قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 177): قال محمد بن اسحاق رحمه الله فلما هلك أبرهة ملك الحبشة يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة .
قال فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ وكان سيف يكنى أبا مرة حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو ويخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن فلم يشكه .
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم عندي حتى يكون ذلك ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القنقل ( 1 ) العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له .
فلما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطىء رأسه فقيل ذلك لسيف فقال إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء.
ثم قال أيها الملك غلبتنا على بلادنا إلا غربة قال كسرى أي إلا غربة الحبشة أم السند قال بل الحبشة فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك فقال له كسرى بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك.
ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف وكساه كسوة حسنة فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس فبلغ ذلك الملك فقال إن لهذا لشأنا ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس قال وما أصنع بحباك ما جبال أرضى التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها .
فجمع كسرى مرازبته فقال لهم ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له فقال قائل أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم وإن ظفروا كان ملكا أزددته فبعث معه كسرى من كان سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم وهرز كان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي ورجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا فقال له وهرز أنصفت.
وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز أروني ملكهم فقالوا له أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء قال نعم قالوا ذلك ملكهم فقال اتركوه قال فوقفوا طويلا ثم قال علام هو قالوا قد تحول على الفرس قال اتركوه فتركوه طويلا ثم قال علام هو قالوا على البغلة قال وهرز بنت الحمار ذل وذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فأثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاهوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به وحملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه .
وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا هذا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته فقال سيف بن ذي يزن الحميري ...
يظن الناس بالملكين ... أنهما قد التأما ...
ومن يسمع بلأ مهما ... فإن الخطب قد فقما ...
قتلنا القيل مسروقا ... وروينا الكثيب دما ...
وإن القيل قيل الناس ... وهرز مقسم قسما ...
يذوق مشعشعا حتى ... نفيء السبي والنعما ...
ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه وامتدحوه فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبدالمطلب بن هاشم فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبره بما يعلم من أمره وسيأتي ذلك مفصلا في باب البشارات به عليه الصلاة و السلام
قال ابن اسحاق وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي قال ابن هشام ويروى لأمية بن أبي الصلت ...
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... ريم في البحر للأعداء أحوالا
... يمم قيصرا لما حان رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك عمري لقد أسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم في الناس أمثالا ...
غلبا مرازبة بيضا أساورة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا ...
يرمون عن سدف كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمي إعجالا ...
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
... واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
... تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ...
يقال إن غمدان قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان وملكه بعده واحتله وائلة بن حمير بن سبأ ويقال كان ارتفاعه عشرين طبقة فالله أعلم
قال ابن اسحاق وقال عدي بن زيد الحميري وكان أحد بني تميم ...
ما بعد صنعاء كان يعمرها ... ولاة ملك جزل مواهبها ...
رفعها من بني لذي قزع المزن ... وتندى مسكا محاربها
... محفوقة بالجبال دون عرى الكائد ... ما يرتقى غواربها
... يأنس فيها صوت النهام إذا ... جاوبها بالعشى قاصبها ...
ساقت إليها الأسباب جند بني ... الأحرار فرسانها مواكبها ...
وفوزت بالبغال توسق بالحتف ... وتسعى بها توالبها ..
. حتى يراها الأقوال من طرف المنقل ... مخضرة كتائبها
... يوم ينادون آل بربر واليكسوم ... لا يفلحن هاربها .
.. فكان يوما باقي الحديث وزالت ... أمه ثابت مراتبها
... وبدل الهيج بالزرافة والأيام ... خون جم عجائبها .
.. بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها ...
قال ابن هشام وهذا الذي عنى سطيح بقوله يليه ارم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن والذي عنى شق بقوله غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن
قال ابن اسحاق وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها ارياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة إرياط ثم أبرهة ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة ما آل إليه أمر الفرس باليمن.
