إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بِدْعَةُ الطَّرائق في الإسلام؛ للعلامة السَّلفي: الشيخ العربي التبسي - رحمه الله تعالى-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بِدْعَةُ الطَّرائق في الإسلام؛ للعلامة السَّلفي: الشيخ العربي التبسي - رحمه الله تعالى-

    بِدْعَةُ الطَّرَائِقِ
    فِي
    الإِسْلاَمِ


    للشيخ المصلح:
    العربي [بن بلقاسم] التَّبِسِّي
    ((عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين))
    اعتناء:
    محمد شايب شريف





    قال ابن الماجشون: ((سمعت مالكا يقول: من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ( فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا)). (الاعتصام للشاطبي 1/ 62).


    [مقدمة المعتني]
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
    فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
    فهذه مقالات منيرة وصفحات أنيقة، للشيخ المصلح العربي التبسي- أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المبرزين- أبطل فيها ثلاثا من أهم بدع الطرقية وهي:
    1- بدعة تحديد الأذكار.
    2- بدعة إعطاء العهود للأتباع.
    3- وبدعة التصدي للدعوات.
    و قد أجاد الشيخ في طريق استدلاله على بدعة الطرائق في الإسلام، و أبان بالبراهين الواضحة منافاتها لما كان عليه هدي السلف الصالح.
    وهذه المقالات (ثلاث) نشرت في مجلة الشهاب الجزائرية؛ التي أنشأها رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله (مج 4 عدد 166، 168 و 169 سنة 1347 هـ 9281 م)، فما كان من كاتب هذه السطور إلا جمع ما تناسب و افترق في هذه الرسالة لتكون في متناول العام والخاص.
    ثم إني بعد جمعي لهذه المقالات وقفت على مقالة للشيخ بعنوان ((إن كنت حاملا فلدي غلاما)) نشرتها مجلة الشهاب في عددين (مج 4 عدد 77 1 و 78 1 سنة 1347 هـ/92 م) رد فيها على المدعو (ناصر معروف) أحد أنصار الطرقيين الذي كتب مجموعة من المقالات في جريدة البلاغ رد فيها بزعمه على مقالات الشيخ التبسي ((بدعة الطرائق في الإسلام )). و لقد ألحقت هذه المقالة بالمقالات الثلاث تتميما للفائدة.


    جعل الله هذا العمل خالصا لوجهه ورحم الله الشيخ العربي التبسي و أدخله فسيح جنانه.



    كتبه:
    محمد شايب شريف بالجزائر
    من سنة 1424 أهـ

  • #2
    <center>
    ترجمة الشيخ العربي التبسي
    -رحمهُ اللهُ تعالى-

    ولد العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات التبسي بقرية (ايسطح ) قرب مدينة تبسة بأقصى الشرق الجزائري سنة 1321 هـ/1895 م. ابتدأ العربي التبسي حفظ القرآن على يد والده، وفي سنة 1324 هـ/ 1907م رحل إلى زاوية ناجي الرحمانية جنوب شرقي مدينة خنشلة بالشرق الجزائري فأتم حفظ القرآن خلال ثلاث سنوات. ثم رحل إلى زاوية مصطفى بن عزوز بـ(نفطة) جنوب غرب تونس في سنة 1327 هـ/1910م وفيها أتقن رسم القرآن وتجويده وأخذ مبادئ النحو والصرف والفقه والتوحيد، ثم التحق بجامع الزيتونة بتونس سنة 1331 هـ/ 1914م حيث نال شهادة الأهلية ثم رحل إلى الأزهر بمصر سنة 1339 هـ/ 1920م فمكث فيه إلى غاية سنة 1346 هـ/1927م ثم رجع إلى تونس وحصل على شهادة التطويع (العالمية) بجامع الزيتونة.
    عاد إلى الجزائر سنة 1347 هـ/ 1927م فاشتغل بالتعليم العربي الإسلامي في تبسة وغيرها من أرض الجزائر وشارك في الحركة الإصلاحية التي كان يقودها الشيخ عبد الحميد بن باديس بقلمه بما كان ينشر له في الجرائد والمجلات ودروسه التي كان يلقيها في المساجد.


    وفي سنة 1355 هـ/ 1935م اختير كاتبا عاما لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ثم نائبا لرئيسها الجديد الشيخ البشير الإبراهيمي وذلك سنة1360 هـ/ 1940م. ولما رحل الإبراهيمي إلى المشرق سنة 1371 هـ/ 1952م تولى الشيخ التبسي رئاسة الجمعية إلى أن توقف نشاطها. وقد سجن الشيخ عدة مرات من طرف الاحتلال الفرنسي لمواقفه الصريحة ضد الاستعمار، وفي 4 رمضان 1376 هـ 4 أبريل 1957م خطفه الفرنسيون من مقر سكناه واغتالوه. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه.
    وقد جمع له الدكتور أحمد الرفاعي الشريفي مجموعة مقالاته التي نشرت في بعض المجلات كالشهاب وغيرها تحت عنوان ((مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر)) نشرت في جزئين أحدهما طبع سنة 1402هـ والآخر سنة 1404هـ.


    كلمات منيرة للشيخ التبسي - رحمه الله تعالى-:


    قال رحمه الله في معرض الرد على بعض الطرقيين: ((أما السلفيون الذين نجاهم الله مما كدتم لهم فهم قوم ما أتوا بجديد و أحدثوا تحريفا ولا زعموا لأنفسهم شيئا مما زعمه شيخكم وإنما هم قوم أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر في حدود الكتاب والسنة وما نقمتم منهم إلا أن آمنوا بالله وكفروا بكم )) (المقالات1/115).

    وقال: "إن الأمة الجزائرية كغيرها من الأمم الإسلامية، أسباب التأخر فيها لا ترجع إلى عهد قريب وإلى سبب مباشر غير مخالفة الذين الذي بناه رب العزة في أحكم نظام وأمتن أساس )) (المقالات 2/ 41).


    و قال رحمه الله: ((لست أعرف ابتداءه تاريخيا (يعني الانحطاط) ولكني أستطيع أن أحدده بظهور آثار التغيير في هذه الأمة، و أزعم أنه يبتدئ من يوم أضاع الناس السنة المحمدية و ركنوا إلى بدع الرجال التي صرفتهم عن التربية المحمدية و الأخلاق الإسلامية، و ظهر في الشعب رؤساء ينسبون إلى الدين، فكان وجودهم سببا في انقسام الوحدة واختلاف الكلمة و ذيوع الأهواء، و تحيز جماعات الأمة إلى نزاعات تفت عضد الوحدة المقصودة للدين، حتى أصبح الحب و البغض ليسا في الله كما هي القاعدة، و اتخذ الناس رؤساء جهالاً بدعيين يعدونهم من أولياء الله و خواص عباده المقربين عنده، ففتنت بهم جهلة الأمة و أشباه الجهلة، فنصروهم على عماية واتبعوهم على غواية، و صار الدين ألعوبة في يد هؤلاء الرؤساء و أتباعهم )) (المقالات 2/ 34).

    و مما قاله في خصوص فهم السلف الصالح:

    ((بهذا الأصل صار الذين لا يمكن أن يؤخذ بحكم العوائد والمحاكاة، ولا تعلمه من الجاهلين، وإنما يؤخذ حقا تعلما عن أهل العلم الحقيقيين الذين يستمدون فهو مهم من عناصر الدين الأولية التي هي الكتاب والسنة على مقتضى فهوم الأولين من علماء الإسلام الذين إذا تكلموا على العقائد بينوها وبينوا مآخذها وأدلتها، وشرحوا ما أذن لهم شرحه وتوقفوا فيما لا مجال للعمل فيه أو ردوه إلى ما وضح معناه وظهر مغزاه )) (المقالات 2/ 27).
    ومما قاله وهو يتألم لحال الأمة المزري: ((بكائي على الإسلام ومبادئه ونحيبي على وحدة الدين الذي أضاعه بنوه، الذي أمر بالجماعة وحث عليها بل وجعل المنشق عنها في فرقة من الدين وعزلة عن الإسلام وعداء لأهله. والذي فلق الحب وبرأ النسمة لو أن امرءاً مسلما مات أسفا وحزنا على حالة هذه الأمة؛ لكان له عند الله العذر. أيطيب لنا عيش مع هذه الحالة؟.... )) (المقالات 1/ 61).


    وقال يوما مخاطبا أعضاء جمعية العلماء المسلمين: ((فلتكن الأخوة رائدنا، وليكن الإخلاص رابطنا، ولتكن النزاهة شعارنا، وليكن نكران الذات القاسم المشترك الأعظم بيننا. إنه لا يمكن إرضاء الإسلام والوطن، وإرضاء الزوج والأبناء في وقت واحد، إنه لا يمكن لإنسان أن يؤدي واجبه التام إلا بالتضحية، فلننس من ماضي الآباء والأجداد كل ما يدعو إلى الفتور وإلى الموت، ولنأخذ من ماضيهم كل ما هو مدعاة قوة واتحاد)) (المقالات 1/ 202).

    مصادر الترجمة:
    ((أعلام الإصلاح في الجزائر)) لعلي دبوز 1/ 27، 2/ 15.
    ((معجم أعلام الجزائر)) لعادل نويهض ص ا 6.
    ((مقالات في الدعوة)) للشيخ التبسي جمع أحمد الرفاعي.
    </center>
    .........................................

