من هُم العلماء؟
للشيخ
عبد السلام البرجس
-رحمه الله-
[شريط مفرغ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:102] ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا?[النساء:1]، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا?[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم إن موضوع كلمتنا هذه الليلة، موضوع في غاية الأهمية؛ لاحتياج كل فرد من أفراد الأمة إلى معرفته والإلمام به، وما طرأ على هذه الأمة من النقص والضَّعف إلا من جرّاء التفريط في معالم من معالم الدين الإسلامي، ومن هذه المعالم: احترام العلماء، ومعرفةُ مكانتهم في الشرع، ولا غَرْوَ أن يكون هذا الموضوع من معالم الدين التي إذا ضُيِّعت صُدع بالدين صدع، وسَقَط منه بناء فإن العلماء هم السلسلة الموصلة إلى صاحب الشريعة (، وهُم حملة الدين، وبهم وصل شرع الله سبحانه وتعالى إلينا، فإذا لم يُحترم هؤلاء ولم تُعرف حقوقهم، فلا تسأل عن الفوضى في الناس، فلا تسأل عن الفوضى في الناس فيما يتعلق بأعظم شيء عندهم وهو دينُهم، ومن هنا فإنّنا سنتكلم عن موضوعنا هذا في ضوء النُّقاط التالية:
النقطة الأولى: فضل العلماء وبيان مكانتهم في الشرع.
والنقطة الثانية: من هم العلماء؟
والنقطة الثالثة: حقوق العلماء علينا.
والنقطة الرابعة: مشكلة القدح في العلماء.
والتي بعدها: ضرورة الارتباط بعلماء أهل السنة والجماعة.
النقطة التي تليها: آثار العلماء على البلاد والعباد.
أمّا النقطة الأولى وهي:
فضل العلماء ومكانتهم في الشرع
فإنّ النصوص من الكتاب والسنة تتابعت على بيان فضلهم، وأجمعت الأمة على عُلوِّ منزلتهم وشرف عملهم.
قال الله سبحانه وتعالى(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ([آل عمران:18]، ففي هذه الآية استشهد الله سبحانه وتعالى بأولي العلم من خلقه على أجلِّ مشهود عليه وهو توحيده سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، وهذا يدل على فضل العلماء من وجوه كثيرة:
• منها أنه تعالى استشهد بهم، ولم يستشهد بغيرهم من البشر.
• ومنها أنه تعالى قرن شهادتهم بشهادته سبحانه وتعالى.
• ومنها أيضا أنّ مضمون هذه الشهادة تزكيتُهم وتعديلهم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يُشهد من خلقه إلا العدول.
• ومنها أنه سبحانه استشهد بهم على أجلِّ مشهود به وأعظمه وأكبره وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ومن العلوم أنّ العظيم القدْر إنّما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم.
فهذه الأوجه وغيرُها دالة على مكانة العلماء العلية وعظم قدْرهم عند الله سبحانه وتعالى.
ومما يدل على فضلهم في كتاب الله عز وجل أنه سبحانه نفى التسوية بين أهل العلم وبين غيرهم، مما يدل على غاية فضلهم وشرفهم، فقال الله عز وجل ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ([الزمر:9]، والمعنى هل يستوي من كان عالما بربه، عالما بأحكام الشرع عاما بجزاء الله عز وجل، هل يستوي هذا ومن لا يعلم شيئا من ذلك؟ الجواب: كلا، لا يستوون، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.
ومما يدل على فضلهم في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه(يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ([المجادلة:11]، وقوله سبحانه وتعالى(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا([البقرة:269]، فهذه شهادة من الله تعالى لمن آتاه العلم بأنه قد آتاه خيرا كثيرا، والحكمة هنا هي العلم النافع والعمل الصالح، فهذا طرف مما جاء في كتاب الله تعالى في فضل العلماء، وبيان منزلتهم في الشرع.
أما سنة رسول الله ( فهي مليئة بالثناء عليهم، والحثِّ على توقيرهم واحترامهم؛ لعِظَم العلم الذي قام بهم، ولشرف العلم الذي وَقَرَ في أفئدتهم.
فمن ذلك ما رواه الشيخان عن معاوية ( قال: سَمِعْتُ رسول الله ( يقول «مَنْ يُرِدِ اللّهُ به خَيراً يُفَقّهْهُ في الدّين»، والفقه هنا هو العلم المستلزم للعمل، فدلّ الحديث على أنّ من أراد الله سبحانه وتعالى به خيرا وفقه لهذا الفقه ويسّره له، وهذا هو مقام العلماء, ومفهوم الحديث أن من لم يُرد الله تعالى به خيرا لا يفقه في دينه، وهذا مشاهَد ملموس؛ فإن مَنْ لم يكن فقيها في شرع الله سبحانه وتعالى عالما بأحكام دينه وقع في الخطأ والزلل في كثير من عباداته ومعاملاته، بخلاف العالِم فإنّ عباداته ومعاملاته مبنية على الحجج الشرعية والنصوص، فلا يقع في آدائها خلل إلا ما نَدُرَ مما لا يُعصم منه أحد من العلماء وغيرهم.
ومما ورد في السنّة في بيان فضل العلماء وعلوّ شأنهم؛ ما رواه الشيخان أيضا عن أبي موسى الأشعري ( قال: قال النبي ( « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَىَ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ. فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعَوْا. وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَىَ، إِنّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً. وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ففي هذا الحديث العظيم تشبيهان بليغان:
التشبيه الأول: تشبيه العلم والهدى الذي جاء به الرسول ( بالغيث؛ أي بالمطر، بجامع أن كُلاًّ منهما تحصل به الحياة وتنشأ عنه المنافع:
( فالماء تحصل به حياة الأرض كما قال جل وعلا عن الغيث(فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([فاطر:9]، وقال تعالى(وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([البقرة:164].
( كما أن العلم والهدى تحصل به حياة الروح كما قال الله عز وجل(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا([الأنعام:122]، وقال تعالى(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ([الأنفال:24]. فهذا هو التشبيه الأول.
التشبيه الثاني: تشبيه القلوب بالأراضي؛ بجامع أن كُلاًّ منهما محل للتَّقَبُّل: فالأرض ينزل عليها المطر، كما أن القلوب يقع عليها العلم، فهذا محل للعلم، وهذا محل للماء.
ثم قسَّم النبي ( الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظ وفهم العلم الذي أرسل به النبي (:
فالقسم الأول:من جمع بين الفضيلتين؛ بين الحفظ للشريعة الإسلامية والفهم فيها، فهو يحفظ نصوصها؛ يحفظ القرآن والسنة، وهو في الوقت نفسه يفهم مراد الشارع من هذه النصوص، فيُوفَّق لموافقة الصواب، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث بقوله(فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ)، وقوله (قَبِلَتِ الْمَاءَ) هذا كناية عن الحفظ، (فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ) وهذا كناية عن الفهم، وعن النفع فهو منتفع في نفسه نافع غيره.
القسم الثاني من الناس: من حصل على فضيلة من الفضيلتين، وهي الحفظ فقط، رزقه الله تعالى حافظة قوية، فحفظ القرآن والسنة، لكن لم يؤتَ فهما لمعانيها، ولاستنباط الأحكام منها، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث في قوله (وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ).
فهذان القسمان هُمُ السعداء، وهم أرفع درجة وأعلى قدْرا، و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((1) فلهم الفضل الكبير على الناس بما حفظوا عليهم من دينهم، وبما استنبطوا من الأحكام الشرعية ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الشاعر:
متى يمت عالم منها يمت طرف
وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلف
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس.
القسم الثالث: من حُرم الفضيلتين؛ فلم يُعط حفظا ولم يُعط أيضا فهما، فهُم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء الذين رضعوا ثُدِيَّ الجهل، ورضوا به، فهو وصف الذين لا يوصفون بسواه، حتى ولو تتوجوا بالزَّبَرْجَدِ ولبسوا أنعم اللباس، وركبوا أهنى المراكب.
هذه هي الأقسام التي ذكرها الحديث، ثم بعد ذلك بيَّن أحكامها.
فأما القسمان الأول والثاني فالإشارة إلى حُكمهما في قوله (فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ) أي علم في نفسه أولا، ثم أبدى علمه إلى الناس فانتفعوا به في تبيين الحلال من الحرام.
أما القسم الثالث فالإشارة إلى حكمة في قوله (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فظهر بهذا التشبيه في هذا الحديث فضل العلماء ومكانتهم وعموم نفعهم.
ومما ورد في ذلك أيضا: ما رواه أبو داوود والترمذي، وهو حديث صحيح، عن أبي الدرداء ( قال: سمعت رسول الله ( يقول «مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي بِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ, وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ بِمَا يَصْنَعُ, وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتّى الْحِيتَانُ في المَاءِ, وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ, كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ, وإِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ, وإنّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً, وإِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ, فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ» فهذا الحديث العظيم يبين فضل العلماء بيانا كافيا من وجوه عديدة منها:
• تعظيم الملائكة لأهل العلم وحبها لهم، ولذا فإنها تضع أجنحتها لهم رضى عنهم وتوقيرا لعملهم هذا وتعظيما لهم، وقد فُسِّر قوله (تَضَعُ أَجْنَحِتَهَا) ببسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الأيدي كما قاله الإمام مالك، وذهب آخرون إلى أن هذا الوضع حقيقي؛ وهو تواضع وتوقير وتبجيل.
• ومن أوجه بيان فضل العلماء من هذا الحديث: أنه أخبر أنّ كل مخلوق في السمـاوات و في الأرض يستغفر لهذا العالِم، حتى أن الحوت الذي في الماء لينطق بالاستغفار؛ فيطلب المغفرة لهذا العالِم، والحكمة في ذلك -والله تعالى أعلم- أنّ العالم هو سبب نجاة العباد بما يأمرهم به من معـــروف وينهاهم عن منكر، وفعله هذا يعود على كل مخلوق بالنفع والبركة؛ فالحيــوانات تُصيبها بركة طاعة العُبَّاد والعباد، كما تُؤَثِّر عليها معاصي العباد، وكذلك الأرض والشجـــر، ونحو ذلك، فلمّا كان فِعْل العالم بتعليم العلم والدعوة إلى الهدى، يَعُمُّ نفعه كل موجود جُوزِيَ من جنس عمله؛ فجُعِل مَن في السماوات ومن في الأرض ساعيا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له.
• ومن أوجه بيان فضل هذا الحديث بيان هذا الحديث لفضل العلماء: أنّه قارن بين العالم و العابد، وهذه المقارَنة تبـين منزلة كل واحد منهما؛ فالعالم بالنسبة للعابد يُشَبَّه بالقمر بالنسبة إلى الكواكب، وبهذه المقارنة يتميز ويتجلى فضل العالم على العابد، فكيف بمن سوى العابد؟ فالعالم بمنزلة القمر الذي يضيء الآفاق كلَّها، ويمتد نوره في أقطار العالم، أما العابد فهو بمنزلة الكوكب -وتعرفون أن الكوكب لا يتجاوز نوره نفسه أو ما يقرب من محيطه- ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف ولا يصح مرفوعا”فقيه واحد أشَدُّ على إبليس من ألف عابد“ ويبين هذه الحقيقة ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله تعالى في”جامع بيان العلم وفضله“ عن ابن عباس أنه قال”إن الشياطين قالوا لإبليس: مالنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟ فقال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد قائم يصلي، فقالوا: له إنا نريد أن نسألك، فانصرف فقال له إبليس: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: لا. فقال: أترونه كفر في ساعته. ثم جاء إلى عالم في حلقة يضاحك أصحابه ويحدثهم، فقال: إنا نريد أن نسألك. فقال: سل. فقال: هل يقدر ربك أن يجعـل الدنيا في جوف بيضـة. قال:نعــم. فقال: وكيف؟ قال: يقول لذلك(كن فيكون). قال إبليس: أترون ذلك لا يعدو نفسه، وهذا يفسد عليَّ عالَما كثيرا. “انتهى. فمن هذا الأثر يظهر لنا البَوْنُ الشاسع بين العالم والعابد، ويظهر لنا ما للعالم من فضل بعد الله سبحانـه وتعالى على الناس.
