قال العلامة إسحاق رحمه الله في التعليق على احتجاج أحمد بن عبد الكريم الأحسائي :" أما بعد: فقد بلغنا وسمعنا من فريق ممن يدعى العلم والدين، وممن هو بزعمه مؤتم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب إن من أشرك بالله وعبد الأوثان لا يطلق عليه الكفر والشرك بعينه، وذلك أن بعض من شافهني منهم بذلك سمع من بعض الإخوان أنه أطلق الشرك والكفر على رجل دعا النبي صلى الله عليه وسلم واستغاث به، فقال له الرجل : لا تطلق عليه حتى تُعَرِّفه، وكان هذا وأجناسه لا يعبأون بمخالطة المشركين في الأسفار وفي ديارهم بل يطلبون العلم على من هو أكفر الناس من علماء المشركين، وكانوا قد لفقوا لهم شبهات على دعواهم يأتي بعضها في أثناء الرسالة ـ إن شاء الله تعالى ـ وقد غَرّوا بها بعض الرعاع من أتباعهم ومن لا معرفة عنده ومن لا يعرف حالهم ولا فرق عنده ولا فهم متحيزون عن الإخوان بأجسامهم وعن المشايخ بقلوبهم ومداهنون لهم، وقد استوحشوا واستُوحِشَ منهم بما أظهروه من الشبهة وبما ظهر عليهم من الكآبة بمخالطة الفسقة والمشركين، وعند التحقيق لا يُكَفرون المشرك إلا بالعموم، وفيما بينهم يتورعون عن ذلك، ثم دبت بدعتهم وشبهتهم حتى راجت على من هو من خواص الإخوان وذلك والله أعلم بسبب ترك كتب الأصول وعدم الاعتناء بها وعدم الخوف من الزيغ .
رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ قدس الله روحه ـ ورسائل بنيه فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جدا كما سيمر، ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم ونظر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحير جدا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن بعض من أشرنا إليه باحثته عن هذه المسألة فقال نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى واحمد ربك واسأله العافية، فإن هذا الجواب من بعض أجوبة العراقي التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم فقال : نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف، ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد-1- ـ قدس الله روحه ـ على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبه، فانظر ترى العجب ثم اسأل الله العافية وأن يعافيك من الحور بعد الكور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيه ورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث، حتى جاء بعض الكلمات التي فيها ما فيها، فقال الرجل : ما هذه كيف ذلك ؟ فقال الشيخ : قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل عنه، فلما جاءت هذه السقطة عرفتها، أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال .
ونحن نقول : الحمد لله، وله الثناء، ونسأله المعونة والسداد، ولا نقول إلا كما قال مشايخنا الشيخ محمد في إفادة المستفيد وحفيده في رده على العراقي وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك، فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه، هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
ومسألتنا هذه وهى عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن مَنْ عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف-2- وكيف يُعَرِّفون عُبّادَ القبورِ وهم ليسوا بمسلمين ولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول : {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق} {إن الله لا يغفر أن يشرك به} {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} إلى غير ذلك من الآيات ، ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول، بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة، وهذه الشبهة التي ذكرنا قد وقع مثلها أو دونها لأناس في زمن الشيخ محمد رحمه الله ولكن مَنْ وقعت له يراها شبهة ويطلب كشفها، وأما من ذكرنا فإنهم يجعلونها أصلا ويحكمون على عامة المشركين بالتعريف ويُجَهِّلون من خالفهم فلا يوقفون للصواب، لأن لهم في ذلك هوى وهو مخالطة المشركين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، الله أكبر ما أكثر المنحرفين وهم لا يشعرون، ونحن ذكرنا هذه المقدمة لتكون أدعى لفهم ما سيأتي من الحجج على هذه المسألة :
رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة :
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه في الرسالة التي كتب إلى أحمد بن عبد الكريم صاحب الأحساء أحد الصلحاء أولاً قبل أن يفتتن، فنذكر منها شيئا لمشابهة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا نصها :
"من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن الكريم سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، أما بعد :
وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكال تطلب إزالته ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام شيخ الإسلام أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام، وعلى أي شيء يدل كلامه ؟ على أن من عبد الأوثان عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول بعد ما شهد به مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه ؟ بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن عبدالله وأمثالهما كفرا ظاهرا ينقل عن الملة فضلا عن غيرهما، هذا صريح واضح في كلام ابن القيم-3- وفي كلام الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء وسب دين الرسول بعدما أقر وشهد به ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها، وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وإنما أخاف عليك من قول الله تعالى : {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} .