    المقدمة

    شاء الله أن أهبط بلدة خنشلة (1) في صيف هذا العام، و شاء أن أتخذها محل إقامة خمسا و عشرين ليلة، و قدر لي أن اجتمعت أثناء هذه الليالي بأقوام يمثلون أغلب طبقاتها و استطلعت آراء عقلائها و مفكريها في حالتنا الدينية و ما أصابها من تدهور، و كانت نتيجة البحث مع العقلاء الذين حفظهم الله من بدعة الطرقيين استحسان الدعوة إلى كتاب الله و سنة رسوله و ما كان عليه سلف الأمة و إلى ترك ما أحدثه المحدثون. و هذه الظاهرة الدينية من أفهم الأدلة على أن أمتنا سدد الله خطى علمائها و العاملين لخير مفتها من الأمم التي أشربت حث دينها المحفوظ.
    و كنت أفضي إلى من أجتمع به بما يتطلبه منا دين لا ببوية (2) و لا قساوسة و لا رهبان و لا كهنوتية (3) فيه، و أجد من فضلائها و أهل الروية و الثقافة العلمية بتلك البلدة الإسلامية رجالا يقدرون الدين حق قدره و يعلمون أنه دين رب العالمين، لا صنع رجال يصرفونه كيف شاؤوا و شاءت مآربهم (4) .
    و قد منيت دعوة رجال الإصلاح الديني كما في كل مبدأ صحيح قبلها بأقوام يناهضون الحق بسلاح الأوهام و يعادون أهله، لا لأنهم شاقوا معصوما أو حاربوا صحيحا بل لأنهم سفهوا عوائد و طرحوا مألوفا تبين أنه لم يأت من طريق التوفيق.
    و في بلدة خنشلة لسانان من ألسنة فلول الطرائق و خزائن الأخبار المحرفة و الأقاويل المضطربة- وقد حدثت عن هذين الأخوين في النسب والجهل بما يأتيان به من تنفير الناس من دعوة المصلحين و التقول عليهم بما يذكر بالقصص الإسرائيلي، فحاولت أن أجتمع بهما اجتماعا يمكنني من مفاوضتهما فجمع الله بيننا أمام قهوة عربية فجاذبتهما الحديث في شؤون، منها إعطاء العهود الموجودة بيننا من رؤساء الطرائق و تحديد الأذكار للأمة على هذا الوجه بدعة لا يعرفها السلف و لا يقبلها الشرع فزعما أن هذه العهود و ما لف لفها قد نقلت عن الحسن البصري، فأجبتهما بأن من نقل هذا عنه أراه قد كذب عليه.
    و مسألة كمسألة العهود و تحديد الأذكار و وضع الطرائق للأمم ليس بسر من الأسرار حتى يمتاز بها الحسن، و محال أن يفعل شيئا لم يتلقه عمن قبله و لو فعله من قبله- و المسألة لها خطرها - لنقلت شائعة ذائعة كما هي الآن و هذه الكتب الصحاح التي غيرت رجالها و فحصت أخبارها لا يوجد فيها ما يصلح أن يكون دليلا أو شبه دليل.
    فلما سدت في وجوههما مناهج التضليل انقلبا إلى السباب و الفضاضة و الفحش و الإذاية، فأعرضت عنهما و مررت بكلامهما مر الكرام و وعدت الحاضرين بالكتابة في بدعة الطرائق في الإسلام و ها أنا موفي بوعدي مقدم لأمتي ما أراه مناسبا للإذاعة في مجلة دينية ضيقة لها من الأعمال ما لو أصبحت يومية ما وسعتها، و أنا أعلم أن فريقا آخر من دخلاء العلم سيتلقون كلامي هذا ساخطين عليه مزورين عنه و أن فريقا آخر من حملة الهداية الصحيحة سيلقونه راضين عنه.
    و أنا على غضب أولئك و برد هؤلاء سوف أذيع ما أراه حقا لا إجابة لهوى كمين في النفس و لا قضاء لشهوة من الشهوات و لا رغبة في الانتقام من فريق و لا حبا في تخطئة أناس أمر الله أن نقول في حقنا وحقهم: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) (5) ، و إنما الدين يأمرنا أن ندفع عنه ما ليس منه والرجوع إلى حق تبين، أحسن من متابعة أناس في أمر تبين خطؤه. و قبل الشروع في المقصود ندلي بمقدمة نجعلها تمهيدا لما إليه قصدنا و على الله- المنفرد بالتشريع على لسان خير شفيع- اتكالي و هو حسبي و نعم الوكيل.


    --------------------------
    (1) إحدى مدن الشرق الجزائري.
    (2) نسبة إلى البابا الرئيس الديني للكنيسة.
    (3) نسبة إلى الكهنوت الذي هو وظيفة الكاهن ورتبته، ورجال الكهنوت هم رجال الدين عند اليهود والنصارى.
    (4) حاجاتهم.
    (5) سورة الحشر آية 10.
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو إبراهيم علي مثنى; الساعة 29-09-2009, 12:05 PM.

    تعليق


    • #3
      التمهيد

      الأدلة التي تثبت بها الأحكام والأخلاق الدينية الكتاب إجماعا والسنة الصحيحة كذلك، و السنة أقواله و أفعاله و إقراره وشمائله، صلى الله عليه وسلم، و الإجماع بشروطه و منها (6) أن يكون له مستند و القياس بشروطه و منها (7) أن يكون حكم الأصل المقيس عليه منصوصا و منها أن لا يكون الفرع معارضا بنص.
      إذا تقرر هذا جزمت بأن العمدة في دين الله الكتاب و السنة ليس غير. أما الإجماع فقد عاد إليهما (8) باشتراط المستند، غايته رفع الاحتمالات و الأنظار عن دليله. و أما القياس فلا يصار إليه إلا عند الضرورة و هي عدم النص من كتاب أو سنة فإن وجد النص منهما أو من أحدهما كان القياس فاسد الاعتبار. و إذا تم القياس فقد قال القائلون به إنه يتضمن دليل المقيس عليه المنصوص بالكتاب أو السنة اللذين هما مصداق قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ) (9) ، وهي من آخر ما أنزل من القرآن (10) .

      و مما لا نزاع فيه عند أهل السنة أن العقل أو العادة أو الشهوة لا حكم لها في دين الله المعصوم، و إنما العقل آلة خلقها الله ندرك بها ولا حجة بحكمه إلا في أصول الدين (الاعتقادات). و من المقرر: إن كنت ناقلا فالصحة وإن كنت مدعيا فالدليل، و أن غير المعصوم محكوم بهذه القاعدة بلغت ما بلغت مكانته أو علمه أو إصلاحه.

      و من المدون في علمي العقائد و السنن أن رد النصوص استهزاء بها أو إيثارا لغيرها عليها كفر، و من المذكور في علمي الفروع و الخلافيات أن ترك السنن و تقليد الرجال بدعة و ضلالة. و من المدون أيضا أن السلف في القرون الثلاثة كانوا يقتدون بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم و أن المذاهب الإسلامية المعتبرة كانوا يتبعون الوارد و خلافهم في مسائلهم تابع لما بأيديهم من السنن و الآثار، و إذا ثبت الحديث فهو مذهب الجميع.
      و أنه لا يعلم إمام يعرض عن سنة تبينت اتكالا على أن صالحا أو عالما خالفها، فإن أقل ما يقتضي ذلك الفسوق. جعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

      وبما أن حزب (11) الإصلاح الديني ليست له غاية شخصية ينشدها ويترامى من ورائها وإنما غايته وهمه في هذه الحياة؛ المحافظة على الدين محافظة ترضي صاحب هذه المهة وتحذو حذو السلف الصالح، فإني أقبل كل من يبين لي فساد ما ذهب إليه وأغده أخا لي ناصحا وأذكره بقول من قال: ((رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا)) (12) على شريطة أن يرد علي من جنس الأدلة التي تعتمد ولا يفعل كما فعل بعض المروجين للبضاعة من الاستدلال بأقاويل الرجال، فإن من رام الاعتماد على غلطات الرجال لم يعدم دليلا لأي شنعة. و إنما الأدلة التي أخضع إليها وأهتدي بها هي التي تأتي من عصور الحجة، وإذا جاءني بكلام لا يعرف له وجها عند أرباب الصناعة بالأخبار والآثار فإني أعد كلامه ساقطا عن أمم (13) لا يحتاج إلى الرد. و بعون الله سأجعل كل لحمة من لحم الطرائق التي اشتهرت و ذاعت بيننا منفردة ببحث وأقيسها بعصر السلف فإن وجد لها أصل بينهم قبلناها وعملنا بها وعززناها وما لم نجد له أصلا في أيامهم ولا عرفا فيما بينهم اعتقدنا أنها بدعة محدثة مشمولة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (14) فلترد. ومن نصرها كان له من الوزر مثل أوزار من أحدثها، وكان في أمره متبعا غير سبيل المؤمنين وآخذا بغير هدي محمد صلى الله عليه وسلم وليس بعد هدي محمد صلى الله عليه وسلم إلا الضلال.
      ------------------
      (6) أي: من شروط صحة الإجماع.
      (7) أي: من شروط صحة القياس.
      (8) أي: الكتاب والسنة.
      (9) سورة المائدة آية 3.
      (10) نزلت بعرفة يوم حجة الوداع وقد أتى المؤلف بمن التبعيضية وذلك لأن هذه الآية من جملة أخريات القرآن، فآية الربا والدين والكلالة نزلت بعدها.
      (11) استعمل كلمة الحزب بمعناها اللغوي وهو: الجماعة من الناس، وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم حزب وإن لم يلق بعضهم بعضا.
      (12) هذا القول يروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
      (13) القصد والطريق البين.
      (14) البخاري 2697 ومسلم 1718 من حديث عائشة.

      تعليق


      • #4
        بدعة تحديد الأذكار لأتباعهم

        من البين لجميع من عرف الطرائق التي غضت بها الجزائر؛ أنها اشتركت في أمور و امتازت كل واحدة بخواص تجعلها منفصلة عن البقية تستحق بها اسم: طريقة فلان. و قد وضعوا طرائقهم كالشرع الموضوع المتبع، و بنوا هذه الأذكار على أوضاع وهيآت و ألحقوا بها أدعية أحدثها من أسس الطريقة.

        و من الشائع الذائع:

        أن هذه الأذكار يعطيها رؤساء الطرائق أو من يقيمونه و يسمى بأخذ الورد أو رفع السبحة و يعينون أعدادها و صيغها و أوقاتها و ما يرتئونه من آدابها.
        و نحن نعرض عملهم هذا و نقيسه بالهدي النبوي و عمل السلف فذلك الدين، و ما لم يعرف في هذه الأيام بعموم أو خصوص فليس من الدين.
        و ما دام ليس من الدين فإنكاره قربة و الاعتراف به بدعة.
        إن استقراء الشريعة دل على أن ما تعبدنا الله به جاء على ضربين:

        1- ضرب تولى الله تعيينه في نفسه و في عدده و في وقته، كالصلوات الخمس في الفرائض و كركعتي الفجر في النوافل و كرمضان في صوم الفرض وع رفة في النفل.
        2-و ضرب آخر طلبه منا طلبا و أوكل تعيين عدده و وقته إلى قوة المكلف و ما جعل عليه مسيطرا و لا وكيلا و له في نفسه أن يعين ما شاء في أي وقت شاء على ما تعطيه القوة البشرية.
        و الأذكار في غالب أمرها من هذا القبيل و ما سد عن هذا غير قليل كسبحان الله والحمد لله والله أكبر دبر كل صلاة تولى الشرع تحديده (15) .
        و الأذكار ورد الأمر بها في كتاب الله في غير ما آية قال الله: ( وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) (16) ، و قال: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (17) ، وقال: ( فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ) (18) الآية، وقال: ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) (19) الآية.

