إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وجوب التثبت من الأخبار واحترام العلماء وبيان مكانتهم في الأمة\العلامة صالح فوزان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وجوب التثبت من الأخبار واحترام العلماء وبيان مكانتهم في الأمة\العلامة صالح فوزان

    وجوب التثبت من الأخبار واحترام العلماء وبيان مكانتهم في الأمة

    فضيلة الشيخ
    صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
    - حفظه الله -

    مقدمة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطيبين الطاهرين وعلى التابعين ومن تبعهم بهديهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين أمّا بعد‏:‏
    يقول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏(1) ‏ الآية‏.‏
    في هذه الآيات الكريمة يأمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين لأنهم هم الذين يمتثلون أوامر الله سبحانه وتعالى، ويصغون لندائه‏:‏ ‏{‏اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏‏.‏
    معنى التقوى
    التقوى معناها في اللغة‏:‏ ‏"‏أن تتخذ بينك وبين ما تكره وقاية وحائلاً يحول بينك وبين ما تكره‏"‏ كما يتخذ الإنسان الثياب يتقي بها البرد والحر، ويتخذ الدروع ليتقي بها سهام الأعداء، ويبني الحصون ليتحصن بها من كيد الأعداء كما يلبس على رجليه ما يقيهما من حر الرمضاء ومن الشوك والحفا‏.‏ من فعل ذلك فقد اتقى هذه المحاذير ولكن تقوى الله لا تكون لا باللباس ولا بالحصون ولا بالسلاح ولا بالجنود، وإنما تكون تقوى الله عز وجل بطاعته وامتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه سبحانه‏.‏
    فتقوى الله معناها‏:‏ أن تفعل ما أمرك الله سبحانه وتعالى به رجاء ثوابه، وأن تترك معصية الله خوفًا من عقابه‏.‏ و ‏{‏حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ معناها‏:‏ أن الإنسان لا يترك شيئًا مما أمر الله به إلا وفعله، وأن لا يفعل شيئًا مما نهى الله عنه بأن يتجنب كل ما نهى الله عنه‏.‏
    تفسير ابن مسعود للتقوى
    ولهذا يقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ‏:‏ ‏(‏اتقوا الله حق تقاته، أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر‏)‏(2) ‏ من فعل ذلك فقد اتقى الله حق تقاته‏.‏
    التقوى بحسب الاستطاعة
    ولكن أحدًا لن يستطيع أن يقوم بهذا، لن يستطيع أن يفعل كل ما أمر الله به ولا يترك شيئًا، وأن يتجنب كل ما نهى الله عنه‏.‏ لذلك أشكلت هذه الآية على بعض الصحابة‏.‏ فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏(1) ‏ فكانت هذه الآية مبينة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ فإذا قام الإنسان بما يستطيع من فعل أوامر الله وترك مناهيه فإن الله يعفو عما لا يستطيع لأن الله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها وهذا من رحمته سبحانه وتعالى بعباده‏.‏ أنه لا يكلفهم ما لا يطيقون‏.‏
    فالإنسان إذا بذل وسعه في طاعة الله عز وجل وتجنب ما نهى الله عنه فإن الله يعفو عن ما لا يستطيعه الإنسان‏.‏ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه‏)‏(2) ‏‏.‏ فالأوامر يأتي الإنسان منها بما يستطيع، أما النواهي فالإنسان يتجنبها كلها لأن الاجتناب سهل على الإنسان‏.‏
    الحرص على الأسباب المؤدية لحسن الخاتمة
    ‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏، هذا أمر من الله سبحانه وتعالى بأن المؤمن لا يموت إلا وهو مسلم متمسك بدينه‏.‏
    وهل الإنسان يملك أن يموت مسلمًا أو أنّ هذا بيد الله سبحانه وتعالى هذا بيد الله سبحانه وتعالى، ولكن معنى قوله ـ لا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أي اثبتوا على الإيمان وعلى الإسلام ومن ثبت على الإيمان وعلى الإسلام فإنه قد فعل السبب الذي يُسَبّبُ أن الله ـ جل وعلا ـ يُحسن له الخاتمة لأن من عاش على شيء مات عليه‏.‏
    فهذا فيه حث للإنسان أن يتمسك بدينه وأن يصبر عليه من أجل أن لا تأتيه منيته وهو على المعاصي فيختم له بخاتمة السوء ومن عاش على شيء فإنه يُختَمُ له به‏.‏
    فمن عاش على الطاعة ومحبة الله ورسوله فإنه قد فعل السبب الذي يُسَبّب له حسن الخاتمة‏.‏
    وأما من ارتكب المعاصي والمخالفات فإنه قد فعل السبب الذي يسبب له سوء الخاتمة - فليحذر الإنسان من هذا -‏.‏
    الدعوة إلى الاعتصام بشرع الله وكتابه
    ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا‏}‏، هذا أمر من الله لنا أن نعتصم بحبل الله بمعنى أن نتمسك بشرع الله‏.‏
    وحبل الله هو القرآن ويُرَادُ به أيضًا الإسلام ـ ويُرَادُ به العهد ـ فحبل الله يراد به هنا الإسلام والقرآن واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
    فإذا تمسك به الإنسان نجا، كالغريق إذا كان في لُجّة الماء وتمسك بالحبل الذي ينجو به من الغرق فإنه قد فعل السبب‏.‏ كذلك نحن في حياتنا وفي معترك الفتن والشرور إذا تمسكنا بحبل الله نجونا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنه من يُعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور‏)‏(1) ‏‏‏.‏
    وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها ستكون فتن‏.‏ قالوا‏:‏ وما المخرج منها يا رسول الله‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كتاب الله‏)‏(2).‏
    وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ـ كتاب الله وسنتي‏)‏(3) ‏‏.‏ هذا هو حبل الله‏.‏
    وجوب الاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة
    وقوله ‏"‏جميعًا‏"‏، ولاحظوا كلمة جميعًا فإن الله يطلب منّا أن نجتمع على كتاب الله وأن يكون لنا هو الهادي والمرشد الذي نسير عليه وأن نترك الأهواء والمخالفات والآراء ونتمسك بحبل الله ـ عز وجل ـ مجتمعين فجماعة المسلمين كلها مرجعها شيء واحد هو كتاب الله ـ عز وجل ـ ‏.‏
    ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم‏.‏ ويكره لكم ثلاثًا ـ القيل والقال ـ وكثره السؤال وإضاعة المال‏)‏(4) ‏‏.‏
    الأمر بإصلاح العقيدة
    هذه الثلاث التي يكرهها الله لنا‏.‏‏.‏ فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏(‏أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا‏)‏، هذا فيه إصلاح العقيدة من الشركيات والبدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان‏.‏ لا يكون هناك مناهج غير الكتاب والسنة‏.‏ لا يكون لنا طُرق لا يكون لنا متبوعون غير الكتاب والسنة‏.‏ يقول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}(5)‏.‏ نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله نرجع إليهما ونصدر عنهما‏.‏
