بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله أما بعد:
قال الشيخ عبد السلام بن برجس -رحمه الله-:
العائق السابع: [استعجال الثمر]:
يظن بعض الطلبة أن العلم لقمة سائغة؛ أو جرعة عذبة؛ سرعان ما تظهر نتائجها؛ وتتبين فوائدها.
فيؤمل في قرارة نفسه أن بعد مضي سنة أو أكثر أو أقل -من عمره في الطلب- سيصبح عالمًا جهبذًا لا يدرك شأوه؛ ولا يشق عباره.
وهذه نظرة خاطئة؛ وتصور فاسد؛ وأمل كاسد؛ أضراره وخيمة؛ ومفاسده عظيمة؛ إذ يفضي بصاحبه إلى ما لا تحمد عقباه من القول على الله بغير علم؛ والثقة العمياء بالنفس؛ وحب العلو والتصدر...
وينتهي مطافه بين هذه الأشياء إلى هجر الانتساب للعلم وأهله.
ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكمًا بِهذا الضرب من الطلبة-: "يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيّام ثمّ يقول: أنا من أهل الحديث" [1].
والناظر إلى حال السلف يرى عجبًا من صبرهم على مرارة التحصيل؛ وطول الجادة؛ لا يفترون؛ ولا يتقاعسون؛ ولا يستكبرون؛ شعارهم: "العلم من المهد إلى اللحد"...
"العلم من المقبرة إلى المحبرة".
قال الإمام ابن المديني: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: "بنفي الاعتماد؛ والسير في البلاد؛ وصبر كصبر الجماد؛ وبكور كبكور الغراب" [2].
وقال الإمام الشافعي: "لا يبلغ في هذا الشأن رجل حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل شيء" [3].
وقال ابن حمزة: "قال لي يعقوب بن سفيان -الحافظ الإمام- : "أقمت في الرحلة ثلاثين سنة" [4].
وقال يحي بن أبي كثير: "لا يستطاع العلم براحة الجسد" [5].
وقال ابن الحداد المالكي: "ما للعالم وملاءمة المضاجع" [6].
فعلى طالب العلم أن يتأسى بهؤلاء الأئمة؛ وأن يحذو حذوهم؛ حتى ينال مناه؛ ويدرك بغيته؛ فإن منهجهم سليم؛ وطريقهم قويم؛ وما حثل لهم ما حصل من ذكر حسن؛ ونفع مستمر للمسلمين إلا بالصبر والمثابرة؛ وازدراء كل ما يبذل من مال؛ ووقت في سبيل العلم والمعرفة.
وختامًا: أذكر محاورة بين اثنين؛ تبين قيمة العلم ومكانته العالية؛ وأنه لا يحصل إلا لمن بذل فيه كل شيء على حد قولهم: أعط العلم كلك يعطيك بعضه.
قال رجل لآخر: بم أدركت العلم؟
قال: "طلبته فوجدته بعيد المرام؛ لا يصاد بالسهام؛ ولا يرى في المنام؛ ولا يورث عن الآباء والأجداد.
فتوسلت إليه بافتراش المدر؛ واستناد الحجر؛ وإدمان السهر؛ وكثرة النظر؛ وإعمال الفكر؛ ومتبعة السفر؛ وركوب الخطر؛ فوجدته شيئًا لا يصلح إلا للغرس؛ ولا يغرس إلا في النفس؛ ولا يسقى إلا بالدرس.
أرأيت من شغل نهاره بالجمع؛ وليله بالجماع؛ هل يخرج من طلك فقيهًا؟ كلا والله.
إن العلم لا يحصل إلا لمن اعتضد الدفاتر؛ وحمل المحابر؛ وقطع القفار؛ وواصل في الطلب الليل والنهار"[7].
ولعل في هذه المحاورة الظريفة ما يزيل الصورة المترسبة في أذهان بعض الطلبة من أن العلم ينال في مدة وجيزة؛ وفترة قصيرة؛ فيواصلوا جهودهم؛ ويحتقروا مبذولهم في طريق العلم والتعلم حتّى يفتح الله عليهم أبواب المعرفة والعلم؛ فيصبحوا قادة في العلم؛ أئمة في الهدى. [عوائق الطلب/ ص:35-37]
قلت -أبو عبد الرحمن-: فالحذر الحذر يا أهل السنة من الاستعجال في طلب الثمرة وعلينا بالتأني والصبر ومجاهدة النفس والمثابرة في سبيل تحصيل العلم النافع الذي لا يعدله شيء لمن صلحت نيته فينبغي على طالب العلم أن لا يفتر ويتقاعس وينظر إلى الحالة التي وصلت إليها الأمة وأن يستشعر حاجة هذه الأمة لكل فردٍ من أفرادها ليعلمها أمور دينها ومن الأسباب التي تقويّ العزائم وتشحذ الهمم المداومة على قراءة سير السلف ورحلاتهم في طلب العلم ومن باب الفائدة ما ذكره الذهبي -رحمه الله- في كتابه "السير" في ترجمة "محمد بن طاهر القيسراني" قال: قال ابن مسعود عبد الرحيم الحاجي: سمعت بن طاهر يقول: "بُلتُ الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة ببغداد؛ وأخرى بمكة؛ كنت أمشي حافيًا في الحر؛ فلحقني ذلك؛ وما ركبت دابة قطُّ في طلب الحديث؛ وكنت أحمل كتبي على ظهري؛ وما سألت في حال الطلب أحدًا؛ كنت أعيش على ما يأتي."[19-363]
فتأمل يا طالب العلم -رحمك الله- كيف كانت همة السلف -رحمهم الله- في طلب العلم وكانوا يصبرون على تحصيله السنين الطوال وقارن ذلك إلى ما وصلنا إليه وما آل إليه حالنا والله المستعان وكما قيل: "من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه" فنسأل الله أن ييسر لنا الرحلة إلى دار الحديث بدماج وإلى علماء السنة أينما كانوا إنه سميع مجيب وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين.
_____________________________________
[1]_ السير [10/ 876]
[2]_ التذكرة للذهبي [ترجمة الشعبي عامر بن شرحبيل]
[3]_ السير [10/ 89]
[4]_ التذكرة للذهبي [ترجمة مكحول]
[5]_ الجامع [1/ 91]
[6]_ السير [14/ 206]
[7]_ ينظر مقامات بديع الزمان "المقامات العلمية"؛ والزيادات التي هنا من بعض شيوخنا.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله أما بعد:
قال الشيخ عبد السلام بن برجس -رحمه الله-:
العائق السابع: [استعجال الثمر]:
يظن بعض الطلبة أن العلم لقمة سائغة؛ أو جرعة عذبة؛ سرعان ما تظهر نتائجها؛ وتتبين فوائدها.
فيؤمل في قرارة نفسه أن بعد مضي سنة أو أكثر أو أقل -من عمره في الطلب- سيصبح عالمًا جهبذًا لا يدرك شأوه؛ ولا يشق عباره.
وهذه نظرة خاطئة؛ وتصور فاسد؛ وأمل كاسد؛ أضراره وخيمة؛ ومفاسده عظيمة؛ إذ يفضي بصاحبه إلى ما لا تحمد عقباه من القول على الله بغير علم؛ والثقة العمياء بالنفس؛ وحب العلو والتصدر...
وينتهي مطافه بين هذه الأشياء إلى هجر الانتساب للعلم وأهله.
ولقد أصاب المأمون عندما قال -متهكمًا بِهذا الضرب من الطلبة-: "يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيّام ثمّ يقول: أنا من أهل الحديث" [1].
والناظر إلى حال السلف يرى عجبًا من صبرهم على مرارة التحصيل؛ وطول الجادة؛ لا يفترون؛ ولا يتقاعسون؛ ولا يستكبرون؛ شعارهم: "العلم من المهد إلى اللحد"...
"العلم من المقبرة إلى المحبرة".
قال الإمام ابن المديني: قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: "بنفي الاعتماد؛ والسير في البلاد؛ وصبر كصبر الجماد؛ وبكور كبكور الغراب" [2].
وقال الإمام الشافعي: "لا يبلغ في هذا الشأن رجل حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل شيء" [3].
وقال ابن حمزة: "قال لي يعقوب بن سفيان -الحافظ الإمام- : "أقمت في الرحلة ثلاثين سنة" [4].
وقال يحي بن أبي كثير: "لا يستطاع العلم براحة الجسد" [5].
وقال ابن الحداد المالكي: "ما للعالم وملاءمة المضاجع" [6].
