ثمرات نشر العلم
إن لنشر العلم وتبليغه إلى محتاجيه ثمرات جليلة لا يجوز أن ينام عن طلبها طلاب العلم عموما والعلماء منهم خصوصا .
من هذه الثمرات ما يأتي :
1ـ كثرة الأجر ومضاعفته : لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " .
ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " .
ففي هذين النصين بشرى كريمة تثلج الصدور ، وتؤنس النفوس ، وتستثير همم العلماء إلى التشمير عن ساعد الجد في نشر العلم وتبليغه إلى محتاجيه بحسب القدرة والإمكان ؛ ذلك لأن ناشر العلم ومبلغه والداعي إلى ما فيه من هدى ونور سيعطى يوم القيامة من الأجر بعدد كل من اهتدى بدعوته وتبليغه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، وذلك سوى ما له من أجر عمله المختص به ، فضلا من الله ورحمة ، والله ذو الفضل العظيم ، وكفى مُبلغ العلم شرفا وفضلا أنه سعى في عمل يحبه الله ورسوله ليحشر بجوار من أحب .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :" وعلامة المحب الصادق أن يسعى في حصول محبوب محبوبه ، ويبذل جهده وطاقته فيها " .
ومعلوم أنه لا شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيصال الهدى إلى جميع الأمة فالمبلغ عنه ساع في حصول محابه ، فهو أقرب الناس منه وأحبهم إليه ، وهو نائبه وخليفته في أمته ، وكفى بهذا فضلا وشرفا للعلم وأهله .
2 ـ الفوز بصلاة الله وصلاة ملائكته وصلاة أهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر ، بدليل ما رواه الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر ليصلون على معلم الناس الخير " .
أقول : إن في هذا الحديث لأعظم باعث على المنافسة في تعليم الخلق لا سيما الذي يسكنون البوادي والهجر ، فإنهم يجهلون كل شيء من أصول الدين وفضائله لبعدهم عن أماكن أهل العلم ؛ ولعدم من يوجد بين أظهرهم كي يتخولهم بالتعليم والموعظة بين آونة وأخرى ، فانحسرت هممهم في الإشتغال بمتطلبات الجسد من مأكل ومشرب وملبس ومنكح ومسكن ومركب إلا من شاء ربك : (( وإن كل ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين )) [ الزخرف : من الآية 35 ] .
وحقا أن :" من بدا فقد جفا " كما قال صلى الله عليه وسلم .
3 ـ التأسي بأنبياء الله ورسله : وما يترتب عليه من حسن المثوبة والجزاء ، ذلك أن الله ـ تبارك وتعالى ـ بعث رسله مبشرين ومنذرين يعلمون الناس ما يجب عليهم أن يعلموه من حقوق الله وحقوق عباده ويبلغونهم ما أوحاه الله إليهم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور ، وهكذا عمل معلمي البشرية من ورثة الأنبياء والرسل ، فحصل لهم فضل التأسي حيث إنهم يحشرون مع من تأسوا بهم من أنبياء الله ورسله في دعوة الخلق إلى دين الحق وتبليغ عباد الله رسالات الله رجاء مغفرته ومرضاته وثوابه وخشية عقوبته وأليم عذابه : (( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتوّل فإن الله هو الغني الحميد )) [ الممتحنة : الآية 6 ] .
(( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) [ الأحزاب : 21 ] .
4 ـ الخروج من تبعة الكتمان : حقا لقد توعد الله من طبيعتهم كتمان العلم عن محتاجيه حيث قال عز وجل : (( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون )) [ آل عمران : 187 ] .
وقال ـ تبارك وتعالى ـ : (( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرّحيم )) [ البقرة : 159 ـ 160 ] .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " .
قال شراح الحديث : " كما ألجم لسانه عن قول الحق وإظهار العلم فإنه يعاقب في الآخرة بلجام من نار " .
وأقول : إنه ليحسن أن أسطر هنا ما قلته في تعليقي على هذا الحديث في كتابي" المنهج القويم ".