        و الآيات كثيرة و لا يوجد في العبادات إذا تتبعت الأدلة المبثوثة في الشريعة أكثر من الذكر طلبا و ورد الأمر بها سنة:
        أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) (20) ، و أخرج مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأن الميزان وسبحان الله والحمد لله تملأن- أو:- تملأ ما بين السموات والأرض )) (21) ، و أخرج البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)) (22) .

        و قد بوب رجال الصحاح للدعوات و الأذكار أبوابا و فصولا جمعوا فيها ما ثبت عن رسول الله من الأذكار و الدعوات و ما دار بها ما لا مطمع لي في تسطيره.
        و قد اعتنت الأئمة الأثبات عناية فوق هذه و ألفوا كتبا صحاحا في عمل اليوم و الليلة رووا فيها ما ثبت من الأذكار و الأدعية بأسانيدهم.
        فمن هذه الكتب (عمل اليوم و الليلة) للإمام أبي عبد الرحمن النسائي و كتاب الإمام أبي بكر أحمد بن محمد بن إسحق السني و كتاب الإمام النووي و غيرها مما هو معروف، و قد أتوا على حالات الإنسان و تاراته (23) اليومية و الليلية و ساقوا ما فيها من أحاديث و آثار، فمنها ما رغب الشرع في عدد منها طلبا للكثرة و منها ما طلبه طلبا مطلقا موكولا لقوة الذاكر يزن نفسه ثم يثبت ما يستطيع أن يداوم عليه. و ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مدة عمره حدد الأذكار لأحد من أصحابه تحديدا يماثل تحديد الطرقيين على اختلاف أسمائهم.
        و لا تقل عن أحد من السلف أنه حدد الأذكار لغيره ممن عاصره فضلا عن أن يجعله ذكرا شائعا ذائعا يعرف بذكره طريقة فلان. ومن ادعى غير هذا فليدلنا عليه من طريق صحيح عند أهل العلم.

        و نحن نعتقد أن الذكر كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يتول تحديده و لا توقيته. و كل من تعرض لتحديده أو توقيته أو إدخال أفي زيادة كيفما كان شأنها فيه عما كان في عصره؛ يعد مبتدعا مستدركا على الشريعة.
        و نحن نعتقد أن السلف رضي الله عنهم لما لم ينقل عنهم تحديد و لا توقيت و هم أهل الدين صدقا و أصحاب الذكر حقا دل على أنهم فهموا من الشرع عدم التحديد و التوقيت. و لن يستطيع آخر الأمة أن يأتي بهداية لم يأت بها أولها.
        و نحن نجزم بأن السنة في فعله صلى الله عليه و سلم و قد ترك التحديد و أن الخير في اتباع من سلف وقد تركوا التحديد والتوقيت، فالبدعة و الشر في التحديد والتوقيت، و هو ما لم تتركه طريقة من الطرائق، و لنورد شيئا من كلام المحققين يخدم هذا الغرض.


        ------------------
        (15) مثال ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة، وحمد الله ثلاثا وثلاثين مرة، وكبر الله ثلاثا وثلاثين مرة فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)).
        (16) [ العنكبوت: 45].
        (17) [ البقرة:152].
        (18) [ الصافات:143].
        (19) [ الأنبياء: 20].
        (20) البخاري 7563 ومسلم 2694.
        (21) مسلم حديث رقم 223.
        (22) البخاري رقم 6407.
        (23) جمع تارة: الحين.

        تعليق


        • #5
          قال أبو إسحاق الشاطبي في مآخذ البدع و أهلها في الاستدلالات على ما انتحلوا:
          (( و منها تحريف الأدلة (و قد علمت أن منها لفظه و عمله صلى الله عليه و سلم) (24) عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى آخر (كذكر الله) موهما أن المناطين واحد و هو من خيبات تحريف الكلم عن مواضعه )) (25) . إلى أن قال: (( و بيان ذلك: أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات فأتى به المكلف في الجملة أيضا كذكر الله و الدعاء و النوافل المستحبات مما يعلم فيه التوسعة شرعا كان الدليل عاضدا لعمله من جهتين، من جهة معناه، و من جهة عمل السلف به. فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مقارن لعبادة مخصوصة و التزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية المخصوصة أو الزمان أو المكان مقصود من غير أن يدل الدليل عليه كان بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه. فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص من سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص بل فيه ما يدل على خلافه )) (26) . أهـ
          ثم حكم ببدعية ما كان على هذا الوصف، و ما ذكره يجري في تحديد الأذكار للأتباع و تزيد عليه بما انجر للعوام من هذه البدعة الفظيعة، فقد أصبح بعض أسماء الله من ميزة طريقة فلان فمن لم يأخذ عهده و ورده لا يحوم حول ذلك الاسم، و أي شر بقي بعد هذا و أقي (كذا في الشَّاملة و الذي يظهر أنَّه تصحيف و الصَّواب: أقل. و الله أعلم. ضياء) إلحاد في أسماء الله شر من هذا و تزيد عليه أيضا بقلب معالم الإسلام ظهرا لبطن.
          فقد كان من مبادئ الإسلام الأولية أن المسلم يتلقى الأحكام من ينبوعها؛ و هو ما جاء به الرسول من غير استئذان أحد و لا واسطة أحد، فصير شيوخ الطرائق الذكر يتوقف على إذنهم و تابع لميولهم و أهوائهم. و لعل زاعما يتوهم أن هذا التحديد و التوقيت لا يضر، و قد قصد واضعوه الخير فنقول: أخطأ الواهم في و همه فإن السلف الذين شاهدوا عصر النبوة لما وقع بين أيديهم شيء أقل من هذا و لا يشاركه في غير أن الرسول لم يفعله أنكروه و عدوه ضلالة.
          فتفهم -رحمك الله- رأي الصحابة فيمن خالف ما كان عليه نبينا صلى الله عليه و سلم كيف ضللوه و أنكروا ما أتى به ولم يعذروه ولا تأولوا له وجها و لا نقبوا له عن نية، بل مخالفته كفتهم دلالة على إنكار ما أحدث. و تأملوا يا أولي الألباب و يا رجال العلم فيما أحدثه أشياخ الطرائق فإنهم يحدثوننا بأن حكما و أسرارا أخفيت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على سلف الأمة أدركها هؤلاء المستدركون و أن فضائل و خواص في أعداد لم يهد لها نبي الرحمة و هدي إليها هؤلاء الأقوام الذين تجارت بهم أهوائهم إلى أبعد مدى!!!.

          ولا بأس بنقل شيء من آثارهم يستدل به على ما نقول. من ذلك ما نقله أبو إسحاق الشاطبي (27) عن ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال: مر عبد الله (يعني ابن مسعود) برجل يقص على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشرا و هللوا عشرا، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو أضل؟ بل هذه يعني أضل و في رواية عنه: أن رجلا كان يجمع الناس فيقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله، قال: فيقول القوم و يقول: رحم الله من قال كذا و كذا مرة الحمد لله، قال: فيقول القوم قال: فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: فديتم لما لم يهتد له نبيكم أو إنكم لتمسكون بذنب ضلاله.
          و ذكر له أيضا أن أناسا يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم و قد كوم كل رجل منهم كوما من حصى قال فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد و يقول لقد أحدثتم بدعة وظلما و قد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما (28)
          .


          ------------------
          (24) ما بين القوسين من كلام الشيخ العربي التبسي.
          (25) راجع كتاب الإعتصام للشاطبي: (2/ 59 طبعة مشهور).
          (26) الاعتصام2/ 60.
          (27) في الاعتصام2/ 323- 324.
          (28) أثر ابن مسعود عند ابن وضاح في ذم البدعة رقم 17، 19، 20 وعبد الرزاق في المصنف 5408 و 5409، والطبراني في الكبير 8629، 8630و 8633 وأبي نعيم في الحلية 4/ 380- 381 والدارمي في سننه رقم 210، والأثر صحيح بمجموع طرقه.
          التعديل الأخير تم بواسطة أبو أحمد ضياء التبسي; الساعة 12-09-2009, 01:03 AM.

          تعليق


          • #6
            بدعه إعطائهم العهود للأتباع


            لست أعلم شبهة شرعية و لا مصلحة دنيوية قضت بها تصرفات الملة تبزر ما أحدثه أشياخ الطرائق؛ من إعطائهم هذه العهود التي فرضوها على الأمة، و من عقدهم هذه البيعات العامة الشاملة للذكور و الإناث، عقدا تغلغل في نفوسهم؛ فحرسوها بكل ما أوتوا من قوة، حتى إن الرومان و دوراته لم يستطع أن يغالبها و لا أن يقفل من أمرها شيئا، بل ما ازدادت الأيام تأخرا. و العلم ضعفا و الدين غربة إلا زادت صولة و قويت شوكة، مغايرة لكل سبب من أسباب الدين و العمران، و متميزة عن كل ما جاء به صاحب الملة، و لو كانت خيرا لقلت كالخير كله (29) .

            و إذ كان الخير منها بعيدا و الشر منها قريبا بقيت حية يستطير شرها استطارة النار كلما زادت الأمة جهلا بدينها. و يا ليت شعرى! من أي نافذة من نوافذ الدين و أي باب من أبوابه خرجت إلينا هذه البيعة الشيعية؟ التي أنزلها شيوخ الطرائق من دين لأمة منزلة جواز السفر للنازحين من أوطانهم. و طالما فكرت في أمرها و بحثت عن مآخذ أهلها، و سند أربابها، و الآخذين بها، و الذائدين (30) عن حياضها، فما وقعت عيناي على شيء غير وساوس يعتمدها هؤلاء الناس الذين شرعوا لنا بيعة على طاعتهم و تقليدهم بعد رسول الله، صلى الله عليه و سلم و صحابته الأبرار و تابعيهم بإحسان.
            فإن قام في نفسي أن هؤلاء الرهاط الذين يعطون العهود و يعقدون البيعات مستندون إلى بيعات صدرت منه صلى الله عليه وسلم في أحوال و لمقتضيات مختلفة لأقوام، صدني عما قام في نفسي أن هذا النوع من الاستدلال لا يتم إلا بجعل إحدى مقدماته الهوى.
            و الطرقيون يأبون علينا هذا حتى رأيت بعض المتكلفين الذي رماني سوء البخت (31) بمقاولتهم (32) ، فيا له و يا للمسلمين و يا للعلم من هؤلاء العلماء الزائفين، و من أوهامهم و عظائمهم و اغترار الناس بهم.