فعلى طالب العلم أن يتأسى بهؤلاء الأئمة؛ وأن يحذو حذوهم؛ حتى ينال مناه؛ ويدرك بغيته؛ فإن منهجهم سليم؛ وطريقهم قويم؛ وما حثل لهم ما حصل من ذكر حسن؛ ونفع مستمر للمسلمين إلا بالصبر والمثابرة؛ وازدراء كل ما يبذل من مال؛ ووقت في سبيل العلم والمعرفة.
وختامًا: أذكر محاورة بين اثنين؛ تبين قيمة العلم ومكانته العالية؛ وأنه لا يحصل إلا لمن بذل فيه كل شيء على حد قولهم: أعط العلم كلك يعطيك بعضه.
قال رجل لآخر: بم أدركت العلم؟
قال: "طلبته فوجدته بعيد المرام؛ لا يصاد بالسهام؛ ولا يرى في المنام؛ ولا يورث عن الآباء والأجداد.
فتوسلت إليه بافتراش المدر؛ واستناد الحجر؛ وإدمان السهر؛ وكثرة النظر؛ وإعمال الفكر؛ ومتبعة السفر؛ وركوب الخطر؛ فوجدته شيئًا لا يصلح إلا للغرس؛ ولا يغرس إلا في النفس؛ ولا يسقى إلا بالدرس.
أرأيت من شغل نهاره بالجمع؛ وليله بالجماع؛ هل يخرج من طلك فقيهًا؟ كلا والله.
إن العلم لا يحصل إلا لمن اعتضد الدفاتر؛ وحمل المحابر؛ وقطع القفار؛ وواصل في الطلب الليل والنهار"[7].
ولعل في هذه المحاورة الظريفة ما يزيل الصورة المترسبة في أذهان بعض الطلبة من أن العلم ينال في مدة وجيزة؛ وفترة قصيرة؛ فيواصلوا جهودهم؛ ويحتقروا مبذولهم في طريق العلم والتعلم حتّى يفتح الله عليهم أبواب المعرفة والعلم؛ فيصبحوا قادة في العلم؛ أئمة في الهدى. [عوائق الطلب/ ص:35-37]
قلت -أبو عبد الرحمن-: فالحذر الحذر يا أهل السنة من الاستعجال في طلب الثمرة وعلينا بالتأني والصبر ومجاهدة النفس والمثابرة في سبيل تحصيل العلم النافع الذي لا يعدله شيء لمن صلحت نيته فينبغي على طالب العلم أن لا يفتر ويتقاعس وينظر إلى الحالة التي وصلت إليها الأمة وأن يستشعر حاجة هذه الأمة لكل فردٍ من أفرادها ليعلمها أمور دينها ومن الأسباب التي تقويّ العزائم وتشحذ الهمم المداومة على قراءة سير السلف ورحلاتهم في طلب العلم ومن باب الفائدة ما ذكره الذهبي -رحمه الله- في كتابه "السير" في ترجمة "محمد بن طاهر القيسراني" قال: قال ابن مسعود عبد الرحيم الحاجي: سمعت بن طاهر يقول: "بُلتُ الدم في طلب الحديث مرتين؛ مرة ببغداد؛ وأخرى بمكة؛ كنت أمشي حافيًا في الحر؛ فلحقني ذلك؛ وما ركبت دابة قطُّ في طلب الحديث؛ وكنت أحمل كتبي على ظهري؛ وما سألت في حال الطلب أحدًا؛ كنت أعيش على ما يأتي."[19-363]
فتأمل يا طالب العلم -رحمك الله- كيف كانت همة السلف -رحمهم الله- في طلب العلم وكانوا يصبرون على تحصيله السنين الطوال وقارن ذلك إلى ما وصلنا إليه وما آل إليه حالنا والله المستعان وكما قيل: "من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه" فنسأل الله أن ييسر لنا الرحلة إلى دار الحديث بدماج وإلى علماء السنة أينما كانوا إنه سميع مجيب وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين.
_____________________________________
[1]_ السير [10/ 876]
[2]_ التذكرة للذهبي [ترجمة الشعبي عامر بن شرحبيل]
[3]_ السير [10/ 89]
[4]_ التذكرة للذهبي [ترجمة مكحول]
[5]_ الجامع [1/ 91]
[6]_ السير [14/ 206]
[7]_ ينظر مقامات بديع الزمان "المقامات العلمية"؛ والزيادات التي هنا من بعض شيوخنا.
تعليق