والشبهة التي دخلت عليك من أجل هذه البضّيعة التي في يديك تخاف أن تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضا قرناء السوء، وأنت والعياذ بالله تنزل درجة أول مرة في الشك وبلد الشرك وموالتهم والصلاة خلفهم" انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
فتأمل قوله في تكفير هؤلاء العلماء وفي كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأنه صريح في كلام ابن القيم رحمه الله وفي حكايته عن صاحب الرسالة، وحكم عليه بأية المنافقين وأن هذا حكم عام، وكذلك تأمل اليوم حال كثير ممن ينتسب إلى الدين والعلم من أهل نجد يذهب إلى بلاد المشركين ويقيم عندهم مدة يطلب العلم منهم ويجالسهم، ثم إذا قدم على المسلمين وقيل له : اتق الله، وتب إلى ربك من ذلك، استهزأ بمن يقول له ذلك، ويقول : أتوب من طلب العلم ؟ ثم يظهر من أفعاله وأقواله ما ينبئ عن سوء معتقده وزيفه، ولا عجب من ذلك لأنه عصى الله ورسوله بمخالطة المشركين فعوقب، ولكن العجب من أهل الدين والتوحيد لانبساطهم مع هذا الجنس الذين أرادوا أن يقرنوا بين المشركين والموحدين، وقد فرق الله بينهم في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى في تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم كالذين في زمن أبي بكر رضي الله عنه حكموا عليهم بالردة بمنع الزكاة، وكأصحاب علي وأهل المسجد الذين بالكوفة وبنو عبيد القداح كل هؤلاء حكموا عليهم بالردة بأعيانهم، ثم قال : وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تميمة التي لبسوا بها عليك فهي أغلط من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم، فإنه صَرَّح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى : {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} وقوله : {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} وإذا كان كلام الشيخ ليس في الردة والشرك بل في المسائل الجزيئات .
ثم قال : يوضح ذلك إن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين، فأين نِسْبَتُكَ أنه لا يكفر أحداً بعينه، وقال أيضا في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم لما ذكر من أئمتهم شيئا من أنواع الردة والكفر، قال رحمة الله تعالى : وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال : إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكَفَّر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وتارة كثير منهم يرتد عن الإسلام ردة صريحة إلى أن قال : وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، هذا لفظه بحروفه، فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤساءهم فلانا وفلانا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه من آكابر أئمة الشافعية، هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عوف وزعم أن دينه حسن مع عبادته لأبى حديدة ؟
وقال شيخ الإسلام أيضا : بل كل شرك في العالم إنما حدث عن رأي بني جنسهم، فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد رجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا فإنه نافع جدا وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ويأمرون به وهم إذا ادَّعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالفعل . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل كلامه واعرضه على ما غرك به الشيطان من الفهم الفاسد الذي كَذَّبْت به الله ورسوله وإجماع الأمة وتحيزت به إلى عبادة الطاغوت فإن فهمت هذا وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء إلى مَنْ الهداية بيده، فإن الخطر عظيم، فإن الخلود في النار جزاء الردة ما يساوي بضّيعة تربح تومان أو نصف تومان، وعندنا أناس يجون بعيالهم ولا شحذوا وقد قال الله في هذه المسألة : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون} {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} انتهى كلام الشيخ المذكورة بحروفه مع الإختصار فراجعها من التاريخ فإنها نافعة جدا .
