مضمون النصيحةٌ الثمينةٌ، والكلمةٌ القَيِّمةٌ في ختام الرحلة الدعوية للشيخين الفاضلين: أبي بكر عبد الرزاق النهمي، وأبي عبدالرحمن عبدالله الإرياني، أُلقِيَتْ بدار الحديث بمعبر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فشكر الله لشيخنا الفاضل والوالد المربي أبي نصر محمد بن عبدالله الإمام حفظه الله تعالى على حسن ضيافته، وإتاحة هذه الفرصة للتحدث مع هذه الوجوه الكريمة من طلبة العلم الأفاضل، والدعاة إلى الله عزوجل.
وجزا الله خيرا أيضا الشيخ الفاضل والسُّنيَّ الثبت أبا بكر عبد الرزاق النهمي حفظه الله على إيثاري بالكلام دونه في هذه المقام، وكنت أحب أن يكون الكلام له؛ لما رأيت له من النصح السديد والتوجيه الرشيد في زيارتنا الدعوية التي استغرقت أسبوعين: إلى حضرموت الداخل (سيئون، ساه، تريم، الهجرين) ثم حضرموت الساحل: المكلا، والحامي، والديس الشرقية، وقصيعر، والريدة الشرقية، ثم المهرة وحتى حدود عمان، ثم شبوة ثلاثة أيام، ثم أحور من أبين، ثم زيارة لإخواننا في عدن (كلمة بعد العصر ثم جلسة في مسجد السلام)، ثم لحج، فنسأل الله أن يكون هذا في ميزان الحسنات.
وقد وجدنا منهم إقبالاً كبيراً، وحفاوةً عظيمةً، فجزاهم الله خيرا، وأسأل الله أن يحفظهم، وأن يبارك فيهم.
فضل طلب العلم
إخواني في الله، طلابَ العلم؛ بشرى عظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه البشرى لكل طالب علمٍ صادقٍ إلى يوم القيامة: في صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقا يلتمس به علما سهَّل الله له به طريقا إلى الجنة)).
فهذه بشرى لك يا طالب العلم مادمت صادقاً مع الله جل وعلا في الطلب، وهذه هو مقام العِزِّ والكرامة والشَّرف العظيم.
وطالب العلم كريمٌ على الله تعالى،عظيم القدر، مُحترمٌ بين عباد الله الصالحين، ففي مسند أحمد وغيره وهو في الصحيح المسند عن زر بن حبيش أنه قال لصفوان بن عسال رضي الله عنه: جئت ابتغاء العلم، فقال صفوان رضي الله عنه ألا أُبشرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)). وفي رواية : ((بما يطلب)).
فأنت يا طلب العلم محترمٌ وكريمُ على الله تعالى.
وطالب العلم من خير الناس، وأفضل الناس، ففي صحيح البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن، وعلمه)). وفي رواية ((أفضلكم)). وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يُرد الله خيرا يفقهه في الدين)). وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي، وهو في الصحيح المسند.
وطالب العلم على نعمةٍ عظيمة، ومِنَّةٍ من الله كريمة يُغبط عليها، بوَّب البخاري في صحيحه في كتاب العلم بابا قال فيه: باب الاغتباط في العلم والحكمة، ثم ساق بإسناه قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها)).
فأنت يا طالب العلم على نعمةٍ عظيمةٍ، وكرامةٍ جليلةٍ فإياك إياك أن تزهد في هذه النعمة وترغب فيما عليه أهل الدنيا، احذر أن ترغب في البنيان والعمران والسيارات والتجارات وتزهد في طلب العلم.
الحرص على التزود من طلب العلم
وعليك يا طالب العلم بالتزود من هذا الخير، والتقدُّم؛ فكلما أزددت علما أزددت رفعةً ومنزلةً وكرامةً، قال تعالى: {وقل رب زدني علما}. وسافر موسى عليه السلام إلى الخضر عليه السلام حتى وجد من سفره نَصَبا ليتزود من العلم، ونال بعض المسائل.
وبوَّب شيخنا مقبل رحمه الله تعالى في كتاب العلم في كتابه الجامع الصحيح بابا قال فيه: باب قول الطالب للمعلم: زدني. وذكر حديث أبي عقرب رضي الله عنه عند النسائي: قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم فقال: ((صم يوما من كل شهر)). قلت: يا رسول الله؛ زدني زدني. قال: ((تقول: يا رسول الله؛ زدني زدني. يومين من كل شهر)). قلت: زدني زدني إني أجدني قويا. فقال: ((زدني زدني أجدني قويا)). فسكت رسول الله حتى ظننت أنه ليردني، قال: ((صم ثلاثة أيام من كل شهر)).
وقال بعض السلف: طلب العلم من المحبرة إلى المقبرة،
وسمعنا في درس شيخنا: أن يحيى بن يحيى ما مات حتى صار أمام الدنيا.
فكان السَّلف يحرصون على التزود والمسابقة في الخير، واستغلال اللحظات في العلم النافع والعمل الصالح. فكلما زادوا يوما تزودوا علما. ((واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)).
وجوب إجلال أهل العلم
يا طالب العلم، إن من أجمل الحلل التي يتحلى بها الطالب: توقيره لمعلمه واحترامه، وإجلاله الإجلال الشرعي، وحفظ مكانته ومنزلته التي أكرمه الله بها، {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات}، وقال الله تعالى: {هم درجات عند الله}، قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: بالعلم. اهـ
وكلُّ دليل في فضل طالب العلم فإن العلماء يدخلون فيه دخولاً أوليا؛ لأنهم ما صاروا علماء إلا بعد الطلب، {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا}. وقد بوَّب ابن ماجه في سننه على حديث صفوان بن عسال: باب فضل العلماء.
وبوَّب شيخنا مقبل رحمه الله في كتاب العلم من الجامع الصحيح، وهو أول باب في أول كتاب له: باب فضل أهل العلم. وذكر حديث معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه عند أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولن تزال طائفةٌ من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)) .
والطائفة المنصورة قد قال البخاري رحمه الله إنهم أهل العلم. وقال الإمام أحمد رحمه الله: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
قال شيخنا رحمه الله بعد أن ذَكَرَ ذلك: والحديث وإن لم يكن نصّاً على ما قاله الإمام البخاري والإمام أحمد، فإن أهل الحديث داخلون دخولا أوليا؛ لثباتهم على الحق، وخدمتهم الإسلام، والذبِّ عنه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا. اهـ
وكان شيخنا مقبل رحمه الله تعالى يربي طلابه على شكر المعلم والدعاء لأهل العلم، فقد تقدم في قوله: فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا. وبوَّب في كتاب العلم أيضا قاله فيه: شكر الطالب معلمه، ومنه الثناء عليه بما يستحقه، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا الربيع بن مسلم قال حدثنا محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله)).
فمن لم يعرف قدر شيخه، ويشكر شيخه على نصحه وتعليمه، ولا يشكر أهل الفضل على فضلهم؛ فإنه لا يُوَفَّق لشكر الله عزَّ وجلَّ.
وبوَّب الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم من صحيحه: باب الإنصات للعلماء، وذكر بإسناده قال حدثنا حجاج قال حدثنا شعبة عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((استنصت الناس)). ثم قال: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)).
فيا طالب العلم، اعرف منزلة شيخك، واحفظ له مكانته، واشكر له جميل نصحه، وعظيم جهده وبذله وتعليمه، واحذر من احتقار الجهود الجبارة، وتنقص أهل العلم؛ فإن لحوم العلماء مسمومة، وإن آية الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، من أوقع فيهم لسانه بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
الزهد حلية طالب العلم
يا طالب العلم، إن أجمل حلية يتحلى بها الطالب: الزهد في الدنيا وزهرتها وزينتها، فإن الدنيا إذا بُسطت على العبد ربما تغير وتنكر، وترك الخير الذي كان عليه؛ ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قلبكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، ربنا لا ترغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
إذا كان الرجل بين عشية وضحاها يتغير ويتنكر، ويتقلب عن دينه بسبب الدنيا فلماذا لا نخاف على أنفسنا من الدنيا؟
لماذا لا نخاف على أنفسنا من الدنيا، وقد خاف علينا نبينا صلى الله عليه وسلم منها؟ ففي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)). وعند احمد في الصحيح المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أخشى عليكم الفقر، وإنما أخشى عليكم التكاثر)).