قلت هناك : " ونظرا لحال الناس في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الشرور ، وتتابعت فيه الفتن ، وتحققت فيه غربة الدين ، وانتشرت فيه وسائل الزيغ والإنحراف عن طريق الحق المبين ، وهدى رب العالمين ، فإنه يجب على كل طالب علم أن يجند نفسه ويبذل جهده في سبيل إيصال الخير والهدى والنور إلى البشرية كلها لتحيا حياة طيبة مباركة ويستيقظ الغافل من غفلته وسباته ، ويرشد الجاهل بعد جهله وضلاله .
وأن يستعمل الداعي إلى الله في ذلك أنجح الطرق وخير الوسائل وأسهل الأساليب التي تكون عونا له على انتشال أهل الجهل والغواية مما هم عليه من ذلك الجهل والضلال والغواية إلى نور العلم والفقه في الدين والهداية ، فإن نحن فعلنا ذلك رجاء ثواب الله ، وخشية عقابه ، وخروجا من التبعة ، وبراءة للذمة ، ونصحا للأمة ، فقد سلكنا طريق الهداية والرشد والبلاغ ، وإنّ هذا الصنع ليسير على من يسره الله عليه من أهل العلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين الذين يحبون إيصال الخير إلى الناس أجمعين .
أما من اتخذ العلم حرفة كغيرها من الحرف التي يتخذها أهلها وسيلة لكسب المال ، وإحراز الجاه ، ووصولا إلى كراسي الرئاسة والسلطان ، فإنه لن يهتم بنشر العلم بين محتاجيه ، ولن يفكر أبدا أن عليه لله واجبا فيه ، وسيتحمل مسئولية عظمى ، ويندم ندامة كبرى يوم يسأل كل ذي علم عما عمل فيه . اهـ .
5 ـ الظفر بالعون والمدد من الله : لأن ناشر العلم يسعى في قضاء أعظم حاجة وأمسها ألا وهي حاجة الخلق إلى الفقه في الدين ، والإخلاص في العبادة وهما ركنا قبول العمل ، وقد جاء في الحديث : " ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " . وفي لفظ : " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
6 ـ ازدياد العلم لدى من ينشره في الخلق : لأن العلم يزداد وينمو لدى صاحبه إذا هو نشره في الناس ، وقد أدرك هذه الفضيلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تأسى بهم فكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء فقال : " إن العلم كالينابيع يغشى الناس ، فيحتاجه هذا وهذا فينفع الله به غير واحد ، وإن حكمة لا يُتكلم بها كجسد لا روح فيه ، وإن علما لا يخرج ككنز لا ينفق ، وإنما مثل المعلم كمثل رجل حمل سراجا في طريق مظلم يستضيء به من مرّ به ، وكل يدعو إلى الخير " .
7 ـ الحصول على شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية المحبوبة : بدليل ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " .
قلت : ولا شك أن تعليم القرآن الذي جعله الله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين من أشرف أنواع النشر للعلم ، وأن صاحبه داخل في جملة من قال الله فيهم : (( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين )) [ فصلت : 33 ] .
8 ـ الفوز بغنيمة قيمة ألا وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لناشر العلم بالنضارة : النعمة والبهجة في الدنيا والآخرة ، جاء ذلك في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وغيرهما من حديث ابن مسعود ، وأبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .
وفي لفظ : " فرب مُبلغ أوعى من سامع " .
هذا أيها القارئ الكريم أهم ثمرات نشر العلم وتبليغه محتاجيه من الخلق ، وهي كما رأيت قد دلت عليها نصوص كريمة من الكتاب والسنة الصحيحة ، وإذا كان الأمر كذلك فهنيئا ثم هنيئا من صميم القلب لطالب العلم ومحبه وناشره بعلم وحكمة رجاء ما عند الله من الذخر الكبير والجزاء الحسن من اللطيف الخبير الذي علم بالقلم ، علم الإنسان مالم يعلم .
المصدر :
الأجوبة السديدة على الأسئلة الرشيدة لفضيلة الشيخ زيد بن محمد المدخلي حفظه الله [ ج 2 ص 248 ] .