محاضرة في أصول الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الأخوة الكرام: حديثي معكم في هذه الكلمة فيما يتعلق بأصول الإيمان، وهذا موضوع اختارته الجامعة ووافقت عليه، لأنه موضوع مهم جداً؛ لأن مدار ديننا على هذه الأصول؛ لأنه سر نجاح الأمة، وسر سعادتها، وسر أمنها، وسر تقدمها، وسر سيادتها على الأمم إذا حققته في أقوالها وأعمالها وسيرتها وجهادها وأخذها وعطائها وغير ذلك.
وقد أوضح القرآن هذه الأصول في آيات كثيرة كما أوضحها نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث صحيحة، وهي أصول ستة، هي أصول الإيمان، وهي أصول الدين. فإن الإيمان هو الدين كله وهو الإسلام وهو الهدى وهو البر والتقوى وهو ما بعث الله به الرسول عليه الصلاة والسلام من العلم النافع والعمل الصالح، كله يسمى إيماناً، هذه أصول ديننا الستة أوضحها الكتاب العزيز في مواضع، وأوضحها رسول الله الأمين في الأحاديث، فمما ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[1] الآية. فبين سبحانه وتعالى هنا خمسة من أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين. هذه خمسة أصول عليها مدار الدين ظاهرة وباطنه، وقال جل وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ[2] الآية.
فبين سبحانه وتعالى هنا أربعة أصول في قوله: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ[3]، ولم يذكر اليوم الآخر، ولكنه ذكره في الآية السابقة وفي آيات أخرى، وهذه سنة الله في كتابه ينوع سبحانه الأخبار عنه عز وجل وعن أسمائه وصفاته، وعن أصول هذا الدين، وعن شئون يوم القيامة والجنة والنار، وعن الرسل وأممهم حتى يجد القارئ في كل موضعٍ من كتاب الله ما يزداد به إيمانه وعلمه، وحتى يطلب المزيد من العلم في كل موضع من كتاب الله وفي كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الله عز وجل إلى اليوم الآخر في آخر الآية بقوله:غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[4].
وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا[5]، فقد أوضح سبحانه في هذه الآية أن الكفر بهذه الأصول ضلال بعيد عن الهدى. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي مواضع يذكر سبحانه الإيمان بالله وحده؛ لأن جميع ما ذكر في الآيات الأخرى داخل في ضمن الإيمان بالله، وفي بعضها الإيمان بالله ورسوله، وفي بعضها الإيمان بالله واليوم الآخر فقط، وما ذاك إلا لأن البقية داخلة في ذلك، فإذا ذكر الإيمان بالله دخل فيه بقية الأشياء التي ذكرها في الآيات الأخرى كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، فمن هذا قول الله جل وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ[6]، فاقتصر على الإيمان بالله ورسوله والكتاب المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام والكتاب المنزل من قبل ولم يذكر الأصول الأخرى؛ لأنها داخلة في الإيمان بالله، وهكذا قوله جل وعلا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا[7]، ذكر الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب والسنة؛ لأن البقية داخلة في ذلك، فالكتاب والسنة داخلان في النور، وهكذا كل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون كله داخل في النور، وهكذا قوله جل وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ[8]، فذكر الإيمان بالله ورسوله فقط وما ذاك إلا لأن البقية داخلة في الإيمان بالله ورسوله.
ومما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جبريل المشهور لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، فذكر الإسلام أولاً، وفي لفظ بدأ بالإيمان ثم ذكر الإسلام ثم الإحسان، فالمقصود أنه ذكر الإيمان بما يصلح الباطن، لأن الباطن هو الأساس، والظاهر تبع للباطن فسمى الأعمال الظاهرة إسلاماً لأنها انقياد وخضوع له سبحانه، والإسلام هو: الاستسلام لله والانقياد لأمره، فسمى الله سبحانه وتعالى الأمور الظاهرة إسلاماً لما فيها من الانقياد لله والذل له والطاعة لأمره والوقوف عند حدوده عز وجل، يقال: أسلم فلان لفلان، أي ذل له وانقاد، ومعنى أسلمت لله، أي ذللت له وانقدت لأمره خاضعاً له سبحانه وتعالى.
فالإسلام: هو الاستسلام لله بالأعمال الظاهرة، والإيمان: هو التصديق بالأمور الباطنة، والظاهرة مما جاء في الشرع المطهر، وهذا كله عند الاقتران، ولهذا لما قرن بينهما في هذا الحديث الصحيح فسر رسول الله عليه الصلاة والسلام الإسلام بالأمور الظاهرة وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بالأمور الباطنة وهي: الإيمان بالله وملائكته … الخ.
ومن هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح قيل: ((يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))، وفي حديث آخر أي الإسلام أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
فالإسلام أخص بالأعمال الظاهرة التي يظهر بها الانقياد لأمر الله والطاعة له والانقياد لشريعته وتحكيمها في كل شيء، والإيمان أخص بالأمور الباطنة المتعلقة بالقلب من التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)).
ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي أصول الإيمان وهي في نفسها أصول الدين كله؛ لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لا بد منه لصحة الإسلام لكن قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، ولهذا قال الله عز وجل في حق الأعراب: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا[9].
فلما كان إيمانهم ليس بكامل، بل إيمان ناقص، لم يستكمل واجبات الإيمان نفى عنهم الإيمان يعني به الكامل لأنه ينفى عمن ترك بعض الواجبات كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا إيمان لمن لا صبر له))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)). إلى غير ذلك، والمقصود أن الإيمان يقتضي العمل الظاهر، كما أن الإسلام بدون إيمان من عمل المنافقين، فالإيمان الكامل الواجب يقتضي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، فإذا قصر في ذلك جاز أن ينفى عنه ذلك الإيمان بتقصيره؛ كما نفي عن الأعراب بقوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا[10]، وكما نفي عمن ذكر في الأحاديث السابقة.
والخلاصة: أن الله سبحانه ورسوله نفيا الإيمان عن بعض من ترك بعض واجبات الإيمان وأثبتا له الإسلام، فهذه الأصول الستة هي أصول الدين كله، فمن أتى بها مع الأعمال الظاهرة صار مسلماً مؤمناً، ومن لم يأت بها فلا إسلام له ولا إيمان كالمنافقين؛ فإنهم لما أظهروا الإسلام وادعوا الإيمان وصلوا مع الناس وحجوا مع الناس وجاهدوا مع الناس إلى غير ذلك ولكنهم في الباطن ليسوا مع المسلمين بل هم في جانب والمسلمون في جانب؛ لأنهم مكذبون لله ورسوله، منكرون لما جاءت به الرسل في الباطن، متظاهرون بالإسلام لحظوظهم العاجلة ولمقاصد معروفة، أكذبهم الله في ذلك، وصاروا كفاراً ضلالاً، بل صاروا أكفر وأشر ممن أعلن كفره، ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار، وما ذاك إلا لأن خطرهم أعظم؛ لأن المسلم يظن أنهم إخوته وأنهم على دينه وربما أفشى إليهم بعض الأسرار، فضروا المسلمين وخانوهم، فصار كفرهم أشد وضررهم أعظم، وهكذا من ادعى الإيمان بهذه الأصول ثم لم يؤد شرائع الإسلام الظاهرة، فلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو لم يصل، أو لم يصم أو لم يزك، أو لم يحج أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة التي أوجبها الله عليه، فإن ذلك دليل على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه، فقد ينتفي الإيمان بالكلية كما ينتفي بترك الشهادتين إجماعاً، وقد لا ينتفي أصله ولكن ينتفي تمامه وكماله لعدم أدائه ذلك الواجب المعين؛ كالصوم والحج مع الاستطاعة والزكاة ونحو ذلك من الأمور عند جمهور أهل العلم، فإن تركها فسق وضلال ولكن ليس ردةً عن الإسلام عند أكثرهم إذا لم يجحد وجوبها، أما الصلاة فذهب قوم إلى أن تركها ردة ولو مع الإيمان بوجوبها وهو أصح قولي العلماء؛ لأدلةٍ كثيرةٍ منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وقال آخرون: (بل تركها كفر دون كفر إذا لم يجحد وجوبها)، ولهذا المقام بحث خاص وعناية خاصة من أهل العلم، ولكن المقصود الإشارة إلى أنه لا إسلام لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا إسلام له، فهذا يدل على هذا، وهذا يدل على هذا، وسبق أن الإسلام سمي إسلاماً لأنه يدل على الانقياد والذل لله عز وجل والخضوع لعظمته سبحانه وتعالى؛ ولأنه يتعلق بالأمور الظاهرة.
وسمي الإيمان إيماناً؛ لأنه يتعلق بالباطن والله يعلمه جل وعلا، فسمي إيماناً لأنه يتعلق بالقلب المصدق، وهذا القلب المصدق للدلالة على تصديقه وصحة إيمانه أمور ظاهرة، إذا أظهرها المسلم المصدق واستقام عليها وأدى حقها دل ذلك على صحة إيمانه، ومن لم يستقم دل ذلك على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه، والإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الإسلام، والعكس كذلك عند أهل السنة والجماعة، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ[11]، فيدخل فيه الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه لا إسلام إلا بإيمان. فالدين عند الله هو الإسلام وهو الإيمان وهو الهدى وهو التقوى وهو البر، فهذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد وهو الإيمان بالله ورسله والاهتداء بهدي الله والاستقامة على دين الله، فكلها تسمى براً وتسمى إيماناً، وتسمى إسلاماً، وتسمى تقوى، وتسمى هدى. وكذلك إذا أطلق الإحسان دخل فيه الأمران: الإسلام والإيمان؛ لأنه يخص الكمّل من عباد الله، فبإطلاقه يدخل فيه الأمران الأولان: الإسلام والإيمان، وعند إطلاق أحد الثلاثة إذا أطلق فإنه يدخل فيه الآخران، فإذا قيل: المحسنون هم أخص عباد الله، فلا إحسان إلا بإسلام وإيمان قال تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[12]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[13]، فالمحسن إنما يكون محسناً بإسلامه وإيمانه وتقواه لله وقيامه بأمر الله فبهذا سمي محسناً، ولا يتصور أن يكون محسناً بدون إسلام وإيمان.