    اتباع الكتاب والسنة طريق للاجتماع
    وهذا ضمان من الاختلاف والتفرق أما إذا أحدثنا مناهج وطرقًا وسننًا مخالفة للكتاب والسنة فإننا نهلك‏.‏ كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏(1).‏
    وقد خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطًّا مستقيمًا وخط عن يمينه وشماله خطوطًا مِعوَجّة ـ وقال للمستقيم هذا سبيل الله‏.‏ وقال للمعوجة هذه سُبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليها(2) ‏‏.‏ هذا توضيح من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآيات الكريمة وبيان واضح أن من ترك الاعتصام بكتاب الله فإنه يذهب مع الشيطان ومع الطرق المعوجة‏.‏
    سبب نزول قوله ـ تعالى ـ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ الآية
    وقوله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏}‏(3) ‏.‏
    هذه الآية نزلت في حادثة وقعت بين الأنصار بسبب إفساد اليهود كان بين الأنصار قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حروب طاحنة فقد كانت بينهم حرب بعاث التي استمرت أكثر من مائة سنة وهي بين الأوس والخزرج وهم أولاد عم وفي بلد واحد‏.‏
    فلما هاجر إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا بالله ورسوله طَفِئَتْ هذه الحرب وأصبحوا إخوانًا متحابين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وكانوا يجتمعون ويتحادثون محادثة مودة‏.‏
    حرص اليهود على إثارة الفتنة بين المسلمين‏:‏
    فلما رأى اليهود ذلك غاظهم فجاء شيطان منهم وجلس بين الأنصار وهم يتحادثون فيما بينهم، فجعل يذكر لهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية والثارات وجعل يُنشد الأشعار التي يقولها بعضهم في بعض، من أشعار السب والشتم‏.‏
    فعند ذلك دَبّتِ الفتنة بين الأنصار بسبب هذا اليهودي الذي أثار بينهم نعرة الجاهلية وصار في نفوس بعضهم على بعض ثم تثاور الحيان وأمروا بإحضار الأسلحة وتواعدوا في الحرّة من الغد، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك جاء إليهم وجلس بينهم وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ (‏أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم‏)‏، ثم أنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية‏:‏ ‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏(1).‏
    فعند ذلك أذهب الله ما في قلوب الأنصار من الحقد والبغضاء فيما بينهم وقام بعضُهُم وسلّم على بعض وتعانقوا وذهب ما بينهم الذي أثاره هذا اليهودي(2) ‏‏.‏
    حرص الأعداء على تفريق جماعة المسلمين
    فانظروا يا عباد الله ماذا يصنع بنا الأعداء قديمًا وحديثًا يريدون أن يفرقوا جماعتنا، يريدون أن يشتتوا شملنا ـ يريدون أن لا نجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    هذا ما يريده لنا الأعداء‏.‏
    وهذه الحادثة التي سمعتم شيئًا منها وسمعتم ما أنزل الله فيها من قرآن فيها عبرة لنا في أن الأعداء يغيظهم إذا اجتمعنا على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    فالأعداء يحاولون أن يلقوا بيننا العداوة والبغضاء وأن يفرقوا جماعتنا وأن يشتتوا شملنا وأن يعيدوا بيننا النخوة الجاهلية‏.‏ فلنحذر من ذلك‏.‏ ولهذا قال الله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏، فالتفرق شر وبلاء وفتنة ولا يحسم ذلك الشر إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
    الأمور التي يتحقق بها الاجتماع والقوة والائتلاف للمسلمين
    وفي الحديث الذي سمعتم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم‏)‏(3).‏
    هذا الحديث أمرنا فيه صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشياء‏:‏
    بوحدة العقيدة‏:‏ في قوله‏:‏ ‏(‏أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا‏)‏‏.‏
    وبوحدة المرجع والمصدر الذي نرجع إليه في حل مشاكلنا في قوله‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏‏.‏
    وبوحدة القيادة في قوله‏:‏ ‏(‏وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم‏)‏‏.‏
    وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة‏)‏، قلنا لمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم‏)(1)‏.‏ مناصحة ولاة الأمور والنصيحة لهم وطاعتهم في المعروف‏.‏ كما قال ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ‏}‏(2) ‏‏.‏
    هذا مما يحصل به الاجتماع والائتلاف والقوة للمسلمين‏.‏
    فهذه الأمور الثلاثة‏:‏ وحدة العقيدة، ووحدة المصدر، ووحدة القيادة إذا تجمعت للمسلمين فإنه قد اجتمع لهم الخير كله‏.‏‏.‏ وهذه الثلاثة والحمد لله مجتمعة لنا الآن، عقيدتنا عقيدة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏
    كون هذه البلاد بلاد التوحيد الخالص
    وهي عقيدة التوحيد الخالص فليس عندنا والحمد لله شيء من مظاهر الشرك التي توجد في البلاد الأخرى ـ بلادنا بلاد التوحيد وبلاد العقيدة وبلاد الدعوة كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا تزال - إن شاء الله -‏.‏
    وكذلك عندنا وحدة المصدر وهو كتاب الله وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم فنحن والحمد لله نحكم بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الصغيرة والكبيرة نطبق الحدود، ونقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفذ الحدود‏.‏ وهذه نعمة عظيمة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ‏.‏
    قيادتنا والحمد لله مسلمة قامت على الكتاب والسنة وعلى الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ لا أقول بأننا قد كملنا من كل الوجوه‏.‏
    علاج الخلل والنقص الموجود في مجتمعنا
    بل عندنا نقص وعندنا خلل ولكن هذا يمكن إصلاحه بالتعاون على البر والتقوى والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتّناصح والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم‏)‏(3) ‏‏‏.‏ ومعنى ذلك أن نتمسك بهذه النعمة وأن نشكر الله عليها وأن نعمل على بقائها وتنميتها وأن نصلح ما يحصل فيها من الخلل بالطرق الصحيحة السليمة، بطرق العلاج السليمة الصحيحة التي أرشد إليها نبينا صلى الله عليه وسلم هذه النعمة نعمة عظيمة فلنحافظ عليها وإن لم نتمسك بها وإن لم نحرص عليها فإنها سوف تضيع من بين أيدينا‏.‏

