الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة - الأحاديث رقم (247 - 249): 247 – (إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا).
قال الحافظ في الفتح:
(وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام ، وقوله " كتب الله " أي أمر أن بكتب ، وللدارقطني من طريق زيد بن شعيب عن مالك بلفظ " يقول الله لملائكته اكتبوا " فقيل إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمدا لأنه مشكل على القواعد وقال المازري : الكافر ليس كذلك ، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه ، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك . وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال ، واستضعف ذلك النووي فقال : الصواب الذي عليه المحققون - بل نقل بعضهم فيه الإجماع - أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ثم مات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له ، وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلم لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه انتهى).
ثم قال الحافظ : (والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من الله وإحسانا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا ، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول ، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا ، وهذا قوي ، وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين ، قال ابن المنير : المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره ، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل ، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر ، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح ، وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح ، بل يكون هباء منثورا . فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني ، وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جدعان : وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه ؟ فقال " إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر).
قلت : وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه ، لتضافر الأحاديث على ذلك ولهذا قال السندي رحمه الله في حاشيته على النسائي : (وهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة إن أسلم تقبل وإلا ترد وعلى هذا فنحو قوله تعالى (والذين كفروا أعمالهم كسراب) النور 29 ، محمول على من مات على الكفر والظاهر أنه لا دليل على خلافه وفضل الله أوسع من هذا وأكثر فلا استبعاد فيه وحديث الإيمان يجب ما قبله من الخطايا في السيئات لا في الحسنات).
قلت : ومثل الآية التي ذكرها السندي رحمه الله سائر الآيات الواردة في إحباط العمل بالشرك ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر 65 ، فإنها كلها محمولة على من مات مشركاً ، ومن الدليل على ذلك قوله عز وجل : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)البقرة217.
ويترتب على ذلك مسألة فقهية ، وهي أن المسلم إذا حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، لم يحبط حجه ، ولم يجب عليه إعادته ، وهو مذهب الإمام الشافعي ، وأحد قولي الليث بن سعد ، واختاره ابن حزم وانتصر له بكلام جيد متين ، أرى أنه لا بد من ذكره ، قال رحمه الله تعالى: (مَسْأَلَةٌ : مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ ، ثُمَّ ارْتَدَّ ، ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجَّ ، وَلاَ الْعُمْرَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ اللَّيْثِ.
وقال أبو حنيفة ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ : يُعِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)الزمر65 ، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَهَا ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِيهَا : لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ تُشْرِكَ ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجُوزُ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إذَا مَاتَ أَيْضًا عَلَى شِرْكِهِ لاَ إذَا أَسْلَمَ وَهَذَا حَقٌّ بِلاَ شَكٍّ. وَلَوْ حَجَّ مُشْرِكٌ أَوْ اعْتَمَرَ ، أَوْ صَلَّى ، أَوْ صَامَ ، أَوْ زَكَّى ، لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، عَنِ الْوَاجِبِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى فِيهَا : (وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ)الزمر65 ، بَيَانُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ لَمْ يَحْبَطْ مَا عَمِلَ قَبْلُ إسْلاَمِهِ أَصْلاً بَلْ هُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ وَمُجَازًى عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلى الإِسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ ، بَلْ مِنْ الْمُرْبِحِينَ الْمُفْلِحِينَ الْفَائِزِينَ ، فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يَحْبَطُ عَمَلُهُ هُوَ الْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ ، وَهَذَا هُوَ مِنْ الْخَاسِرِينَ بِلاَ شَكٍّ ، لاَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ أَوْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ ، عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)البقرة217 ، فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا : مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحْبَطُ عَمَلُهُ إنْ ارْتَدَّ إلاَّ بِأَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِر.
وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)ال عمران195 ، وَقَالَ تَعَالَى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه)الزلزلة7 ، ُوَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ، فَصَحَّ أَنَّ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ إذَا رَاجَعَ الإِسْلاَمَ سَيَرَاهُمَا ، وَلاَ يَضِيعَانِ لَهُ.
وروينا من طرق كالشمس عن الزهري وعن هشام بن عروة المعنى كلاهما عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله عليه السلام : أي رسول الله ، أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم ، أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
248- (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أسَلَفتَ مِنْ خَيْرٍ).
أخرجه الشيخان وغيرهما.
قال ابن حزم : (فَصَحَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ ، وَالْكَافِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ قَطُّ ، إذَا أَسْلَمَا فَقَدْ أَسْلَمَا عَلَى مَا أَسَلَفَا مِنْ الْخَيْرِ ، وَقَدْ كَانَ الْمُرْتَدُّ إذَا حَجَّ وَهُوَ مُسْلِمٌ قَدْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ ، وَمَا كُلِّفَ كَمَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ الآنَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ لَهُ كَمَا كَانَ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ يَحُجُّ كَالصَّابِئِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ دِينِهِمْ ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ; لإِنَّ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا أَنْ لاَ تُؤَدَّى إلاَّ كَمَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ، الَّذِي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى دِينًا غَيْرَهُ ، وَقَالَ عليه السلام : (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرْنَا فَهُوَ رَد) ٌّ، وَالصَّابِئُ إنَّمَا حَجَّ كَمَا أَمَرَهُ يوراسف ، أَوْ هُرْمُسُ فَلاَ يُجْزِئُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَيَلْزَمُ مَنْ أَسْقَطَ حَجَّهُ بِرِدَّتِهِ أَنْ يُسْقِطَ إحْصَانَهُ ، وَطَلاَقَهُ الثَّلاَثَ ، وَبَيْعَهُ ، وَابْتِيَاعَهُ ، وَعَطَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ فِي الإِسْلاَمِ ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا ; فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ).
وإذا تبين هذا ، فلا منافاة بينه وبين حديث : (أن الكافر يثاب على حسناته ما عمل بها لله في الدنيا) ، لأن المراد به الكافر الذي سبق في علم الله أنه يموت كافراً ، بدليل قوله في آخره : (حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يجزى بها) ، وأما الكافر الذي سبق في علم الله أنه يسلم ويموت مؤمناً ، فهو يجازى على حسناته التي عملها حالة كفره في الآخرة ، كما أفادته الأحاديث المتقدمة ، ومنها حديث حكيم بن حزام الذي أورده ابن حزم في كلامه المتقدم وصححه ولم يعزه لأحد من المؤلفين ، وقد أخرجه البخاري ، ومسلم ، وأبوعوانة ، وأحمد .
ومنها حديث عائشة في ابن جدعان الذي ذكره الحافظ غير معزو لأحد ، فأنا أسوقه الآن وهو:
249- (لَا يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).
أخرجه مسلم ، وأبو عوانة ، وأحمد ، وابنه عبدالله ، وأبوبكر العدل ، والواحدي ، من طرق عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوق – ولم يذكر الأخيران مسروقاً - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ قَالَ (فذكر).
وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية ، بخلاف ما إذا مات على كفره ، فإنه لا ينفعه ، بل يحبط بكفره ، وقد سبق بسط الكلام في هذا في الحديث الذي قبله.
وفيه دليل أيضاً على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة الرسل ، إذ لو كانوا كذلك ، لم يستحق ابن جدعان العذاب ، ولما حبط عمله الصالح ، وفي هذا أحاديث أخرى كثيرة سبق أن ذكرنا بعضها.
تعليق