وهكذا يا أخي لفظ المؤمنين يدخل فيه المسلمون؛ لأنهم - أعني المؤمنين - أخص من لفظ المسلمين، قال الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ[14]، وقال عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[15] الآية. فالمؤمن سمي مؤمناً لتصديقه بقلبه وإسلامه بجوارحه لله وحده، فالمؤمنون مؤمنون بتصديقهم وبإسلامهم وقيامهم بأمر الله ووقوفهم عند حدوده سبحانه وتعالى، ومما يدل على هذا المعنى حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً وترك قوماً، قال سعد: ((يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً وإني لأراه مؤمناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً، فعاد سعد إلى مقالته والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " أو مسلماً))والمقصود: أن الإسلام والإيمان عند الاقتران لهما معنيان، معنى أخص، ومعنى أعم، فالمسلم أعم من المؤمن، والمؤمن أخص من المسلم، فكل مؤمن مسلم ولا عكس، ولكن عند الإطلاق يدخل أحدهما في الآخر كما سبق بيان ذلك.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة - وفي لفظ - بضع وستون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه. فهذا الحديث يدل على أن مطلق الإيمان يدخل فيه الإسلام، والهدى والإحسان، والتقوى والبر، فالإيمان الذي أعلاه كلمة لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق هو ديننا كله، وهو الإسلام، وهو الإيمان، ولذا قال: ((فأفضلها قول لا إله إلا الله))، ومعلوم أن لا إله إلا الله هي الركن الأول من أركان الإسلام مع الشهادة بأن محمداً رسول الله، فجعلها هاهنا أعلى خصال الإيمان.
فعلم بذلك أن الإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الإسلام وأركانه وأعماله، وهكذا عند إطلاق الإيمان بالله فقط أو الإيمان بالله ورسوله يدخل فيه كل ما شرع الله ورسوله؛ من الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لأن هذا كله داخل في مسمى الإيمان بالله، فإن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته ووجوده وأنه رب العالمين، وأنه يستحق العبادة، كما يتضمن أيضاً الإيمان بجميع ما أخبر به سبحانه وتعالى وشرعه لعباده، ويتضمن أيضاً الإيمان بجميع الرسل والملائكة والكتب والأنبياء، وبكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ما جاء في السنة في هذا الباب مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((قل آمنت بالله ثم استقم))، يدخل فيه كل ما أخبر به الله ورسوله، كل ما شرعه لعباده، ومن هذا الباب قوله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا[16] أي قالوا: إلهنا وخالقنا ورازقنا هو الله، وآمنوا به إيماناً يتضمن الاستقامة على ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم من سنة الله فيه سبحانه وتعالى أنه يبسط الأخبار والقصص في مواضع ويختصرها في مواضع أخرى، ليعلم المؤمن وطالب العلم هذه المعاني من كتاب الله سبحانه مجملة ومفصلة، فلا يشكل عليه بعد ذلك مقام الاختصار مع مقام البسط والإيضاح، فهذا له معنى وهذا له معنى.
وهكذا الإيمان يطلق في بعض المواضع، وفي بعض يعطف عليه أشياء من أجزائه وشعبه تنبيهاً على أن هذه الشعبة من أهم الخصال وأعظمها، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ[17] الآية، فقوله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ من جملة الإيمان والعمل الصالح؛ لكن ذكرهما هنا تنبيهاً على عظم شأنهما، وهكذا قوله عز وجل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا[18] الآية. فالنور المنزل هو من جملة الإيمان بالله ورسوله وهو داخل فيه عند الإطلاق؛ ولكن نبه عليه لعظم شأنه، وهكذا قوله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[19]، فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من جملة الأعمال الصالحات، والعمل الصالح من جملة الإيمان، فعطف العمل على الإيمان من عطف الخاص على العام، وهكذا عطف التواصي بالحق والتواصي بالصبر على ما قبله هو من عطف الخاص على العام، فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة الأعمال الصالحات، ولهذا لم يذكرا في آيات أخرى، قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ[20]، ولم يذكر التواصي بالحق والتواصي بالصبر لأنهما داخلان في العمل في قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كما أنهما داخلان في الإيمان عند الإطلاق؛ لأنه يدخل فيه عند الإطلاق كل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وما سيكون في آخر الزمان وفي يوم القيامة وفي الجنة والنار، كما يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله، ويدخل فيه أيضاً ترك ما نهى الله عنه ورسوله وكل ذلك داخل في الإيمان عند الإطلاق، وإنما يذكر سبحانه بعض الأعمال بالعطف عليه، وترك بعض السيئات بالعطف عليه من باب عطف الخاص على العام، فهكذا ما يتعلق بأصول الإيمان تارة تذكر هذه الأصول الستة جميعاً كما في الآية الكريمة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ[21] الآية، فإنه ذكر فيها خمسة، وذكر القدر في آيات أخرى كما في قوله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[22]، وفي قوله سبحانه وتعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ[23] الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وذكر بعضها في آيات أخرى ولم يذكرها كلها.
وهكذا في الحديث ذكر بعض هذه الأصول وذكر الستة في حديث جبريل، وفي بعض الأحاديث ذكر الإيمان بالله فقط كحديث: ((قل آمنت بالله ثم استقم)). وفي بعضها الإيمان بالله واليوم الآخر، وما ذاك إلا لأن الإيمان بالله واليوم الأخر يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله، فإن المؤمن بالله واليوم الآخر يحمله إيمانه بذلك على فعل كل ما أمر الله به ورسوله، كما يحمله أيضاً على ترك ما نهى الله عنه ورسوله، ولهذا اقتصر على الإيمان بالله واليوم الآخر في بعض النصوص؛ لأن من آمن بالله إيماناً صحيحاً وباليوم الآخر حمله ذلك على أداء ما أوجبه الله عليه، وعلى ترك ما حرمه الله عليه، وعلى الوقوف عند حدود الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[24], فالإيمان بما ذكر أمر لا بد منه ومن لم يؤمن بذلك فإنه كافر بالله عز وجل وإن أظهر إسلاماً وإيماناً، ولكنه بكفره بواحد من الأصول الستة أو كفره بشيء آخر مما علم من الدين بالضرورة أنه من دين الله بالأدلة المعروفة فإنه يكون كافراً بالله ولا ينفعه بعد ذلك ما أقر به. فإن هذا الدين لا بد أن يقبل كله، ولا بد أن يحصل به الإيمان كله، فإذا آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو كافر حقاً، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا[25]، وبهذا يعلم المؤمن عظم شأن هذه الأصول وأنها أصول عظيمة لا بد منها، فيدخل في الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته، أو أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من أسماء الله وصفاته كله داخل في الإيمان بالله، فيدخل في ذلك الإيمان بأنه رب العالمين، وأنه الخلاق الرزاق وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ويدخل فيه أنه سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وقدر الأشياء وعلم بها قبل وجودها سبحانه وتعالى وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، ومن أجمع ما ورد في ذلك من الكتاب العزيز قوله سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[26]، وقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[27]، وقوله عز وجل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[28]، وقوله عز وجل: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[29]، إلى أشباه هذه الآيات الدالة على كماله سبحانه وأنه جل وعلا موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص والعيب، فهو كما أخبر عن نفسه وكما أخبر عنه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى.
فواجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته ويمرها كما جاءت لا يغير ولا يبدل ولا يزيد ولا ينقص، بل يمرها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل يثبتها كما أثبتها السلف الصالح، فمن ذلك الاستواء، والنزول، والوجه، واليد، والرحمة، والعلم، والغضب، والإرادة، وغير ذلك كلها صفات لله عز وجل تثبت له سبحانه كما جاءت في الكتاب العزيز، وكما جاءت في السنة الصحيحة، نثبتها له كما أثبتها السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، وكما أثبتها الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنقول استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، ليس كما تقول الجهمية استولى، فإنه ليس في موقف المغالب جل وعلا فلا أحد يغالبه فهو مستولٍ على كل شيء جل وعلا وقاهر له، ولكن الاستواء صفة خاصة بالعرش معناه العلو والارتفاع، فهو عالٍ فوق خلقه، مرتفع فوق عرشه، استواء يليق به سبحانه، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا، فاستواؤه أمر معروف كما قال مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، وكما قال ربيعة شيخ الإمام مالك رحمهما الله، وكما قالته أم سلمة رضي الله عنها، وكما قاله أهل السنة والجماعة، فالصفات معلومة وكيفها مجهول والإيمان بها واجب، هذا طريق الصفات كلها، العلم، والرحمة، والغضب، والوجه، واليد، والقدم، والأصابع وغير ذلك مما جاءت به الآيات، والسنة الصحيحة طريقها واحد، وهكذا حديث النزول نؤمن به ونثبت معناه لله على الوجه اللائق به، ولا يعلم كيفيته سواه، فنقول ينزل بلا كيف كما يشاء سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته، لا ينافي علوه وفوقيته سبحانه وتعالى، ولا يشابه نزول المخلوقين.