    أسباب التّفرّق
    السبب الأول من أسباب التفرق مخالفة منهج السلف
    والتفرق له أسباب كثيرة من أعظمها‏:‏
    أولاً‏:‏ مخالفة منهج السلف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم فالسلف لهم منهج يسيرون عليه، منهج في الاعتقاد ومنهج في الدعوة، ومنهج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهج في الحكم بين الناس، وهذا المنهج كله متوحد على كتاب الله وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم‏.‏
    وكانت هذه البلاد ـ والحمد لله ـ تسير على هذا المنهج كما يعرف هذا القاصي والداني لا ينكره إلا مكابر، كانت هذه البلاد تسير على منهج سليم‏.‏ تسير على منهج السلف الصالح في العقيدة‏.‏ وفي الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ ‏.‏ وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الحكم بين الناس بما أنزل الله، كل هذا موجود ولا يزال ـ ولله الحمد ـ في هذه البلاد ـ لا ينكر ذلك إلا مكابر ـ ‏.‏
    خطورة المناهج المستوردة المخالفة للكتاب والسنة
    لكن إذا تنكرنا لهذا المنهج الذي كان عليه سلفنا الصالح واستوردنا مناهج من هنا وهناك تفرقنا وصار كل جماعة لها منهج يخالف منهج الجماعة الأخرى وكل جماعة تخطئ الجماعة الأخرى‏.‏
    لماذا هذا يا عباد الله‏؟‏‏!‏‏!‏‏!‏ ألسنا أمة واحدة‏.‏‏.‏
    أليس ديننا هو الإسلام‏؟‏ أليس منهجنا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته‏؟‏ أليس دليلنا ومصدرنا ومرجعنا هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏.‏
    إذن لماذا نستورد المبادئ والمناهج من هنا وهناك، والواجب علينا أن نصدر هذا المنهج السليم الذي نحن عليه إلى بلاد العالم، كما قال الله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ‏}‏‏(1)‏‏.‏
    تعدد المناهج سبب للتفرق
    أما إذا تفرَّقنا فإن هذا يرضي أعداءنا‏.‏ كما قال ـ سبحانه ـ ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏(2) ‏‏‏.‏ وقال ـ سبحانه ـ ‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏(1) ‏‏.‏ إن الله لا يرضى لنا هذا‏.‏ ورسولنا صلى الله عليه وسلم لا يرضى لنا هذا، وكذلك سلفنا الصالح وأئمتنا لا يرضون لنا هذا‏.‏
    لا يليق بنا إلا أن نكون جماعة واحدة متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ الجماعات الإسلامية في خارج بلادنا تفرقت فلا يسري هذا التفرق إلينا‏.‏ لا يدخل بلادنا، لا يفسد شبابنا لا يزيل هذه النعمة التي نعيش فيها‏.‏
    السبب الثاني من أسباب التفرق
    الاستماع إلى الأكاذيب ونحوها
    ثانيًا ومن أسباب هذا التفرق وهذا الاختلاف الاستماع إلى الأكاذيب وإلى الوشايات والإرجافات والترويجات التي يروجها بيننا ضعاف الإيمان أو المنافقون أو المغرضون الذين لا يريدون لنا أن نجتمع على عقيدة واحدة وعلى دين واحد‏.‏
    فالواجب علينا التثبت وعدم التسرع والله ـ سبحانه وتعالى ـ أمرنا بالتثبت فيما يختص بالعامة من الأمة وجعل أمور السلم والحرب والأمور العامة جعل المرجع فيها إلى ولاة الأمور وإلى العلماء خاصة، ولا يجوز لأفراد الناس أن يتدخلوا فيها لأن هذا يُشَتّتُ الأمر ويفرق الوحدة ويتيح الفرصة لأصحاب الأغراض الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر‏.‏
    فهناك أمور هي من اختصاص ولاة الأمور ومن اختصاص علماء الأمة أما أفرادنا فإنه لا ينبغي لهم أن يتدخلوا فيها لأنها ليست من شؤونهم وإذا تدخل فيها كل أحد فسدت‏.‏
    يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏(2) ‏‏.‏
    الرجوع فيما يشكل على الناس من أمور الأمن والخوف والحرب والسلم إلى أولي الأمر وأهل الحل والعقد
    فأمور الأمن وأمور الخوف وأمور الحرب والسلم والمعاهدات هذه من شئون ولاة أمور المسلمين، ومن شئون أهل الحل والعقد هم الذين يدرسونها وهم الذين يتولونها وفيهم الكفاية ولله الحمد أما إذا صارت مباحة لكل أحد وتدخل فيها كل أحد فإن هذا مما يفسد الأمر ومما يبلبل الأفكار ومما يشغل الناس بعضهم ببعض ومما يفقد الثقة بين المسلمين وبين الراعي والرعيّة وبين الأفراد والجماعات وتصبح شغل الناس الشاغل وفي النهاية لا يتوصلون إلى شيء وهذا ما يريده الأعداء‏.‏
    كذلكم ـ الله جل وعلا ـ أمرنا بالتثبت حينما يبلغنا شيء عن جماعة من الجماعات أو عن قبيلة من القبائل أو عن فئة من المسلمين إذا بلغنا خبر سيئ يقتضي قتال هذه الجماعة، أمرنا الله ـ جل وعلا ـ أن لا نتسرع في هذا الأمر حتى نتثبت‏.‏
    يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ‏}‏(1) ‏‏‏.‏ يعني إن بلغكم خبر عن جماعة أو قوم أو عن قبيلة أو عن فئة من الناس أنها فعلت فعلاً تستحق به أن تقاتل فلا تتعجلوا في الأمر ولا تعلنوا الحرب عليهم، ولا تداهموهم حتى تتأكَّدوا من صحة الخبر‏.‏
    سبب نزول قوله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ الآية
    وسبب نزول هذه الآية كما ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ وغيره(2) ، أنها نزلت في بني المصطلق قبيلة دخلت في الإسلام وأرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم من يجبي الزكاة منهم كغيرهم من المسلمين ولكن جاء الخبر أن هذه القبيلة منعت الزكاة وأبت أن تُسَلِّمها لمندوب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتسرّع في الأمر ولم يُداهم القوم حتى أنزل الله هذه الآية‏.‏