ومن أوجه فضل العلماء في هذا الحديث أن جعل العلماء ورثة الأنبياء، وهذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإنّ الأنبياء خير خلق الله تعالى، فورثتهم خير الخلق بعدهم، وقد دلّ ذلك بمفهومه على أن العلماء أقرب الناس إلى الأنبياء؛ لأنّ الميراث إنّما يكون لأقرب الناس إلى المورث.
كما أفاد أيضا حثَّ الأمة على طاعتهم، واحترامهم، وتوقيرهم، وإجلالهم، فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة.
كما أفادت أيضا محبتهم من الدين، وبُغضهم مناف للدين، كما هو ثابت لمورِّثهم. يقول علي ابن أبي طالب ( ”محـبة العلماء دِينٌ يُدان به“.
فهذا جزء يسير من النصوص الشرعية الواردة في شرف العلماء، وعلو منازلهم، وبيان مكانتهم في الدين, اقتصرنا عليها مراعاة للاختصار، وإلا فهي كما قال الشاعر:
يكاد بها ذو العلم فوق السهى يسمو
عن المصطفى فاسأل به من لـه علم
فقد كلّ عن إحصائه النثر والنظم
وكم في كتاب الله من مِدْحَة لـه
وكم خبر في فضله صح مسنداً
فلست بمحص فضله إن ذكرته
و إذ قد بيناّ بعض فضائلهم فإننا ننتقل إلى النقطة التالية وهي:
تحديد المفهوم الصحيح لمن يُطلق عليه لفظ العلماء
وهذه النقطة من الأهمية بمكان، إذ بسبب عدم إدراكها من الكثيرين تخلل صفوف العلماء من ليس منهم، فوقعت الفوضى العلمية التي نتجرع الآن غُصَصَها، ونشاهِد مآسيها بين آونة و أخرى.
إنّ من يستحق أن يطلق عليه لفظ العالم في هذا الزمن -وأقولها بكل صراحة- قليل جداًًََََّ، ولا نبالغ إن قلنا نادر، وذلك أنّ للعالم صفات قد لا ينطبق كثيرٌ منها على أكثر من ينتسب إلى العلم اليوم.
فليس العالم من كان فصيحا بليغا، بليغا في خطبه، بليغا في محاضراته، ونحو ذلك، وليس العالم من ألف كتابا، أو نشر مؤلفا، أو حقق مخطوطة أو أخرجها؛ لأن وزْن العالم بهذه الأمور فحسب هو المترسب وللأسف في كثير من أذهان العامة، وبذلك انخدع العامة بالكثير من الفصحاء والكتاب غير العلماء، فأصبحوا محل إعجابهم، فتري العامّي إذا أسمع المتعالم من هؤلاء يُجيش بتعالمه الكذّاب يضرب بيمينه على شماله تعجبا من علمه وطَرَبَه، بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حُزنا وأسفا لانفتاح قبح الفتنة. فالعالم حقا من تَوَلَّعَ بالعلم الشرعي، وألَمَّ بمجمل أحكام الكتاب والسنة، عارفا بالناسخ والمنسوخ، بالمطلق والمقيد، بالمجمل والمفسر، واطلع أيضا على أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، فقد عقد ابن عبد البر رحمه الله تعالى في ”جامع بيان العلم وفضله“ بابا فيمن يستحق أن يسمى فقيها أو عالما، فليرجع إليه في الجزء (2) ص (43).
ولا ريب أن تحصيلهم لهذه الأحكام الشرعية قد استغرق وقتا طويلا، واستفرغ جهدا كبيرا، وأضافوا إلى ذلك أيضا عدم الانقطاع عن التعلم، وقد ورد في بعض الآثار أن موسى سأل ربه أي عبادك أعلم؟ قال: الذي لا يشبع من العلم. فمن كان هذا حاله فهو العالم الذي يستحق هذا اللفظ الجليل، إذْ هو المبلغ لشرع الله تعالى, المُوَقِّع عنه سبحانه وتعالى, القائم لله عز وجل بالحجة على خلقه ولو قَلَّ كلامه ونَدُر، أو عُدِم تأليفه.
فهنا فائدة مهمة، تبين أن جذور الاغترار بمن كثر كلامه قديمة جدا، وليس حادثة جديدة، وليست وليدة الساعة، هذه الفائدة هي ما سطّره الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه القيم النافع فضل علم السلف على علم الخلف، راداً به على من اغتر بكثرة الكلام، واعتبره معيارا للعالم، يقول رحمه الله تعالى كما في كتابه الآنف الذكر: وقد ابتلينا بجهلة من الناس, يعتقدون في بعض من توسَّع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كلِّ من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، -ثم ذكر الثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وقال- فإنّ هؤلاء كلهم أقل كلاما ممن جاء بعدهم، وهذا -أي هذا التفصيل- تَنَقُّص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبتهم إلى الجهل وقصور العلم, ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم ذكر أثر ابن مسعود ( وفيه أنه قال ”إنّكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه، فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم“. انتهى كلامه رحمه الله.
وهو يشير إلى من توسع في القول في مسائل العلم، وهذا يجب أن يلحظ، فكيف لو رأى متكلمي زماننا الذين اتخذهم الناس رؤساء علماء، وهم إنما يتكلمون عمَّا يسمونه بِفقه الواقع، أما فقه الشرع، وهو ما يسمونه بفقه الحيض والنفاس، فهذا في نظرهم قد تعداه الزمن، ولم يصبح بحاجة ماسة إليه الناس، ولذا فإنّ فقه الواقع يجعلونه فرض عين على كل عالم وطالب علم، أما فقه الحيض والنفاس فهذا فرض كفاية. أقول كيف لو رأى هؤلاء الذين لعبوا بعقول الناس، وصرفوهم عن دين الله عز وجل وشرعه إلى أهواء سوَّلَها لهم الشيطان وصدَّهم بها عن سبيل الله تعالى، لا ريب أنّ توجعه رحمه الله تعالى أقوى وأن شكايته أحق.
ومما ينبغي أن يميَّز به من يُطلق عليه لفظ عالم. كبر السن، وهذا وإن لم يكن شرطا في بلوغ مرتبة العلماء إلا أن في هذا الزمن ينبغي أن يُجعل هذا كشرط لما يترتب على أخذ العلم عن الصغار من المفاسد الكثيرة، وأيضا لعدم قُدرة كثير من الناس اليوم على تمييز العالم من غيره، ولذا قال عبد الله بن مسعود ( فيما صح عنه يقول ”لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعن علمائهم، فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا“. وقد أسند الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ”نصيحة أهل الحديث“ بسنده إلى ابن قتيبة أنه سئل عن معنى هذا الأثر، فأجاب بما نصه، يقول ابن قتيبة: يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث، -ثم يعلل هذا التـفسير فيقول- لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحِدَّتُه وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزل الشيطان استزلال الحَدَث، ومع السّن الوقار والجلال والهيبة، والحَدَث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أُمنت على الشيخ فإذا دخلت عليه و أفتى هلك وأهلك. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وهو كلام جدير بالتأمل, إن كان بعض العلماء يرى أن بعض الأصاغر هنا هم أهل البدع، فإن الصغار هنا لفظ عام، يتناول الصغير لفظا والصغير معنى، فعلى هذا ينبغي التوجه إلى أهل العلم الكبار وأخذ العلم عنهم ماداموا موجودين، أمّا لو كان الإنسان في بلد ليس فيها كبير وهناك صغير عنده من العلم ما يؤهله للتدريس، ويؤهله لتلقي العلم عنه، فلا بأس حينئذ للحاجة. لكن العيب كلَّ العيب أن يكون العلماء الكبار موجودين متوافرين فينصرف الإنسان عنهم إلى من دونهم.
هذا وهناك علامات يتميز بها أهل العلم النافع، أقول النافع؛ لأن العلم قسمان: علم نافع، وعلم ضار. فهناك علامات يتميز بها أهل العلم النافع؛ الذين ورد الشرع بفضائلهم وبتزكيتهم، وهذه العلامات قد ذكر بعضها ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه الآنف الذكر، سأنقل بعض كلماته رحمه الله بنوع تصرف، يقول رحمه الله في علامات ومميزات أهل العلم النافع، وهذه العلامات إنما نذكرها ليستطيع الإنسان أن يميز بين العالم وبين غيره من خلال هذه الصفات، يقول رحمه الله عن هؤلاء العلماء:
• إنّهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما، ويكرهون بقلوبهم التزكية و المدح، ولا يتكبرون على أحد، وأهل العلم النافع كلما ازدادوا في العلم ازدادوا تواضعا لله وخشية وانكسارا وذُلاًّ.
• ومن علاماتهم أيضا -هذا كلامه - الهرب من الدنيا، وأولى ما يهربون عنه منها الرِّياسة والشُّهرة والمدح، فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات أهل العلم النافع، فإنْ وقع شيء من ذلك -يعني الرياسة أو الشهرة أو المدح- من غير قصد واختيار كانوا على خوف شديد من عاقبته وخشوا أن يكون مكرا واستدراجا، كما كان الإمام أحمد رحمه الله يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد سيطه.
• ومن علاماتهم أيضا أنهم لا يدعون العلم، فلا يفخرون على أحد، ولا ينسبون غيرهم إلى الجهل؛ إلا من خالف(2) السنة وأهلها فإنهم يتكلمون فيه غضبا لله، لا غضبا للنفس، ولا قصدًا لرفعتها على أحد.
• ومن علاماتهم أيضا أنهم سيؤون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها، وكان ابن المبارك إذا ذَكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن بذكرانا لذِكـرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقعـد
ولعل في هذه العلامات ما يستطيع به العامِّي وأمثاله أن يميز بين من يستحق أن يُطلق عليه لفظ العالم ممن لا يستحق هذا اللفظ، والفائدة المَرْجُوَّة من هذا التمييز هي الأخذ عن أهل العلم النافع دون من عَدَاهم من متكلم فصيح و كتاب كبير ممن ليس من أهل العلم.
وبعد أن بين ابن رجب رحمه الله تعالى علامات ومميزات أهل العلم النافع، فإننا ننقل من هذه النقطة التي وضحت إن شاء الله أو كادت إلى النقطة الثالثة وهي:
حقوق العلماء علينا
حقوق العلماء منها ما يُطالب به تلامذتهم، ومنها ما يطالب به عامة الناس، ونحن هنا نذكر بعض الحقوق المشتركة بين تلامذتهم وبين العامة.
• فمن حقوقهم علينا توقيرهم، واحترامهم، والتواضع لهم، وخفض الجناح لهم، يقول طاووس رحمه الله تعالى: من السنة أن يوقَّر العالم. وقد ثبت في سنن أبي داوود أن النبي ( قال «إِنّ مِنْ إِجْلاَلِ الله إِكْرَامَ ذِي الشّيْبَةِ المُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السّلْطَانِ المُقْسِطِ ». وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ”الجامع“ تحت باب تعظيم المحدِّث وتجليده ذكر أثرا عن كعب الأنصار لا بأس بإرادة من باب الاستئناس به يقول كعب: ثلاثة نجد في الكتاب يحق علينا أن نُكرِمهم، وأنْ نشرِّفهم، وأن نوسِّع عليهم في المجالس: ذو السن، وذو السلطان بسلطانه، والحامل للكتاب. ومن هذا الباب قصة عبد الله بن عباس المشهور عندما أخذ بركاب بن ثابت فقال لزيد: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال: ابن عباس إنا هكذا نصنع بالعلماء. أو هكذا يفعل بالعلماء. وقد عُوتب الشافعي رحمه الله على تواضعه للعلماء فقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونهـا و لن تكرم النفس التي لا تهينهـا
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيضا: أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. فحق العالم علينا أن نتواضع له وأن نجله ونقدره وأن نحترمه.
• ومن حقوق العلماء أيضا ولعله من أعظم الحقوق الدعاء لهم والاستغفار لهم، وقد تقدم الحديث في قوله (وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَاواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ) وثبت في سنن أبي داود(3) أو لعله الترمذي عن أبي أمامة ( أن النبي ( قال«إِنّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ الأرض حَتّى النّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتّى الْحُوتَ لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ» ومعنى (يُصَلّونَ) يعني يدعون، وثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال«وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ, فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُوه بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ» وأي معروف أعظم علينا في هذه الدنيا من معروف العالم؛ الذي يدلنا على ما يسعدنا في الدين والدنيا.
• ومن حقوقهم أيضا ما جاء عن على ( أنه قال -كما ذكره ابن جماعة وقبله ابن عبد البر- أنه قال: من حق العالم عليك أن تُسَلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك إليه، ولا تغمز بعينك، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابَنَّ عنده أحد، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم لخدمته، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا الكسل، وتشبع من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء. ولقد جمع ( في هذه الوصية ما فيه الكفاية.
فهذه جملة من حقوق العلماء علينا، وهي كثيرة، نسأل الله أن يوفقنا للعمل بها، فمتى ما عملنا بها مخلصين لله تعالى فقد قمنا بواجبنا تجاههم، وهيأْنا أيضا لهم الجو لإعطائنا مزيدا من علمهم ومعارفهم، ولذلك يقول ابن جُريْج: لم استخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فحسن المعاملة مع العالم تشرح صدره، فينعكس ذلك على إعطائه، فيعطى عطاء جيدا مثمرا، كما أن سوء معاملته أو عدم التأدب معه يؤثر على إخراجه للمعلومات، لذلك يقول الزهري: كان سلمةُ يماري ابن عباس فحرم بذلك علما كثيرا. وإذا قد بينا بعض حقوقهم علينا فإننا ننتقل إلى نقطة أخرى وهي:
مشكلة القدح في العلماء
تلك المشكلة التي كان للمستعمرين يد كبيرة في بثها بين صفوف المسلمين؛ ليقطعوا بها الصلة الوثيقة بين المسلمين وبين علمائهم، وقطعها قطع للدين، إذْ العلماء هم المصدر لبيان شرع الله سبحانه وتعالى في هذا الزمن، وليس عجبا أن يصدر القدح في العلماء من أبناء المستعمرين كالعلمانيين والشيوعيين والبعثتين، وإنما العجب كل العجب أن يصدر هذا القدح ممن انتسب إلى الإسلام من الجماعات الحزبية؛ فإنهم الآن وللأسف الشديد يحملون لواء القدح في العلماء والاستخفاف بهم، تارة يرمونهم بأنهم علماء للدولة، وتارة بأنهم مشايخ حكومة، وتارة بأنهم تصاغ لهم القرارات، وأخرى بأنهم علماء حيض ونُفاس، وهلم جرا.
وهم في هذا القدح بين رجلين:
•إمّا مغرض له أهداف ومقاصد سيئة.
•أو مخدوع مغرَّر به، يُصاغ له باطل في قالب الحق فيَخاله صادقا.
والشبه التي ينخدع بها هؤلاء فيُلصق بالعلماء مثل هذه الفِرَاء, يمكن أن نكشفها، لكن الوقت لا قد يتسع لكشفها كلها، لكن أقتصر على أمرين لعل فيهما إزالة لما قد يتسّرب على أذهان بعض الناس من هذه الشائعات والمفتريات.
فأولا: نقول إنّ العلماء يقيدون تصرفاتهم بالكتاب والسنة وبالمصلحة الشرعية المعتبرة، بينما تلك الجماعات الحزبية تنطلق في الجملة من العاطفة الإسلامية والعقل المحض، وقد تتلمس شبها من الشرع للتدليل على منهجها، فالأصل المنهج العاطفي أو ما يسمي أيضا "بالشعور الإسلامي" ثم تلوى أعناق النصوص له، أو تورد معزولة عن فهم سلفنا الصالح، فمثلا العلماء يرون أن مناصحة ولي الأمر تكون على الطريقة النبوية, فيتمثلون لقول النبي ( فيما رواه ابن أبي عاصم بإسناد صحيح عن عياض بن خلف: «مَن أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلاّ كان قد أدى الذي عليه»، يقول أئمة الدعوة رحمة الله عليهم في ذلك كما في الدرر السنية الجزء (7): وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها منا صحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقادُ أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا -أي الاعتقاد غلط- فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريقة السلف وأئمة الدين. فهذا الأمر يوضح لنا أن ما يرضى به العلماء من المداهنة أو عدم الإنكار أو نحو ذلك أمر باطل؛ لأن الذي ينتقدهم هو يتصور أن الإنكار يجب أن يكون من على رؤوس المنابر، وأمام الناس ويكون بالتشهير ونحو ذلك، وهذه نظرة لا يقرها الشارع بدلالة مثل هذا النص الصريح الواضح، فالعلماء يتبعون مثل هذا النص، ويجعلون مناصحتهم سرية، ولذلك يثور الشباب، ويقولون: العلماء لا يتكلمون، العلماء لا ينكرون. وهلم جراً، وهذا قد حصل نظيره في زمن عثمان (، فإن التابعين جاؤوا أو بعضهم إلى أسامة بن زيد فقالوا له: أولا تدخل على هذا الرجل فتكلمه -يعنون عثمان (، فقالوا- أرأيتم أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح هذا الأمر أو دون أن أكون أول من فتح هذا الباب. يقول الحافظ وغيره: هذا الباب يعني باب الفتنة. يعني أن أول الفتنة إنما بالكلام ثم تدرج حتى تكون باليد، وجاء عن ابن عباس كما ذكره ابن رجب في ”جامع العلوم والحكم“ أنّه سأل سعيد ابن جبير عن مناصحة الحاكم فقال: فإن كنت ولا بد فاعلا ففيما بينك وبينه. فهذا وجه لعله يزيل ما ترسّب في أذهان من نظن فيهم الخير، وإلا فمن غلب عليه الهوى فهذا لا حيلة فيه؛ لأنك لو تلوت عليه النصوص من القرآن والسنة لم يقتنع إلا بفعله.
أمر ثاني أيضا لعله يزيل من ترسب في أذهانهم، نرى فيهم الخير ونظن فيهم إنشاء الله الخير، هو أنّ العلماء رحمة الله تعالى عليهم لا يرون تلازما بين إنكار المنكر وبين تغيير المنكر -وهنا نرجو الانتباه قليلا- العلماء لا يرون تلازما بين إنكارهم لمنكرات الولاة وبين تغييرها، فإذا أنكروا عليهم فقط برأت ذمتهم، وتغيرها ليس إليهم، فبمعنى أخر -نقول للتوضيح- نقول: إن العلماء يأمرون، ولكن لا يملكون شرعا ولا قدَرا سلطة التنفيذ مع وجود الحاكم المسلم. أمّا تلك الجماعات التي تثير مثل هذا الشغب وتُلصق هذه الفِرَى بالعلماء فهي ترى التلازم بين إنكار المنكر وبين تغيره، فنزاهم يرددون أنكارنا ثم أنكرنا ولم يغيروا شيئا، وهذا خطأ مخالف لنصوص السنة التي وردت في معاملة الحاكم الذي لم يكفر، فتأمل معي أيضا هذا الحديث وما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة أن رسول الله ( قال«إنّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِىءَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ، مَا صَلّوْا» معنى (كَرِهَ) َأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، ومعنى (أَنْكَرَ) أي أنكر بقلبه كما جاء ذلك في صحيح مسلم، وتقدم قبل قليل الحديث الذي فيه (فإن قبل منه فذاك وإلا فقد أدى الذي كان عليه)، فهذه هي نظرة علمائنا رحمة الله عليهم في مثل هذه القضايا، فمن قدح فيهم ورماهم بالمداهنة وقلة العلم فإنما أوتي بجهله من قبل الأحكام الشرعية وبالنصوص النبوية، ولا ريب أيها الإخوان أنّ رمي العلماء بهذه الفَرِية جُرْم شنيع وصدٌّ عن سبيل الله تعالى.
يقول أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى كما في الجزء السابع من الدرر السنية: ومما أدخل الشيطانُ على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب حرمان العلم النافع.انتهي كلامهم رحمة الله عليهم.
والعجب انطلاق البعض في قدح العلماء من جانب آخر لا يتطرق إليه القدح عند السَّالمين من الهوى، فالذي يقدح في العلماء لأنهم لم يبينوا للناس أمور السياسة، فيقول مثلا: ما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس قضاياهم السياسية، التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها، والتي تتعلق بمصالح الأمة. فهذا القائل ما أصاب في القدح؛ لأن العلماء كتبوا، وألفوا، ودرسوا السياسة الشرعية التي جاء بها الشرع ووضحها ونطقت بها النصوص، وهذا هو المطلوب منهم شرعا، أما إنْ كان مراده بيان الأخبار السياسية في المصطلح الحديث، كوقوع حرب في المكان الفلاني، وسقوط مدينة كابل من أيدي الشيوعيين إلى أيدي المشركين، وتسجن واعتقال فلان وفلان، فهذا ليس من وظيفة العلماء المطالبين بها، وإنما هم مطالبون ببيان الأحكام الشرعية في جمع القضايا التي تعرض في المجتمع أو تقع في المجتمع، فإن عليهم أن يبنوا حكمها الشرعي، لذلك هل تجد الإمام أحمد أو ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبد الوهاب يتكلمون في مثل هذه السياسات، يتكلمون في مثل الآن أحوال السودان، أحوال البوسنة والهرسك؟ لا؛ لأنّ هذه بالجملة ووظيفة ولي الأمر أومن يُنيبه في ذلك، ولكي يكون الكلام أدق فإني أقول: إنّ الغالب بل الأغلب على علماء الأمة عدم الخوض في هذه الأمور، وإن سألت عن الحجة فهذه مؤلفاتهم تفصح عن ذلك، نعم يحثون الناس على الجهاد وعلى الإنفاق، ونحو ذلك، أما أن يكون العلماء وكالة أنباء، فهذا ننزه عنه العلماء.
فعلماؤنا رحمة الله عليهم وحفظ الله حيهم يعتقدون شرعية الدولة، ووجوب السمع والطاعة لها، وبما أنهم كذلك فهم يدركون أن هذه الأمور من حقوق الولاة بالجملة فلا يخوضون فيها، وأما من يخوض فيها وينتقد العلماء وإذا لم يتكلموا فيها، أو من يوجبها على أعيان العلماء وطلبة العلم، فيقرنها بمسائل العلم الضرورية فهو مفتون مُغرض أو جاهل مفرط.
ومن أشنع القدح في العلماء التهكم بهم، عن طريق وصفهم بالانطواء على مسألة من الشرع هي من جملة عملهم كما يقول بعضهم علماء حيض ونفاس. نعم، هم ولله الحمد علماء وفقهاء في هذين البابين العظيمين، الذين ينبني عليهما الأحكام في العبادات والمعاملات والنكاح والطلاق شيء كثير، الناس أحوج إلى معرفته من الطعام والشراب، فضلا عن معرفة أحوال القتال الأفغاني والحكومة السودانية، ونحو ذلك، ولو وكلتَ إحدى الفتاوى العويصة في هذين الباين إلى أكبر فقهاء الواقع -كما يقال- لأعجم على لسانه، ولم يستطع أن يتكلم في الحيض والنفاس، فكيف بالله يتكلم في قضايا الأمة التي يقولون؟ هذا عين الجهل وعلامة الهوى، وبعضهم يقول ليس للعلماء في أكثر من بلد اسلامية إلا مسألتان:
•إعلان دخول رمضان وخروجه.
•والهجوم على من يسمونهم بالمتطرفين.
نعم، هذا ولله الحمد مدح وليس عيبا، فهم يعتنون بدخول شهر الصوم، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام، حتى لا يقدِّم المسلمون يوما أو يؤخرون يوما في فريضة الصيام، وكذلك هم يهاجمون المتطرفين؛ لأن التطرّف مذموم شرعا، وكذلك مذموم عقلا، ولذلك لما أصدر أحد المتطرفين كتابه المسمّى ”معالم في الطريق“ تصدّى له العلماء، فبينوا له تطرفه ومجانبته للصواب وموافقته أو تبنيه لفكر الخوارج، ومن هؤلاء مفتي الأزهر وشيخ مصر في ذلك الوقت حسن مأموم، والشيخ عبد اللطيف السبكي، والشيخ محمد المدني، وغيرهم، وأصدر هؤلاء فتاويهم بِجَهْلِ مؤلِّفِ ذلك الكتاب وتخطئته وتضليله في هذا الكتاب.
فهذا من مناقب العلماء وبيان فضلهم على الناس، لا من معايبهم ومن مناقصهم، ومما لا ريب فيه أنّ علماؤنا في هذا البلد لهم دور بارز في الدعوة إلى الله تعالى، فهذا برنامج نور على الدرب يسمعه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يتَبَيَّنون من خلاله أحكام دينهم من عبادات ومعاملات وهذه دروس العلماء في المساجد لا تحصى كثرة، وهذه مراكز الدعوة والإرشاد في كل مكان، وهذه توعية الحج، وهذه هيئة كبار العلماء، وهذه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا مجلس القضاء الأعلى، كلٌّ يدعو إلى الله تعالى في مكانه وعلى قدر استطاعته. نسأل الله تعالى لهم مزيد التوفيق والتسديد.
وفي ختام هذه النقطة أذكر كلمة لأبي القاسم بن عساكر نقلها عنه النووي في مقدمة ”المجموع“ يقول فيها: اعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته- أنَّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هَتْك مُتَنَقِّصهم معلومة، وأنّ من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب بلاه الله قبل موته بموت القلب. انتهى كلامه رحمه الله.
النقطة التي بعد هذه:
أهمية الارتباط بعلماء أهل السنَّة والجماعة
وأقصد بالارتباط أخذ المنهج عنهم وتلقي المعتقد السليم منهم، يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في ”جامع العلوم والحكم“ عندما تكلم عن الطريقة السليمة لأخذ العلم: ومن سلك طريقة العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أهله المجمع على درايتهم وهدايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك سبيلهم، فإنّ من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقتهم وقع في مفاوز ومهالك وأخذ بما لا يجوز الأخذ به وترك ما يوجب العمل به. انتهى كلامه رحمه الله.
فالارتباط بعلماء السلف أمر في غاية الأهمية، فبه سلم المرء من الانحراف والمعتقد والمنهج والسلوك، وتأمَّل معي نقلين سوف أتلوها الآن، يتبين لك ما كان عليه السلف رحمة الله عليهم من الارتباط الوثيق بسلفهم:
فقد جاء في ”تذكرة الحفاظ“ للإمام الذهبي رحمة الله تعالى عليه بترجمة أبي داود صاحب السنن أن بعض الأئمة قال: ”كان أبو داوود يُشَبَّه بأحمد بن حنبل في هَدْيِهِ ودَلِّهِ وسَمْتِهِ، وكان أحمد يُشَبَّه في ذلك بوكيع، وكان وكيع يُشَبَّه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور، ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود، وقال علقمة: كان ابن مسعودٍ يُشَبَّه بالنبي ( في هديه ودَلِّه.“ فهذا ارتباط في الهدي والدّل والسّمْت، فكيف بالمعتقد والمنهج؟
النقل الثاني: يقول ابن جرير الطبري وهو الإمام المشهور صاحب المذهب المستقل، يقول في كتابه صريح السنة في صفحة (25) من هذا الكتاب: وأما القَوْلُ في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا تابعي انقضى إلا عن من في قوله الفناء والشقاء رحمة الله عليه ورضوانه وفي اتباع الرشد والهدي ومن يقوم قوله لدينا مقام الأئمة الأولى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ... إلى آخر الكلام. فموطن الشاهد أنظر إلى الارتباط الوثيق في التلقي بين السلف رحمهم الله تعالى، والذي أحب تجليته، وإن كانت بعض العقول سوف تستعظمه أنّ من القواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة ضرورةَ ربط العامَّة بأشخاص تمثلت فيهم العقيدة السلفية والمنهج السليم لما؟ ليأخذ عنهم المعتقد والمنهج بكل تسليم وقبول؛ لأن عامة الناس لا يميزون الصحيح من السقيم، فلا سبيل إلى ربطهم على الجادة إلاّ الارتباط بأشخاص تمثلت فيهم السنة, ولذلك يقول الإمام قتيبة بن سعيد رحمة الله عليه: إذا رأيت الرجل يحب يحيى بن سعيد وعبد الرحمان بن مهدي وأحمد بن حنبيل وإسحاق بن راهوية فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع. ويقول أحمد بن عبد الله بن يونس امتحنْ أهل الموصل بمعاذ بن عمران فإنْ أحبُّوه فهم أهل السنة، وإن أبغضوه فهم أهل البدعة، كما يمتحن أهل الكوفة بيحيى. فانظر كيف جعل علامة تسنن الرجل محبة هؤلاء وعلامة زيغه بغض هؤلاء. في هذا وأمثاله ربط للعامة بهؤلاء الأعلام.
ولقد قررت هذا الكلام في ما سبق في محاضرة عامة، فاستنكر بعضهم ذلك وتعاظمه، ورماني بتعظيم الأشخاص وتقديسهم، وخطب في ذلك خطبة، بينما هو وغيره يبجِّلون صغار الأسنان مما لا يصل إلى كعب هؤلاء العلماء الأجلاء رحمة الله تعالى عليهم، والذي أريد أنْ أوصله إلى هؤلاء وأمثالهم أنَّ هذا التقرير ليس معناه الدعوة إلى التقليد ممن لا يسوغ له التقليد، فمن ساغ له التقليد فله أن يقلِّد، ليس معنى هذا الدعوة إلى التقليد، وإنما معنى هذا إيصال السلسلة إلى صاحب الشريعة ( متصلة، وهذه السلسلة حلقاتها هم أهل العلم؛ هم أهل السنة والجماعة، «مثْلُ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» كما قال (، فإذا اتصلت هذه السلسلة فأخذنا على علماء السنة وارتبطنا بهم، وعلماء السنة أخذوا على علماء السنة قبلهم، وهكذا وصلت السلسلة سليمة نقية إلى صاحب الشريعة (، وهذا الموضوع يستحق الإطالة والتشعب، وفيه شواهد كثيرة من حال السلف رحمة الله تعالى عليهم في ارتباط بعضهم ببعض، وأخذ بعضهم عن بعض، وحثّ بعضهم الناسَ جميعا على الالتزام بشخص تمثّلت فيه السنة، ولذلك الشافعي ( ورحمه يقول: من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر. قال له الربيع بن سليمان: تطلق عليه اسم الكفر؟ قال: نعم، من أبغض أحمد بن حنبل عاند السنة، ومن عاند السنة قصد الصحابة، ومن قصد الصحابة قصد النبي ( فهو كافر بالله العظيم. أو نحو هذا الكلام فيما ذكره القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة في أولها في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فهذا الكلام للشافعي ومن غيره ليس المقصود به تبجيل الإمام أحمد وتقديسه لذاته. لا, وإنما المراد أنّه عَلَمٌ على السنة، ولذلك كان العلماء يقولون نحن على اعتقاد أحمد بن حنبل ولا أحد ينكر عليهم، وأبو الحسن الأشعري في كتابه ”الإبانة“ قال: إني على اعتقاد الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وقَبِل العلماء منه ذلك، وصحّحوا معتقده الأخير الذي مات عليه إن شاء الله تعالى.
فيجب أن نَعِيَ هذه النقطة، وأن ننتبه لها انتباها كاملا قويا، فما دخل النقص إلا يوم أنْ ضَعُف ارتباطنا بعلمائنا رحمة الله تعالى ميتهم وحفظ حيَّهم.
النقطة الأخيرة في موضوع هذه الكلمة:
أثر العلماء على العباد
والكلام على هذه النقطة يطول إلاّ أنّني أقتصر على خطبة الإمام أحمد التي صدّر بها كتابه ”الرد على الزنادقة“ إذْ فيها ما يوضح جُلّ آثارهم على العباد، وهذه الخطبة رُويت عن عمر بن الخطاب ( كما في ”البدع والنهي عنها“ لابن وضاح لكنها في صيغة الإمام أحمد أتم.
يقول الإمام أحمد في مقدمة الرد على الزنادقة ”الحمد لله الذي جعل في كل زمان فَطْرة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عِقال الفتنة ...“ إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى فهذه بعض آثارهم الحميدة على الناس.
نسأل الله أن يجزيهم على الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وأن يثبتهم بقولهم الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
للشيخ
عبد السلام البرجس
-رحمه الله-
[شريط مفرغ]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:102] ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا?[النساء:1]، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا?[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم إن موضوع كلمتنا هذه الليلة، موضوع في غاية الأهمية؛ لاحتياج كل فرد من أفراد الأمة إلى معرفته والإلمام به، وما طرأ على هذه الأمة من النقص والضَّعف إلا من جرّاء التفريط في معالم من معالم الدين الإسلامي، ومن هذه المعالم: احترام العلماء، ومعرفةُ مكانتهم في الشرع، ولا غَرْوَ أن يكون هذا الموضوع من معالم الدين التي إذا ضُيِّعت صُدع بالدين صدع، وسَقَط منه بناء فإن العلماء هم السلسلة الموصلة إلى صاحب الشريعة (، وهُم حملة الدين، وبهم وصل شرع الله سبحانه وتعالى إلينا، فإذا لم يُحترم هؤلاء ولم تُعرف حقوقهم، فلا تسأل عن الفوضى في الناس، فلا تسأل عن الفوضى في الناس فيما يتعلق بأعظم شيء عندهم وهو دينُهم، ومن هنا فإنّنا سنتكلم عن موضوعنا هذا في ضوء النُّقاط التالية:
النقطة الأولى: فضل العلماء وبيان مكانتهم في الشرع.
والنقطة الثانية: من هم العلماء؟
والنقطة الثالثة: حقوق العلماء علينا.
والنقطة الرابعة: مشكلة القدح في العلماء.
والتي بعدها: ضرورة الارتباط بعلماء أهل السنة والجماعة.
النقطة التي تليها: آثار العلماء على البلاد والعباد.
أمّا النقطة الأولى وهي:
فضل العلماء ومكانتهم في الشرع
فإنّ النصوص من الكتاب والسنة تتابعت على بيان فضلهم، وأجمعت الأمة على عُلوِّ منزلتهم وشرف عملهم.
قال الله سبحانه وتعالى(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ([آل عمران:18]، ففي هذه الآية استشهد الله سبحانه وتعالى بأولي العلم من خلقه على أجلِّ مشهود عليه وهو توحيده سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، وهذا يدل على فضل العلماء من وجوه كثيرة:
• منها أنه تعالى استشهد بهم، ولم يستشهد بغيرهم من البشر.
• ومنها أنه تعالى قرن شهادتهم بشهادته سبحانه وتعالى.
• ومنها أيضا أنّ مضمون هذه الشهادة تزكيتُهم وتعديلهم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يُشهد من خلقه إلا العدول.
• ومنها أنه سبحانه استشهد بهم على أجلِّ مشهود به وأعظمه وأكبره وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ومن العلوم أنّ العظيم القدْر إنّما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم.
فهذه الأوجه وغيرُها دالة على مكانة العلماء العلية وعظم قدْرهم عند الله سبحانه وتعالى.
ومما يدل على فضلهم في كتاب الله عز وجل أنه سبحانه نفى التسوية بين أهل العلم وبين غيرهم، مما يدل على غاية فضلهم وشرفهم، فقال الله عز وجل ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ([الزمر:9]، والمعنى هل يستوي من كان عالما بربه، عالما بأحكام الشرع عاما بجزاء الله عز وجل، هل يستوي هذا ومن لا يعلم شيئا من ذلك؟ الجواب: كلا، لا يستوون، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.
ومما يدل على فضلهم في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه(يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ([المجادلة:11]، وقوله سبحانه وتعالى(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا([البقرة:269]، فهذه شهادة من الله تعالى لمن آتاه العلم بأنه قد آتاه خيرا كثيرا، والحكمة هنا هي العلم النافع والعمل الصالح، فهذا طرف مما جاء في كتاب الله تعالى في فضل العلماء، وبيان منزلتهم في الشرع.
أما سنة رسول الله ( فهي مليئة بالثناء عليهم، والحثِّ على توقيرهم واحترامهم؛ لعِظَم العلم الذي قام بهم، ولشرف العلم الذي وَقَرَ في أفئدتهم.
فمن ذلك ما رواه الشيخان عن معاوية ( قال: سَمِعْتُ رسول الله ( يقول «مَنْ يُرِدِ اللّهُ به خَيراً يُفَقّهْهُ في الدّين»، والفقه هنا هو العلم المستلزم للعمل، فدلّ الحديث على أنّ من أراد الله سبحانه وتعالى به خيرا وفقه لهذا الفقه ويسّره له، وهذا هو مقام العلماء, ومفهوم الحديث أن من لم يُرد الله تعالى به خيرا لا يفقه في دينه، وهذا مشاهَد ملموس؛ فإن مَنْ لم يكن فقيها في شرع الله سبحانه وتعالى عالما بأحكام دينه وقع في الخطأ والزلل في كثير من عباداته ومعاملاته، بخلاف العالِم فإنّ عباداته ومعاملاته مبنية على الحجج الشرعية والنصوص، فلا يقع في آدائها خلل إلا ما نَدُرَ مما لا يُعصم منه أحد من العلماء وغيرهم.
ومما ورد في السنّة في بيان فضل العلماء وعلوّ شأنهم؛ ما رواه الشيخان أيضا عن أبي موسى الأشعري ( قال: قال النبي ( « مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَىَ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ. فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعَوْا. وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَىَ، إِنّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً. وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ففي هذا الحديث العظيم تشبيهان بليغان:
التشبيه الأول: تشبيه العلم والهدى الذي جاء به الرسول ( بالغيث؛ أي بالمطر، بجامع أن كُلاًّ منهما تحصل به الحياة وتنشأ عنه المنافع:
( فالماء تحصل به حياة الأرض كما قال جل وعلا عن الغيث(فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([فاطر:9]، وقال تعالى(وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا([البقرة:164].
( كما أن العلم والهدى تحصل به حياة الروح كما قال الله عز وجل(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا([الأنعام:122]، وقال تعالى(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ([الأنفال:24]. فهذا هو التشبيه الأول.
التشبيه الثاني: تشبيه القلوب بالأراضي؛ بجامع أن كُلاًّ منهما محل للتَّقَبُّل: فالأرض ينزل عليها المطر، كما أن القلوب يقع عليها العلم، فهذا محل للعلم، وهذا محل للماء.
ثم قسَّم النبي ( الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظ وفهم العلم الذي أرسل به النبي (:
فالقسم الأول:من جمع بين الفضيلتين؛ بين الحفظ للشريعة الإسلامية والفهم فيها، فهو يحفظ نصوصها؛ يحفظ القرآن والسنة، وهو في الوقت نفسه يفهم مراد الشارع من هذه النصوص، فيُوفَّق لموافقة الصواب، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث بقوله(فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ)، وقوله (قَبِلَتِ الْمَاءَ) هذا كناية عن الحفظ، (فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ) وهذا كناية عن الفهم، وعن النفع فهو منتفع في نفسه نافع غيره.
القسم الثاني من الناس: من حصل على فضيلة من الفضيلتين، وهي الحفظ فقط، رزقه الله تعالى حافظة قوية، فحفظ القرآن والسنة، لكن لم يؤتَ فهما لمعانيها، ولاستنباط الأحكام منها، وهذا القسم هو الذي أشار إليه الحديث في قوله (وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ).
فهذان القسمان هُمُ السعداء، وهم أرفع درجة وأعلى قدْرا، و(ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ((1) فلهم الفضل الكبير على الناس بما حفظوا عليهم من دينهم، وبما استنبطوا من الأحكام الشرعية ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم، فكانوا كما قال الشاعر:
متى يمت عالم منها يمت طرف
وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلف
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس.
القسم الثالث: من حُرم الفضيلتين؛ فلم يُعط حفظا ولم يُعط أيضا فهما، فهُم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء الذين رضعوا ثُدِيَّ الجهل، ورضوا به، فهو وصف الذين لا يوصفون بسواه، حتى ولو تتوجوا بالزَّبَرْجَدِ ولبسوا أنعم اللباس، وركبوا أهنى المراكب.
هذه هي الأقسام التي ذكرها الحديث، ثم بعد ذلك بيَّن أحكامها.
فأما القسمان الأول والثاني فالإشارة إلى حُكمهما في قوله (فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ, وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلّمَ) أي علم في نفسه أولا، ثم أبدى علمه إلى الناس فانتفعوا به في تبيين الحلال من الحرام.
أما القسم الثالث فالإشارة إلى حكمة في قوله (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)، فظهر بهذا التشبيه في هذا الحديث فضل العلماء ومكانتهم وعموم نفعهم.
ومما ورد في ذلك أيضا: ما رواه أبو داوود والترمذي، وهو حديث صحيح، عن أبي الدرداء ( قال: سمعت رسول الله ( يقول «مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَبْتَغِي بِه عِلْماً سَلَكَ الله له طَرِيقاً إِلَى الْجَنّةِ, وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا رِضًى لِطَالِبِ العِلْمِ بِمَا يَصْنَعُ, وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ حَتّى الْحِيتَانُ في المَاءِ, وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ, كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ, وإِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ, وإنّ الاْنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً, وإِنّمَا وَرّثُوا الْعِلْمَ, فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ» فهذا الحديث العظيم يبين فضل العلماء بيانا كافيا من وجوه عديدة منها:
• تعظيم الملائكة لأهل العلم وحبها لهم، ولذا فإنها تضع أجنحتها لهم رضى عنهم وتوقيرا لعملهم هذا وتعظيما لهم، وقد فُسِّر قوله (تَضَعُ أَجْنَحِتَهَا) ببسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الأيدي كما قاله الإمام مالك، وذهب آخرون إلى أن هذا الوضع حقيقي؛ وهو تواضع وتوقير وتبجيل.
• ومن أوجه بيان فضل العلماء من هذا الحديث: أنه أخبر أنّ كل مخلوق في السمـاوات و في الأرض يستغفر لهذا العالِم، حتى أن الحوت الذي في الماء لينطق بالاستغفار؛ فيطلب المغفرة لهذا العالِم، والحكمة في ذلك -والله تعالى أعلم- أنّ العالم هو سبب نجاة العباد بما يأمرهم به من معـــروف وينهاهم عن منكر، وفعله هذا يعود على كل مخلوق بالنفع والبركة؛ فالحيــوانات تُصيبها بركة طاعة العُبَّاد والعباد، كما تُؤَثِّر عليها معاصي العباد، وكذلك الأرض والشجـــر، ونحو ذلك، فلمّا كان فِعْل العالم بتعليم العلم والدعوة إلى الهدى، يَعُمُّ نفعه كل موجود جُوزِيَ من جنس عمله؛ فجُعِل مَن في السماوات ومن في الأرض ساعيا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له.
• ومن أوجه بيان فضل هذا الحديث بيان هذا الحديث لفضل العلماء: أنّه قارن بين العالم و العابد، وهذه المقارَنة تبـين منزلة كل واحد منهما؛ فالعالم بالنسبة للعابد يُشَبَّه بالقمر بالنسبة إلى الكواكب، وبهذه المقارنة يتميز ويتجلى فضل العالم على العابد، فكيف بمن سوى العابد؟ فالعالم بمنزلة القمر الذي يضيء الآفاق كلَّها، ويمتد نوره في أقطار العالم، أما العابد فهو بمنزلة الكوكب -وتعرفون أن الكوكب لا يتجاوز نوره نفسه أو ما يقرب من محيطه- ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف ولا يصح مرفوعا”فقيه واحد أشَدُّ على إبليس من ألف عابد“ ويبين هذه الحقيقة ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله تعالى في”جامع بيان العلم وفضله“ عن ابن عباس أنه قال”إن الشياطين قالوا لإبليس: مالنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟ فقال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد قائم يصلي، فقالوا: له إنا نريد أن نسألك، فانصرف فقال له إبليس: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: لا. فقال: أترونه كفر في ساعته. ثم جاء إلى عالم في حلقة يضاحك أصحابه ويحدثهم، فقال: إنا نريد أن نسألك. فقال: سل. فقال: هل يقدر ربك أن يجعـل الدنيا في جوف بيضـة. قال:نعــم. فقال: وكيف؟ قال: يقول لذلك(كن فيكون). قال إبليس: أترون ذلك لا يعدو نفسه، وهذا يفسد عليَّ عالَما كثيرا. “انتهى. فمن هذا الأثر يظهر لنا البَوْنُ الشاسع بين العالم والعابد، ويظهر لنا ما للعالم من فضل بعد الله سبحانـه وتعالى على الناس.
ومن أوجه فضل العلماء في هذا الحديث أن جعل العلماء ورثة الأنبياء، وهذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإنّ الأنبياء خير خلق الله تعالى، فورثتهم خير الخلق بعدهم، وقد دلّ ذلك بمفهومه على أن العلماء أقرب الناس إلى الأنبياء؛ لأنّ الميراث إنّما يكون لأقرب الناس إلى المورث.
كما أفاد أيضا حثَّ الأمة على طاعتهم، واحترامهم، وتوقيرهم، وإجلالهم، فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة.
كما أفادت أيضا محبتهم من الدين، وبُغضهم مناف للدين، كما هو ثابت لمورِّثهم. يقول علي ابن أبي طالب ( ”محـبة العلماء دِينٌ يُدان به“.
فهذا جزء يسير من النصوص الشرعية الواردة في شرف العلماء، وعلو منازلهم، وبيان مكانتهم في الدين, اقتصرنا عليها مراعاة للاختصار، وإلا فهي كما قال الشاعر:
يكاد بها ذو العلم فوق السهى يسمو
عن المصطفى فاسأل به من لـه علم
فقد كلّ عن إحصائه النثر والنظم
وكم في كتاب الله من مِدْحَة لـه
وكم خبر في فضله صح مسنداً
فلست بمحص فضله إن ذكرته
و إذ قد بيناّ بعض فضائلهم فإننا ننتقل إلى النقطة التالية وهي:
تحديد المفهوم الصحيح لمن يُطلق عليه لفظ العلماء
وهذه النقطة من الأهمية بمكان، إذ بسبب عدم إدراكها من الكثيرين تخلل صفوف العلماء من ليس منهم، فوقعت الفوضى العلمية التي نتجرع الآن غُصَصَها، ونشاهِد مآسيها بين آونة و أخرى.
إنّ من يستحق أن يطلق عليه لفظ العالم في هذا الزمن -وأقولها بكل صراحة- قليل جداًًََََّ، ولا نبالغ إن قلنا نادر، وذلك أنّ للعالم صفات قد لا ينطبق كثيرٌ منها على أكثر من ينتسب إلى العلم اليوم.
فليس العالم من كان فصيحا بليغا، بليغا في خطبه، بليغا في محاضراته، ونحو ذلك، وليس العالم من ألف كتابا، أو نشر مؤلفا، أو حقق مخطوطة أو أخرجها؛ لأن وزْن العالم بهذه الأمور فحسب هو المترسب وللأسف في كثير من أذهان العامة، وبذلك انخدع العامة بالكثير من الفصحاء والكتاب غير العلماء، فأصبحوا محل إعجابهم، فتري العامّي إذا أسمع المتعالم من هؤلاء يُجيش بتعالمه الكذّاب يضرب بيمينه على شماله تعجبا من علمه وطَرَبَه، بينما العالمون يضربون بأيمانهم على شمائلهم حُزنا وأسفا لانفتاح قبح الفتنة. فالعالم حقا من تَوَلَّعَ بالعلم الشرعي، وألَمَّ بمجمل أحكام الكتاب والسنة، عارفا بالناسخ والمنسوخ، بالمطلق والمقيد، بالمجمل والمفسر، واطلع أيضا على أقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، فقد عقد ابن عبد البر رحمه الله تعالى في ”جامع بيان العلم وفضله“ بابا فيمن يستحق أن يسمى فقيها أو عالما، فليرجع إليه في الجزء (2) ص (43).
ولا ريب أن تحصيلهم لهذه الأحكام الشرعية قد استغرق وقتا طويلا، واستفرغ جهدا كبيرا، وأضافوا إلى ذلك أيضا عدم الانقطاع عن التعلم، وقد ورد في بعض الآثار أن موسى سأل ربه أي عبادك أعلم؟ قال: الذي لا يشبع من العلم. فمن كان هذا حاله فهو العالم الذي يستحق هذا اللفظ الجليل، إذْ هو المبلغ لشرع الله تعالى, المُوَقِّع عنه سبحانه وتعالى, القائم لله عز وجل بالحجة على خلقه ولو قَلَّ كلامه ونَدُر، أو عُدِم تأليفه.
فهنا فائدة مهمة، تبين أن جذور الاغترار بمن كثر كلامه قديمة جدا، وليس حادثة جديدة، وليست وليدة الساعة، هذه الفائدة هي ما سطّره الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه القيم النافع فضل علم السلف على علم الخلف، راداً به على من اغتر بكثرة الكلام، واعتبره معيارا للعالم، يقول رحمه الله تعالى كما في كتابه الآنف الذكر: وقد ابتلينا بجهلة من الناس, يعتقدون في بعض من توسَّع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كلِّ من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، -ثم ذكر الثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وقال- فإنّ هؤلاء كلهم أقل كلاما ممن جاء بعدهم، وهذا -أي هذا التفصيل- تَنَقُّص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبتهم إلى الجهل وقصور العلم, ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم ذكر أثر ابن مسعود ( وفيه أنه قال ”إنّكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه، فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم“. انتهى كلامه رحمه الله.
وهو يشير إلى من توسع في القول في مسائل العلم، وهذا يجب أن يلحظ، فكيف لو رأى متكلمي زماننا الذين اتخذهم الناس رؤساء علماء، وهم إنما يتكلمون عمَّا يسمونه بِفقه الواقع، أما فقه الشرع، وهو ما يسمونه بفقه الحيض والنفاس، فهذا في نظرهم قد تعداه الزمن، ولم يصبح بحاجة ماسة إليه الناس، ولذا فإنّ فقه الواقع يجعلونه فرض عين على كل عالم وطالب علم، أما فقه الحيض والنفاس فهذا فرض كفاية. أقول كيف لو رأى هؤلاء الذين لعبوا بعقول الناس، وصرفوهم عن دين الله عز وجل وشرعه إلى أهواء سوَّلَها لهم الشيطان وصدَّهم بها عن سبيل الله تعالى، لا ريب أنّ توجعه رحمه الله تعالى أقوى وأن شكايته أحق.
ومما ينبغي أن يميَّز به من يُطلق عليه لفظ عالم. كبر السن، وهذا وإن لم يكن شرطا في بلوغ مرتبة العلماء إلا أن في هذا الزمن ينبغي أن يُجعل هذا كشرط لما يترتب على أخذ العلم عن الصغار من المفاسد الكثيرة، وأيضا لعدم قُدرة كثير من الناس اليوم على تمييز العالم من غيره، ولذا قال عبد الله بن مسعود ( فيما صح عنه يقول ”لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعن علمائهم، فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا“. وقد أسند الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ”نصيحة أهل الحديث“ بسنده إلى ابن قتيبة أنه سئل عن معنى هذا الأثر، فأجاب بما نصه، يقول ابن قتيبة: يريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ ولم يكن علماؤهم الأحداث، -ثم يعلل هذا التـفسير فيقول- لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحِدَّتُه وعجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزل الشيطان استزلال الحَدَث، ومع السّن الوقار والجلال والهيبة، والحَدَث قد تدخل عليه هذه الأمور التي أُمنت على الشيخ فإذا دخلت عليه و أفتى هلك وأهلك. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وهو كلام جدير بالتأمل, إن كان بعض العلماء يرى أن بعض الأصاغر هنا هم أهل البدع، فإن الصغار هنا لفظ عام، يتناول الصغير لفظا والصغير معنى، فعلى هذا ينبغي التوجه إلى أهل العلم الكبار وأخذ العلم عنهم ماداموا موجودين، أمّا لو كان الإنسان في بلد ليس فيها كبير وهناك صغير عنده من العلم ما يؤهله للتدريس، ويؤهله لتلقي العلم عنه، فلا بأس حينئذ للحاجة. لكن العيب كلَّ العيب أن يكون العلماء الكبار موجودين متوافرين فينصرف الإنسان عنهم إلى من دونهم.
هذا وهناك علامات يتميز بها أهل العلم النافع، أقول النافع؛ لأن العلم قسمان: علم نافع، وعلم ضار. فهناك علامات يتميز بها أهل العلم النافع؛ الذين ورد الشرع بفضائلهم وبتزكيتهم، وهذه العلامات قد ذكر بعضها ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه الآنف الذكر، سأنقل بعض كلماته رحمه الله بنوع تصرف، يقول رحمه الله في علامات ومميزات أهل العلم النافع، وهذه العلامات إنما نذكرها ليستطيع الإنسان أن يميز بين العالم وبين غيره من خلال هذه الصفات، يقول رحمه الله عن هؤلاء العلماء:
• إنّهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما، ويكرهون بقلوبهم التزكية و المدح، ولا يتكبرون على أحد، وأهل العلم النافع كلما ازدادوا في العلم ازدادوا تواضعا لله وخشية وانكسارا وذُلاًّ.
• ومن علاماتهم أيضا -هذا كلامه - الهرب من الدنيا، وأولى ما يهربون عنه منها الرِّياسة والشُّهرة والمدح، فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات أهل العلم النافع، فإنْ وقع شيء من ذلك -يعني الرياسة أو الشهرة أو المدح- من غير قصد واختيار كانوا على خوف شديد من عاقبته وخشوا أن يكون مكرا واستدراجا، كما كان الإمام أحمد رحمه الله يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد سيطه.
• ومن علاماتهم أيضا أنهم لا يدعون العلم، فلا يفخرون على أحد، ولا ينسبون غيرهم إلى الجهل؛ إلا من خالف(2) السنة وأهلها فإنهم يتكلمون فيه غضبا لله، لا غضبا للنفس، ولا قصدًا لرفعتها على أحد.
• ومن علاماتهم أيضا أنهم سيؤون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم، وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها، وكان ابن المبارك إذا ذَكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن بذكرانا لذِكـرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقعـد
ولعل في هذه العلامات ما يستطيع به العامِّي وأمثاله أن يميز بين من يستحق أن يُطلق عليه لفظ العالم ممن لا يستحق هذا اللفظ، والفائدة المَرْجُوَّة من هذا التمييز هي الأخذ عن أهل العلم النافع دون من عَدَاهم من متكلم فصيح و كتاب كبير ممن ليس من أهل العلم.
وبعد أن بين ابن رجب رحمه الله تعالى علامات ومميزات أهل العلم النافع، فإننا ننقل من هذه النقطة التي وضحت إن شاء الله أو كادت إلى النقطة الثالثة وهي:
حقوق العلماء علينا
حقوق العلماء منها ما يُطالب به تلامذتهم، ومنها ما يطالب به عامة الناس، ونحن هنا نذكر بعض الحقوق المشتركة بين تلامذتهم وبين العامة.