وهكذا استواؤه على العرش لا ينافي علمه بالأشياء وإحاطته بها وأنه مع عباده ومع أهل طاعته من عباده بعلمه وإطلاعه سبحانه وتعالى؛ كما قال عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[30]، فهذا لا ينافي علوه واستواءه على عرشه، فهو معنا بعلمه واطلاعه، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى كما يشاء، وكما أخبر جل وعلا من غير تحريف ولا تكييف، وهو مع أوليائه وأهل طاعته بعلمه وتأييده أيضاً وعنايته بهم وكلاءته لهم ونصره إياهم، فهما معيتان: معية عامة تقتضي العلم والإحاطة ورؤية العباد، وأنه لا تخفى عليه خافية، ومعية خاصة مع أنبيائه وأهل طاعته مثل قوله سبحانه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[31]، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[32]، ومثل: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[33] إلى أمثالها، وهي معية خاصة تقتضي الحفظ والكلاءة والتأييد والتوفيق مع العلم والإطلاع؛ كما قال عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[34].
وليس كما تقول الجهمية والمعتزلة وأشباههم من حلوله في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فالله سبحانه وتعالى فوق خلقه وفوق عرشه كما أخبر، وعلمه في كل مكان، وليس مختلطاً بخلقه سبحانه وتعالى، فأهل السنة والجماعة يدخلون في الإيمان بالله، الإيمان بكل ما أخبر الله به عنه ورسوله، والإيمان بجميع أسمائه وصفاته، كل ذلك عندهم داخل في الإيمان بالله عند الإطلاق فيؤمنون به سبحانه رباً ومعبوداً بالحق، كما يؤمنون بأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع إلى غير ذلك من صفات الكمال، فهو المعبود الحق، وهو الخلاق العليم، وهو الرزاق لعباده، وهو على كل شيء قدير.
وكل هذه الصفات لا تشبه صفات خلقه، بل صفاته تليق به عز وجل، وصفاتنا تليق بنا، وصفاته لها البقاء ولها الدوام ولها الكمال، وصفات العبد لها النقص والاضمحلال، كل هذا داخل في الإيمان بالله عز وجل.
ويدخل في الإيمان بالملائكة: الإيمان المجمل والمفصل.
فالملائكة قسمان: قسم نعلمه؛ لأنهم قد سموا لنا، فنؤمن بهم وبأسمائهم تفصيلاً، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وما أشبه ذلك من الملائكة، والبقية نؤمن بأن لله ملائكة كما أخبر عنهم سبحانه وتعالى؛ كما قال عز وجل: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ[35].
ونؤمن بأنهم أقسام، منهم موكل بنا لحفظ أعمالنا وكتابتها، ومنهم موكل بالسياحة في الأرض يحضرون مجالس الذكر ويستمعون له، ومنهم الذين يتعاقبون فينا ليلاً ونهاراً، ومنهم حملة العرش، ومنهم غير ذلك، وقد جاء في الحديث الصحيح: ((أنه يدخل البيت المعمور الذي في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم))، وهذا يدل على كثرتهم وأنهم جنود لا يحصيهم إلا الله عز وجل فنؤمن بهم إجمالاً وتفصيلاً وأنهم عباد مكرمون ليسوا بشراً وليسوا جناً ولكنهم خلق آخر خلقوا من النور، كما في الحديث الصحيح: ((خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) رواه مسلم في الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي. وهم يتشكلون كما يشاء الله عز وجل، ولهم أعمال، ولهم صفات تليق بهم بعضها علمناه من السنة كمجيء جبريل تارةً في صورة فلان، وتارةً في صورة فلان، وتارةً في صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، وتارةً في صورة إنسان مجهول لا يعرف لما جاء يسأل عن الإسلام والإيمان، إلى غير ذلك. فالمقصود أنهم يتلونون بالألوان التي يريدها الله جل وعلا ويشاءها سبحانه وتعالى، ولهم خلقة يعلمها الله عز وجل، وهم لهم أجنحة كما أخبر الله في كتابه العظيم في سورة فاطر، إلى غير ذلك مما أخبر الله به عز وجل في الكتاب والسنة، فنؤمن بما جاء في الكتاب والسنة تفصيلاً، ونؤمن بهم على سبيل الإطلاق والإجمال فيما لا نعلم من شأنهم وصفاتهم.
وهكذا مسألة الكتب، الباب واحد، يؤمن المؤمن بكتب الله إجمالاً وأن لله كتباً أنزلها على رسله وأنبيائه لا نحصيها نحن، ولكن نؤمن بها إجمالاً، ونؤمن بما فيها إجمالاً، أما تفاصيلها وما فيها فإلى الله سبحانه وتعالى، ومنها ما سمي لنا، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف موسى وإبراهيم، والكتاب العظيم وهو القرآن الكريم، نؤمن بهذه الكتب التي سميت لنا، وأما ما لم يسم لنا فنؤمن بأن لله كتباً أنزلها على رسله وأنبيائه لا يحصيها إلا الله جل وعلا ولا يعلمها إلا هو، إلا بنص يثبت لنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان شيء من ذلك.
وهكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام فيهم تفصيل وإجمال، فنؤمن بهم إيماناً مجملاً، وأن لله رسلاً أرسلهم إلى الناس، مهمتهم دعوتهم إلى الله كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[36]، وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ[37]، فلله سبحانه رسل أرسلهم لعباده مبشرين ومنذرين، أما إحصاؤهم وبيان أسمائهم فهذا إليه سبحانه وتعالى، لكن جاء في حديث أبي ذر، وجاءت له شواهد من حديث أبي أمامة وغيره ما يدل على أن الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر، لكن أسانيدها لا تخلو من مقال.
أما الأنبياء فقد جاء في إحدى الروايات أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً كلهم أنبياء وفي رواية مائة وعشرون ألفاً، لكن أسانيدها فيها مقال كما تقدم، والحاصل أن الأنبياء والرسل جم غفير، لكن علم عددهم بالقطع يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نؤمن إيماناً مجملاً أن لله رسلاً وأنبياءً أرسلوا لبيان الحق وإرشاد الخلق؛ كما قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[38] الآية.
وقال سبحانه وتعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[39]، وقال عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[40] الآية. فالله له رسل كثيرون وله أنبياء كثيرون لا يحصيهم إلا الله جل وعلا.
إننا نؤمن بذلك إيماناً تفصيلياً وإجمالياً وهم جم غفر ومهمتهم عظيمة وهي الدعوة إلى توحيد الله ونهي الناس عن الشرك بالله وبيان شرائع الله لهم وأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهى الله عنه، هذه مهمتهم، ونؤمن تفصيلاً بمن سمي منهم، كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان، وهود، وصالح، وغيرهم، وآدم من جملتهم، فقد جاء في بعض الروايات من حديث أبي ذر وغيره أنه نبي مكلمٌ معلمٌ، وجاء في بعضها أنه رسول، وهو لا شك أنه يوحى إليه وأنه على شريعة من الله، وإنما الشك هل هو نبي رسول أو نبي فقط، اختلفت الروايات في ذلك.
فالمقصود أن آدم من جملة الأنبياء بلا شك وأنه على شريعة. وحديث جمع الناس ليوم القيامة وتقدم المؤمنين إلى نوح وقولهم له: يا نوح أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، يحتج به على أن نوحاً أول الرسل وأن آدم نبي مكلم فقط، ولو صح أنه رسول فالمعنى أنه رسول إلى ذريته بخلاف نوح فإنه أرسل إلى قومه وهم أهل الأرض ذلك الوقت، أما آدم فإنه أرسل إلى ذريته بشريعة خاصة قبل وقوع الشرك، وأما نوح فقد أرسل إلى قومه وهم ذلك الوقت أهل الأرض جميعاً بعد وقوع الشرك في الأرض، وبذلك لا يبقى تعارض بين كون آدم رسولاً إن صح الحديث وبين كون نوح هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض.
وهكذا القول في الأصل الخامس وهو الإيمان باليوم الآخر نؤمن به إجمالاً وتفصيلاً، فنؤمن بما سمى الله من أمر الآخرة، كالجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك، وما سوى ذلك مما لم يرد في الآيات والأحاديث الصحيحة تفصيله نؤمن به على سبيل الإجمال.
وهكذا القدر، وهو الأصل السادس، نؤمن به كما جاءت به النصوص، والإيمان به يشمل أربعة أشياء عند أهل السنة:
(الأمر الأول) هو العلم بأن الله سبحانه وتعالى قد علم الأشياء كلها وأحصاها، وأنه لا تخفى عليه خافية جل وعلا، فهو سبحانه يعلم كل شيء؛ كما قال عز وجل إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[41]، وبهذا يرد على غلاة القدرية والمعتزلة الذين أنكروا هذا العلم، قال الشافعي - رحمه الله - في حقهم: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا)؛ لأن قولنا: إن الله عالم بالأشياء هذا هو القدر؛ لأن الأشياء لا تخفى على الله، فمتى علم الله بالأشياء فمستحيل أن تقع على خلاف علمه؛ لأن وقوعها على خلاف علمه يكون جهلاً.
أما إن جحدوا ذلك، وقالوا: إنه سبحانه لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها فهذا كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه وتعالى ووصف له بالجهل، وهذا تنقص عظيم يوجب كفر من قاله.
(الأمر الثاني) الكتابة، وهو أن الله سبحانه قد كتب الأشياء؛ كما قال عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[42]،وقال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[43]، والمقصود أنه كتب الأشياء كلها جل وعلا كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) أخرجه مسلم في صحيحه.