والمقصود أن الحجة قامت بالرسول والقرآن فكل من سمع بالرسول وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وهذا ظاهر في كلام شيخ الإسلام عند قوله فمن المعلوم أن قيامها ليس أن يَفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلَى عن شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليم الحجة بالقرآن مع قوله تعالى : {إنا جعلنا قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} فتأمل كلامه واحضر فكرك واسأل الله الهداية .
وهذه ثلاثة مواضع يذكر فيها أن الحجة قامت بالقرآن على كل من بلغه وسمعه ولو لم يفهمه، وهذا ولله الحمد يؤمن به كل مسلم سمع القرآن، ولكن الشياطين اجتالت أكثر الناس عن فطرة الله التي فطر عباده عليها، ثم تأمل كلام شيخ الإسلام في حكمه عليهم بالكفر وهل قال لا يكفرون حتى يُعرفوا أو لا يسمون مشركين ؟ بل فعلهم شرك كما قال من أشرنا إليه .
ثم تأمل حكاية الشيخ عن شيخ الإسلام في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم، وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها حتى يعرف، لكن يكون ذلك في الأمور الظاهرة، إلى أن قال : أن اليهود والنصارى والمشركين يعلمون أن محمداً بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة، ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، إلى أن قال الشيخ : فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن في كفر المعين وتأمل تكفيره رؤساءهم فقف وتأمل كما قال الشيخ، وهذا القدر كاف في رد هذه الشبهات وقد جعلها شيخ الإسلام قدس الله روحه من الأمور الظاهرة حتى اليهود والنصارى يعلمون ذلك من دين الإسلام ومن وصفنا لك عمَى عن ذلك ولعله يقرأها ويقررها، ولكن حيل بينه وبين تنزيلها على الواقع من الناس، وهذا له أسباب منها عدم الخوف على النفس من الزيغ والانقلاب وقد خاف السلف من ذلك، وقد يكون للإنسان هوى يمنعه عن معرفة الحق واستخراجه من النصوص كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في بعض رسائله التي ذكر صاحب التاريخ أنه قال : ومن ذلك أن نقرر المسألة في أصل الدين سنة كاملة على بعض الطلبة فيعرفها ويتصورها، ثم إذا وقعت لا يفهمها، قف وتأمل .
ومن ذلك أنه ذكر أن بعض علماء الوشم قرر التوحيد في بعض مراسلته للشيخ محمد وسأله هل أصاب أم لا، فقال له : تقريرك التوحيد حق وقد أصبت لكن الشأن في العمل بعد المعرفة، فإنك لما قدم بلدكم بعض رسائل أعداء الدين في سب الدين وأهله مشيت معهم ولم تنابذهم ولم تفارقهم أو كما قال فتأمل ذلك ( فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ) .
تأمل كلام الشيخ رحمه الله في تنزيله على صاحب الرسالة أن المنافقين وإن تحيزوا إلى عبادة الطاغوت ثم حكم عليه بالردة . ومن أعظم ما حكى عن الشيخ أنه توقف في تكفير المعين وأن الذي منعه من الهجرة بأهله ما في يده من البضائع وخوف الفقر، ثم انظر حال من ذكرنا ومن شاكلهم في رحلتهم للمشركين وقراءتهم عليهم وطلب العلم بزعمهم منهم هذا أقروا به وهو مما علم منهم، وإلا فهم يتهمون بموالاتهم والركون إليهم .
ومن المصائب أنه إذا قدم هذا الجنس على المسلمين عاملوهم بمثل معاملتهم قبل الذهاب للمشركين من الإكرام والتحية، وقد يظهر منهم حكاية وثناء على بلاد المشركين واستهجان المسلمين وبلادهم، مما يعلم أنه لا يظهر إلا من سوء طوية ويبقون على ذلك دائما، وقليل من يستنكر ذلك منهم، وأما كون أحد يخاف عليهم الردة والزيغ بسبب أفعالهم فلا أظن ذلك يخطر ببال أحد، فكأن هذه الأحكام الشرعية التي يحكم بها على من صدر منه ما ينافيها .
