بايعهم على ترك القتل والزنا وغيرهما قال : فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ويؤيده قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم أكمل المائة ، ولما هاجر إلى القرية الصالحة ، أدركه الموت بين القريتين فقبضته ملائكة الرحمة والقصة معلومة مشهورة .
وهذا ما رجحه ابن القيم أيضًا ، حيث أورد أقوال العلماء في المسألة ثم قال : "وقالت فرقة سابعة : هذه النصوص وأمثالها مما ذكر ، فيه المقتضي للعقوبة ، ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده ، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه ، وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سببٌ للعقوبة ومقتضٍ لها ، وقد قام الدليل على ذكر الموانع ، فبعضها بالإجماع ، وبعضها بالنص ، فالتوبة مانع بالإجماع ، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها ، والحسنات العظيمة الماحية مانعة ، والمصائب الكبار المكفرة مانعة ، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص ، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص ، فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين" . .
وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، هاجر إليه الطفيل بن عمرو ، وهاجر معه رجل من قومه ، فاجتووا المدينة فمرض ، فجزع ، فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات ، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه ، فرآه وهيئتُه حسنة ، ورآه مغطيًا يديه ، فقال له : ما صنع بك ربك؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال : مالي أراك مغطيًا يديك؟ قال : قيل لي : لن نصلح منك ما أفسدت . فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهم ولِيَديه فاغفر) . .
وهذا الحديث يدل على تحريم قتل الإنسان نفسه ، وعظم عقوبته في الآخرة ، كما يدل على أن من قتل نفسه غير مستحل لذلك ، فإنه لا يعد كافرًا ، ولذلك بوّب عليه النووي بقوله : "باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر" ، ثم قال في شرح الحديث : "فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة : أن من قتل نفسه ، أو ارتكب معصية غيرها ، ومات من غير توبة ، فليس بكافر ، ولا يقطع له بالنار ، بل هو في حكم المشيئة . . وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار" .
وكما لا يجوز إتلاف النفس بالكلية ، فلا يجوز إيلامها ، أو إتلاف عضو من أعضائها ، إلا لمصلحة تربو على مفسدة الإيلام والقطع .
فإن احتاج لقطع عضو من بدنه ، أو كيّ جزء منه ، أو غرز إبرة فيه ، لمصلحة يرجوها لبدنه ، أو لدفع مفسدة يخشى منها عليه ، فلا حرج في ذلك ، لأن مصلحته عائدة لحماية النفس ، وهو داخل في باب ارتكاب أخف الضررين ، لدفع أعلاهما ، أو جلب أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما ، والله أعلم
هذا الموضوع منقول من موقع الاسلام للشيخ صالح ال الشيخ.