فكتابة الأشياء التي أوجدها سبحانه أو سيوجدها أمر معلوم جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فعلينا أن نؤمن بذلك ونعتقد أن الله كتب الأشياء كلها وعلمها وأحصاها، لا تخفى عليه خافية وهو سبحانه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير سبحانه وتعالى؛ كما قال عز وجل: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[44]
(الأمر الثالث) مشيئته النافذة، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء في ملكه دون مشيئته جل وعلا، بل ما شاء الله يكون وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، فلا بد إذا من الإيمان بهذه المشيئة، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال عز وجل:لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[45]، وقال سبحانه:فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ[46]، فالمقصود أنه سبحانه له المشيئة الكاملة النافذة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[47] سبحانه وتعالى.
(الأمر الرابع) قدرته على الأشياء وخلقه وإيجاده لها، وأن نؤمن بأنه سبحانه على كل شيء قدير، وأنه الخلاق العليم، وأن جميع الأشياء الموجودة هو الذي خلقها وأوجدها، وهكذا في المستقبل لا أحد يشاركه في ذلك، بل هو الخلاق والرزاق وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم؛ كما قال سبحانه اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[48].
فالإيمان بالقدر يشمل هذا كله، ويشمل إيماننا بعلمه بالأشياء وكتابته لها، وإيماننا أيضاً بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإيماننا أيضاً بأنه الخلاق لكل شيء وأن جميع الأشياء هو خالقها وموجدها سبحانه وتعالى، وفي هذا رد على من قال خلاف ذلك من المعتزلة وغيرهم، فإن من أنكر مشيئة الله وقال: إنه يوجد في ملكه ما لا يريد فهو مكذب لله عز وجل متنقص له سبحانه وتعالى، فلا بد من الإيمان بأنه على كل شيء قدير وأن ما شاءه كان، وما أراده بإرادته الكونية كان، ولكن بعض الناس تخفى عليهم هذه الأشياء التي جاءت بها الرسل، فيجب أن تبين لهم بأدلتها، وأن يوضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية التي لا يتخلف مرادها وهي المذكورة في مثل قوله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[49].
وبين الإرادة الشرعية التي قد يتخلف مرادها بالنسبة إلى بعض الناس، وهي المذكورة في قوله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ[50] الآية.
ومعلوم أن بعض الناس مات على جهله، ومات على غير توبة، وقال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ[51] الآية، هذه إرادة شرعية؛ لأنه سبحانه قد خفف على قوم ولم يخفف على آخرين، فمعنى ذلك أنه أمر بهذا ورضي به وأحبه، ولكن من الناس من وفق لهذا الشيء ومنهم من لم يوفق له، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: ((أن الله سبحانه يقول يوم القيامة لبعض المشركين: لو كان لك مثل الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به، فيقول: نعم، فيقول الله سبحانه له: قد أردت منك ما هو أدنى من ذلك وأنت في صلب أبيك آدم أردت منك أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك))، يعني أردت منك شرعاً أن لا تشرك بي، وذلك بما جاء على ألسنة الرسل من الأمر بعبادته وحده والنهي عن الإشراك به، لكن أبى أكثر الخلق إلا الشرك بالله عز وجل، ولم يقبلوا الإرادة الشرعية، فمن آمن بهذه الأمور الأربعة، وهي: علم الله سبحانه بجميع الأشياء، وكتابته لها، ومشيئته لما وجد منها، وأنه سبحانه خالق الأشياء وموجدها، فقد آمن بالقدر إيماناً كاملاً، ومن قصر في ذلك فقد قصر في الإيمان بالقدر، ولم يسر على هدى أهل السنة والجماعة في ذلك، ولم يؤمن بالقدر على حقيقته، بل آمن ببعضه وكفر ببعض.
ثم هذا الإيمان بالقدر لا يلزم منه أن يكون العبد مجبوراً لا إرادة له ولا مشيئة وإنما هو كالسعفة تحركها الرياح هكذا وهكذا، وكالريشة في الهواء خلافاً للقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم، بل له اختيار ومشيئة وله إرادة وعقل يميز به، ولكن هذه المشيئة وهذه الإرادة وهذا الاختيار لا يكون به شيء إلا بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى؛ كما قال الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[52].
فهو مخير ومسير، مخير من جانب؛ لأن الله أعطاه عقلاً، وأعطاه بصراً، وأعطاه أدلة وأدوات، ومكنه من الإيمان والعمل، فهو قادر وله إرادة وله مشيئة، يقدر أن يتباعد عن المعصية، ويقدر أن يطيع وأن يعصي، ويقدر أن يتصدق، ويقدر أن يمتنع، وهو مسير من جهة أخرى وهي أنه ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله ولا اختيار إلا بعد اختيار الله ولا يستقل بالأشياء، فله إرادة خاصة ومشيئة خاصة بعد مشيئة الله وإرادته، ولهذا قال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[53] الآية. فالإنسان سائر ومسير وميسر لما خلق له، هو سائر بما أعطاه الله من العقل والاختيار والمشيئة، ومسير بما سبق في علم الله من القدر السابق، وميسر لما خلق له من خير وشر، فهو لا يمكن أن يخالف ما قدر الله له ولا أن يحيد عنه، وهو مع ذلك ميسر لما خلق له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[54] والآية بعدها، متفق على صحته من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن هذا يعلم المؤمن الفرق بين عقيدة السلف الصالح وعقيدة المعتزلة والقدرية النفات وعقيدة القدرية المجبرة.
فالقدرية المجبرة غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: ليس للعبد إرادة ولا مشيئة، وقد أخطئوا في ذلك وأصابوا في الإيمان بالقدر. أما القدرية النفاة فغلوا في نفي القدر وأفرطوا في ذلك وأخطأوا في هذا غاية الخطأ، ولكنهم أصابوا في إثبات المشيئة والاختيار للعبد، وأخطأوا في جعله مستقلاً بذلك، فإن أهل السنة والجماعة أخذوا ما عند الطائفتين من الحق وتركوا ما عندهما من الباطل. وهكذا يجب على أهل الحق إذا ردوا على أهل الباطل أن يفصلوا وأن ينصفوا، فيقولوا لهم قلتم كذا وقلتم كذا، فنحن معكم في هذا، ولسنا معكم في هذا، نحن معكم في الحق الذي قلتموه كالإيمان بالقدر، ولسنا معكم بأن العبد مجبور بل له اختيار ومشيئة، ويقال للمعتزلة وأشباههم: نحن معكم في أن العبد له مشيئة واختيار، ولكن لسنا معكم في تجهيل الله سبحانه وإنكار علمه ومشيئته. وهكذا يقال للشيعة: نحن معكم في محبة أهل البيت ومحبة علي رضي الله عنه وأرضاه، فإنه ومن سار على نهجه على هدى وأنه من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو أفضلهم بعد الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا، ولكن لسنا معكم في أنه معصوم، ولسنا معكم في أنه الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قبله ثلاثة، ولسنا معكم في أنه يعبد من دون الله ويستغاث به وينذر له ونحو ذلك، لسنا معكم في هذا؛ لأنكم مخطئون في هذا خطأ عظيماً، لكن نحن معكم في محبة أهل البيت الملتزمين بشريعة الله والترضي عنهم والإيمان بأنهم من خيرة عباد الله عملاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في حديث زيد بن أرقم المخرج في صحيح مسلم: ((إني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به))... ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)).
وهكذا بقية الطوائف نأخذ ما معهم من الحق ونقر لهم به، ونرد عليهم باطلهم بالأدلة النقلية والعقلية، وبهذا يتضح أن هذه الأصول الستة هي أصول الدين، وهي الجامعة لكل ما أخبر الله عنه، فمن استقام عليها عقيدة وقولاً وعملاً فقد استكمل الإيمان وسلم من النفاق، لأن هذه الأصول تقتضي من المؤمن بها أداء ما أوجب الله عليه له ولعباده، وتقتضي تصديقه بكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من السنة، ومن جحدها أو جحد شيئا منها لم يكن مؤمناً.
والخلاصة أن هذه الأصول أصول عظيمة وقواعد أساسية لهذا الدين العظيم، تجب مراعاتها والاستقامة عليها في جميع الأحوال، والبراءة من كل ما خالفها، ومن أتى بقول أو عمل يوجب كفره فهو دليل على عدم إيمانه بهذه الأصول أو بعضها الإيمان الصحيح، وذلك مثل ترك الصلاة المكتوبة، فإن الذي لا يصلي لا إيمان عنده على الصحيح يحجزه عن ترك الصلاة التي هي عمود الإسلام، ولهذا فإن القول الصواب إنه كافر كفراً أكبر لقوله صلى الله عليه وسلم:((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) خرجه مسلم في صحيحه، وقوله: صلى الله عليه وسلم ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنة بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وهكذا من يستهزئ بالله سبحانه أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بالجنة أو النار، أو بالقرآن، وما أشبه ذلك فإنه كافر إجماعاً، لأن هذا الاستهزاء والتنقص دليل على أن دعواه الإيمان باطلة، وأنه ليس عنده إيمان يحجزه عن الاستهزاء بما ذكر.
وهكذا الذي يهين المصحف أو يلطخه بالنجاسة أو يجلس عليه وهو يعلم أنه كتاب الله، فإن هذا دليل على أن هذا الرجل لا إيمان له، وإنما يدعي الإيمان، ولو كان عنده إيمان صحيح لحجزه عن هذا العمل الذي يوجب كفره.