حكم من جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة : كما ذكر الشيخ رحمه الله وشيخ الإسلام رحمه الله قبله في أناس كانوا فبانوا، كما ذكر داعية أولئك المشاهير الذين تقدم ذكرهم فانظر حالك وتفكر فيما تعتقده فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة، وإلا فلا عجب ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ رحمه الله تعالى إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم لما سألاه عن قول شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه : من جَحَد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر، فأجاب بقوله إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم :
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحد كذا وكذا وأنكم تسألون عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليه الحجة أم لا ؟ فهذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا المجال وقد وضحت لكم مرارا أن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يُعرف، وأما أصول الدين التي وضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} .وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، فتأمل كلام الشيخ ونسأل الله أن يرزقك الفهم الصحيح وأن يعافيك من التعصب . وتأمل كلام الشيخ رحمه الله أن كل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة وإن لم يفهم ذلك، وجعله هذا هو السبب في غلط من غلط وأن جعل التعريف في المسائل الخفية . ومن حكينا عنه جعل التعريف في أصل الدين، وهل بعد القرآن والرسول تعريف ؟ ثم يقول : هذا اعتقادنا نحن ومشايخنا ! نعوذ بالله من الحوار بعد الكور، وهذه المسألة كثيرة جدا في مصنفات الشيخ محمد رحمه الله لأن علماء زمانه من المشركين ينازعون في تكفير المعين، فهذا شرح حديث عمرو بن عبسه من أوله إلى آخره كله في تكفير المعين، حتى أنه نقل فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من دعا عليّا فقد كفر ومن لم يكفره فقد كفر، وتدبر ماذا أودعه من الدلائل الشرعية التي إذا تدبرها العاقل المنصف فضلا عن المؤمن عرف أن المسألة وفاقية ولا تشكل إلا على مدخول عليه في اعتقاده، وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله تعالى في شرح التوحيد في مواضع منه أن من تكلم بكلمة التوحيد، وصلى، وزكى، ولكن خالف ذلك بأفعاله وأقواله من دعاء الصالحين والاستغاثة بهم، والذبح لهم أنه شبيه باليهود والنصارى في تكلمهم بكلمة التوحيد ومخالفتها، فعلى هذا يلزم من قال بالتعريف للمشركين أن يقول بالتعريف باليهود والنصارى ولا يكفرهم إلا بعد التعريف، وهذا ظاهر بالاعتبار جدا ."اهـ
----------------------------------------------------------
1- يشير إلى قول الشيخ هنا "[الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/102-104]: ((أركان الإسلام الخمسة: أولها الشهادتان، ثمَّ الأركان الأربعة ؛ فالأربعة: إذا أقربها وتركها تهاوناً؛ فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفِّره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم: وهو الشهادتان، وأيضاً نكفِّره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول أعداؤنا معنا على أنواع:
........-وذكر الانواع الأربعة ثم قال رحمه الله تعالى
-..وأمَّا الكذب والبهتان؛ فمثل قولهم: إنا نكفِّر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على مَنْ قدر على إظهار دينه، وإنا نكفِّر مَنْ لم يكفر ومَنْ لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفِّر مَنْ عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم مَنْ ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَنْ لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟! سبحانك هذا بـهتان عظيم، بل نُكفِّر تلك الأنواع الأربعة لأجل محادتهم لله ورسوله، ورحم الله امرءاً نظر نفسه وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.ا ه
-2 علق الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى على أن الصرف والعطف أصبح من المسائل الظاهرة في شرحه تطهير الاعتقاد على ماأظن.