    ثم جاء رئيس القبيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرًا وبيَّن للرسول صلى الله عليه وسلم أن مندوبه لم يصل إليهم واستبطئوه، والله ـ جل وعلا ـ حمى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعجل وأن يتسرع وأن يداهم القوم وهم لا ذنب لهم وإنما الذي أُرسِلَ إليهم لم يصل إليهم لسبب من الأسباب الله أعلم به‏.‏ فهم لم يمتنعوا عن أداء الزكاة وما خالفوا أمر الله ورسوله‏.‏ وهذه الآية ليست مقصورة على هذه الحادثة لأن العبرة ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ فهي قاعدة يسير عليها المسلمون إلى يوم القيامة‏.‏
    وجوب التثبت
    فالتثبت واجب إذا بلغنا عن قوم أو عن جماعة أنهم ارتكبوا ما يستحقون به القتال ـ والله أمر ولي الأمر ومن بيده الحل والعقد أن يتثبت من شأن هؤلاء لعل لهم عذرًا‏.‏ ولعله لم يصح ما نُسِبَ إليهم‏.‏ ولهذا قال ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ‏}‏‏.‏
    تعريف الفاسق ـ ومفهومه عند أهل السنة
    والفاسق معناه‏:‏ هو الخارج عن طاعة الله‏.‏
    لأن الفسق في اللغة هو‏:‏ الخروج عن طاعة الله‏.‏
    والفاسق عند أهل السنة والجماعة‏:‏ هو من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب دون الشرك فهو يُسَمّى فاسقًا ساقط العدالة، لا تقبل شهادته ولا يُقبَلُ خبره‏.‏
    وهو ليس بكافر بل هو مؤمن ولكنه ناقص الإيمان‏.‏ لا تقبل شهادته ولا يعتبر عدلاً حتى يتوب إلى الله ـ عز وجل ـ مما ارتكب‏.‏ ثم تعود إليه العدالة، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏(1) ‏‏.‏
    حرص علماء الأمة على التثبت في الرواية وقبولها
    ولهذا كان علماء المسلمين وعلماء الرواية لا يقبلون الرواية إلا ممن توفرت فيه شروط العدالة والضبط والإتقان‏.‏ فهم لا يقبلون الرواية من المجروح أو المجهول الحال، هذا من باب التثبت في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
    هذا شأن هذه الأمة‏:‏ التثبت في الرواة، التثبت في المخبرين لأن المخبر قد يكون فاسقًا لا يهمه الصدق، أو قد يكون كافرًا يريد الإيقاع بين المسلمين، أو منافقًا، أو يكون رجلاً صالحًا ولكن فيه نزعة التسرع وشدة الغيرة فيبادر بالأخبار قبل أن يتثبت‏.‏ فالواجب علينا أن نتثبت من الخبر حتى ولو كان الذي جاء به من الصالحين‏.‏
    هذا في حق ما يبلغنا عن الجماعات من المسلمين والقبائل‏.‏
    وكذلك بالنسبة إلى حق الأفراد ـ يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏
    ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏(2)‏‏.‏
    سبب نزول قوله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية
    هذه الآية نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة خرجوا للجهاد فالتقوا براعي غنيمة يرعى غنمه فلما رآهم قال لهم‏:‏ السلام عليكم، ولكنهم لم يقبلوا منه السلام وقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتَه وظنوا أنه إنما ألقى إليهم السلام من أجل أن يتستر على نفسه ، وأن يَسْلَم على دمه وغنمه وأنه ما ألقى عليهم السلام لأنه مسلم وإنما قال هذا من باب التستر(3) ‏.‏ فالله جل وعلا ـ عاتبهم على ذلك‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏ يعني سافرتم للجهاد ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏‏.‏ يعني تثبتوا‏.‏
    ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا‏}‏‏.‏
    وما الذي يدريكم أنه ليس مؤمنًا مادام أنه أظهر الإيمان وأظهر الإسلام وسلّم بتحية الإسلام فالواجب أن تتثبتوا ولا تتعجلوا عليه بالحكم وتقولون ‏{‏لَسْتَ مُؤْمِنًا‏}‏‏.‏ فما الذين أدراكم أنه ليس بمؤمن‏.‏ هل شققتم عن قلبه‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏
    أما هذا التسرع فهذا شيء لا يقره الله ـ سبحانه وتعالى ـ حتى من أفضل خلقه بعد الأنبياء وهم الصحابة رضوان الله عليهم لما تسرعوا عاتبهم الله‏.‏
    قاعدة في عدم التسرع في الأمور وأن الحكم في الأمور يكون بالظاهر‏:‏
    وهذه قاعدة لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة أنهم لا يتسرعون في الأمور والأحكام ولا يحكمون على الإنسان أنه ليس بمسلم إذا أظهر الإسلام، من الذي يدري‏؟‏‏!‏‏!‏ الله هو الذي يعلم، أمّا نحن فليس لنا إلا الظاهر، فمن أظهر لنا الخير تقبلناه منه ونكل باطن أمره إلى الله ـ عز وجل ـ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏)‏(1) ‏‏.‏
    فلا يحكم على من أظهر الإسلام أنه ليس مسلمًا إلا إذا تبين منه ما يدل على عدم صحة إسلامه من قول أو فعل يقتضي الردة عن الإسلام‏.‏ وقيل إن هذه الآية نزلت في شأن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه وعن أبيه ـ وذلك أن أسامة طلب رجلاً من الكفار ليقتله فلما أدركه قال الكافر‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أسامة ـ رضي الله عنه ـ تسرع فقتله بعدما قال لا إله إلا الله‏.‏