            أي شبه و أي مناسبة بين بيعات فعلها رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم بوحي إلهي لأمور رآها ليس شيء منها يصلح أن يكون دليلا و لا شبه دليل و بيعات الطرقيين؟؟ و لو أجهدت نفسك و نقبت مسالك العلل و الاستنباط لم تستطع أن تأتي بجامع بين بيعاته صلى الله عليه وسلم و بيعاتهم- عفا الله عنهم و رزقهم توبة تذهب عنهم الابتداع الذي مسخهم. فبيعاته صلى الله عليه وسلم كانت إما لأقوام حديثي عهد بكفر يبايعهم على التزام تكاليف الإسلام و يعاهدونه على أن لا يرجعوا إلى سابقهم المظلم، يأخذ عنهم العهد رجالا و نساء كما وقع يوم فتح مكة. و إما لمصلحة حربية كبيعة الرضوان. و أشياخ الطرائق يبايعون أمة إسلامية لا عهد لها بشرك، و بيعاتهم على أمور لم يبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدا من صحابته عليها و ما فهم الصحابة من بيعاته ما فهمه أشياخ الطرائق من مبايعة الأمة على أمر جعل الله أمرها في سعة. فمضت أيام الصحابة و أيام تابعيهم بإحسان على ذلك، و منهم من كان. يقتدي به حتى في الأمور العملية كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه كان يوقف ناقته أين أوقف رسول الله ناقته. و ما حدثنا مؤرخ و لا قص علينا أثري و لا حدثنا محدث بأن السلف كانوا يعطون العهود و يلقنون الأتباع، و كيف يفعلون عبادة من تلقاء أنفسهم.
            و قد تاه بعض المتكلفين فزعم أن القوم من الصحابة و التابعين إنما أهملوا أمر البيعة حذرا أن يتهموا في أمر الإمامة الكبرى، و ذهب مع الأغلوطات إلى أقصى غاية، و غفل عن مكانة القوم من الصحابة و التابعين الدينية و قاسهم على نفسه و فساد مذهبه، و وزن السلف- كذبا- بحالته. و ما درى المسكين أن أمور الدين فوق الأعاليل. أضف إلى ذلك أن منهم من لا يهتم بهذه الخلافة و هم كثرة مطلقة، و الخلفاء أنفسهم الذين استقر لهم الأمر لم يعطوا هذه العهود الفاسدة و لا أوصوا بها طول عمرهم أحدا.
            و لعمري إن من يزعم هذا الزعم لهو راميهم بما لا يناسب ما هم عليه من العدالة و الدين الكامل، و المحافظة عليه، و إنكارهم على من خالف شيئا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم و إن كان خليفة أمر بذلك لملئت به صحائف المحدثين. و حكاياتهم مع معاوية رضي الله عن الجميع (في الماوزياد) (33) و في بعض تصرفاته حتى قال له أبو الدرداء: ((لا أساكنك بأرض الشام ))، أكبر مفند لهذه الدعاوي الباطلة.
            و الصوفية (34) الذين شهد لهم أهل العلم بالاستقامة إنما بنوا طريقتهم على التأسي به صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم. وليس في السنة ما يدل على مشروعية هذه العهود الجارية بيننا. فمن أدخلها أو نسبها إليهم ككل هذه الشرور التي يتقلب فيها أبناء الزوايا و أذنابهم، فقد جنى عليهم رضي الله عنهم شر جناية و أدخل في طريقتهم ما تبرأوا منه من الابتداع منذ نشأتهم.
            و إن ثبت عن أهل العدالة منهم شيء يخالف السنة فليظن بهم خيرا و أنهم اجتهدوا و أخطأوا، و لا إثم على من اجتهد مخلصا في نيته و إن أخطأ، و إنما الإثم و الابتداع و كل الشر في اعتقاد أنهم لا يخطؤون، أو السير وراءهم في خطئهم.
            و ليعلم شيوخ الطرائق و ذيولهم، أنه لو شاهد أئمة الدين هذه العهود التي اتخذها أشياخ الطرائق حبالة (35) شيعية لتضليل الأمة و غلا ثقيلا يضعونه في أعناق أمة إسلامية جاهلة حتى رقوا منهم هذا المرقى الصعب؛ لكان لهم على الطرقيين و أتباعهم و بدعهم و ضلالاتهم مواقف مشهودة، و حملات شديدة تدع أشياخ الطرائق و صنائعهم عبرة للمعتبرين.




            و ها أنا وقفت بك أيها المسلم المحب لدينه المتبع لنبيه صلى الله عليه وسلم أن عهود أشياخ الطرائق ضلالة محدثة لم يفعلها صاحب الملة و لا سلف الأمة.
            و كأني بجاهل يطعن في هذا الكلام بأن حاصله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحابته و أئمة الاجتهاد تركوا هذه العهود و لم تعرف في أيامهم و حاصل ذلك ترك منهم و الترك لا يوجب حكما في المتروك و من أحدثها رام منها فوائد دينية إلى غير ذلك مما يقوله دخلاء العلم.
            و قد سمعت ما يشبه هذه الجهالات من الأخوين الدجالين الذين جمعني بهما سوء البخت و موت العلم في هذه البلاد (36) حتى طمع فيها كل جاهل رمت به الجماعة إلى خنشلة المسكينة ليروج الأكاذيب و يتقول على الناس بما يعلم هو قتل سواه أنه كذب دعاه إليه ملء بطنه- إن طعن في هذا الكلام بهذا الطعن (37) ، قلنا: إن ترك صاحب الملة و سلف الأمة لأمر من الأمور على وجهين:

            الأول: أن لا يوجد سببه و لا ينزل بالأمة ما يدعو له و لا إلى التكلم فيه، فهذا السكوت عنه لا يوجب حكما معينا في المتروك، دليله قائم في عمومات الشريعة اللفظية أو المعنوية.

            الوجه الثاني: أن يوجد سببه و تتوفر علله و يترك العمل به منه صلى الله عليه و سلم أو من سلف الأمة، فالترك في مثل هذا كالنص اللفظي المحتم على أنه لا عمل فيه و أن الترك هو حكم الله.

            مثلا الذكر أو العهود أسبابها قائمة و الداعي إليها موجود و رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك تحديد الأذكار و العهود.
            الأمر الذي ينشده أشياخ الطرائق عند حسن الظن بهم فيها موجود، و السلف تركوها و قد ظهر في أيامهم ممن لم يخالط بشاشة الإيمان قلبه ما ظهر من الردة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه و غيرها، فما أعطوا هذه العهود و لا سمع بها في أيامهم و ذلك دليل قاطع على أن العهود الطرقية لا يعرفونها، و أنه لا زيادة في الأذكار و الهداية الإسلامية على ما كان عليه سلف الأمة.

            و إذا ذكرت أيها القارئ أن العبادات في أمنع مكان عن الأقيسة الواهية و الاستحسانات، فقل إلى أشياخ الطرائق: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (38) .

            ----------------

            (29) أي كما قل الخير كله.
            (30) جمع ذائد: الحامي.


            (31) البخت: الحظ.(32) المقاولة: المناظرة في قضية ما.

            (33) كذا في المطبوع.
            (34) المراد بالتصوف هنا الزهد والتعبد على وفق ما جاءت به الشريعة غير أن استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى لا يخلوا من نظر وقد وقفت على كلام نفيس للشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله له صلة بما نحن فيه، ذكره في ثنايا ردّه على الطرقيين.
            قال عليه رحمة الله: ((... ونحن نعلم من طريق التاريخ لا من طريق الشهرة العامة أن بعض أصحاب هذه الأسماء الدائرة في عالم التصوف والطرق (أمثال الجنيد، القشيري، المحاسبي) كانوا على استقامة شرعية وعمل بالسنة ووقوف عند حدود الله. فهم صالحون بالمعنى الشرعي، ولكن الصلاح لم يأتهم من التصوف أو الطرق وإنما هو نتيجة التدين. وفي مثل هؤلاء الصالحين الشرعيين إنما نختلف في الأسماء فنحن نسميهم صالحي المؤمنين وهم يسمونهم صوفية وأصحاب طرق، فيا ويلهم إن طريقة الإسلام واحدة فما حاجة المسلمين إلى طرق كثيرة.
            ما هذا التصوف الذي لا عهد للإسلام الفطري النقي به. إننا لا نقره مظهراً من مظاهر الدين أو مرتبة عليا من مراتبه. ولا تعترف من أسماء هذه المراتب إلا بما في القاموس الديني: النبوة والصديقية والصحية والاتّباع، ثم التقوى التي يتفاضل بها المؤمنون ثم الولاية التي هي أثر التقوى، وإن كنا نقره فلسفة روحانية جاءتنا من غير طريق الدين ونرغمها على الخضوع للتحليل الديني.
            وهل ضاقت بنا الألفاظ الدينية ذات المفهوم الواضح والدّقة العجيبة في تحديد المعاني حتى نستعير من جرامقة اليونان أو جرامقة الفرس هذه اللفظة المبهمة الغامضة التي يتسع معناها لكل خير وشر.
            ويمينا لو كان للمسلمين يوم اتسعت الفتوحات وتكونت (المعامل) الفكرية ببغداد ديوان تفتيش في العواصم ودروب الروم ومنافذ العراق العجمي لكانت هذه الكلمة من المواد الأولية المحرمة الدخول.. فقد أصبحت هذه الكلمة التي غفلوا عنها أُمّا ولوداً تلد البر والفاجر ثم تمادى بها الزمن فأصبحت قلعة محصنة تؤوي كل فاسق وكل زنديق وكل ممخرق وكل داعر وكل ساحر وكل لص وكل أفاك أثيم. وانظر طبقات الشعراني الكبرى وما طبع على غرارها من الكتب تجد أصناف المحتمين بهذه القلعة- وهم ببركة حمايتها- طلقاء من قيود الشريعة.
            وإن هذه القلعة لهي المعقل الأسمى والملاذ الأحمى لأصحابنا اليوم فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي وكل آكل للدنيا بالدين صوفي، وكل ملحد في آيات الله صوفي، وهلم سحباً)). أهـ (سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ص30- 31).
            (35) الحبالة: المصيدة.
            (36) أي: مدينة خنشلة.
            (37) وهو قوله: (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة الاجتهاد تركوا هذه العهود ولم تعرف في أيامهم وحاصل ذلك ترك منهم والترك لا يوجب حكما في المتروك ومن أحدثها رام منها فوائد دينية)).
            (38)[ النور: 63].

            تعليق


            • #7
              بدعة تصديهم للدعوات

              إن من علم قليلا من مبادئ الأديان، يعلم أن أشياخ الطرائق لم تتسرب إليهم هذه العقلية إلا من أمة أجنبية عن الإسلام، لرؤسائها هذه الزعامة التي تؤهل صاجبها لهذه السلطة الواسعة النفوذ في عالم الغيب الدنيوي والأخروي، فاقتبسها أشياخ الطرائق من بعض من دمس-كذا في الشَّاملة؛ و لعلَّها: دسَّ.ضياء- نفسه في هذه الأمة التي قطعت نظرها عن هدي سلفها، فتخبطت في حمأة الجهالات ووجد كل دخيل يريد الشر بالإسلام بابا مفتحا يلج منه إلى الفتك بالملة وأهلها.
              خدع أشياخ الطرائق بهذه الرئاسة المبتدعة- رئاسة تصديهم للدعوات- فأدخلوها إلى دين الإسلام، ذلك الدين الذي لا يعرف ولا يبيح لمخلوق أن يضع نفسه في هذا الموضع المملوء بالشوك والريب في الدين. ومن تأهل لهذه الدعوات فدين الإسلام- الذي أمر فيه نبيه بأن يخاطب الإنسانية على تباين أجناسها واختلاف لغاتها وتباعد أزمانها، بأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بتقوى الله، وأنه لا يغني أحد عن أحد شيئا (39) ، وأن الأعمال بالخواتيم (40) ، وأن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه (41) - فحال أن يعقل فيه التسامح لأي مخلوق لم تثبت له عصمة أن يؤهل نفسه لهذه الدعوات التي جنّ بها أشياخ الطرائق وأذنابهم جنونا أنساهم كل ما في دينهم مما ينقض هذه الوظيفة الدخيلة في دين الإسلام، الغريبة عن تعاليمه المتروكة من سلف الأمة الممقوتة في دينهم المتلقي عن نبيهم.
              وقد جلبت هذه البدعة السمجة (42) على الأمة عقلية هي أمس العقليات بعقل بعض الأمم اللاتينية قبل هذه العصور المتأخرة، تلك العقلية التي كانت معولا من معاول الهدم في أممهم، وداء عضالا في جسم الشعوب، وآية بينة على سفه العقل البشري.
              وقد كانت الدعوات أيام السلف رضي الله عنهم مستعملة مرغبا فيها في حدود ما تلقوه عن صاحب الملة يدعو الفرد منهم لنفسه ولأخيه أو للأمة من غير أن يرى من نفسه فضلا له أو مزية أو خصوصية تجعله قمينا (43) بإفراغ الدعوات على ما يشاء إفراغا، وجديرا بالدعوات المستجابة التي تجعل الناس تشد إليهم الرحال من أقصى البلاد إلى أقصاها لتغترف من دعواتهم كما فعل أشياخ الطرائق قبل الآن، وفي هذه الأيام التي أصبحوا فيها يغتصبون الولاية والصلاح اغتصابا رضي الصلاح أم أبى، وسلم العلم أم أنكر.

              وحاشا السلف أن يفعلوا ما لم يأذن فيه الدين، أولئك الأبرار الذين لا يعدلون عن دينهم ولا يؤثرون عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولا يخرجون المشروعات وسنن الهدى عما سمع من المشروعية بزيادة أو نقصان أو تحوير (44) ، وفي آثارهم القولية والعملية ما فيه شفاء العلل ودواء لكل داء أصيبت به الأمة من شرذمة من أبنائها وأهل مقتها. وسيمر بك إن شاء الله شيء يختصر هذا الموضوع، تفهم منه أن أشياخ الطرائق قد خالفوا صالحي الأمة من الصحابة والتابعين في تصديهم للدعوات، وانتصابهم للوسيلة التي أعطوها لأنفسهم من غير رضى الدين، فاغتر بهم الجاهل وقوي بهم المبتدع على تضليل الأمة عن هدي سلفها الصالح، وأوجدوا في الأمة حالة عقل وخلقية انقلبت بها الأمة شر انقلاب إلى أسوأ حالة جاءت الرسل باقتلاعها ومطاردتها.
              ونظرة قليلة فيما آلت إليه حالة مسلمي الجزائر الدينية، تجعل المسلم المحب للإسلام الحق يغير في وجه هذه البدع التي كادت تجعل الشعب شعوبا متباينة بسبب مثل هذه الدعوات الطرقية وما إليها مما تفرقت به جماعتها، وحملها على التصديق بكل وهم وخرافة حتى باتت ملكة التفكير والنقد ضعيفة إلى حد سفه العقل، وذهاب ميزته التي هي الفصل بين الحق والباطل.
              وكلنا يعلم أن هذه الدعوات التي يعطيها أشياخ الطرائق تركت في نفوس الجماهير أسوأ الآثار، وأقبح الاعتقادات المعادية للأوليات الإسلامية التي تنادي وتوحي إلى كل مسلم أن عالم الغيب وما فيه بيد خالقه، فجاءت الدعوات الطرقية ومدت يدها إليه وتصرفت فيه جميع أنواع التصرفات والمعاوضات وصيرته تحت مشيئتها.
              فكم من إجارات عقدها أشياخ الطرائق عوضها دعوة من الدعوات على أمور بيد بارئها، استأثر بعلمها ولم يجعل لنا طريقا إليها. فباعت أشياخ الطرائق الأمطار وما في العالم العلوي، وتدخلوا في الأجنة في بطون الأمهات وظلام الأرحام؛ وعقدوا فيها الإجارات ونصبوا لها أسواقا وربما حددوا الأثمان لها.


              وكم من حرائر سقن من منازلهن كما تساق الأنعام إلى منازل شيوخ الطرائق إجارة على شفاء عليل أو رد ضالة. وكم من مسلمة تجردت من حليها وأصبحت عاطلة في العواطل عقدها أو حجلها (45) أو سوارها ذهب عوض أمنية غرت بها في أحلام وأماني. وكم من عقود أبرمت على الخلاص من الآثام والدخول إلى الجنة بضمانات أشياخ الطرائق.
              وكم من عظائم سمعنا بها ارتكبها أشياخ الطرائق عادت على مبادئ الدين بالنقض والإبطال ووقفت في وجه عمل السلف الصالح.
              علام تستحل أموال الأمة بهذه الخدع الشيطانية، ويتلاعب بهم هذا التلاعب الذي لم يسمع الناس بمثله قبل ظهور متصوفة الزمان ومن تقدمهم بقليل؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ))(46) . ((من غشنا فليس منا)) (47) ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها)) (48) .
              من ذا الذي يحمل إيمانا كاملا بين جنبيه ويسكت عن هذه المخالفات الصريحة المعاندة لما عرف من شرعه صلى الله عليه وسلم المتلقي عنه تلقيا يقطع دابر تحريف المحرفين وانتحال المبطلين.
              أين تقع هذه الدعوات البدعية الطرقية التي طاروا بها كل مطار من دعوات الأقوام المحدثين (49) كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأويس القرني وسعيد بن جبير وأمثالهم؟
              وهل أتى عن أحد منهم في خبر كاذب أو صادق أنهم كانوا يرون من أنفسهم التصدي للدعوات، والتأهل لإجابة الرغبات كما يرى لنفسه رهط الطرقيين الذين رأوا من أنفسهم التصدي للدعوات وإبرازها إلى الأسواق وعرضها للمزايدات العلنية.

              الحق أن متصوفة الزمان ومن تقدمهم بزمن كانوا وصمة عار لا تنمحي، ونقطة سوداء في جبين الإسلام البريء من النقص، والمسلمين الذين فهموا الإسلام كما أراده صاحبه وأهل التصوف الحقيقي أمثال الجنيد والقشيري والمحاسبي الذين كانوا خلاصة أهل السنة في أيامهم، فانتسبت إليهم هذه النابتة المتأخرة وصيرت طريقتهم كالملة المستقلة عن ملة الإسلام. وكل أمورهم جاءت على خلاف طريقة القوم ولم يحتفظوا بغير الاسم فجاء تصوفهم خلقا جديدا مشوه الصورة، بشع المنظر، سيئ المآل.
              وها أنا قاص عليك أنموذجأ من دعوات السلف رضي الله عنهم إيفاء بالوعد لتزن دعوات الطرقيين بها وكأني بك محكم دينك وعقلك على هذه الدعوات الطرقية. وأكبر العلم إنك ستبرأ من دعوات الطرائق إجابة لدينك وانتصارا لأهل التصوف الحقيقي فإن رجال الإصلاح إنما يدافعون عن أهل التصوف ويذبون (50) عن هداهم حتى لا يختلط المحق بالمبطل.
              أخرج الطبري عن مدرك بن عمران قال: كتب رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فادع الله لي. فكتب إليه عمر: إني لست بنبي ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر لذنبك (51) . فمنعه عمر وأنكر عليه كما ترى، وليست إباية عمر من جهة أصل الدعاء للغير فقد فعله كما في أثر آخر، وإنما أبى عليه إجابة طلبه لفهمه من قصد الكاتب أمرا زائدا على أصل الدعاء يخرجه عن أصله كما يرشد إليه قوله: ((لست بنبي )). ويدل على ما قلنا: ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه لما قدم الشام أتاه رجل فقال: استغفر لي. فقال: لا غفر الله لك. ثم أتاه رجل آخر فقال: استغفر لي. فقال: لا غفر الله لك ولا لذاك أنبي أنا (52) ؟ فهذا الأثر قد أوضح أن سعدا رضي الله عنه لما بان له أن الرجلين فهما من دعائه ما لم يؤذن له فيه شرعا من المقاصد التي تخرج المشروع عن مشروعيته؛ رد عليهما قصدهما بأشد ما يرد المنكر فرارا من أن تنقلب معالم الدين ويبلغ بهم الحال إلى ما بلغنا إليه.

              وعن زيد أبي وهب أن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه: استغفر لي. فقال: لا غفر الله لك. ثم قال حذيفة: يذهب هذا إلى نسائه فيقول: استغفر لي حذيفة (53) . فتأمل كيف رأى أن إشاعة مثل هذا وقصد الناس إليه من أقبح المناكر التي يحثى في وجه صاحبها التراب، فكيف بالانتصاب والتصدي وبعث الدعاة إلى الجهلة لطلب هذه الدعوات؟
              وتأمل مذهب مالك رضي الله عنه في قوله بكراهة تصدي أئمة المساجد إلى إعطاء الدعوات وتصدرهم لها كيف كرهها، ونقل أصحابه في ذلك أثرا عن عمر. وليس فيما أنكره السلف وما كرهه مالك من تصدر الإمام للدعاء من المفاسد وما يجتمع في أبعد جنس مع ما حف بأدعية الطرقيين من سوء الاعتقاد وإضلال الأمة.
              ولو عرضنا الطرائق على قاعدة سد الذرائع؛ لقال أهل الإسلام ببطلانها؛ لما جزت إليه من المفاسد ولو كان للطرائق دليل ثابت. فكيف بها والدلائل القائمة تنادي ببدعيتها؟! فتأملوا يا رجال العلم ويا أهل التقوى كيف أصبح المنكر معروفا يذب عنه وينصر ويعتنق ولو صاح علماء الإسلام ألف صيحة. وكيف انقلب المعروف منكرا يبدع قائله ويرمى بأشنع ما يرمى به أصحاب الأهواء، ولا تقبل منه حجة ولو جاء بالدلائل اللائحة وساق الشواهد الثابتة.


              وهذه الحالة تذكرنا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء)) (54) .

              ------------------

              (39) راجع صحيح البخاري حديث رقم 2753 ومسلم حديث 206.
              (40) البخاري حديث رقم 6607.
              (41) راجع البخاري حديث رقم 3208 ومسلم 2643.
              (42) القبيحة.
              (43) جديرا.
              (44) التحوير: التغير.
              (45) الحجل: الخلخال.
              (46) مسلم رقم 2563 من حديث أبي هريرة.
              (47) مسلم رقم 101 من حديث أبي هريرة.
              (48) أحمد 4/ 126- 127 وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية وهو حديث صحيح.
              (49) المحدث: الملهم الصادق الحدس.
              (50) يدافعون.
              (51) انظر الاعتصام2/ 316 وعزاة للطبري في كتابه (( تهذيب الآثار)).
              (52) راجع الاعتصام 2/ 317 وعزاة أيضا للطبري في تهذيب الآثار.

              (53) وتتمه كما في الاعتصام 2/ 317: (( أترضين أن يجعلك مثل حذيفة؟)) وعزاة للطبري في تهيب الآثار.
              (54) مسلم حديث رقم 145.

              تعليق


              • #8
                جزاكم الله خيرا أخانا ضياءً ونفع بكم

                تعليق


                • #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة أبو إبراهيم علي مثنى مشاهدة المشاركة
                  جزاكم الله خيرا أخانا ضياءً ونفع بكم
                  واصل أخي في فضح القوم
                  أصحاب الطرق قموم سوء ما حلوا في دار إلا أفسدوها بفكرهم و عقائدهم الخبيثة

                  تعليق


                  • #10
                    أخانا أبا إبراهيم؛
                    أخي سلطان؛
                    جزاكُما اللهُ خيراً على المرور و التعقيب

                    تعليق


                    • #11
                      الحمد لله

                      ملحق:

                      ((إن كنت حاملا فلدي غلاما))
                      إلى (الناصر معروف)

                      كتب (الناصر معروف) مقالات مطولة في جريدة البلاغ (55) أكبرتها صحيفة البلاغ وأعلنت عنها قبل إذاعتها تنويها بها وأطرتها (56) بعد نشرها، وأهل البصيرة العلمية إذا ترامت إليهم لا يجدون فيها من الفوائد ما يساوي سماعها.

                      والمطلع على جريدة البلاغ يحكم بأن (الناصر معروف) في عالم جريدة البلاغ أمثل كاتب رمت به رياح الأقدار إلى الكتابة في هذه الجريدة. وإن كان سامحه الله لا زال يحمل ما يثقل ظهره من أخلاق وعادات كتاب تلك الجريدة الذين عرفناهم وعرفهم غيرنا بها منذ كانوا وكنا.
                      تلك العادات التي زهدت أهل العلم في مناقشتهم فيما يكتبون من المعتقدات والآراء، فإن من خبرهم (57) خبرة بعيدة عن الجهل، يجدهم يلقون الكلام على عواهنه (58) ، ويريدون أن يخضعوا العلم إلى شهواتهم ويحكموا عليه كما شاءت لهم أهوائهم، كأنما هؤلاء القوم يفهمون أن العلم شعبة من شعب السباب أو الهجر الذي مردوا عليه، وأتقنوا أساليبه وأنفقوا علينا (59) ما زينته لهم أنفسهم ولم يراعوا فينا إلا ولاذمة، ولا حسبوا للكرام الكاتبين حسابا ما دمنا لم نترك حقنا ونؤمن بباطلهم، وصفتهم هذه صفة رواد الحاجات لا صفة أهل الديانة.