-3- يشير إلى قول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب طبقات المكلفين لما ذكر رؤوس الكفار الذين صدوا عن سبيل الله وأن عذابهم مضاعف، ثم قال : الطبقة السابعة عشرة طبقة المقلدين وجهال الكفار وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع..إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
رغبوا عن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ قدس الله روحه ـ ورسائل بنيه فإنها كفيلة بتبيين جميع هذه الشبه جدا كما سيمر، ومن له أدنى معرفة إذا رأى حال الناس اليوم ونظر إلى اعتقاد المشايخ المذكورين تحير جدا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك أن بعض من أشرنا إليه باحثته عن هذه المسألة فقال نقول لأهل هذه القباب الذين يعبدونها ومن فيها فعلك هذا شرك وليس هو بمشرك، فانظر ترى واحمد ربك واسأله العافية، فإن هذا الجواب من بعض أجوبة العراقي التي يرد عليها الشيخ عبد اللطيف وذكر الذي حدثني عن هذا أنه سأله بعض الطلبة عن ذلك وعن مستدلهم فقال : نكفر النوع ولا نعين الشخص إلا بعد التعريف، ومستندنا ما رأيناه في بعض رسائل الشيخ محمد-1- ـ قدس الله روحه ـ على أنه امتنع من تكفير من عبد قبة الكواز وعبد القادر من الجهال لعدم من ينبه، فانظر ترى العجب ثم اسأل الله العافية وأن يعافيك من الحور بعد الكور، وما أشبههم بالحكاية المشهورة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ أنه ذات يوم يقرر على أصل الدين ويبين ما فيه ورجل من جلسائه لا يسأل ولا يتعجب ولا يبحث، حتى جاء بعض الكلمات التي فيها ما فيها، فقال الرجل : ما هذه كيف ذلك ؟ فقال الشيخ : قاتلك الله ذهب حديثنا منذ اليوم لم تفهم ولم تسأل عنه، فلما جاءت هذه السقطة عرفتها، أنت مثل الذباب لا يقع إلا على القذر أو كما قال .
ونحن نقول : الحمد لله، وله الثناء، ونسأله المعونة والسداد، ولا نقول إلا كما قال مشايخنا الشيخ محمد في إفادة المستفيد وحفيده في رده على العراقي وكذلك هو قول أئمة الدين قبلهم ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك، فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه، هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
ومسألتنا هذه وهى عبادة الله وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، وأن مَنْ عبد مع الله غيره فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة، هي أصل الأصول وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول، إنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين، كمسائل نازع بها بعض أهل البدع كالقدرية والمرجئة، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف-2- وكيف يُعَرِّفون عُبّادَ القبورِ وهم ليسوا بمسلمين ولا يدخلون في مسمى الإسلام، وهل يبقى مع الشرك عمل والله تعالى يقول : {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق} {إن الله لا يغفر أن يشرك به} {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} إلى غير ذلك من الآيات ، ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول، بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة، وهذه الشبهة التي ذكرنا قد وقع مثلها أو دونها لأناس في زمن الشيخ محمد رحمه الله ولكن مَنْ وقعت له يراها شبهة ويطلب كشفها، وأما من ذكرنا فإنهم يجعلونها أصلا ويحكمون على عامة المشركين بالتعريف ويُجَهِّلون من خالفهم فلا يوقفون للصواب، لأن لهم في ذلك هوى وهو مخالطة المشركين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، الله أكبر ما أكثر المنحرفين وهم لا يشعرون، ونحن ذكرنا هذه المقدمة لتكون أدعى لفهم ما سيأتي من الحجج على هذه المسألة :
رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة :
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه في الرسالة التي كتب إلى أحمد بن عبد الكريم صاحب الأحساء أحد الصلحاء أولاً قبل أن يفتتن، فنذكر منها شيئا لمشابهة من رددنا عليه كصاحب الرسالة وهذا نصها :
"من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن الكريم سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، أما بعد :
وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكال تطلب إزالته ثم ورد منك رسالة تذكر أنك عثرت على كلام شيخ الإسلام أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام، وعلى أي شيء يدل كلامه ؟ على أن من عبد الأوثان عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول بعد ما شهد به مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه ؟ بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن عبدالله وأمثالهما كفرا ظاهرا ينقل عن الملة فضلا عن غيرهما، هذا صريح واضح في كلام ابن القيم-3- وفي كلام الشيخ الذي ذكرت أنه أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء وسب دين الرسول بعدما أقر وشهد به ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها، وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم، ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وإنما أخاف عليك من قول الله تعالى : {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} .
والشبهة التي دخلت عليك من أجل هذه البضّيعة التي في يديك تخاف أن تضيع أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضا قرناء السوء، وأنت والعياذ بالله تنزل درجة أول مرة في الشك وبلد الشرك وموالتهم والصلاة خلفهم" انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
فتأمل قوله في تكفير هؤلاء العلماء وفي كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأنه صريح في كلام ابن القيم رحمه الله وفي حكايته عن صاحب الرسالة، وحكم عليه بأية المنافقين وأن هذا حكم عام، وكذلك تأمل اليوم حال كثير ممن ينتسب إلى الدين والعلم من أهل نجد يذهب إلى بلاد المشركين ويقيم عندهم مدة يطلب العلم منهم ويجالسهم، ثم إذا قدم على المسلمين وقيل له : اتق الله، وتب إلى ربك من ذلك، استهزأ بمن يقول له ذلك، ويقول : أتوب من طلب العلم ؟ ثم يظهر من أفعاله وأقواله ما ينبئ عن سوء معتقده وزيفه، ولا عجب من ذلك لأنه عصى الله ورسوله بمخالطة المشركين فعوقب، ولكن العجب من أهل الدين والتوحيد لانبساطهم مع هذا الجنس الذين أرادوا أن يقرنوا بين المشركين والموحدين، وقد فرق الله بينهم في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى في تلك الرسالة بعدما ذكر كثرة من ارتد عن الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم كالذين في زمن أبي بكر رضي الله عنه حكموا عليهم بالردة بمنع الزكاة، وكأصحاب علي وأهل المسجد الذين بالكوفة وبنو عبيد القداح كل هؤلاء حكموا عليهم بالردة بأعيانهم، ثم قال : وأما عبارة شيخ الإسلام ابن تميمة التي لبسوا بها عليك فهي أغلط من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم، فإنه صَرَّح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى : {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} وقوله : {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} وإذا كان كلام الشيخ ليس في الردة والشرك بل في المسائل الجزيئات .
ثم قال : يوضح ذلك إن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين، فأين نِسْبَتُكَ أنه لا يكفر أحداً بعينه، وقال أيضا في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم لما ذكر من أئمتهم شيئا من أنواع الردة والكفر، قال رحمة الله تعالى : وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال : إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكَفَّر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وتارة كثير منهم يرتد عن الإسلام ردة صريحة إلى أن قال : وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، هذا لفظه بحروفه، فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن فيه في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤساءهم فلانا وفلانا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه من آكابر أئمة الشافعية، هل يناسب هذا من كلامه أن المعين لا يكفر ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عوف وزعم أن دينه حسن مع عبادته لأبى حديدة ؟
وقال شيخ الإسلام أيضا : بل كل شرك في العالم إنما حدث عن رأي بني جنسهم، فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد رجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا فإنه نافع جدا وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ويأمرون به وهم إذا ادَّعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالفعل . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل كلامه واعرضه على ما غرك به الشيطان من الفهم الفاسد الذي كَذَّبْت به الله ورسوله وإجماع الأمة وتحيزت به إلى عبادة الطاغوت فإن فهمت هذا وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء إلى مَنْ الهداية بيده، فإن الخطر عظيم، فإن الخلود في النار جزاء الردة ما يساوي بضّيعة تربح تومان أو نصف تومان، وعندنا أناس يجون بعيالهم ولا شحذوا وقد قال الله في هذه المسألة : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون} {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} انتهى كلام الشيخ المذكورة بحروفه مع الإختصار فراجعها من التاريخ فإنها نافعة جدا .