• فمن حقوقهم علينا توقيرهم، واحترامهم، والتواضع لهم، وخفض الجناح لهم، يقول طاووس رحمه الله تعالى: من السنة أن يوقَّر العالم. وقد ثبت في سنن أبي داوود أن النبي ( قال «إِنّ مِنْ إِجْلاَلِ الله إِكْرَامَ ذِي الشّيْبَةِ المُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السّلْطَانِ المُقْسِطِ ». وقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه ”الجامع“ تحت باب تعظيم المحدِّث وتجليده ذكر أثرا عن كعب الأنصار لا بأس بإرادة من باب الاستئناس به يقول كعب: ثلاثة نجد في الكتاب يحق علينا أن نُكرِمهم، وأنْ نشرِّفهم، وأن نوسِّع عليهم في المجالس: ذو السن، وذو السلطان بسلطانه، والحامل للكتاب. ومن هذا الباب قصة عبد الله بن عباس المشهور عندما أخذ بركاب بن ثابت فقال لزيد: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ فقال: ابن عباس إنا هكذا نصنع بالعلماء. أو هكذا يفعل بالعلماء. وقد عُوتب الشافعي رحمه الله على تواضعه للعلماء فقال:
أهين لهم نفسي فهم يكرمونهـا و لن تكرم النفس التي لا تهينهـا
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيضا: أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. فحق العالم علينا أن نتواضع له وأن نجله ونقدره وأن نحترمه.
• ومن حقوق العلماء أيضا ولعله من أعظم الحقوق الدعاء لهم والاستغفار لهم، وقد تقدم الحديث في قوله (وَإِنّ العَالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ في السّمَاواتِ وَمَنْ في اْلأَرْضِ) وثبت في سنن أبي داود(3) أو لعله الترمذي عن أبي أمامة ( أن النبي ( قال«إِنّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ الأرض حَتّى النّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتّى الْحُوتَ لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ» ومعنى (يُصَلّونَ) يعني يدعون، وثبت أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال«وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ, فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُوه بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ» وأي معروف أعظم علينا في هذه الدنيا من معروف العالم؛ الذي يدلنا على ما يسعدنا في الدين والدنيا.
• ومن حقوقهم أيضا ما جاء عن على ( أنه قال -كما ذكره ابن جماعة وقبله ابن عبد البر- أنه قال: من حق العالم عليك أن تُسَلِّم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك إليه، ولا تغمز بعينك، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابَنَّ عنده أحد، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم لخدمته، ولا تسارّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا الكسل، وتشبع من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء. ولقد جمع ( في هذه الوصية ما فيه الكفاية.
فهذه جملة من حقوق العلماء علينا، وهي كثيرة، نسأل الله أن يوفقنا للعمل بها، فمتى ما عملنا بها مخلصين لله تعالى فقد قمنا بواجبنا تجاههم، وهيأْنا أيضا لهم الجو لإعطائنا مزيدا من علمهم ومعارفهم، ولذلك يقول ابن جُريْج: لم استخرج الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به. فحسن المعاملة مع العالم تشرح صدره، فينعكس ذلك على إعطائه، فيعطى عطاء جيدا مثمرا، كما أن سوء معاملته أو عدم التأدب معه يؤثر على إخراجه للمعلومات، لذلك يقول الزهري: كان سلمةُ يماري ابن عباس فحرم بذلك علما كثيرا. وإذا قد بينا بعض حقوقهم علينا فإننا ننتقل إلى نقطة أخرى وهي:
مشكلة القدح في العلماء
تلك المشكلة التي كان للمستعمرين يد كبيرة في بثها بين صفوف المسلمين؛ ليقطعوا بها الصلة الوثيقة بين المسلمين وبين علمائهم، وقطعها قطع للدين، إذْ العلماء هم المصدر لبيان شرع الله سبحانه وتعالى في هذا الزمن، وليس عجبا أن يصدر القدح في العلماء من أبناء المستعمرين كالعلمانيين والشيوعيين والبعثتين، وإنما العجب كل العجب أن يصدر هذا القدح ممن انتسب إلى الإسلام من الجماعات الحزبية؛ فإنهم الآن وللأسف الشديد يحملون لواء القدح في العلماء والاستخفاف بهم، تارة يرمونهم بأنهم علماء للدولة، وتارة بأنهم مشايخ حكومة، وتارة بأنهم تصاغ لهم القرارات، وأخرى بأنهم علماء حيض ونُفاس، وهلم جرا.
وهم في هذا القدح بين رجلين:
•إمّا مغرض له أهداف ومقاصد سيئة.
•أو مخدوع مغرَّر به، يُصاغ له باطل في قالب الحق فيَخاله صادقا.
والشبه التي ينخدع بها هؤلاء فيُلصق بالعلماء مثل هذه الفِرَاء, يمكن أن نكشفها، لكن الوقت لا قد يتسع لكشفها كلها، لكن أقتصر على أمرين لعل فيهما إزالة لما قد يتسّرب على أذهان بعض الناس من هذه الشائعات والمفتريات.
فأولا: نقول إنّ العلماء يقيدون تصرفاتهم بالكتاب والسنة وبالمصلحة الشرعية المعتبرة، بينما تلك الجماعات الحزبية تنطلق في الجملة من العاطفة الإسلامية والعقل المحض، وقد تتلمس شبها من الشرع للتدليل على منهجها، فالأصل المنهج العاطفي أو ما يسمي أيضا "بالشعور الإسلامي" ثم تلوى أعناق النصوص له، أو تورد معزولة عن فهم سلفنا الصالح، فمثلا العلماء يرون أن مناصحة ولي الأمر تكون على الطريقة النبوية, فيتمثلون لقول النبي ( فيما رواه ابن أبي عاصم بإسناد صحيح عن عياض بن خلف: «مَن أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلاّ كان قد أدى الذي عليه»، يقول أئمة الدعوة رحمة الله عليهم في ذلك كما في الدرر السنية الجزء (7): وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام، فالواجب فيها منا صحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس، واعتقادُ أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا -أي الاعتقاد غلط- فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتّب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا كما يعرف ذلك من نور الله قلبه وعرف طريقة السلف وأئمة الدين. فهذا الأمر يوضح لنا أن ما يرضى به العلماء من المداهنة أو عدم الإنكار أو نحو ذلك أمر باطل؛ لأن الذي ينتقدهم هو يتصور أن الإنكار يجب أن يكون من على رؤوس المنابر، وأمام الناس ويكون بالتشهير ونحو ذلك، وهذه نظرة لا يقرها الشارع بدلالة مثل هذا النص الصريح الواضح، فالعلماء يتبعون مثل هذا النص، ويجعلون مناصحتهم سرية، ولذلك يثور الشباب، ويقولون: العلماء لا يتكلمون، العلماء لا ينكرون. وهلم جراً، وهذا قد حصل نظيره في زمن عثمان (، فإن التابعين جاؤوا أو بعضهم إلى أسامة بن زيد فقالوا له: أولا تدخل على هذا الرجل فتكلمه -يعنون عثمان (، فقالوا- أرأيتم أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح هذا الأمر أو دون أن أكون أول من فتح هذا الباب. يقول الحافظ وغيره: هذا الباب يعني باب الفتنة. يعني أن أول الفتنة إنما بالكلام ثم تدرج حتى تكون باليد، وجاء عن ابن عباس كما ذكره ابن رجب في ”جامع العلوم والحكم“ أنّه سأل سعيد ابن جبير عن مناصحة الحاكم فقال: فإن كنت ولا بد فاعلا ففيما بينك وبينه. فهذا وجه لعله يزيل ما ترسّب في أذهان من نظن فيهم الخير، وإلا فمن غلب عليه الهوى فهذا لا حيلة فيه؛ لأنك لو تلوت عليه النصوص من القرآن والسنة لم يقتنع إلا بفعله.
أمر ثاني أيضا لعله يزيل من ترسب في أذهانهم، نرى فيهم الخير ونظن فيهم إنشاء الله الخير، هو أنّ العلماء رحمة الله تعالى عليهم لا يرون تلازما بين إنكار المنكر وبين تغيير المنكر -وهنا نرجو الانتباه قليلا- العلماء لا يرون تلازما بين إنكارهم لمنكرات الولاة وبين تغييرها، فإذا أنكروا عليهم فقط برأت ذمتهم، وتغيرها ليس إليهم، فبمعنى أخر -نقول للتوضيح- نقول: إن العلماء يأمرون، ولكن لا يملكون شرعا ولا قدَرا سلطة التنفيذ مع وجود الحاكم المسلم. أمّا تلك الجماعات التي تثير مثل هذا الشغب وتُلصق هذه الفِرَى بالعلماء فهي ترى التلازم بين إنكار المنكر وبين تغيره، فنزاهم يرددون أنكارنا ثم أنكرنا ولم يغيروا شيئا، وهذا خطأ مخالف لنصوص السنة التي وردت في معاملة الحاكم الذي لم يكفر، فتأمل معي أيضا هذا الحديث وما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة أن رسول الله ( قال«إنّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِىءَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ، مَا صَلّوْا» معنى (كَرِهَ) َأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ، ومعنى (أَنْكَرَ) أي أنكر بقلبه كما جاء ذلك في صحيح مسلم، وتقدم قبل قليل الحديث الذي فيه (فإن قبل منه فذاك وإلا فقد أدى الذي كان عليه)، فهذه هي نظرة علمائنا رحمة الله عليهم في مثل هذه القضايا، فمن قدح فيهم ورماهم بالمداهنة وقلة العلم فإنما أوتي بجهله من قبل الأحكام الشرعية وبالنصوص النبوية، ولا ريب أيها الإخوان أنّ رمي العلماء بهذه الفَرِية جُرْم شنيع وصدٌّ عن سبيل الله تعالى.
يقول أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى كما في الجزء السابع من الدرر السنية: ومما أدخل الشيطانُ على بعض المتدينين اتهام علماء المسلمين بالمداهنة، وسوء الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، وهذا سبب حرمان العلم النافع.انتهي كلامهم رحمة الله عليهم.
والعجب انطلاق البعض في قدح العلماء من جانب آخر لا يتطرق إليه القدح عند السَّالمين من الهوى، فالذي يقدح في العلماء لأنهم لم يبينوا للناس أمور السياسة، فيقول مثلا: ما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس قضاياهم السياسية، التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها، والتي تتعلق بمصالح الأمة. فهذا القائل ما أصاب في القدح؛ لأن العلماء كتبوا، وألفوا، ودرسوا السياسة الشرعية التي جاء بها الشرع ووضحها ونطقت بها النصوص، وهذا هو المطلوب منهم شرعا، أما إنْ كان مراده بيان الأخبار السياسية في المصطلح الحديث، كوقوع حرب في المكان الفلاني، وسقوط مدينة كابل من أيدي الشيوعيين إلى أيدي المشركين، وتسجن واعتقال فلان وفلان، فهذا ليس من وظيفة العلماء المطالبين بها، وإنما هم مطالبون ببيان الأحكام الشرعية في جمع القضايا التي تعرض في المجتمع أو تقع في المجتمع، فإن عليهم أن يبنوا حكمها الشرعي، لذلك هل تجد الإمام أحمد أو ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن عبد الوهاب يتكلمون في مثل هذه السياسات، يتكلمون في مثل الآن أحوال السودان، أحوال البوسنة والهرسك؟ لا؛ لأنّ هذه بالجملة ووظيفة ولي الأمر أومن يُنيبه في ذلك، ولكي يكون الكلام أدق فإني أقول: إنّ الغالب بل الأغلب على علماء الأمة عدم الخوض في هذه الأمور، وإن سألت عن الحجة فهذه مؤلفاتهم تفصح عن ذلك، نعم يحثون الناس على الجهاد وعلى الإنفاق، ونحو ذلك، أما أن يكون العلماء وكالة أنباء، فهذا ننزه عنه العلماء.
