قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
فصل:
وقد ذكرت في مواضع ما اشتملت عليه " سورة البقرة "من تقرير أصول العلم وقواعد الدين: أن الله تعالى افتتحها بذكر كتابه الهادي للمتقين فوصف حال أهل الهدى ثم الكافرين ثم المنافقين. فهذه " جمل خبرية " ثم ذكر " الجمل الطلبية " فدعا الناس إلى عبادته وحده ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء وإخراج الثمار رزقا للعباد ثم قرر " الرسالة " وذكر " الوعد والوعيد " ثم ذكر مبدأ " النبوة والهدى " وما بثه في العالم من الخلق والأمر ثم ذكر تعليم آدم الأسماء وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق فقص جنس دعوة الأنبياء.
ثم انتقل إلى خطاب بني إسرائيل وقصة موسى معهم وضمن ذلك تقرير نبوته إذ هو قرين محمد فذكر آدم الذي هو أول،وموسى الذي هو نظيره وهما اللذان احتجا وموسى قتل نفسا فغفر له وآدم أكل من الشجرة فتاب عليه وكان في قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاءوا به وقد يتأولون أخبار الأنبياء وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتقرير نبوته وذكر حال من عدل عن النبوة إلى السحر وذكر النسخ الذي ينكره بعضهم وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم. كل هذا في تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة.
ثم أخذ سبحانه في بيان شرائع الإسلام التي على ملة إبراهيم فذكر إبراهيم الذي هو إمام وبناء البيت الذي بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم وذكر استقباله وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال:أهل القبلة كما يقال:{من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم} . وذكر من " المناسك " ما يختص بالمكان وذلك أن الحج له مكان وزمان و " العمرة " لها مكان فقط والعكوف والركوع والسجود شرع فيه؛ ولا يتقيد به ولا بمكان ولا بزمان؛ لكن الصلاة تتقيد باستقباله فذكر سبحانه هذه الأنواع الخمسة: من العكوف والصلاة والطواف والعمرة والحج والطواف يختص بالمكان فقط ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين وأنه لا جناح فيه جوابا لما كان عليه الأنصار في الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما. وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت - بل وبالقلوب والأبدان والأموال - بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه وذكر الصبر على المشروع والمقدور وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما في سبيل الله فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع وكذلك الحج في الأصح كما قال:{الحج من سبيل الله} . وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم ثم ذكر أنه لا يقبل دينا غير ذلك. ففي أولها: {فلا تجعلوا لله أندادا} وفي أثنائها. {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} فـ" الأول " نهي عام و " الثاني " نهي خاص وذكرها بعد البيت لينتهى عن قصد الأنداد المضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر ونحو ذلك ووحد نفسه قبل ذلك وأنه {لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات. ثم ذكر الحلال والحرام وأطلق الأمر في المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت وذكر سماحتها في الأحوال المباحة وفي الدماء بما شرعه من القصاص ومن أخذ الدية ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان فذكر الوصية المتعلقة بالموت ثم الصيام المتعلق برمضان وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحبابا أو وجوبا بوقت الصيام ووسطه أولا بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام والصلاة تشرع في جميع الأرض والعكوف بينهما. ثم أتبع ذلك بالنهي عن أكل الأموال بالباطل وأخبر أن المحرم " نوعان ": نوع لعينه كالميتة ونوع لكسبه كالربا والمغصوب فأتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه وذكر في أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله: {يسألونك عن الأهلة} الآية وهي أعلام العبادات الزمنية وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس في أمر دينهم ودنياهم وللحج لأن البيت تحجه الملائكة والجن فكان هذا أيضا في أن الحج موقت بالزمان كأنه موقت بالبيت المكاني؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان مع أن المكان من تمام الحج والعمرة. وذكر " المحصر " وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدي عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق وأن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه. وذكر " التمتع بالعمرة إلى الحج " لتعلقه بالزمان مع المكان فإنه لا يكون متمتعا حتى يحرم بالعمرة في أشهر الحج وحتى لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام - وهو الأفقي - فإنه الذي يظهر التمتع في حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج ثم ذكر وقت الحج وأنه أشهر معلومات وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإن هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال:{فمن فرض فيهن الحج} ولم يقل: والعمرة لأنها تفرض في كل وقت ولا ريب أن السنة فرض الحج في أشهره ومن فرض قبله خالف السنة فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر - إذ ليس فيه نقض للمشروع وليس كمن صلى قبل الوقت - وإما أن يلزم الإحرام ويسقط الحج ويكون معتمرا وهذان قولان مشهوران. ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره وقضاؤها - والله أعلم - قضاء التفث والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك:{واذكروا الله في أيام معدودات} وهذا أيضا من العبادات الزمانية المكانية. وهو ذكر الله تعالى مع رمي الجمار ومع الصلوات ودل على أنه مكاني قوله: {فمن تعجل في يومين} الآية وإنما يكون التعجيل والتأخير في الخروج من المكان؛ ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال: أيام منى وإلى عملها فيقال: أيام التشريق كما يقال: ليلة جمع وليلة مزدلفة ويوم عرفة ويوم الحج الأكبر ويوم العيد ويوم الجمعة فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة والحركة تابعة للمكان. فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض وكيف ذكر أحكام الحج فيها في موضعين: مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه وذكر أيضا القتال في المسجد الحرام والمقاصة في الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن سبحانه ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج. وذكر أن " البر " ليس أن يشقي الرجل نفسه ويفعل ما لا فائدة فيه من كونه يبرز للسماء فلا يستظل بسقف بيته حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره فأخبر أن الهلال الذي جعل ميقاتا للحج شرع مثل هذا وإنما تضمن شرع التقوى ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين في كتابه المبين. والحمد لله رب العالمين.
مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية مجلد ٧ الجزء الرابع عشر صفحة٢٩