والمقصود أن الحجة قامت بالرسول والقرآن فكل من سمع بالرسول وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وهذا ظاهر في كلام شيخ الإسلام عند قوله فمن المعلوم أن قيامها ليس أن يَفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر الصديق، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلَى عن شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليم الحجة بالقرآن مع قوله تعالى : {إنا جعلنا قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} فتأمل كلامه واحضر فكرك واسأل الله الهداية .
وهذه ثلاثة مواضع يذكر فيها أن الحجة قامت بالقرآن على كل من بلغه وسمعه ولو لم يفهمه، وهذا ولله الحمد يؤمن به كل مسلم سمع القرآن، ولكن الشياطين اجتالت أكثر الناس عن فطرة الله التي فطر عباده عليها، ثم تأمل كلام شيخ الإسلام في حكمه عليهم بالكفر وهل قال لا يكفرون حتى يُعرفوا أو لا يسمون مشركين ؟ بل فعلهم شرك كما قال من أشرنا إليه .
ثم تأمل حكاية الشيخ عن شيخ الإسلام في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم، وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها حتى يعرف، لكن يكون ذلك في الأمور الظاهرة، إلى أن قال : أن اليهود والنصارى والمشركين يعلمون أن محمداً بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة، ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، إلى أن قال الشيخ : فتأمل كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن في كفر المعين وتأمل تكفيره رؤساءهم فقف وتأمل كما قال الشيخ، وهذا القدر كاف في رد هذه الشبهات وقد جعلها شيخ الإسلام قدس الله روحه من الأمور الظاهرة حتى اليهود والنصارى يعلمون ذلك من دين الإسلام ومن وصفنا لك عمَى عن ذلك ولعله يقرأها ويقررها، ولكن حيل بينه وبين تنزيلها على الواقع من الناس، وهذا له أسباب منها عدم الخوف على النفس من الزيغ والانقلاب وقد خاف السلف من ذلك، وقد يكون للإنسان هوى يمنعه عن معرفة الحق واستخراجه من النصوص كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في بعض رسائله التي ذكر صاحب التاريخ أنه قال : ومن ذلك أن نقرر المسألة في أصل الدين سنة كاملة على بعض الطلبة فيعرفها ويتصورها، ثم إذا وقعت لا يفهمها، قف وتأمل .
ومن ذلك أنه ذكر أن بعض علماء الوشم قرر التوحيد في بعض مراسلته للشيخ محمد وسأله هل أصاب أم لا، فقال له : تقريرك التوحيد حق وقد أصبت لكن الشأن في العمل بعد المعرفة، فإنك لما قدم بلدكم بعض رسائل أعداء الدين في سب الدين وأهله مشيت معهم ولم تنابذهم ولم تفارقهم أو كما قال فتأمل ذلك ( فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ) .
تأمل كلام الشيخ رحمه الله في تنزيله على صاحب الرسالة أن المنافقين وإن تحيزوا إلى عبادة الطاغوت ثم حكم عليه بالردة . ومن أعظم ما حكى عن الشيخ أنه توقف في تكفير المعين وأن الذي منعه من الهجرة بأهله ما في يده من البضائع وخوف الفقر، ثم انظر حال من ذكرنا ومن شاكلهم في رحلتهم للمشركين وقراءتهم عليهم وطلب العلم بزعمهم منهم هذا أقروا به وهو مما علم منهم، وإلا فهم يتهمون بموالاتهم والركون إليهم .
ومن المصائب أنه إذا قدم هذا الجنس على المسلمين عاملوهم بمثل معاملتهم قبل الذهاب للمشركين من الإكرام والتحية، وقد يظهر منهم حكاية وثناء على بلاد المشركين واستهجان المسلمين وبلادهم، مما يعلم أنه لا يظهر إلا من سوء طوية ويبقون على ذلك دائما، وقليل من يستنكر ذلك منهم، وأما كون أحد يخاف عليهم الردة والزيغ بسبب أفعالهم فلا أظن ذلك يخطر ببال أحد، فكأن هذه الأحكام الشرعية التي يحكم بها على من صدر منه ما ينافيها .