لماذا لا نخاف على أنفسنا من الدنيا إخواني طلاب العلم، وقد خاف علينا نبينا منها، وخاف علينا أيضا علماؤنا منها؟!
بوَّب شيخنا مقبل رحمه الله في كتاب العلم من الجامع الصحيح بابا قال فيه: الخوف على طالب العلم من الميل إلى الدنيا، ثم ذكر حديثين كلاهما عند الترمذي، عن كعب بن عياض رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لكل أُمَّة فتنة، وفتنة أمتي المال)). وعن كعب بن مالك رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أرسلا على غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
وبوَّب شيخنا بابا آخر في كتاب العلم أيضا قال فيه: الإقبال على الدنيا يضعف حفظ طالب العلم، وذكر حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند ابن ماجه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الدنيا همَّه؛ فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نِيَّته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا، وهي راغمة)).
وكان شيخنا رحمه الله يقول: الدنيا غيرت النيات.
فاحذر يا طالب العلم أن تصرفك الدنيا عن الطلب وعن هذا الخير العظيم، إياك أن تصرفك الضيعة والبنيان والعمران عن الطلب، ازهد في البنيان والعمران –جزاك الله خيرا- واقبل على عبادة الرحمن، بوَّب شيخنا مقبل رحمه الله في كتاب الزهد من الجامع الصحيح بابا قال فيه: الزهد في العمران، وذكر حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عند الترمذي: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أُطين حائطا لي أنا وأمي، فقال: ((ما هذا يا عبد الله))؟ فقلت: يا رسول الله، شيء أصلحه. فقال: ((الأمر أسرع من ذلك)).
فاحذر من المشاريع التجارية، واقبل على المشاريع العلمية، أين التأليف، والتصنيف، والتحقيق؟ وأين التقدم الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم الحريص؟ !!!
أين أنت من الزيادة من هذا الخير؟
لا تكن مبنيا على السكون، وربما تصير منخفضا، كن حريصا متقدما فتصير مرفوعا.
وتأسَ بنبيك صلى الله عليه سلم، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}،
وانظر إلى عظيم زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان يمر علينا الهلال ثم الهلال ثم الهلال –ثلاثة أهلة- ولا يوقد في أبيات رسول الله نارٌ.
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلُّ اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقل ما يملاً به بطنه. والدَّقل: التمر الرديء الذي نزهد فيه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، و ربما نام على الحصير حتى أثَّر على جنبه الشريف.
وخرج من الدنيا ولم يخلِّف دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا أرضاً جعلها لابن سبيل صدقة، وبغلته التي كان يركبها كما في البخاري عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه.
وكان يقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه.
وكان شيخنا رحمه الله كثيرا ما يوصي طلابه بالصبر على الجوع من أجل استمرار الطلب، ويقول: اصبروا يا أهل السنة فإن الله اختار لنبيه الفقر.
وجوب التمسك بمنهج السلف، والحذر من الحزبية المسَّاخة
يا طالب العلم، إن أجمل حُلَّةٍ ينبغي أن يكون عليها الطالب: التمسك بالهدي النبوي، والسير على منهج السلف الصالح، والعضُّ على السنة بالنواجذ، والسير على الجادة والحذر من الحزبية المسَّاخة،وذلك من العمل بالعلم، وقد كان شيخنا مقبل رحمه الله كثيرا ما يحذر طلابه من الحزبية، فبوَّب في كتاب العلم بابا قال فيه: تحذير طالب
العلم من الحزبية. وكان يقول إذا سمع من طالبه إجابة سديدة: بارك الله فيك، وأعاذك من الحزبية المساخة.
وكان يقول: أركان الحزبية ثلاثة: الكذب، والتلبيس، والخداع. وكان يقول: هي الولاء، والبراء الضيق.
فاحذر يا طالب العلم من الحزبية، ودعاتها، ومسالكها، فكم من شخص حُُرِم من خيرٍ كثير بسبب الحزبية، وكم من شخصٍ انقطع عن الطالب بسبب الحزبية، وكم من طالبٍ امتسخ بسبب الحزبية.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ
ومن حلية طالب العلم: التواضع، والحذر من الكبر والعجب والغرور، فأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين،
وجزاكم الله خيرا.
تعليق