شهادة وكلام نفيس للشيخ الأسلام ابن تيمية رحمه الله لأهل الحديث
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ـ رحمه الله: (المتوفى 728ه) في ((فتاواه)): (4/9- 11):
((من المعلوم: أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم؛ فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقـًا أخرى، مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر، والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة، والمخاطبة، والوجد، والذوق، ونحو ذلك؛ وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها؛ فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياسـًا، وأصوبهم رأيـًا، وأسدّهم كلامـًا، وأصحهم نظرًا، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهامـًا، وأحدهم بصراً ومكاشفة وأصوبهم سمعاً ومخاطبةً، وأعظمهم وأحسنهم وجدًا وذوقـًا؛ وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل.
فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدّ وأسدّ عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرُهم في قرون وأجيال؛ وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه: قال تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى }، وقال: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشدّ تثبيتـًا. وإذا لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمـًا. ولهديناهم صراطـًا مستقيمـًا }.
وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم؛ فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم، وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم، أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل، وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى، وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم.
فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض: فهذا أمرٌ ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين، لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيمـًا أعظم مما عظموا به، ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه، كما لا ينقص إلاّ بقدر ما خالفهم، حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقرّ بذلك، كما قال الإمام أحمد: (آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز)؛ فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته، فأما وقت الموت فلا بد من الاعتراف بالحق من عموم الخلْق؛ ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته، مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف سوى من صلى في الخانات والبيوت.
وكذلك الشافعي، وإسحاق، وغيرهما إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة، وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك، وكذلك مالك والأزواعي، والثوري، وأبو حنيفة، وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة وقُبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة، وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلاغها إياه، أو لاعتقاده ضعف دلالتها، أو رجحان غيرها عليها)).