أيها الأخوة الكرام: حديثي معكم في هذه الكلمة فيما يتعلق بأصول الإيمان، وهذا موضوع اختارته الجامعة ووافقت عليه، لأنه موضوع مهم جداً؛ لأن مدار ديننا على هذه الأصول؛ لأنه سر نجاح الأمة، وسر سعادتها، وسر أمنها، وسر تقدمها، وسر سيادتها على الأمم إذا حققته في أقوالها وأعمالها وسيرتها وجهادها وأخذها وعطائها وغير ذلك.
وقد أوضح القرآن هذه الأصول في آيات كثيرة كما أوضحها نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث صحيحة، وهي أصول ستة، هي أصول الإيمان، وهي أصول الدين. فإن الإيمان هو الدين كله وهو الإسلام وهو الهدى وهو البر والتقوى وهو ما بعث الله به الرسول عليه الصلاة والسلام من العلم النافع والعمل الصالح، كله يسمى إيماناً، هذه أصول ديننا الستة أوضحها الكتاب العزيز في مواضع، وأوضحها رسول الله الأمين في الأحاديث، فمما ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ[1] الآية. فبين سبحانه وتعالى هنا خمسة من أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين. هذه خمسة أصول عليها مدار الدين ظاهرة وباطنه، وقال جل وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ[2] الآية.
فبين سبحانه وتعالى هنا أربعة أصول في قوله: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ[3]، ولم يذكر اليوم الآخر، ولكنه ذكره في الآية السابقة وفي آيات أخرى، وهذه سنة الله في كتابه ينوع سبحانه الأخبار عنه عز وجل وعن أسمائه وصفاته، وعن أصول هذا الدين، وعن شئون يوم القيامة والجنة والنار، وعن الرسل وأممهم حتى يجد القارئ في كل موضعٍ من كتاب الله ما يزداد به إيمانه وعلمه، وحتى يطلب المزيد من العلم في كل موضع من كتاب الله وفي كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الله عز وجل إلى اليوم الآخر في آخر الآية بقوله:غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[4].
وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا[5]، فقد أوضح سبحانه في هذه الآية أن الكفر بهذه الأصول ضلال بعيد عن الهدى. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي مواضع يذكر سبحانه الإيمان بالله وحده؛ لأن جميع ما ذكر في الآيات الأخرى داخل في ضمن الإيمان بالله، وفي بعضها الإيمان بالله ورسوله، وفي بعضها الإيمان بالله واليوم الآخر فقط، وما ذاك إلا لأن البقية داخلة في ذلك، فإذا ذكر الإيمان بالله دخل فيه بقية الأشياء التي ذكرها في الآيات الأخرى كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، فمن هذا قول الله جل وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ[6]، فاقتصر على الإيمان بالله ورسوله والكتاب المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام والكتاب المنزل من قبل ولم يذكر الأصول الأخرى؛ لأنها داخلة في الإيمان بالله، وهكذا قوله جل وعلا: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا[7]، ذكر الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب والسنة؛ لأن البقية داخلة في ذلك، فالكتاب والسنة داخلان في النور، وهكذا كل ما أخبر الله به ورسوله مما كان وما يكون كله داخل في النور، وهكذا قوله جل وعلا: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ[8]، فذكر الإيمان بالله ورسوله فقط وما ذاك إلا لأن البقية داخلة في الإيمان بالله ورسوله.
ومما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جبريل المشهور لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، فذكر الإسلام أولاً، وفي لفظ بدأ بالإيمان ثم ذكر الإسلام ثم الإحسان، فالمقصود أنه ذكر الإيمان بما يصلح الباطن، لأن الباطن هو الأساس، والظاهر تبع للباطن فسمى الأعمال الظاهرة إسلاماً لأنها انقياد وخضوع له سبحانه، والإسلام هو: الاستسلام لله والانقياد لأمره، فسمى الله سبحانه وتعالى الأمور الظاهرة إسلاماً لما فيها من الانقياد لله والذل له والطاعة لأمره والوقوف عند حدوده عز وجل، يقال: أسلم فلان لفلان، أي ذل له وانقاد، ومعنى أسلمت لله، أي ذللت له وانقدت لأمره خاضعاً له سبحانه وتعالى.
فالإسلام: هو الاستسلام لله بالأعمال الظاهرة، والإيمان: هو التصديق بالأمور الباطنة، والظاهرة مما جاء في الشرع المطهر، وهذا كله عند الاقتران، ولهذا لما قرن بينهما في هذا الحديث الصحيح فسر رسول الله عليه الصلاة والسلام الإسلام بالأمور الظاهرة وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بالأمور الباطنة وهي: الإيمان بالله وملائكته … الخ.
ومن هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح قيل: ((يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف))، وفي حديث آخر أي الإسلام أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
فالإسلام أخص بالأعمال الظاهرة التي يظهر بها الانقياد لأمر الله والطاعة له والانقياد لشريعته وتحكيمها في كل شيء، والإيمان أخص بالأمور الباطنة المتعلقة بالقلب من التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)).
ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي أصول الإيمان وهي في نفسها أصول الدين كله؛ لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لا بد منه لصحة الإسلام لكن قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، ولهذا قال الله عز وجل في حق الأعراب: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا[9].
فلما كان إيمانهم ليس بكامل، بل إيمان ناقص، لم يستكمل واجبات الإيمان نفى عنهم الإيمان يعني به الكامل لأنه ينفى عمن ترك بعض الواجبات كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا إيمان لمن لا صبر له))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)). إلى غير ذلك، والمقصود أن الإيمان يقتضي العمل الظاهر، كما أن الإسلام بدون إيمان من عمل المنافقين، فالإيمان الكامل الواجب يقتضي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، فإذا قصر في ذلك جاز أن ينفى عنه ذلك الإيمان بتقصيره؛ كما نفي عن الأعراب بقوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا[10]، وكما نفي عمن ذكر في الأحاديث السابقة.
والخلاصة: أن الله سبحانه ورسوله نفيا الإيمان عن بعض من ترك بعض واجبات الإيمان وأثبتا له الإسلام، فهذه الأصول الستة هي أصول الدين كله، فمن أتى بها مع الأعمال الظاهرة صار مسلماً مؤمناً، ومن لم يأت بها فلا إسلام له ولا إيمان كالمنافقين؛ فإنهم لما أظهروا الإسلام وادعوا الإيمان وصلوا مع الناس وحجوا مع الناس وجاهدوا مع الناس إلى غير ذلك ولكنهم في الباطن ليسوا مع المسلمين بل هم في جانب والمسلمون في جانب؛ لأنهم مكذبون لله ورسوله، منكرون لما جاءت به الرسل في الباطن، متظاهرون بالإسلام لحظوظهم العاجلة ولمقاصد معروفة، أكذبهم الله في ذلك، وصاروا كفاراً ضلالاً، بل صاروا أكفر وأشر ممن أعلن كفره، ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار، وما ذاك إلا لأن خطرهم أعظم؛ لأن المسلم يظن أنهم إخوته وأنهم على دينه وربما أفشى إليهم بعض الأسرار، فضروا المسلمين وخانوهم، فصار كفرهم أشد وضررهم أعظم، وهكذا من ادعى الإيمان بهذه الأصول ثم لم يؤد شرائع الإسلام الظاهرة، فلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو لم يصل، أو لم يصم أو لم يزك، أو لم يحج أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة التي أوجبها الله عليه، فإن ذلك دليل على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه، فقد ينتفي الإيمان بالكلية كما ينتفي بترك الشهادتين إجماعاً، وقد لا ينتفي أصله ولكن ينتفي تمامه وكماله لعدم أدائه ذلك الواجب المعين؛ كالصوم والحج مع الاستطاعة والزكاة ونحو ذلك من الأمور عند جمهور أهل العلم، فإن تركها فسق وضلال ولكن ليس ردةً عن الإسلام عند أكثرهم إذا لم يجحد وجوبها، أما الصلاة فذهب قوم إلى أن تركها ردة ولو مع الإيمان بوجوبها وهو أصح قولي العلماء؛ لأدلةٍ كثيرةٍ منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وقال آخرون: (بل تركها كفر دون كفر إذا لم يجحد وجوبها)، ولهذا المقام بحث خاص وعناية خاصة من أهل العلم، ولكن المقصود الإشارة إلى أنه لا إسلام لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا إسلام له، فهذا يدل على هذا، وهذا يدل على هذا، وسبق أن الإسلام سمي إسلاماً لأنه يدل على الانقياد والذل لله عز وجل والخضوع لعظمته سبحانه وتعالى؛ ولأنه يتعلق بالأمور الظاهرة.
وسمي الإيمان إيماناً؛ لأنه يتعلق بالباطن والله يعلمه جل وعلا، فسمي إيماناً لأنه يتعلق بالقلب المصدق، وهذا القلب المصدق للدلالة على تصديقه وصحة إيمانه أمور ظاهرة، إذا أظهرها المسلم المصدق واستقام عليها وأدى حقها دل ذلك على صحة إيمانه، ومن لم يستقم دل ذلك على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه، والإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الإسلام، والعكس كذلك عند أهل السنة والجماعة، كما قال الله عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ[11]، فيدخل فيه الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه لا إسلام إلا بإيمان. فالدين عند الله هو الإسلام وهو الإيمان وهو الهدى وهو التقوى وهو البر، فهذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد وهو الإيمان بالله ورسله والاهتداء بهدي الله والاستقامة على دين الله، فكلها تسمى براً وتسمى إيماناً، وتسمى إسلاماً، وتسمى تقوى، وتسمى هدى. وكذلك إذا أطلق الإحسان دخل فيه الأمران: الإسلام والإيمان؛ لأنه يخص الكمّل من عباد الله، فبإطلاقه يدخل فيه الأمران الأولان: الإسلام والإيمان، وعند إطلاق أحد الثلاثة إذا أطلق فإنه يدخل فيه الآخران، فإذا قيل: المحسنون هم أخص عباد الله، فلا إحسان إلا بإسلام وإيمان قال تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[12]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[13]، فالمحسن إنما يكون محسناً بإسلامه وإيمانه وتقواه لله وقيامه بأمر الله فبهذا سمي محسناً، ولا يتصور أن يكون محسناً بدون إسلام وإيمان.