حكم من جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة : كما ذكر الشيخ رحمه الله وشيخ الإسلام رحمه الله قبله في أناس كانوا فبانوا، كما ذكر داعية أولئك المشاهير الذين تقدم ذكرهم فانظر حالك وتفكر فيما تعتقده فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة، وإلا فلا عجب ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن الدليل على مسألتنا ما كتب الشيخ رحمه الله تعالى إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم لما سألاه عن قول شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه : من جَحَد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر، فأجاب بقوله إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم :
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحد كذا وكذا وأنكم تسألون عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليه الحجة أم لا ؟ فهذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا المجال وقد وضحت لكم مرارا أن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يُعرف، وأما أصول الدين التي وضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} .وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، فتأمل كلام الشيخ ونسأل الله أن يرزقك الفهم الصحيح وأن يعافيك من التعصب . وتأمل كلام الشيخ رحمه الله أن كل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة وإن لم يفهم ذلك، وجعله هذا هو السبب في غلط من غلط وأن جعل التعريف في المسائل الخفية . ومن حكينا عنه جعل التعريف في أصل الدين، وهل بعد القرآن والرسول تعريف ؟ ثم يقول : هذا اعتقادنا نحن ومشايخنا ! نعوذ بالله من الحوار بعد الكور، وهذه المسألة كثيرة جدا في مصنفات الشيخ محمد رحمه الله لأن علماء زمانه من المشركين ينازعون في تكفير المعين، فهذا شرح حديث عمرو بن عبسه من أوله إلى آخره كله في تكفير المعين، حتى أنه نقل فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من دعا عليّا فقد كفر ومن لم يكفره فقد كفر، وتدبر ماذا أودعه من الدلائل الشرعية التي إذا تدبرها العاقل المنصف فضلا عن المؤمن عرف أن المسألة وفاقية ولا تشكل إلا على مدخول عليه في اعتقاده، وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبدالله رحمه الله تعالى في شرح التوحيد في مواضع منه أن من تكلم بكلمة التوحيد، وصلى، وزكى، ولكن خالف ذلك بأفعاله وأقواله من دعاء الصالحين والاستغاثة بهم، والذبح لهم أنه شبيه باليهود والنصارى في تكلمهم بكلمة التوحيد ومخالفتها، فعلى هذا يلزم من قال بالتعريف للمشركين أن يقول بالتعريف باليهود والنصارى ولا يكفرهم إلا بعد التعريف، وهذا ظاهر بالاعتبار جدا ."اهـ
----------------------------------------------------------
1- يشير إلى قول الشيخ هنا "[الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1/102-104]: ((أركان الإسلام الخمسة: أولها الشهادتان، ثمَّ الأركان الأربعة ؛ فالأربعة: إذا أقربها وتركها تهاوناً؛ فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفِّره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم: وهو الشهادتان، وأيضاً نكفِّره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول أعداؤنا معنا على أنواع:
........-وذكر الانواع الأربعة ثم قال رحمه الله تعالى
-..وأمَّا الكذب والبهتان؛ فمثل قولهم: إنا نكفِّر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على مَنْ قدر على إظهار دينه، وإنا نكفِّر مَنْ لم يكفر ومَنْ لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.
وإذا كنا لا نكفِّر مَنْ عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم مَنْ ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَنْ لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل؟! سبحانك هذا بـهتان عظيم، بل نُكفِّر تلك الأنواع الأربعة لأجل محادتهم لله ورسوله، ورحم الله امرءاً نظر نفسه وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.ا ه
-2 علق الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى على أن الصرف والعطف أصبح من المسائل الظاهرة في شرحه تطهير الاعتقاد على ماأظن.
-3- يشير إلى قول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب طبقات المكلفين لما ذكر رؤوس الكفار الذين صدوا عن سبيل الله وأن عذابهم مضاعف، ثم قال : الطبقة السابعة عشرة طبقة المقلدين وجهال الكفار وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع..إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
تعليق