فعلماؤنا رحمة الله عليهم وحفظ الله حيهم يعتقدون شرعية الدولة، ووجوب السمع والطاعة لها، وبما أنهم كذلك فهم يدركون أن هذه الأمور من حقوق الولاة بالجملة فلا يخوضون فيها، وأما من يخوض فيها وينتقد العلماء وإذا لم يتكلموا فيها، أو من يوجبها على أعيان العلماء وطلبة العلم، فيقرنها بمسائل العلم الضرورية فهو مفتون مُغرض أو جاهل مفرط.
ومن أشنع القدح في العلماء التهكم بهم، عن طريق وصفهم بالانطواء على مسألة من الشرع هي من جملة عملهم كما يقول بعضهم علماء حيض ونفاس. نعم، هم ولله الحمد علماء وفقهاء في هذين البابين العظيمين، الذين ينبني عليهما الأحكام في العبادات والمعاملات والنكاح والطلاق شيء كثير، الناس أحوج إلى معرفته من الطعام والشراب، فضلا عن معرفة أحوال القتال الأفغاني والحكومة السودانية، ونحو ذلك، ولو وكلتَ إحدى الفتاوى العويصة في هذين الباين إلى أكبر فقهاء الواقع -كما يقال- لأعجم على لسانه، ولم يستطع أن يتكلم في الحيض والنفاس، فكيف بالله يتكلم في قضايا الأمة التي يقولون؟ هذا عين الجهل وعلامة الهوى، وبعضهم يقول ليس للعلماء في أكثر من بلد اسلامية إلا مسألتان:
•إعلان دخول رمضان وخروجه.
•والهجوم على من يسمونهم بالمتطرفين.
نعم، هذا ولله الحمد مدح وليس عيبا، فهم يعتنون بدخول شهر الصوم، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام، حتى لا يقدِّم المسلمون يوما أو يؤخرون يوما في فريضة الصيام، وكذلك هم يهاجمون المتطرفين؛ لأن التطرّف مذموم شرعا، وكذلك مذموم عقلا، ولذلك لما أصدر أحد المتطرفين كتابه المسمّى ”معالم في الطريق“ تصدّى له العلماء، فبينوا له تطرفه ومجانبته للصواب وموافقته أو تبنيه لفكر الخوارج، ومن هؤلاء مفتي الأزهر وشيخ مصر في ذلك الوقت حسن مأموم، والشيخ عبد اللطيف السبكي، والشيخ محمد المدني، وغيرهم، وأصدر هؤلاء فتاويهم بِجَهْلِ مؤلِّفِ ذلك الكتاب وتخطئته وتضليله في هذا الكتاب.
فهذا من مناقب العلماء وبيان فضلهم على الناس، لا من معايبهم ومن مناقصهم، ومما لا ريب فيه أنّ علماؤنا في هذا البلد لهم دور بارز في الدعوة إلى الله تعالى، فهذا برنامج نور على الدرب يسمعه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يتَبَيَّنون من خلاله أحكام دينهم من عبادات ومعاملات وهذه دروس العلماء في المساجد لا تحصى كثرة، وهذه مراكز الدعوة والإرشاد في كل مكان، وهذه توعية الحج، وهذه هيئة كبار العلماء، وهذه هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا مجلس القضاء الأعلى، كلٌّ يدعو إلى الله تعالى في مكانه وعلى قدر استطاعته. نسأل الله تعالى لهم مزيد التوفيق والتسديد.
وفي ختام هذه النقطة أذكر كلمة لأبي القاسم بن عساكر نقلها عنه النووي في مقدمة ”المجموع“ يقول فيها: اعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته- أنَّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هَتْك مُتَنَقِّصهم معلومة، وأنّ من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب بلاه الله قبل موته بموت القلب. انتهى كلامه رحمه الله.
النقطة التي بعد هذه:
أهمية الارتباط بعلماء أهل السنَّة والجماعة
وأقصد بالارتباط أخذ المنهج عنهم وتلقي المعتقد السليم منهم، يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في ”جامع العلوم والحكم“ عندما تكلم عن الطريقة السليمة لأخذ العلم: ومن سلك طريقة العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أهله المجمع على درايتهم وهدايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك سبيلهم، فإنّ من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقتهم وقع في مفاوز ومهالك وأخذ بما لا يجوز الأخذ به وترك ما يوجب العمل به. انتهى كلامه رحمه الله.
فالارتباط بعلماء السلف أمر في غاية الأهمية، فبه سلم المرء من الانحراف والمعتقد والمنهج والسلوك، وتأمَّل معي نقلين سوف أتلوها الآن، يتبين لك ما كان عليه السلف رحمة الله عليهم من الارتباط الوثيق بسلفهم:
فقد جاء في ”تذكرة الحفاظ“ للإمام الذهبي رحمة الله تعالى عليه بترجمة أبي داود صاحب السنن أن بعض الأئمة قال: ”كان أبو داوود يُشَبَّه بأحمد بن حنبل في هَدْيِهِ ودَلِّهِ وسَمْتِهِ، وكان أحمد يُشَبَّه في ذلك بوكيع، وكان وكيع يُشَبَّه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور، ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود، وقال علقمة: كان ابن مسعودٍ يُشَبَّه بالنبي ( في هديه ودَلِّه.“ فهذا ارتباط في الهدي والدّل والسّمْت، فكيف بالمعتقد والمنهج؟
النقل الثاني: يقول ابن جرير الطبري وهو الإمام المشهور صاحب المذهب المستقل، يقول في كتابه صريح السنة في صفحة (25) من هذا الكتاب: وأما القَوْلُ في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا تابعي انقضى إلا عن من في قوله الفناء والشقاء رحمة الله عليه ورضوانه وفي اتباع الرشد والهدي ومن يقوم قوله لدينا مقام الأئمة الأولى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ... إلى آخر الكلام. فموطن الشاهد أنظر إلى الارتباط الوثيق في التلقي بين السلف رحمهم الله تعالى، والذي أحب تجليته، وإن كانت بعض العقول سوف تستعظمه أنّ من القواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة ضرورةَ ربط العامَّة بأشخاص تمثلت فيهم العقيدة السلفية والمنهج السليم لما؟ ليأخذ عنهم المعتقد والمنهج بكل تسليم وقبول؛ لأن عامة الناس لا يميزون الصحيح من السقيم، فلا سبيل إلى ربطهم على الجادة إلاّ الارتباط بأشخاص تمثلت فيهم السنة, ولذلك يقول الإمام قتيبة بن سعيد رحمة الله عليه: إذا رأيت الرجل يحب يحيى بن سعيد وعبد الرحمان بن مهدي وأحمد بن حنبيل وإسحاق بن راهوية فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع. ويقول أحمد بن عبد الله بن يونس امتحنْ أهل الموصل بمعاذ بن عمران فإنْ أحبُّوه فهم أهل السنة، وإن أبغضوه فهم أهل البدعة، كما يمتحن أهل الكوفة بيحيى. فانظر كيف جعل علامة تسنن الرجل محبة هؤلاء وعلامة زيغه بغض هؤلاء. في هذا وأمثاله ربط للعامة بهؤلاء الأعلام.
ولقد قررت هذا الكلام في ما سبق في محاضرة عامة، فاستنكر بعضهم ذلك وتعاظمه، ورماني بتعظيم الأشخاص وتقديسهم، وخطب في ذلك خطبة، بينما هو وغيره يبجِّلون صغار الأسنان مما لا يصل إلى كعب هؤلاء العلماء الأجلاء رحمة الله تعالى عليهم، والذي أريد أنْ أوصله إلى هؤلاء وأمثالهم أنَّ هذا التقرير ليس معناه الدعوة إلى التقليد ممن لا يسوغ له التقليد، فمن ساغ له التقليد فله أن يقلِّد، ليس معنى هذا الدعوة إلى التقليد، وإنما معنى هذا إيصال السلسلة إلى صاحب الشريعة ( متصلة، وهذه السلسلة حلقاتها هم أهل العلم؛ هم أهل السنة والجماعة، «مثْلُ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» كما قال (، فإذا اتصلت هذه السلسلة فأخذنا على علماء السنة وارتبطنا بهم، وعلماء السنة أخذوا على علماء السنة قبلهم، وهكذا وصلت السلسلة سليمة نقية إلى صاحب الشريعة (، وهذا الموضوع يستحق الإطالة والتشعب، وفيه شواهد كثيرة من حال السلف رحمة الله تعالى عليهم في ارتباط بعضهم ببعض، وأخذ بعضهم عن بعض، وحثّ بعضهم الناسَ جميعا على الالتزام بشخص تمثّلت فيه السنة، ولذلك الشافعي ( ورحمه يقول: من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر. قال له الربيع بن سليمان: تطلق عليه اسم الكفر؟ قال: نعم، من أبغض أحمد بن حنبل عاند السنة، ومن عاند السنة قصد الصحابة، ومن قصد الصحابة قصد النبي ( فهو كافر بالله العظيم. أو نحو هذا الكلام فيما ذكره القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة في أولها في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فهذا الكلام للشافعي ومن غيره ليس المقصود به تبجيل الإمام أحمد وتقديسه لذاته. لا, وإنما المراد أنّه عَلَمٌ على السنة، ولذلك كان العلماء يقولون نحن على اعتقاد أحمد بن حنبل ولا أحد ينكر عليهم، وأبو الحسن الأشعري في كتابه ”الإبانة“ قال: إني على اعتقاد الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وقَبِل العلماء منه ذلك، وصحّحوا معتقده الأخير الذي مات عليه إن شاء الله تعالى.
فيجب أن نَعِيَ هذه النقطة، وأن ننتبه لها انتباها كاملا قويا، فما دخل النقص إلا يوم أنْ ضَعُف ارتباطنا بعلمائنا رحمة الله تعالى ميتهم وحفظ حيَّهم.
النقطة الأخيرة في موضوع هذه الكلمة:
أثر العلماء على العباد
والكلام على هذه النقطة يطول إلاّ أنّني أقتصر على خطبة الإمام أحمد التي صدّر بها كتابه ”الرد على الزنادقة“ إذْ فيها ما يوضح جُلّ آثارهم على العباد، وهذه الخطبة رُويت عن عمر بن الخطاب ( كما في ”البدع والنهي عنها“ لابن وضاح لكنها في صيغة الإمام أحمد أتم.
يقول الإمام أحمد في مقدمة الرد على الزنادقة ”الحمد لله الذي جعل في كل زمان فَطْرة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم ضال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عِقال الفتنة ...“ إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى فهذه بعض آثارهم الحميدة على الناس.
نسأل الله أن يجزيهم على الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وأن يثبتهم بقولهم الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
تعليق