    فلما عَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أنكر عليه وشدّد الإنكار‏.‏ وقال له‏:‏ ‏(‏أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله‏.‏‏.‏‏)‏ ومازال يكررها فقال‏:‏ يا رسول الله إنما قالها يتستر بها أو يتقي بها السيف فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل شققت عن قلبه‏؟‏‏)‏ فمازال يكررها ويقول‏:‏ ‏(‏أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله‏؟‏ وماذا تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة‏)‏ فعند ذلك ندم أسامة ندمًا شديدًا، وقال‏:‏ تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(2) ‏‏.‏
    وهذا درس عظيم للأمة بأنهم لا يتسرعون في الأمور حتى يتثبتوا وحتى يتبين لهم الحق‏.‏
    أثر التسرع ونتائجه بالنسبة للدماء والأعراض
    مثال ذلك بقصة الإفك
    أما التسرع دائمًا فإنه يؤدي إلى الندم وإلى مالا تحمد عقباه هذا بالنسبة للدماء وكذلك بالنسبة لأعراض المسلمين لا يجوز لنا أن نتسرع في قبول الشائعات وقبول الأخبار الكاذبة‏.‏ ولهذا يقول ـ سبحانه وتعالى ـ في حادث الإفك الذي قَصّهُ الله ـ سبحانه وتعالى ـ علينا في كتابه لما اتَّهم المنافقون عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ مما برأها الله ـ سبحانه وتعالى ـ منه، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ، لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏(3) ‏‏.‏ إلى قوله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏(1).‏ الأصل في المسلم العدالة، والأصل في المسلم النزاهة فلا نتسرع إذا رماه أحد بسوء أو بارتكاب الفاحشة لا نتسرع بقبول ذلك بل نتثبت غاية التثبت‏.‏
    وقصة الإفك الكذب فيها ظاهر جدًا لأنه لا يمكن أن تكون زوجة نبي الله صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف لأن الله لا يختار لنبيه إلا الطيبات كما قال ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏(2).‏ فالكذب في قصة الإفك ظاهر ولذلك يقول الله‏:‏ ‏{‏لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا‏}‏(3) ‏‏‏.‏ قيل معناها أن نفوس المؤمنين كالنفس الواحدة فإذا سمعت في أخيك شائعة فاعتبر هذا كأنه فيك أنت، لأن المسلمين أمة واحدة وجسد واحد(4) ‏‏.‏
    كما في قوله ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏(5) ‏‏.‏ يعني لا يقتل بعضكم بعضًا‏.‏ وقال ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}(6)‏ ، يعني يسلم بعضكم على بعض فاعتبر المؤمنين كالنفس الواحدة، وقيل معناه والله أعلم‏:‏ إذا سمع المؤمن هذه الشائعة فليطبقها على نفسه هل يرضى لنفسه أن يقال فيها هذا، وهل ترضى أن يلطخ عرضك وأن تتهم بالإفك‏؟‏ أنت لا ترضى هذا لنفسك فكيف ترضاه لغيرك من إخوانك المسلمين‏.‏
    هذا بالنسبة لأعراض المسلمين، يجب أن تصان وأن لا تُصدّق فيها الشائعات والأخبار من غير تثبت حتى ولو ثبت أن مسلمًا صدرت منه جريمة أو وقع في جريمة فعلاً فإنه يجب الستر عليه وعدم إشاعة ذلك بين الناس لأن المسلمين كالجسد الواحد فكيف والخبر كله كذب وكله بهتان‏.‏
    السبب الثالث من أسباب التفرق
    تنَقّص المسلم وسوء الظن به
    ثالثًا‏:‏ تنَقّص المسلم الذي هو دون الإفك لا يجوز‏.‏
    ولا يجوز سوء الظن بالمسلم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ‏}‏(7) ‏ هذا كله نَهْيٌ عن تنقّص المسلمين وعن استماع من يتنقصهم بالغيبة أو النميمة أو غير ذلك، ولهذا حرم الله جل وعلا الغيبة فقال ـ سبحانه ـ ‏:‏ ‏{‏وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا‏}‏‏.‏
    تعريف الغيبة
    والغيبة كما بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏أتدرون ما الغيبة‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ذكرك أخاك بما يكره، قيل‏:‏ أفرأيت إن كان في أخي ما أقول‏؟‏ قال‏:‏ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته‏)‏(1) ‏‏.‏
    تعريف النميمة
    والنميمة هي‏:‏ نقل الحديث بين الناس على وجه الإفساد بينهم يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ، هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}‏(2) ‏‏‏.‏
    وأشد ذلك كله الذي يسعى بين طلبة العلم وبين الدعاة من أجل إفساد ما بينهم ومن أجل تشتيت الجماعة المسلمة ومن أجل أن يحقد بعضهم على بعض، الذي يفعل هذا نمّام، وقد نهى الله عن تصديقه وعن طاعته حتى ولو حلف بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَّهِينٍ، هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ‏}(3)‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة نمّام‏)‏(4).‏
    أثر النميمة وضررها
    وفي الأثر أن النمّام يفسد في ساعة ما يفسده الساحر في سنة‏.‏ والنميمة من السحر، لأن السحر يفسد بين الناس ويوقع العداوة بين الناس ـ كما قال تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ‏}‏(5) ‏‏.‏ يعني السحر ـ فالسحر يفرق بين القلوب ويحدث البغضاء، وكذلك النميمة هي أشد من السحر ربما تقوم حروب طاحنة بسبب نمّام، ربما يتفرق المسلمون ويتباغضون بسبب نمّام والجيران يتقاطعون وربما أهل البيت الواحد يتباغضون ويتفرَّقون بسبب نمّام‏.‏‏.‏
    فعلينا أن نتقي الله ـ عز وجل ـ وأن نحذر من النمامين‏.‏
    وقال صلى الله عليه وسلم لما مرّ بقبرين قال‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير‏.‏ أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله‏)‏(6) ‏.‏