وهكذا يا أخي لفظ المؤمنين يدخل فيه المسلمون؛ لأنهم - أعني المؤمنين - أخص من لفظ المسلمين، قال الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ[14]، وقال عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[15] الآية. فالمؤمن سمي مؤمناً لتصديقه بقلبه وإسلامه بجوارحه لله وحده، فالمؤمنون مؤمنون بتصديقهم وبإسلامهم وقيامهم بأمر الله ووقوفهم عند حدوده سبحانه وتعالى، ومما يدل على هذا المعنى حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً وترك قوماً، قال سعد: ((يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً وإني لأراه مؤمناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً، فعاد سعد إلى مقالته والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " أو مسلماً))والمقصود: أن الإسلام والإيمان عند الاقتران لهما معنيان، معنى أخص، ومعنى أعم، فالمسلم أعم من المؤمن، والمؤمن أخص من المسلم، فكل مؤمن مسلم ولا عكس، ولكن عند الإطلاق يدخل أحدهما في الآخر كما سبق بيان ذلك.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة - وفي لفظ - بضع وستون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) متفق عليه. فهذا الحديث يدل على أن مطلق الإيمان يدخل فيه الإسلام، والهدى والإحسان، والتقوى والبر، فالإيمان الذي أعلاه كلمة لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق هو ديننا كله، وهو الإسلام، وهو الإيمان، ولذا قال: ((فأفضلها قول لا إله إلا الله))، ومعلوم أن لا إله إلا الله هي الركن الأول من أركان الإسلام مع الشهادة بأن محمداً رسول الله، فجعلها هاهنا أعلى خصال الإيمان.
فعلم بذلك أن الإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الإسلام وأركانه وأعماله، وهكذا عند إطلاق الإيمان بالله فقط أو الإيمان بالله ورسوله يدخل فيه كل ما شرع الله ورسوله؛ من الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لأن هذا كله داخل في مسمى الإيمان بالله، فإن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته ووجوده وأنه رب العالمين، وأنه يستحق العبادة، كما يتضمن أيضاً الإيمان بجميع ما أخبر به سبحانه وتعالى وشرعه لعباده، ويتضمن أيضاً الإيمان بجميع الرسل والملائكة والكتب والأنبياء، وبكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ما جاء في السنة في هذا الباب مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((قل آمنت بالله ثم استقم))، يدخل فيه كل ما أخبر به الله ورسوله، كل ما شرعه لعباده، ومن هذا الباب قوله تعالى:إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا[16] أي قالوا: إلهنا وخالقنا ورازقنا هو الله، وآمنوا به إيماناً يتضمن الاستقامة على ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم من سنة الله فيه سبحانه وتعالى أنه يبسط الأخبار والقصص في مواضع ويختصرها في مواضع أخرى، ليعلم المؤمن وطالب العلم هذه المعاني من كتاب الله سبحانه مجملة ومفصلة، فلا يشكل عليه بعد ذلك مقام الاختصار مع مقام البسط والإيضاح، فهذا له معنى وهذا له معنى.
وهكذا الإيمان يطلق في بعض المواضع، وفي بعض يعطف عليه أشياء من أجزائه وشعبه تنبيهاً على أن هذه الشعبة من أهم الخصال وأعظمها، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ[17] الآية، فقوله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ من جملة الإيمان والعمل الصالح؛ لكن ذكرهما هنا تنبيهاً على عظم شأنهما، وهكذا قوله عز وجل: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا[18] الآية. فالنور المنزل هو من جملة الإيمان بالله ورسوله وهو داخل فيه عند الإطلاق؛ ولكن نبه عليه لعظم شأنه، وهكذا قوله عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[19]، فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من جملة الأعمال الصالحات، والعمل الصالح من جملة الإيمان، فعطف العمل على الإيمان من عطف الخاص على العام، وهكذا عطف التواصي بالحق والتواصي بالصبر على ما قبله هو من عطف الخاص على العام، فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة الأعمال الصالحات، ولهذا لم يذكرا في آيات أخرى، قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ[20]، ولم يذكر التواصي بالحق والتواصي بالصبر لأنهما داخلان في العمل في قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كما أنهما داخلان في الإيمان عند الإطلاق؛ لأنه يدخل فيه عند الإطلاق كل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وما سيكون في آخر الزمان وفي يوم القيامة وفي الجنة والنار، كما يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله، ويدخل فيه أيضاً ترك ما نهى الله عنه ورسوله وكل ذلك داخل في الإيمان عند الإطلاق، وإنما يذكر سبحانه بعض الأعمال بالعطف عليه، وترك بعض السيئات بالعطف عليه من باب عطف الخاص على العام، فهكذا ما يتعلق بأصول الإيمان تارة تذكر هذه الأصول الستة جميعاً كما في الآية الكريمة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ[21] الآية، فإنه ذكر فيها خمسة، وذكر القدر في آيات أخرى كما في قوله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[22]، وفي قوله سبحانه وتعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ[23] الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وذكر بعضها في آيات أخرى ولم يذكرها كلها.
وهكذا في الحديث ذكر بعض هذه الأصول وذكر الستة في حديث جبريل، وفي بعض الأحاديث ذكر الإيمان بالله فقط كحديث: ((قل آمنت بالله ثم استقم)). وفي بعضها الإيمان بالله واليوم الآخر، وما ذاك إلا لأن الإيمان بالله واليوم الأخر يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله، فإن المؤمن بالله واليوم الآخر يحمله إيمانه بذلك على فعل كل ما أمر الله به ورسوله، كما يحمله أيضاً على ترك ما نهى الله عنه ورسوله، ولهذا اقتصر على الإيمان بالله واليوم الآخر في بعض النصوص؛ لأن من آمن بالله إيماناً صحيحاً وباليوم الآخر حمله ذلك على أداء ما أوجبه الله عليه، وعلى ترك ما حرمه الله عليه، وعلى الوقوف عند حدود الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[24], فالإيمان بما ذكر أمر لا بد منه ومن لم يؤمن بذلك فإنه كافر بالله عز وجل وإن أظهر إسلاماً وإيماناً، ولكنه بكفره بواحد من الأصول الستة أو كفره بشيء آخر مما علم من الدين بالضرورة أنه من دين الله بالأدلة المعروفة فإنه يكون كافراً بالله ولا ينفعه بعد ذلك ما أقر به. فإن هذا الدين لا بد أن يقبل كله، ولا بد أن يحصل به الإيمان كله، فإذا آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو كافر حقاً، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا[25]، وبهذا يعلم المؤمن عظم شأن هذه الأصول وأنها أصول عظيمة لا بد منها، فيدخل في الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته، أو أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من أسماء الله وصفاته كله داخل في الإيمان بالله، فيدخل في ذلك الإيمان بأنه رب العالمين، وأنه الخلاق الرزاق وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ويدخل فيه أنه سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وقدر الأشياء وعلم بها قبل وجودها سبحانه وتعالى وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، ومن أجمع ما ورد في ذلك من الكتاب العزيز قوله سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[26]، وقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[27]، وقوله عز وجل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[28]، وقوله عز وجل: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[29]، إلى أشباه هذه الآيات الدالة على كماله سبحانه وأنه جل وعلا موصوف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص والعيب، فهو كما أخبر عن نفسه وكما أخبر عنه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى.
فواجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أسماء الله وصفاته ويمرها كما جاءت لا يغير ولا يبدل ولا يزيد ولا ينقص، بل يمرها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، بل يثبتها كما أثبتها السلف الصالح، فمن ذلك الاستواء، والنزول، والوجه، واليد، والرحمة، والعلم، والغضب، والإرادة، وغير ذلك كلها صفات لله عز وجل تثبت له سبحانه كما جاءت في الكتاب العزيز، وكما جاءت في السنة الصحيحة، نثبتها له كما أثبتها السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، وكما أثبتها الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنقول استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، ليس كما تقول الجهمية استولى، فإنه ليس في موقف المغالب جل وعلا فلا أحد يغالبه فهو مستولٍ على كل شيء جل وعلا وقاهر له، ولكن الاستواء صفة خاصة بالعرش معناه العلو والارتفاع، فهو عالٍ فوق خلقه، مرتفع فوق عرشه، استواء يليق به سبحانه، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا، فاستواؤه أمر معروف كما قال مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، وكما قال ربيعة شيخ الإمام مالك رحمهما الله، وكما قالته أم سلمة رضي الله عنها، وكما قاله أهل السنة والجماعة، فالصفات معلومة وكيفها مجهول والإيمان بها واجب، هذا طريق الصفات كلها، العلم، والرحمة، والغضب، والوجه، واليد، والقدم، والأصابع وغير ذلك مما جاءت به الآيات، والسنة الصحيحة طريقها واحد، وهكذا حديث النزول نؤمن به ونثبت معناه لله على الوجه اللائق به، ولا يعلم كيفيته سواه، فنقول ينزل بلا كيف كما يشاء سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته، لا ينافي علوه وفوقيته سبحانه وتعالى، ولا يشابه نزول المخلوقين.