                      وقد أهدى إلي (الناصر معروف) كثيرا ما عنده من البهت، ورماني بما زين له شيطانه من ضعف الدين والجهل بالضروريات وقفة التثبت، ومع ذلك لا أجعل للشيطان علي سبيلا وأرميه ببعض ما هو فيه مما يقتنص من كلامه، لأني لا زلت أحاذر أن يصدق علي ولو بالمشابهة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) (60) ، ولكني أقول له ما بقوله له كل من اطلع على كتاباته من أهل العلم: إنه ليسر من أهل العلم الراسخين فيه، ولا ممن يفهم مقاصد الكلام، ولا ممن يصح أن يعتمد على كلامه. وإني أنهي (61) إليك يا (ناصر معروف) أنه لولا مسحة ظاهرية من علم وطلاوة من الشبهات على كتابتك التي أردت أن تغوي بها ضعاف العقول وغوغاء الجهلة ممن يمكن حب الهوى في قلوبهم، لأعرضت عن إجابتك كما صنعت مع ذينك (62) ... وغيرهما، فإن عادتي أن لا أدخل في نزاع مع جاهل؛ ليس في الشغب معه إلا العناء وضياع الوقت في غير فائدة. وقد افتتحت ما زعمت أنه رد على مقالتي (بدعة الطرائق في الإسلام) بجمل خطابية وإلزامات وهمية لم نأخذ منها إلا أنك رجل خيالي. وقد شعرت من نفسك بخطل (63) هذه الجمل فاعتللت بأنك أردت أن تمثل إلي عاقبة أمري، وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (64) .
                      ثم إنك تدعي أني أنكرت أمرا ضروريا، استدلالك عليه من قبيل السماء فوقنا والأرض تحتنا، ولما جئت تدلل عليه لم تقم ولم تقعد في علمه وإظهار الحق فيه، ولم تغن عنك دعوى الضرورة شيئا، بل أذنت لمن رأى دعواك وعجزك الفاضح أن يخاطبك بقول العرب: ((إن كنت حاملا فلدي غلاما)) (65) . وسيعلم (الناصر معروف) أنه تائه في عماية، ذاهب في غواية،لم يعلم حقا لينصره، ولا باطلا ليخذله، على رغم الدعاوي العريضة التي يدعيها، وأنه إلى الآن لم يشعر بنوع دليله الذي أراد أن يرد به علي وأن يجعله سندا للطرائق، أهو من نوع الألفاظ أم من نوع المعاني والأقيسة، بل تختط تخبط الممسوس وجمع بين ما لم أنكر وما أنكرت ورد الجميع بدليل لا يتناول ما أنكرته لا بلفظه ولا بمعناه.
                      وقد حصر (الناصر معروف) في مقالاته ما أراد أن يرده علي في ثلاث دعاوي:
                      1- توقيت الأوقات للأذكار هكذا على إطلاقه الصادق بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عين بعض الأوقات لبعض الأذكار. وإذا لم أنكره ولم أتعرض لإنكاره ولا فهمه أحد غير (الناصر معروف) ومن على هواه من كلامي، والصادق يكون زعيم من الزعماء يعين بعض الأوقات لأذكار يعطيها لأتباعه، وهذا هو الذي أنكرته وما إليه قصدت وما عجز (الناصر معروف) على التدليل عليه وما فهمه الناس من مقالتي بدعة تحديد الأذكار للأتباع.
                      2- تحديد الأذكار والكلام فيه كالكلام في سابقه تفصيلا واعترافا وإنكارا.
                      3- إعطاء العهود وطفق (الناصر معروف) يدلل على ما اعترفت به من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد بعض الأوقات أو الأذكار كأن منكرا في الوجود أنكر هذا وتخيل (الناصر معروف) أني أنكر صدور التحديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأعداد أو الأوقات، وكلامي الذي يرد عليه صريح في أن رسول حدد بعض الأوقات وعين نوعا من الأذكار.
                      وإن كنت أيها القارئ في ريب فإني أعيد لك جملا من كلامي لترى معي أن (الناصر معروف) كان حقه أن يسمي نفسه الخاذل معروفا، فإن هذا أوفق بالمعنى الاشتقاقي وأقرب إلى الصدق.
                      وهاك هذه الجمل وهي قولي: ((وقد بوب رجال الصحاح للدعوات والأذكار)) إلى أن قلت: ((وقد أتوا على حالات الإنسان وتاراته اليومية والليلية وساقوا ما فيها من أحاديث وآثار)) وهذا الكلام لأداء معنى تحديد بعض الأوقات والأذكار من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أداء من (الناصر معروف) لنصر المعروف. ومن قرأه ثم اطلع على ما كتب المقنع بقناع (الناصر معروف) لابد من أن يقول له ما أجهلك بلغة قومك يا غلام. ولو أن (الناصر معروف) وضع عنه الهوى الذي حمله على هذا الفهم المعكوس، لعلم أن الإنكار الذي يصرح به كلامي إنما هو موجه إلى رؤساء الطرائق الذين اخترعوا لنا طرائق نحدد الأذكار، اختراعا لا عهد للإسلام به في عهد التشريع. وكلامي من أوله إلى آخره ينادي بهذا المعنى، والناصر معروف لم يستطع أن يأتي بما يدل على جواز تحديد الأذكار والأوقات من رؤساء الطرائق، بل كان من أعجز الناس عن مس ما كتبت ونقض ما أبرمت، وما استطاع أن يحوم حول التدليل على هذه الدعوى ولا أن يسوق إليها شاهدا واحدا يشهد بصحة تحديد الأذكار تحديدا مخترعا، وإنما ساق كلمة ربما يظن أنها تصلح للتدليل على مدعاه وسيعلم منقلبه فيها.
                      وإليك أيها القارئ هذه الكلمة، التي أراد (الناصر معروف) أن يرد بها على مقالاتي وأن تقوم حجة على دعواه: جواز تحديد الأذكار والأوقات لأتباع الطرقيين.
                      قال هكذا بالحرف الواحد بعد أن أورد جملة من الأحاديث ليس فيها إذن لأحد أن يخترع الأذكار المحدودة والأوقات المعينة، وإنما أثبت هذه الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد بعض الأوقات لبعض الأذكار.
                      قال: ((وهل لا يؤخذ من ذلك وجوب المحافظة من جهة تعميرها (كذا) بأنواع القربات وأحرى الذكر المنصوص عليه (كذا) وهل ترى أن من فهم ذلك من الحديث (كذا) فألزم نفسه وأتباعه بشيء من الأذكار والدعوات الواردة (كذا) يعد مبتدعا)).
                      وفي هذه الكلمة ضروب من التلبيس والأعاجيب لمن تأملها فإن (الناصر معروف) ألبس فيها إلباسا اشتبك به الباطل بالباطل، و(الناصر معروف) يريد من الباطلين حقا، فإنه يدعي أن الطرقيين يذكرون الأذكار المنصوص عليها، ويتبعون الوارد منها ويلزمون أنفسهم وأتباعهم بها. وأنا أتحداه وأتحدى كل طرقي في الجزائر أن يدلني على طريقة تذكر الأذكار الواردة وترشد إليها من غير تغيير ولا تبديل. ولقد كنت يا (ناصر معروف) في كتابتك على حد المثل العربي: (أرني غياً أزد فيه) (66) .
                      أبهذه الجملة المختلفة التي ظاهرها رحمة وباطنها عذاب؛ تريد أن تستدل على اختراع تحديد الأوقات والأذكار الطرقية المزوقة في الأنظار وهي كما يراها الرائي لا تجتمع مع كلام والدعوى المتنازع فيها في عقل أحد غير كاتبهما ومن شاركه في الهوى؛ وها أنا أرددها على جميع المحامل التي تصلح أن تحمل عليها، وإن كانت بعيدة ثم أعرضها على كير (67) العلم لينفي خبثها ويظهر زيفها وتلبيس صاحبها على قراء صحيفته.
                      إن الأحاديث التي ملأت بها مقالاتك يا (ناصر معروف) لا تدل لغة على أكثر من ثبوت بعض الأوقات أو الأذكار محددة حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس فيها ما يدل على الإذن منه لأحد في التحديد في غير ما حدده. وعمل بها سلف الأمة بعده ولم يفهموا منها إذنا لهم بالتحديد لغيرهم ليكون تحديدهم كالتحديد النبوي. ونقلها أئمة الحديث كما نقلوا أحاديث الأحكام وأحاديث الأخلاق فلم يفهموا منها أن لهم أن يحددوا فيما لم يحدد فيه صاحب الملة. فوظيفتهم كالسلف وظيفة عامل أو مبلغ لا وظيفة مخترع تحديدا أو توقيتا زيادة على المحدد من صاحب الحنيف. فشأن الأذكار المحددة بالعدد أو الوقت شأن ركعتي الفجر. فكما أننا لا نخترع ركعتي فجر ولا نزيد على صفتها ولا نحدث لها طريقة تعطي ركعتي الفجر، كذلك الأذكار المحددة وقتا أو عددا. فبان بهذا أن اللغة وعمل السلف ليس واحد منها يدل أو يؤخذ منه تحديد الأوقات أو الأعداد. فقول (الناصر معروف) وهل لا يؤخذ... إلخ مؤاخذ عليه لغة وعملا لأنه استدل على جواز اختراع تحديد الأوقات والأعداد للغير بكون الشريعة فيها تحديد الأوقات والأعداد. وعلى هذه اللغة التي جاءنا بها (الناصر معروف) للطرقيين أن يحددوا صلوات أخر وزكوات أخر لأن دليل (الناصر معروف) ينتجه.
                      هذا ما أمكنني أن أوجه به هذا الكلام العليل لغة وإني كلما حاولت أن يستقيم كلام (الناصر معروف) في هذا المعنى ويدل عليه لغة أبى علي والله، لكأنما(الناصر معروف) خلق لقلب الحجج وإفساد اللغات.
                      هذا هو المقصد اللغوي والاحتمال اللفظي الذي يحتمله كلام (الناصر معروف) ويمكن أن يقصده(الناصر معروف) ويجعله دليلا على اختراع تحديد الأوقات والأذكار لأتباع الطرقيين، وقد أريناك أنه لا يدل على شهوة (الناصر معروف).

                      وإن أراد (الناصرمعروف) بقوله: (وهل لا يؤخذ... إلخ) أن وجود بعض الأذكار محددة الوقت أو العدد، يجوز لرؤساء الطرائق أن يحددوا قياسا على التحديد النبوي هذه الإرادة هي الظاهرة من كلامه إن كان له معنى (إن أراد هذا)، فإننا نقول له إن قياسك اختراع تحديد الأوقات والأعداد الطرقية على ما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي يلعنه علم القياس ويبرأ منه القائسون إلى الله.
                      وها أنا أسوق إلى أهل العلم وإلى (الناصر معروف) نتفة أصولية تنير الموضوع وتظهر أن (الناصر معروف) سار في قياسه على غير هدى.
                      إن القياس من أركانه: العفة الجامعة بين المقيس(وهو التحديد المخترع عندنا في هذا الموضوع) والمقيس عليه (وهو التحديد النبوبي). وهذه العفة يجب أن تكون منصوصا عليها أو مستخرجة بمسلك من مسالك العلل المعروفة في علم الأصول. فالعلة في علم الأصول هي وجه الشبه عند علماء القسمان العربي، فكما يمتنع التشبيه لغة من غير وجه شبه، كذلك يمتنع القياس من غير عفة. والأذكار المحددة وقتا أو عددا ليس لأحد في الدنيا أن يقيس عليها، لعدم ظهور العلة بمظهرها المعتبر. ومن أجل هذا ذهب السادة الحنفية، وهم أعلام في القياس إلى امتناع دخول القياس في المقدرات وما شابهها لجزمهم بعدم إمكان ظهور العفة. ونحن (68) والشافعية وإن خالفناهم في الدعوى الإجمالية وجوزنا دخول القياس في المقدرات فإننا لا نجوز قياسا لم تظهر عفته، فالخلاف بيننا وبينهم في إمكان استخراج العلة فيها وعدم إمكانها، فنحن نجوز وهم يأبون. والأذكار المحددة شرعا وقتا أو عددا، إذا جئت تتفهم العلة فيها وفيما رتب عليها من المزايا كانت السماء أقرب إليك مسلكا من فهم العفة فيها. ووجه امتناع إدراك العفة أن الشارع إذا شرع عبادة مطلقة الوقت أو العدد رتب على فعلها جزاع يحصل لفاعله بحصول الفعل المطلوب في أي زمان لم ينه الشرع عن إيتاء العبادة فيه. فإن جاء دليل آخر من رسول الله يقتضي التقييد بالوقت أو العدد، رتب على المقيد بالوقت أو العدد حكما آخرا ومزية أخرى لا توجد مع الفعل المطلق عن التقييد الزمني أو العددي. فإذا عرضت الوقت أو العدد على المزية أو الحكم الفذين يختص بهما المقيد لم تجد مناسبة مدركة لنا نجعلها عفة لإلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه، والقياس لا يكون إلا بعفة، والعلة في المقدر الوقتي أو العددي غير مفهومة لنا.
                      ولا بد من ضرب مثال لهذه القاعدة الأصولية تفضح جهالات الجاهلين الذين ظهروا فينا لطرد العلم من الأمة الجزائرية:
                      صوم النفل طلبه منا الشارع طلالقآ -كذا في الشَّاملة؛ و لعلَّها: إطلاقا.ضياء- عن الوقت المعين ورتب عليه ثوابا يحصل للصائمين في كل وقت غير منهتي عنه. ثم جاء صوم يوم عرفة مقيدا بالتاسع من ذي الحجة، ورتب عنه الشرع مزية لا توجد مع الصوم في غير يوم عرفة، تلك المزية هي تكفير سنة ماضية وسنة مقبلة (69) . فالمناسبة بين تكفير ذنوب سنتين ماضيه وسنة مقبله وبين اليوم التاسع من ذي الحجة غير مفهومة لنا. فمن حدثته نفسه بالقياس في المحدد فقد أراد أن يبعث بالملة الإسلامية. ولعل (الناصر معروف) يطلب مني مثالا يخص الأذكار وجري فيها وتنطبق عليها القاعدة المارة، فإن طلب هذا مني أقدم له ما يلقمه (70) حجرا.
                      الأذكار التي هي محور النزاع جاء طلبها مطلقا عن الوقت والعدد ورتب الشارع على فعلها ثوابا وأعطاها حكما ندبيا خفيفا يحصل الثواب بفعلها في أي وقت ويؤدى المندوب بأي عدد، ثم جاءت أذكارا شرعية مقيدة بالوقت أو العدد ورتب الشارع على هذه المقيدات مزايا وخواص لا توجد في المطلقات ، مثلا سبحان الله، والحمد لله ، والله أكبر دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين جاءت مقيدة بهذا العدد والوقت ورتب عليها الشارع مزية لا توجد مع الأذكار المطلقة عن الوقت والعدد حتى إنه جعلها تفوق غيرها من الأذكار وصاحبها لا يلحقه إلا من فعل فعله (71) . فهذا الذكر المعين والعدد المعين والوقت المعين لم تظهر المناسبة بينهما وبين هذا الفضل العظيم والثواب الجزيل المرتب عن المذكورات، فمن حام حول قياس كقياسك يا (ناصر معروف) كان قمينا بأن نتلوا عليه( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (72) .
                      مثالا آخر في الأذكار، الذكر الذي تضمنه الحديث الملقب بسيد الاستغفار المخرج عند البخاري عن شداد بن أوس، رتب عليه الشارع مزية وخواص لا توجد مع غيره من أنواع الاستغفار فإنه رتب عليه أن من قاله حين يمسي فمات دخل الجنة أو كان من أهل الجنة (73) . فإذا جئت لتفهم العفة في تعيين تلك الألفاظ والأوقات من بين الألفاظ الذكرية والأوقات من بين الألفاظ الذكرية والأوقات الليلية والنهارية؛ لم تهتد إلى عفة مناسبة لتحمل على هذا الذكر المقيد بهذا الوقت أذكارا أخر في أوقات أخر.
                      فلو جوزنا قياس (الناصر معروف) ذاك القياس الطرقي لا الأصولي الديني، وأبحنا لمشائخ الطرائق أن يحددوا للناس الأذكار والأوقات، فما هي المزايا التي يقتضيها تحديدهم؟.
                      فإن قال الطرقيون: مزايا وخصائص يعلمها الطرقيون.
                      قلنا لهم: أعظمتم الفرية فإن علم المزايا والخواص فوق يد الطرقيين وعدم تحديد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأذكار الطرقية يرد عليكم، فإنه يمتنع عقلا وشرعا أن تدركوا شيئا لم يدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                      وإن قلتم: نحدد تحديدا مخترعا مبتدعا لا لمزية شرعية معتبرة.
                      قلنا لهم: حددوا في غير حفظ الله وطاعته، واعلموا أنكم بتحديدكم اعتديتم على الدين بزيادة لم يأذن فيها وأفسدتم ما فيه من حكم عالية مودعة في كل فضيلة من فضائل هذا الدين الذي ختم الله به الأديان، وجمع فيه ما تشتت من الفضائل والمزايا في بقية الملل والنحل.
                      وهذه نتفة صغيرة أصولية قدمناها لأهل العلم لا لأهل الجهل، ليدركوا بها قيمة (الناصر معروف)- وقيمة كل امرئ ما يحسن- العلمية. وظني أن ما بناه (الناصر معروف) من الأوهام في مقالاته قد تداعى بهذه المعاول التي نزلنا بها تلك الخيالات التي يظنها، لما وسمتها جريدة البلاغ، بأنها حكمة وفصل خطاب كأن (الناصر معروف) نبي الله داود عليه السلام. هان أراد الهادي المهتدي أن يرى سخافات (الناصر معروف) فليراجع مقاله الثالث الذي خصصه لإعطاء العهود فإنه يدعي أن تبليغ رسول الله،صلى الله عليه وسلم للأذكار إعطاء العهود الطرقية ولست أدري لم لم يدع (الناصر معروف) أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) إعطاء للعهود في فرائض الصلاة وسننها وما يلحقها. وقوله: ((خذوا عني مناسككم)) إعطاء العهود في مناسك الحج. ولولا ما أصبنا به من نكبات الجهل في أمتنا الجزائرية ما أقمت وزنا لكلام جريدة البلاغ وكتابها، ولو جمعوا جموعهم في صعيد واحد ما كونوا عالما من خصومهم. وفي أقلام أصحاب جريدة البلاغ عبرة علمية عظيمة، تلك العبرة أن قوانين العلم من عهد أرسطاطاليس وأفلاطون أن الدعوى المتنازع فيها لا تثبت إلا بأمرين:

                      الأول: إبطال دليل الخصم.
                      والثاني: سلامة دليل المبطل من القدح.
                      هكذا قال العلم قبل ظهور (الناصر معروف)
                      وأمثاله. أما الآن فقد تجددت مناهج العلم كما تجددت أساليب التصوف وصار (الناصر معروف) لا يبطل أدلة خصمه ولا يقيم دليلاً على دعواه ومع هذه المهزلة يزعم أنه يرد علي. ولعلك أيها القارئ العالم بدلالة الألفاظ فهمت سر قولي آنفا والناصر معروف يريد من الباطلين حقا.

                      وقبل أن أضع القلم ألقي كلمة في أذن (الناصر معروف) وجماعته هذه الكلمة هي أني أنصح لهم بأن يريحوا أنفسهم ولا يكلفونا بالرد عليهم مرة أخرى فإن أعادوا إلى تكثير الجهل في هذه الأمة التي لعبوا فيها لعبا لم يحك التاريخ مثله فَإِنَّنَا أَقْوِيَاءُ فِي الْحَقِّ نَسِيرُ عَلَى مِشْكَاةِ الشَّرِيعَةِ الْمَعْصُومَةِ لاَ نَعْجَزُ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ حَوْمَةِ السُّنَّةِ.

                      ------------------


                      (55) جريدة البلاغ جريدة أسبوعية كانت تحت إشراف الطريقة العلوية( طريقة الشيخ أحمد بن عليوة المستغانمي الدرقاوية الشاذلية) وتقف في الصف المعارض للإصلاح وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
                      (56) الإطراء: المبالغة في المدح.
                      (57) جربهم.
                      (58) ((ألقني الكلام على عوهنه)) مثل يضرب لمن يتكلم من غير فكر ولا روية ولم يبال أخطأ أو أصاب.
                      (59) كذا بالأصل ولعل الصواب: عليه.
                      (60) البخاري 34 ومسلم 58 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
                      (61) أنهى الرجل الشيء خبرا أو غيره: أوصله وأبلغه.
                      (62) لعله يقصد الأخوين الذين اجتمعا بهما في مدينة خنشلة.
                      (63) أي: بفسادها واضطرابها.
                      (64) في اللسان ما نصه: الشكاة توضع موضع العيب والذم، وعير رجل عبد الله بن الزبير بأمه فقال: يا ابن ذات النطاقين، فتمثل بقول الهذلي:
                      وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
                      أراد أن تعييره إياه بأن أمه كانت ذات النطاقين ليس بعار.
                      ومعنى قوله: ظاهر عنك عارها أي: ناب أراد أن هذا ليس عارا يلزق به وأنه يفتخر بذلك لأنها إنما سميت بذات النطاقين أنه كان لها نطاقان تحمل في أحدهما الزاد إلى أبيها وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وكانت تنتطق بالنطاق الآخر. وهي أسماء بنت أبي بكر.
                      (65) مثل يضرب للمتصلف يقول: هذا الأمر بيدي. والصلف التمدح بما ليس عندك.
                      (66) مثل للرجل يشتهي الشر.
                      (67) الكير في الأصل جهاز من جلد أو غيره يستخدمه الحداد للنفخ في النار ليشعلها. وفي الحديث الشريف: (( المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)).
                      (68) المالكية.
                      (69) انظر صحيح مسلم حديث رقم 1162.
                      (70) ألقمه حجرا: أسكته.
                      (71) انظر صحيح مسلم4/ 2071.
                      (72) [ الإسراء: 36].


                      تعليق


                      • #12
                        اهـ. كلامُ الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي -رحمه اللهُ تعالى-
                        قلت:
                        تم الكلامُ و ربنا المحمود *** و له الكبريا و العُلا و الجود

                        سُبحانكَ اللهم و بحمدك لا إله إلا أنت أستغفر اللهَ و أتوب إليه.

                        التعديل الأخير تم بواسطة أبو أحمد ضياء التبسي; الساعة 29-09-2009, 07:56 PM.

                        تعليق


                        • #13
                          يُرْفَعُ لمنَ ارَادَ أن يستفيدَ

                          تعليق


                          • #14
                            إنَّ من (منهجِ أهلِ الحديث) الصِّدقُ والأَمانةُ وعدَمُ التَّشبُّع بما لم يُعطوا؛ ولو في أقَلِّ الأمور؛

                            وقد نقلَ (البعضُ!) هذا النَّصَ-أي: نصَّ الرِّسالة- حرفيَّاً عني ولم يكتبوا حتَّى كلمةَ: (منقول)

                            ظنًّا منهم أني نقلتُهُ حرفياً أو بعبارةٍ أخرى (عمليَّة: نسخ؛ لصق)

                            وهذا غيرُ صحيح؛ لأني وقفتُ على بعض الكلمات التي ربما

                            صُحِّفت وحاولتُ تصحيحها وفقاً للسياق وهي كالآتي:




                            ولا بد من ضرب مثال لهذه القاعدة الأصولية تفضح جهالات الجاهلين الذين ظهروا فينا لطرد العلم من الأمة الجزائرية:
                            صوم النفل طلبه منا الشارع طلالقآ -كذا في الشَّاملة؛ و لعلَّها: إطلاقا.ضياء-



                            إن من علم قليلا من مبادئ الأديان، يعلم أن أشياخ الطرائق لم تتسرب إليهم هذه العقلية إلا من أمة أجنبية عن الإسلام، لرؤسائها هذه الزعامة التي تؤهل صاجبها لهذه السلطة الواسعة النفوذ في عالم الغيب الدنيوي والأخروي، فاقتبسها أشياخ الطرائق من بعض من دمس-كذا في الشَّاملة؛ و لعلَّها: دسَّ.ضياء-

                            ثم حكم ببدعية ما كان على هذا الوصف، و ما ذكره يجري في تحديد الأذكار للأتباع و تزيد عليه بما انجر للعوام من هذه البدعة الفظيعة، فقد أصبح بعض أسماء الله من ميزة طريقة فلان فمن لم يأخذ عهده و ورده لا يحوم حول ذلك الاسم، و أي شر بقي بعد هذا و أقي (كذا في الشَّاملة و الذي يظهر أنَّه تصحيف و الصَّواب: أقل. و الله أعلم. ضياء) إلحاد في أسماء الله شر من هذا و تزيد عليه أيضا بقلب معالم الإسلام ظهرا لبطن.



                            وهذا إن دلَّ على شيء؛ يدُلُّ على عدمِ قراءتهم للنص؛ بلِ الاكتفاءُ بالنسخ واللصق! دون المراجعة؛

                            وإلا كيفَ ينقلون عمَّن رموه: بالنِّفاقِ الظَّاهر؛ والجُبنِ؛...

                            وهذا هو السَّفَهُ عينُهُ

                            قال ابنُ قُدامة -رحمه الله تعالى-:

                            (فإنَّ السَّاعي في إصلاحِ غيره في هلاكِ نفسِهِ: سفيه)
                            مختصر منهاج القاصدين.

                            ضياء الدين جعريري

                            تعليق

                            يعمل...
                            X