    وقال الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة نمّام‏)‏(1) ‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة قتّات‏)‏(2).‏ والقتّات هو النّمّام‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا‏}‏، هذا كله من أجل بقاء صلاح الجماعة وصلاح المسلمين وعدم تفرقتهم‏.‏ الخسرية، الهمز، اللمز، التنابز بالألقاب، سوء الظن بالمسلمين، التجسس على عوراتهم بغير حق، الغيبة كل هذه من الآفات الاجتماعية التي تفرّق جماعة المسلمين والله أمرنا بالاجتماع والاعتصام بحبله ـ عز وجل ـ ‏.‏
    السبب الرابع من أسباب التفرق
    التهاجر بين المسلمين
    والهجر معناه‏:‏ الترك والابتعاد فهو ابتعاد الشخص عن الآخر وعدم مكالمته مع مقاطعته‏.‏
    متى يجوز الهجر ومتى لا يجوز‏؟‏
    حكم الهجر في حق الكافر والمشرك
    1ـ أما الكافر والمشرك فيهجران هجرًا تامًا، كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً‏}‏(3) ‏.‏ وقال ـ سبحانه ـ ‏:‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏(4) ‏‏.‏ والرجز هو الأصنام وأهلها(5).‏ فالله أمر نبيه أن يهجر الأصنام وأهلها وعَبَدَتها بأن يتركهم فالكافر والمشرك يهجر هجرًا تامًا إلى أن يسلم ويدخل في دين الله ـ عز وجل ـ ‏.‏
    حكم الهجر في حق المسلم العاصي
    2ـ والمسلم إذا ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ولم تُجْدِ فيه النصيحة واستمر على المعصية وكان الهجر فيه علاج له وفيه رجاء لتوبته فإنه يهجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض أصحابه فقد هجر الثلاثة الذين خلفوا هجرهم أربعين ليلة وأمر الناس بهجرهم حتى تاب الله عليهم، كما قال ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏(6) ‏‏.‏ فإذا كان في هجر العاصي مصلحة راجحة بأن يتوب ويخجل ويرجع عن ذنوبه فإن الهجر مطلوب‏.‏
    أما إذا كان هجرُهُ لا يزيده إلا شرًا ولا يزيده إلا معصية فإن الهجر حينئذٍ لا يجوز بل تُوَاصَل معه النصيحة والمجالسة لعل الله أن يهديه أو يُخفّفَ من شره على الأقل‏.‏
    هجر المؤمن المستقيم
    3ـ وأما هجر المؤمن المستقيم فهذا حرام‏.‏ إذا لم تصدر منه معصية ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التدابر والتقاطع فقال‏:‏ ‏(‏لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث‏)‏(1).‏
    يعني إن كان لابد ليكن إلى ثلاثة أيام وما زاد عليها لا يجوز إذا كان الهجر من أجل أمور الدنيا، مثل إنسان ظلمك، أو إنسان أخذ شيئًا من مالك، أو اعتدى عليك بشيء من أمور الدنيا فغضبت عليه فإن الذي ينبغي أن تدفع بالتي هي أحسن، وإن كان ولابد فإنك تهجره إلى ثلاثة أيام ثم بعد ذلك يحرم عليك أن تهجره أكثر من ذلك لأنه مسلم‏.‏
    فالهجر إذن منه‏:‏ هجر دائم وهو هجر المشرك‏.‏
    وهجر بقدر الحاجة وهو هجر العاصي حتى يتوب، وهجر لا يجوز وهو هجر المسلم من أجل أمر من أمور الدنيا لأن المطلوب من المسلمين هو الاجتماع والتعاون على البر والتقوى والتآلف على الخير‏.‏
    والتهاجر إنما يقع بسبب شياطين الجن والإنس يوقعونه بين المسلمين لتشتيت جماعتهم وتفريق كلمتهم‏.‏
    حوادث من السيرة فيها دروس وعبر
    فائدة في الذب عن عرض المسلم من قصة كعب بن مالك وتخلفه في غزوة تبوك
    حصلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحوادث فيها عبرة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة تبوك وتخلف كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ تبوك فقال رجل‏:‏ يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه أو غير ذلك من الكلمات التي فيها تجريح لهذا الصحابي فقام رجل من المسلمين وقال منكرًا على هذا‏:‏ بئس ما قلت‏.‏ والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا(2) ‏‏.‏
    فهذا الرجل دفع عن عرض أخيه وذبّ عنه فأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ذلك وهكذا ينبغي للمسلم أن يدفع عن عرض أخيه وأن يذب عنه‏.‏
    وهذا من المواقف المشرفة، ولو أن المسلمين أخذوا بهذا وصاروا يدفعون ويذبون عن أعراض إخوانهم لارتدع النّمامُون وارتدع الذين ينتهزون الفرص لزرع الشر والعداوة بين الناس‏.‏
    ذب النبي صلى الله عليه وسلم عن عرض من قال لا إله إلا الله يبتغي وجه الله‏:‏
    وحادثة أخرى وهي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لزيارة بعض أصحابه ومعه جماعة من أكابر الصحابة فلما جلسوا عند المَزُور قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين فلان‏؟‏ فقال بعض الحاضرين‏:‏ إنه منافق لا يحب الله ورسوله‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله‏)‏(1) ‏‏.‏
    فالنبي صلى الله عليه وسلم دفع عن عرض هذا الصحابي لأنه يشهد أن لا إله إلا الله ويبتغي بذلك وجه الله لم يقلها نفاقًا‏.‏ وإنما قالها عن صدق وإخلاص فإنّ الله حرّمه على النار ولا يجوز لأحد أن يتكلّم في حق من كان كذلك من المسلمين‏.‏
    وقصة أخرى
    وهي‏:‏ أنه جيء برجل يشرب الخمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده وإقامة الحد عليه وتكرر هذا منه حتى قال رجل من الحاضرين‏:‏ اللهم العَنْهُ، ما أكثر ما يُؤتى به‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم منكرًا عليه‏:‏ ‏(‏لا تلعنه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله‏)‏(2) ‏‏.‏
    يعني أنه مؤمن، وإن كان ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ولكن فيه الإيمان‏.‏ فالمؤمن له مكانته وله منزلته فلا يجوز لأحدٍ أن ينال منه ولو كان عاصيًا‏.‏
    هذه كلها دروس تعطي المسلم أن يحترم أعراض إخوانه المسلمين‏.‏
    آية من كتاب الله تدل على خطر الوقيعة في العلماء
    وأنتم تقرؤون هاتين الآيتين وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}(3)‏ ‏‏.‏
    أتدرون فيمن نزلتا‏؟‏، نزلتا في جماعة كانوا يضحكون من رسول الله ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسخرون منهم وينتقصونهم ويقولون‏:‏ ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ ، فأنزل الله هاتين الآيتين وجاءوا يعتذرون للرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يقصدوا ما قالوا وإنما أرادوا المزاح وتقطيع السفر كما حكى الله عنهم في الآية في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏‏.‏
    فالله جل وعلا ردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ‏}‏(1) ‏، ويقول ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ‏}‏ (2)‏‏‏.‏
    ويقول ـ سبحانه وتعالى ـ ‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏(3) ‏‏.‏
    فالحاصل أن المسلم له حق على أخيه المسلم وله مكانة عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ ‏.‏ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت‏.‏‏.‏ اللهم فاشهد‏)‏(4).‏
    الحاصل من هذا كله أن المسلمين يجب أن يكونوا جماعة واحدة وأن يكون مصدرهم واحدًا وأن تكون قيادتهم واحدة، كما أنهم يجتمعون على عقيدة واحدة وهي عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له‏.‏ هذه هي جماعة المسلمين‏.‏ وإذا دبّ فيهم خلل أو دب فيهم تباغض وهجر أو وُجِدَ فيهم منافقون فإن الأمر خطير جدًا‏.‏
    عظمة مكانة العلماء وخطورة الكلام في أعراضهم أو انتقاصهم
    لا سيما وأننا نسمع في زماننا هذا من يتكلم في أعراض العلماء ويتهمهم بالغباوة والجهل وعدم إدراك الأمور وعدم فقه الواقع كما يقولون وهذا أمر خطير‏.‏
    فإنه إذا فقدت الثقة في علماء المسلمين فمن يقود الأمة الإسلامية‏؟‏ ومن يُرْجَعُ إليه في الفتاوى والأحكام‏؟‏ وأعتقد أن هذا دَسٌّ من أعدائنا وأنه انطلى على كثير من الذين لا يدركون الأمور أو الذين فيهم غيرة شديدة وحماس لكنه على جهل فأخذوه مأخذ الغيرة ومأخذ الحرص على المسلمين لكن الأمر لا يكون هكذا‏.‏ أعزّ شيء في الأمة هم العلماء فلا يجوز أن نتنقصهم أو نتهمهم بالجهل والغباوة وبالمداهنة أو نسميهم علماء السلاطين أو غير ذلك؛ هذا خطر عظيم يا عباد الله، فلنتقي الله من هذا الأمر ولنحذر من ذلك‏.‏ فإنه كما يقول الشاعر‏:‏
    علماءَ الدِّين يا مِلح البلد ** ما يَصلُحُ الزّادُ إذا المِلحُ فسد
    الطريقة الصحيحة للتعامل مع العلماء عند ظن خطأهم
    نعم أنا لا أقول إن العلماء معصومون وأنهم لا يخطئون‏.‏ العصمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلماء يخطئون ولكن ليس العلاج أننا نُشهّر بهم وأننا نتخذهم أغراضًا في المجالس، أو ربما على بعض المنابر أو بعض الدروس لا يجوز هذا أبدًا‏.‏ حتى لو حصلت من عالم زلة أو خطأ فإن العلاج يكون بغير هذه الطريقة‏.‏ قال ـ تعالى ـ ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏(1) ‏ نسأل الله العافية والسلامة‏.‏ فالواجب أن نتنبه لهذا الأمر وأن يحترم بعضنا بعضًا ولا سيما العلماء، فإن العلماء ورثة الأنبياء ولو كان فيهم ما فيهم‏.‏
    أثر فقد العلماء وما يترتب عليه
    أتدرون ما أثر فقد العلماء وما الذي يترتب عليه‏؟‏
    ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فجاء يطلب من يفتيه هل له توبة‏؟‏ وجواب هذا السؤال لا يقدر عليه إلا عالم‏.‏ لكنهم دلّوه على عابد مجتهد في العبادة والورع والزهد لكنه جاهل فتعاظم الأمر وقال‏:‏ ليس لك توبة، فقتله الرجل فكمّل به المئة‏.‏ ثم سأل عن عالم فدلوه عليه فسأله، إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة‏؟‏‏!‏
    قال له‏:‏ نعم ومن يحول بينك وبين التوبة‏؟‏‏!‏
    ولكن أرضك أرض سوء فاذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك‏.‏
    تاب الرجل وخرج مهاجرًا إلى الأرض الطيبة وحضرته الوفاة وهو في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب‏.‏ فأنزل الله إليهم ملكًا في صورة آدمي ليحكم بينهم فقال‏:‏ قيسوا ما بين البلدتين فوجدوه إلى البلدة الطيبة أقرب بشبر فقبضته ملائكة الرحمة(2) ‏.‏
    وفي ـ رواية أخرى ـ أنه لما حضرته الوفاة نأى بصدره إلى الأرض الطيبة لما عجز عن المشي برجليه صار ينوء بصدره وذلك بسبب الحرص وصدق التوبة‏.‏
    هذا كان بسبب العالم وبسبب فتواه الصحيحة المبنية على العلم‏.‏ أرأيتم لو بقي على فتوى ذلك العابد الجاهل لصار يقتل الناس ويستمر في القتل وربّما مات من غير توبة بسبب الفتوى الخاطئة‏.‏
    وكذلك قوم نوح لما صورت الصور ونصبت على المجالس وكان العلماء موجودين لم تعبد هذه الصور؛ لأن العلماء ينهون عن عبادة غير الله فلما مات العلماء وفُقِدَ العِلمُ جاء الشيطان وتسلّط على الجهّال وقال‏:‏ إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا لِيُسقَوا بها المطر وليعبدوها(3) ‏‏.‏
    فعبدوها وحينئذٍ وقع الشرك في الأرض، وذلك كله بسبب فقد العلم وموت العلماء‏.‏

    حال الأمة عند فقد علمائها
    وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا‏)‏(1) ‏.‏
    أرأيتم إن فقدت هذه الأمة علماءها ماذا تكون الحال‏!‏‏!‏‏؟‏
    إن الذين يسخرون من العلماء يريدون أن يُفقِدُوا الأمة علماءها، حتى ولو كانوا موجودين على الأرض مادام أنها قد نزعت الثقة منهم فقد فُقِدُوا‏.‏‏.‏‏.‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
    المثقفون والمتحمسون لا يعوضون عن العلماء
    إن وجود المثقفين والخطباء المتحمسين لا يعوض الأمة عن علمائها وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه في آخر الزمان يكثر القراء ويقل الفقهاء‏)‏(2).‏ وهؤلاء قُرّاء وليسوا فقهاء‏.‏ فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء إطلاق في غير محله والعبرة بالحقائق لا بالألقاب فكثير من يجيد الكلام ويستميل العوام وهو غير فقيه‏.‏
    والذي يكشف هؤلاء أنه عندما تحصل نازلة يحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي فيها فإن الخطباء والمتحمسين تتعاصر أفهامهم وعند ذلك يأتي دور العلماء‏.‏ فلنتنبه لذلك ونعطي علماءنا حقهم ونعرف قدرهم وفضلهم وننزل كلاً منزلته اللائقة به‏.‏
    هذا وأسأل الله أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله ملتبسًا علينا فنضل والله الموفق إلى الصواب وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏

  • #2
    بارك الله فيكم أُخيَّ

    لكن لي ملاحظة أرجو منكم تقبلها بصدر رحب

    أولا : العنوان من الشيخ أم من الدار الناشرة أو التسجيلات أم هم منك؟

    ثانيا : أين المصدر [وهذا من التثبت].

    ثالثا : التثبت من خبر الثقة هل هو للوجوب أم لا ؟ لأن عنوان الشيخ العلامة عام ولم يقيده ولو أن التقييد حصل في ثنايا الكلام .

    وجزاكم الله خيرا وحفظ الله العلامة الرباني الفوزان

    تعليق


    • #3
      واياك أخي السلفي

      حياك الله وبارك فيك اما العنوان من الشيخ صالح الفوزان أضن ذلك

      وا ما المصدر فهذا كتاب للشيخ مطبوع وانا حذفة الفهرس فقط

      واما خبر الثقة من تكلام عنه؟؟من المعلوم ان خبر الثقة يقبل

      واما هذا الفهم بعيد جدا ان يقصد الشيخ خبر الثقة

      وبارك الله فيك ,مــــاشاء الله عليك

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيكم

        تعليق

        يعمل...
        X