وهكذا استواؤه على العرش لا ينافي علمه بالأشياء وإحاطته بها وأنه مع عباده ومع أهل طاعته من عباده بعلمه وإطلاعه سبحانه وتعالى؛ كما قال عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[30]، فهذا لا ينافي علوه واستواءه على عرشه، فهو معنا بعلمه واطلاعه، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى كما يشاء، وكما أخبر جل وعلا من غير تحريف ولا تكييف، وهو مع أوليائه وأهل طاعته بعلمه وتأييده أيضاً وعنايته بهم وكلاءته لهم ونصره إياهم، فهما معيتان: معية عامة تقتضي العلم والإحاطة ورؤية العباد، وأنه لا تخفى عليه خافية، ومعية خاصة مع أنبيائه وأهل طاعته مثل قوله سبحانه: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[31]، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[32]، ومثل: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[33] إلى أمثالها، وهي معية خاصة تقتضي الحفظ والكلاءة والتأييد والتوفيق مع العلم والإطلاع؛ كما قال عز وجل: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[34].
وليس كما تقول الجهمية والمعتزلة وأشباههم من حلوله في كل مكان، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فالله سبحانه وتعالى فوق خلقه وفوق عرشه كما أخبر، وعلمه في كل مكان، وليس مختلطاً بخلقه سبحانه وتعالى، فأهل السنة والجماعة يدخلون في الإيمان بالله، الإيمان بكل ما أخبر الله به عنه ورسوله، والإيمان بجميع أسمائه وصفاته، كل ذلك عندهم داخل في الإيمان بالله عند الإطلاق فيؤمنون به سبحانه رباً ومعبوداً بالحق، كما يؤمنون بأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع إلى غير ذلك من صفات الكمال، فهو المعبود الحق، وهو الخلاق العليم، وهو الرزاق لعباده، وهو على كل شيء قدير.
وكل هذه الصفات لا تشبه صفات خلقه، بل صفاته تليق به عز وجل، وصفاتنا تليق بنا، وصفاته لها البقاء ولها الدوام ولها الكمال، وصفات العبد لها النقص والاضمحلال، كل هذا داخل في الإيمان بالله عز وجل.
ويدخل في الإيمان بالملائكة: الإيمان المجمل والمفصل.
فالملائكة قسمان: قسم نعلمه؛ لأنهم قد سموا لنا، فنؤمن بهم وبأسمائهم تفصيلاً، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وما أشبه ذلك من الملائكة، والبقية نؤمن بأن لله ملائكة كما أخبر عنهم سبحانه وتعالى؛ كما قال عز وجل: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ[35].
ونؤمن بأنهم أقسام، منهم موكل بنا لحفظ أعمالنا وكتابتها، ومنهم موكل بالسياحة في الأرض يحضرون مجالس الذكر ويستمعون له، ومنهم الذين يتعاقبون فينا ليلاً ونهاراً، ومنهم حملة العرش، ومنهم غير ذلك، وقد جاء في الحديث الصحيح: ((أنه يدخل البيت المعمور الذي في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم))، وهذا يدل على كثرتهم وأنهم جنود لا يحصيهم إلا الله عز وجل فنؤمن بهم إجمالاً وتفصيلاً وأنهم عباد مكرمون ليسوا بشراً وليسوا جناً ولكنهم خلق آخر خلقوا من النور، كما في الحديث الصحيح: ((خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) رواه مسلم في الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي. وهم يتشكلون كما يشاء الله عز وجل، ولهم أعمال، ولهم صفات تليق بهم بعضها علمناه من السنة كمجيء جبريل تارةً في صورة فلان، وتارةً في صورة فلان، وتارةً في صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، وتارةً في صورة إنسان مجهول لا يعرف لما جاء يسأل عن الإسلام والإيمان، إلى غير ذلك. فالمقصود أنهم يتلونون بالألوان التي يريدها الله جل وعلا ويشاءها سبحانه وتعالى، ولهم خلقة يعلمها الله عز وجل، وهم لهم أجنحة كما أخبر الله في كتابه العظيم في سورة فاطر، إلى غير ذلك مما أخبر الله به عز وجل في الكتاب والسنة، فنؤمن بما جاء في الكتاب والسنة تفصيلاً، ونؤمن بهم على سبيل الإطلاق والإجمال فيما لا نعلم من شأنهم وصفاتهم.
وهكذا مسألة الكتب، الباب واحد، يؤمن المؤمن بكتب الله إجمالاً وأن لله كتباً أنزلها على رسله وأنبيائه لا نحصيها نحن، ولكن نؤمن بها إجمالاً، ونؤمن بما فيها إجمالاً، أما تفاصيلها وما فيها فإلى الله سبحانه وتعالى، ومنها ما سمي لنا، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف موسى وإبراهيم، والكتاب العظيم وهو القرآن الكريم، نؤمن بهذه الكتب التي سميت لنا، وأما ما لم يسم لنا فنؤمن بأن لله كتباً أنزلها على رسله وأنبيائه لا يحصيها إلا الله جل وعلا ولا يعلمها إلا هو، إلا بنص يثبت لنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان شيء من ذلك.
وهكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام فيهم تفصيل وإجمال، فنؤمن بهم إيماناً مجملاً، وأن لله رسلاً أرسلهم إلى الناس، مهمتهم دعوتهم إلى الله كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[36]، وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ[37]، فلله سبحانه رسل أرسلهم لعباده مبشرين ومنذرين، أما إحصاؤهم وبيان أسمائهم فهذا إليه سبحانه وتعالى، لكن جاء في حديث أبي ذر، وجاءت له شواهد من حديث أبي أمامة وغيره ما يدل على أن الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر، لكن أسانيدها لا تخلو من مقال.
أما الأنبياء فقد جاء في إحدى الروايات أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً كلهم أنبياء وفي رواية مائة وعشرون ألفاً، لكن أسانيدها فيها مقال كما تقدم، والحاصل أن الأنبياء والرسل جم غفير، لكن علم عددهم بالقطع يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، وعلينا أن نؤمن إيماناً مجملاً أن لله رسلاً وأنبياءً أرسلوا لبيان الحق وإرشاد الخلق؛ كما قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[38] الآية.
وقال سبحانه وتعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[39]، وقال عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[40] الآية. فالله له رسل كثيرون وله أنبياء كثيرون لا يحصيهم إلا الله جل وعلا.
إننا نؤمن بذلك إيماناً تفصيلياً وإجمالياً وهم جم غفر ومهمتهم عظيمة وهي الدعوة إلى توحيد الله ونهي الناس عن الشرك بالله وبيان شرائع الله لهم وأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهى الله عنه، هذه مهمتهم، ونؤمن تفصيلاً بمن سمي منهم، كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان، وهود، وصالح، وغيرهم، وآدم من جملتهم، فقد جاء في بعض الروايات من حديث أبي ذر وغيره أنه نبي مكلمٌ معلمٌ، وجاء في بعضها أنه رسول، وهو لا شك أنه يوحى إليه وأنه على شريعة من الله، وإنما الشك هل هو نبي رسول أو نبي فقط، اختلفت الروايات في ذلك.
فالمقصود أن آدم من جملة الأنبياء بلا شك وأنه على شريعة. وحديث جمع الناس ليوم القيامة وتقدم المؤمنين إلى نوح وقولهم له: يا نوح أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، يحتج به على أن نوحاً أول الرسل وأن آدم نبي مكلم فقط، ولو صح أنه رسول فالمعنى أنه رسول إلى ذريته بخلاف نوح فإنه أرسل إلى قومه وهم أهل الأرض ذلك الوقت، أما آدم فإنه أرسل إلى ذريته بشريعة خاصة قبل وقوع الشرك، وأما نوح فقد أرسل إلى قومه وهم ذلك الوقت أهل الأرض جميعاً بعد وقوع الشرك في الأرض، وبذلك لا يبقى تعارض بين كون آدم رسولاً إن صح الحديث وبين كون نوح هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض.
وهكذا القول في الأصل الخامس وهو الإيمان باليوم الآخر نؤمن به إجمالاً وتفصيلاً، فنؤمن بما سمى الله من أمر الآخرة، كالجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك، وما سوى ذلك مما لم يرد في الآيات والأحاديث الصحيحة تفصيله نؤمن به على سبيل الإجمال.
وهكذا القدر، وهو الأصل السادس، نؤمن به كما جاءت به النصوص، والإيمان به يشمل أربعة أشياء عند أهل السنة:
(الأمر الأول) هو العلم بأن الله سبحانه وتعالى قد علم الأشياء كلها وأحصاها، وأنه لا تخفى عليه خافية جل وعلا، فهو سبحانه يعلم كل شيء؛ كما قال عز وجل إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[41]، وبهذا يرد على غلاة القدرية والمعتزلة الذين أنكروا هذا العلم، قال الشافعي - رحمه الله - في حقهم: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا)؛ لأن قولنا: إن الله عالم بالأشياء هذا هو القدر؛ لأن الأشياء لا تخفى على الله، فمتى علم الله بالأشياء فمستحيل أن تقع على خلاف علمه؛ لأن وقوعها على خلاف علمه يكون جهلاً.
أما إن جحدوا ذلك، وقالوا: إنه سبحانه لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها فهذا كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه وتعالى ووصف له بالجهل، وهذا تنقص عظيم يوجب كفر من قاله.
(الأمر الثاني) الكتابة، وهو أن الله سبحانه قد كتب الأشياء؛ كما قال عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[42]،وقال سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[43]، والمقصود أنه كتب الأشياء كلها جل وعلا كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) أخرجه مسلم في صحيحه.
فكتابة الأشياء التي أوجدها سبحانه أو سيوجدها أمر معلوم جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فعلينا أن نؤمن بذلك ونعتقد أن الله كتب الأشياء كلها وعلمها وأحصاها، لا تخفى عليه خافية وهو سبحانه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير سبحانه وتعالى؛ كما قال عز وجل: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[44]
(الأمر الثالث) مشيئته النافذة، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء في ملكه دون مشيئته جل وعلا، بل ما شاء الله يكون وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، فلا بد إذا من الإيمان بهذه المشيئة، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال عز وجل:لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[45]، وقال سبحانه:فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ[46]، فالمقصود أنه سبحانه له المشيئة الكاملة النافذة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[47] سبحانه وتعالى.
(الأمر الرابع) قدرته على الأشياء وخلقه وإيجاده لها، وأن نؤمن بأنه سبحانه على كل شيء قدير، وأنه الخلاق العليم، وأن جميع الأشياء الموجودة هو الذي خلقها وأوجدها، وهكذا في المستقبل لا أحد يشاركه في ذلك، بل هو الخلاق والرزاق وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم؛ كما قال سبحانه اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[48].
فالإيمان بالقدر يشمل هذا كله، ويشمل إيماننا بعلمه بالأشياء وكتابته لها، وإيماننا أيضاً بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإيماننا أيضاً بأنه الخلاق لكل شيء وأن جميع الأشياء هو خالقها وموجدها سبحانه وتعالى، وفي هذا رد على من قال خلاف ذلك من المعتزلة وغيرهم، فإن من أنكر مشيئة الله وقال: إنه يوجد في ملكه ما لا يريد فهو مكذب لله عز وجل متنقص له سبحانه وتعالى، فلا بد من الإيمان بأنه على كل شيء قدير وأن ما شاءه كان، وما أراده بإرادته الكونية كان، ولكن بعض الناس تخفى عليهم هذه الأشياء التي جاءت بها الرسل، فيجب أن تبين لهم بأدلتها، وأن يوضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية التي لا يتخلف مرادها وهي المذكورة في مثل قوله سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[49].
وبين الإرادة الشرعية التي قد يتخلف مرادها بالنسبة إلى بعض الناس، وهي المذكورة في قوله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ[50] الآية.
ومعلوم أن بعض الناس مات على جهله، ومات على غير توبة، وقال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ[51] الآية، هذه إرادة شرعية؛ لأنه سبحانه قد خفف على قوم ولم يخفف على آخرين، فمعنى ذلك أنه أمر بهذا ورضي به وأحبه، ولكن من الناس من وفق لهذا الشيء ومنهم من لم يوفق له، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: ((أن الله سبحانه يقول يوم القيامة لبعض المشركين: لو كان لك مثل الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به، فيقول: نعم، فيقول الله سبحانه له: قد أردت منك ما هو أدنى من ذلك وأنت في صلب أبيك آدم أردت منك أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك))، يعني أردت منك شرعاً أن لا تشرك بي، وذلك بما جاء على ألسنة الرسل من الأمر بعبادته وحده والنهي عن الإشراك به، لكن أبى أكثر الخلق إلا الشرك بالله عز وجل، ولم يقبلوا الإرادة الشرعية، فمن آمن بهذه الأمور الأربعة، وهي: علم الله سبحانه بجميع الأشياء، وكتابته لها، ومشيئته لما وجد منها، وأنه سبحانه خالق الأشياء وموجدها، فقد آمن بالقدر إيماناً كاملاً، ومن قصر في ذلك فقد قصر في الإيمان بالقدر، ولم يسر على هدى أهل السنة والجماعة في ذلك، ولم يؤمن بالقدر على حقيقته، بل آمن ببعضه وكفر ببعض.
ثم هذا الإيمان بالقدر لا يلزم منه أن يكون العبد مجبوراً لا إرادة له ولا مشيئة وإنما هو كالسعفة تحركها الرياح هكذا وهكذا، وكالريشة في الهواء خلافاً للقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم، بل له اختيار ومشيئة وله إرادة وعقل يميز به، ولكن هذه المشيئة وهذه الإرادة وهذا الاختيار لا يكون به شيء إلا بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى؛ كما قال الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[52].
فهو مخير ومسير، مخير من جانب؛ لأن الله أعطاه عقلاً، وأعطاه بصراً، وأعطاه أدلة وأدوات، ومكنه من الإيمان والعمل، فهو قادر وله إرادة وله مشيئة، يقدر أن يتباعد عن المعصية، ويقدر أن يطيع وأن يعصي، ويقدر أن يتصدق، ويقدر أن يمتنع، وهو مسير من جهة أخرى وهي أنه ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله ولا اختيار إلا بعد اختيار الله ولا يستقل بالأشياء، فله إرادة خاصة ومشيئة خاصة بعد مشيئة الله وإرادته، ولهذا قال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[53] الآية. فالإنسان سائر ومسير وميسر لما خلق له، هو سائر بما أعطاه الله من العقل والاختيار والمشيئة، ومسير بما سبق في علم الله من القدر السابق، وميسر لما خلق له من خير وشر، فهو لا يمكن أن يخالف ما قدر الله له ولا أن يحيد عنه، وهو مع ذلك ميسر لما خلق له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[54] والآية بعدها، متفق على صحته من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن هذا يعلم المؤمن الفرق بين عقيدة السلف الصالح وعقيدة المعتزلة والقدرية النفات وعقيدة القدرية المجبرة.
فالقدرية المجبرة غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: ليس للعبد إرادة ولا مشيئة، وقد أخطئوا في ذلك وأصابوا في الإيمان بالقدر. أما القدرية النفاة فغلوا في نفي القدر وأفرطوا في ذلك وأخطأوا في هذا غاية الخطأ، ولكنهم أصابوا في إثبات المشيئة والاختيار للعبد، وأخطأوا في جعله مستقلاً بذلك، فإن أهل السنة والجماعة أخذوا ما عند الطائفتين من الحق وتركوا ما عندهما من الباطل. وهكذا يجب على أهل الحق إذا ردوا على أهل الباطل أن يفصلوا وأن ينصفوا، فيقولوا لهم قلتم كذا وقلتم كذا، فنحن معكم في هذا، ولسنا معكم في هذا، نحن معكم في الحق الذي قلتموه كالإيمان بالقدر، ولسنا معكم بأن العبد مجبور بل له اختيار ومشيئة، ويقال للمعتزلة وأشباههم: نحن معكم في أن العبد له مشيئة واختيار، ولكن لسنا معكم في تجهيل الله سبحانه وإنكار علمه ومشيئته. وهكذا يقال للشيعة: نحن معكم في محبة أهل البيت ومحبة علي رضي الله عنه وأرضاه، فإنه ومن سار على نهجه على هدى وأنه من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو أفضلهم بعد الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا، ولكن لسنا معكم في أنه معصوم، ولسنا معكم في أنه الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قبله ثلاثة، ولسنا معكم في أنه يعبد من دون الله ويستغاث به وينذر له ونحو ذلك، لسنا معكم في هذا؛ لأنكم مخطئون في هذا خطأ عظيماً، لكن نحن معكم في محبة أهل البيت الملتزمين بشريعة الله والترضي عنهم والإيمان بأنهم من خيرة عباد الله عملاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في حديث زيد بن أرقم المخرج في صحيح مسلم: ((إني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به))... ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)).
وهكذا بقية الطوائف نأخذ ما معهم من الحق ونقر لهم به، ونرد عليهم باطلهم بالأدلة النقلية والعقلية، وبهذا يتضح أن هذه الأصول الستة هي أصول الدين، وهي الجامعة لكل ما أخبر الله عنه، فمن استقام عليها عقيدة وقولاً وعملاً فقد استكمل الإيمان وسلم من النفاق، لأن هذه الأصول تقتضي من المؤمن بها أداء ما أوجب الله عليه له ولعباده، وتقتضي تصديقه بكل ما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من السنة، ومن جحدها أو جحد شيئا منها لم يكن مؤمناً.
والخلاصة أن هذه الأصول أصول عظيمة وقواعد أساسية لهذا الدين العظيم، تجب مراعاتها والاستقامة عليها في جميع الأحوال، والبراءة من كل ما خالفها، ومن أتى بقول أو عمل يوجب كفره فهو دليل على عدم إيمانه بهذه الأصول أو بعضها الإيمان الصحيح، وذلك مثل ترك الصلاة المكتوبة، فإن الذي لا يصلي لا إيمان عنده على الصحيح يحجزه عن ترك الصلاة التي هي عمود الإسلام، ولهذا فإن القول الصواب إنه كافر كفراً أكبر لقوله صلى الله عليه وسلم:((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) خرجه مسلم في صحيحه، وقوله: صلى الله عليه وسلم ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنة بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، وهكذا من يستهزئ بالله سبحانه أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بالجنة أو النار، أو بالقرآن، وما أشبه ذلك فإنه كافر إجماعاً، لأن هذا الاستهزاء والتنقص دليل على أن دعواه الإيمان باطلة، وأنه ليس عنده إيمان يحجزه عن الاستهزاء بما ذكر.
وهكذا الذي يهين المصحف أو يلطخه بالنجاسة أو يجلس عليه وهو يعلم أنه كتاب الله، فإن هذا دليل على أن هذا الرجل لا إيمان له، وإنما يدعي الإيمان، ولو كان عنده إيمان صحيح لحجزه عن هذا العمل الذي يوجب كفره.
---------------------------------------------------
http://www.binbaz.org.sa/mat/8555