بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام ابن القيّم -رحمه الله- في كتابه "إعلام الموقعين" :
إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَشُرُوطُهُ
المِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَعَ لِأُمَّتِهِ إيجَابَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،
فَإِذَا كَانَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ،
وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ،
«وَقَدْ اسْتَأْذَنَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِتَالِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، وَقَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ»
وَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ»
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ؛
فَطَلَبَ إزَالَتَهُ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؛فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا،
بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ -
خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ،وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَمَا وُجِدَ سَوَاءٌ.
إنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ
فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛
الأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ،
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ،
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ،
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛
فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ،وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ؛
فَإِذَا رَأَيْت أَهْلَ الْفُجُورِ وَالْفُسُوقِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ كَانَ إنْكَارُك عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَمِ الْفِقْهِ وَالْبَصِيرَةِ إلَّا إذَا نَقَلْتَهُمْ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَرَمْيِ النُّشَّاب وَسِبَاقِ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْت الْفُسَّاقَ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ سَمَاعِ مُكَاء وَتَصْدِيَةٍ فَإِنْ نَقَلْتَهُمْ عَنْهُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُرَادُ،
وَإِلَّا كَانَ تَرْكُهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرًا مِنْ أَنْ تُفْرِغَهُمْ لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ مَا هُمْ فِيهِ شَاغِلًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَ
كَمَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُشْتَغِلًا بِكُتُبِ الْمُجُونِ وَنَحْوِهَا وَخِفْت مِنْ نَقْلِهِ عَنْهَا انْتِقَالَهُ إلَى كُتُبِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالسِّحْرِ فَدَعْهُ وَكُتُبَهُ الْأُولَى، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ؛
وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ. "
[3/ 12-13]
تعليق