قال الحافظ ابن كثير في بيان بن ذي يزن في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل من تبادل الخطاب بين عبد المطلب وسيف بن ذيزن: وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه هواتف الجان حدثنا علي بن حرب حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عمرو بن بكر هو ابن بكار القعنبي عن أحمد بن القاسم عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن عبدالله بن عباس قال لما ظهر سيف بن ذي يزن قال ابن المنذر واسمه النعمان بن قيس على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنتين أتته وفود
العرب وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من حسن بلائه وأتاه فيمن أتاه وفود قريش فيهم عبدالمطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس أبي عبدالله ( 1 ) وعبدالله بن جدعان وخويلد بن أسد في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية أبي الصلت ... واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا ...
فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم فدنا عبدالمطلب فاستأذنه في الكلام فقال له إن كنت ممن يتكلم بين يدي فقد أذنا لك.
فقال له عبدالمطلب إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتك منبتا طابت أرومته وعذيت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن فأنت أبيت اللعن ملك العرب وربيعها الذي تخصب به البلاد ورأس العرب الذي له تنقاد وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد وسلفك خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف فلن يخمد من هم سلفه ولن يهلك من أنت خلفه ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته اشخصنا إليك الذي أبهجك من كشف الكرب الذي قد فدحنا وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال وايهم أنت أيها المتكلم قال أنا عبدالمطلب بن هاشم قال ابن أختنا قال نعم قال ادن فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال مرحبا وأهلا وناقة ورحلا ومستناخا سهلا وملكا ربحلا ( 2 ) يعطي عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل والنهار ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم .
ثم نهضوا إلى دار الكرامة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبدالمطلب فأدنى مجلسه وأخلاه ثم قال :
يا عبدالمطلب إني مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به ولكني رأيتك معدنه فاطلعتك طليعه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واجتجناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة فقال عبدالمطلب أيها الملك مثلك سر وبر فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر قال إذا ولد بتهامة غلام به علامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة قال عبدالمطلب أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به وافد ولولا هيبة الملك وإجلاله واعظامه لسألته من بشارته إياي ما ازداد به سرورا قال ابن ذي يزن هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد واسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن عرض ويستبيح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان ويخمد النيران يعبد الرحمن ويدحر الشيطان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله فقال عبدالمطلب أيها الملك عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك فهذا نجاري فهل الملك سار لي بافصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح فقال ابن ذي يزن والبيت ذي الحجب والعلامات على النقب انك يا عبدالمطلب لجده غير كذب فخر عبدالمطلب ساجدا فقال ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك فقال أيها الملك كان لي ابن وكنت به معجبا وعليه رفيقا فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا فمات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه قال ابن ذي يزن إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخل لهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل فهم فاعلون أو أبناؤهم ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ولولا أني أقيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على جداثة سنه أمره ولأوطأت أسنان العرب عقبه ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك .
قال ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشرة إماء وبمائة من الإبل وحلتين من البرود وبخمسة أرطال من الذهب وعشرة أرطال فضة وكرش مملوء عنبرا وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال له إذا حال الحول فأتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول فكان عبدالمطلب كثيرا ما يقول لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ولكن ليبغبطني بما يبقى لي ولعقبي ومن بعدي ذكره وفخره وشرفه فإذا قيل له متى ذلك قال سيعلم ولو بعد حين قال وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس ... جلبنا النصح تحقبه المطايا ... على أكوار أجمال ونوق ... مقلفة مراتعها تعالى ... إلى صنعاء من فج عميق ( 1 ) ... تؤم بنا ابن ذي يزن وتغري ... بذات بطونها ذم الطريق ... وترعى من مخائله بروقا ... مواصلة الوميض إلى بروق ... فلما واصلت صنعاء حلت ... بدار الملك والحسب العريق ...
وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل من طريق عمرو بن بكير بن بكار القعنبي ثم قال أبو نعيم أخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه بن محمد بن عبدالعزيز بن عفير بن عبدالعزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن حدثني أبي أبو يزن إبراهيم حدثنا عمي أحمد بن محمد أبو رجاء به حدثنا عمي محمد بن عبدالعزيز حدثني عبدالعزيز بن عفير عن أبيه عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال لما ظهر جدي سيف بن ذي يزن على الحبشة وذكره بطوله.اهـ
ولكن في الأسناد من تعلمون في أمر علامات النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق