بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يُحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..............وبعد،
فأقدّم بين يدي إخواني طلبة العلم هذه الفوائد الذهبية من شرح الأربعين النووية لشيخنا العلامة المحدث أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى- اقتطفتها من ذلك الكتاب الماتع (شرح الأربعين النووية).
هذا ، وأسال الله أن ينفعنا جميعا بهذه الفوائد وأن يجزي شيخنا خيرا ويبارك فيه وفي علمه.
وستكون هذه الفوائد على شكل سلسلة ابتداءً من الحديث الأول:
----------------------------------
.أول ما افتتح الإمام البخاري صحيحة به فقال رحمه الله:
حَدَّثَنَا الحُميدي عَبدُ الله بِن الزُّبيرِ قال َحَدَّثَنَا سُفيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحيَى بنُ سَعِيدٍ الأَنصَارِيُّ قَالَ أَخبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيِمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عََلْقَمَةَ بْنُ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه- عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقًُولُ:((إِنَّمَا ألأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَ إِ نَّمَا لِكُلِ امرئ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ))
. وأخرجه مسلم ولكن ليس في أول كتابه، كالبخاري وكثير من المصنفين، ولكن ذكره في كتاب الإمارة فقال: (باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((الأعمال بالنية)). )، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره،
. وقد جاء الحديث عن غير عمر، وما ثبت إلا عن عمر كما في ((جامع العلوم والحكم)) لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب رحمه الله، ونقل عن الخطابي أنه قال: لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في ذلك.
-----
. ولم يثبت إلا من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، ورواه عنه أعداد، منهم من قال:سبعمائة، ومنهم من قال: نحو مائتين، ومنهم من قال غير ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذه مبالغه، فقد جمعت طرق هذا الحديث من أول طلبي للعلم فلم أجد طرق هذا الحديث تصل إلى المائة.
قلت: الحاصل أنه رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري عدد كثير من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر.
-----
. ولم يثبت سبب ورود هذا الحديث أن مهاجر أم قيس هاجر لقصد الزواج بها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث، وإنما صح أن مهاجر أم قيس هاجر فتزوج تلك المرأة، فكان يقال له: مهاجر أم قيس، لكن ورود الحديث ليس من أجله كما نبه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في ((فتح الباري)) عند هذا الحديث.
-----------------
. وقوله:(( إِنَّمَا ألأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)):(إنما) أداة حصر، والمقصود بالأعمال هنا صحتها وفسادها، أي: الأعمال الشرعية المفتقرة إلى نية.
-----
. الأعمال منها ما لا يفتقر إلى نية مثل: رد الأمانات، وكذلك رد العارية، لا تحتاج إلى نية، فإن حصلت نية للاحتساب يؤجر على احتسابه، وإلا فتصح بدون نيَّة، يمكن أن يرد الأمانة وتصح بغير نية وكذلك العارية إذا أخذ صاحب الحق حقه.
--------
. وقوله:( وَ إِ نَّمَا لِكُلِ امرئ مَا نَوَى): من حيث الأجر، والإثم، فقد ينوي فعل طاعة ولا يقدر عليها، فيؤجر، وينوي فعل معصية فيعجز عنها مع السعي لحصولها، فيأثم ، ويعمل عملاً لو نوى فيه لأُجر، فلا ينوي فيه، فلا يؤجر ولا يأثم، كما سيأتي تفصيله في حديث العباس في هذه الأربعين.
----------
. ويؤتى بالنية للتفريق بين العادات والعبادات مثل التفريق بين غسل الجنابة وغسل التبرّد،
والتفريق بين الصوم الشرعي والصوم لقصد الحمية،
والتفريق بين الرياضة وبين الصلاة ...الخ.
وكذلك لتميز العبادات بعضها عن بعض:
تمييز فرض عن فرض، كمن صلى مثلاً الظهر مع العصر،
وكذلك تمييز النافلة عن الفريضة،
وتمييز الزكاة عن صدقه التطوع، فلو أخرج مالاً لقصد التطوع لا تجزئه عن الزكاة،
وتمييز شهر رمضان عن غيره من الصيام،
وتمييز القضاء عن صيام التطوع، فلو صام تطوعاً لم يُجزئه عن قضاء صيام رمضان إلا أن ينوي قضاء رمضان،
وتمييز حج الفريضة عن النافلة.
---------------
. ويُقصد بالنية على المعنى الثاني تمييز المقصود بالعمل من غيره هل هو الله عز وجل أو غيره، وهذا الذي يُعنى به عند أهل العلم الإخلاص الذي هو شرط في صحة العمل، لقول الله تعالى في الحديث القدسي:((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وقال تعالى:(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعباده ربه أحداً)، ويقول تعالى:(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلـاها مذموماً مدحوراً(18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئِك كان سعيهم مشكوراً)، وقوله:(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون(15)أولئِِك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا وباطلٌ ما كانوا يعملون).
---------
. من شرع في العمل لا يقصد به وجه الله، فعمله محبوط وهو مشرك، قال تعالى:(إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى(20) ولسوف يرضى)، وفي حديث الثلاثة أصحب الغار كان أحدهم يقول:((إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)).
----------
. قال أبو الحسن طاهر بن مفوز المعافري الشاطبي – رحمه الله- : هذا الحديث وثلاثة أحاديث معه تُعتبر عمدة الدين، وجمعها في قوله:
. وجاء عن الإمام أحمد: إن عمدة الدين ثلاثة أحاديث:
الأول: حديث عائِشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)).
الثاني: حديث النــعمان بن بشير،أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات)).....الخ.
الثالث: وهو أعظمها حديث:((إنما الأعمال بالنيات)) الذي نحن في صدد شرحه، ولا مانع أن تكون كلها عمدة الدين، وأكثر من ذلك، مثل حديث:((الدين النصيحة)) ونحوه.
------------
. قوله: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إِلى ما هاجر إليه)).
. والهجرة أقسام:
هجرة المعاصي،
وهجرة المتعمدين للمعاصي،
وهجرة بلد المعاصي وهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام خوف الفتنه، وطلب إقامة الدين، ولكل منها تفصيل في أبوابه من كتب الفقه.
أمَّا هجرة المعاصي فواجبة على كل مسلم، وقد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو وهو في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))، ومن حديث عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل أي الهجرة أفضل؟ قال:((أن تهجر ما كره ربك عز وجل)) ومن لم يهجر المعاصي فهو ضال بقدر اقترافه منها، قال الله تعالى:{ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا ًمبينا}.
ومنها ما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وهو حديث صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادي، فهجرة البادي أن يطيع إذا أُمر وأن يجيب إذا دعي، وهجرة الحاضر أعظم أجراً وأعظم بليَّةً))،
و ثبت عند أحمد وغيره من حديث فضالة بن عبيد أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))، قال أهل العلم عند هذا الحديث: هذه أفضل هجرة بعد الهجرة من بلد الكفر إلى بلد المعاصي،
فلهذا ممكن أن تهاجر ولو لم تتيسر لك الهجرة، تهجر ما حرم الله، فأنت مهاجر كما في الحديث، وتقبل على عبادة الله عز وجل في الفتن، كما في حديث معقل في الصحيح: ((العبادة في الهرج كهجرةٍ إلىَّ))،
-------------
. هنيئاً لمن وفق للعبادة: من طلب العلم، وقيام الليل، والدعاء لله سبحانه وتعالى في الفتن،
----------------
. والهجرة فضلها عظيم جداً، وهي من أسباب السعة في الرزق وغيره، قال سبحانه وتعالى:ومن يجاهد في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيماً.
----------------
. وهجرة بلد المعاصي وليست الأرض كافرة؛ لأنه ممكن ذلك البلد يصير بلد إسلام، وإنما المقصود بها بلد كفر أن الأكثر فيها كفار من الحكام والمحكومين؛ الأصل فيها الكفر فيقال بلاد كفر، أو كانت بدعة لا يستطيع الإنسان أن يقيم دينه في ذلك المكان؛ فالهجرة واجبة من ذلك البلد،
جاء حديث:((أنا بريء ممن أقام بين ظهراني الكفار))، وهكذا قول الله سبحانه:إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً.
وجاء في صحيح البخاري أن هؤلاء كانوا مسلمين ولكن يُقيمون بين المشركين ويُكَثِّرُون من سوادهم ويخرجون معهم للغزو وإذا رمى المسلمون رموا فيهم، وهكذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم استدلوا بهذه الآية على وجوب الخروج من ظهراني الكفار،
وأنا أعتقد أن الذين يذهبون غربه في بلاد الغرب أنهم آثمون على بقائهم وعلى ذهابهم لغير حاجة مُلِحَّة، آثمون يذهبون ويخالطون المعاصي، ويتأثرون بالكفار بأقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم ولِباسهم، وأُمور يندى لها الجبين يا إخوان، من الفساد الذي لا يُستطاع تغييره، ومن ذلك ما ذكر في تلك الرسالة الصغيرة ((مشاهداتي في بريطانيا))، حسب ما رأيناه هُناك ذكَرْناه للعبرة.
------------------
. أذكر أن الشيخ مقبل رحمه الله تعالى قال:(الرجوع إلى أمريكا والموت عندي سيان)، هكذا أخبروني، قال لما فيها من الفساد، ولما فيها من الشر، والذي يذهب يرى الشر والفساد ما إن تنزل في المطار إلا وترى العراة، وأنواع الفساد.
-----------------------
. والهجرة لإقامة دين الله الحق من هدي الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه:
هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، وهاجر الصحابة إلى الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية،
هاجر إبراهيم كما في الصحيح بزوجته، وَمَرُّوا على ذلك الجبار... القصة الخ،
وهاجر أيضاً لوطفامن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم،قالوا: الضمير يعود إلى لوط،
وهاجر موسىولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل،
--------------------
. فالهجرة مشروعة، بل واجبة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام إلى ما هو أخف ضرراً ومن بلاد البدعة إلى بلاد السنة، هذا فضلها، لا يتسع الوقت لذكر فضلها، فقد جاء من حديث أبي فاطمة(( عليك بالهجرة؛ فإنها لا مثل لها)).
--------------------
. والمهاجر لابد له من نية؛ لحديث:((إنما الأعمال بالنيات))، ومن أجل ذلك ذكر البخاري هذا الحديث في مواضع منها: ]كتاب الهجرة [، والهجرة عبادة من العبادات الجليلة،
------------------
. والهجرة مستمرة إلى قيام الساعة كما في حديث معاوية بن أبي سفيان:((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))، أخرجه أبو داود في الباب الثاني من كتاب الجهاد، وصح عند أحمد في المسند من حديث جنادة بن أبي أمية أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد))، وثبت أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن وقدان ذكرته في ((صحيح المفاريد))، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)).
وأما حديث:((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)) متفق عليه من حديث أبن عباس، وعائشة، وأخرجه البخاري من حديث ابن عمر مختصرا كما في كتاب( مناقب الأنصار: باب هجرة النبي وأصحابه)،
المقصود: لا هجرة أتم ولا أكمل كتلك الهجرة التي حصلت من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
وقيل لا هجرة من مكة إلى غيرها؛ لأنها صارت دار إسلام، والأول أقوى،
وقيل: كانت قبل أن يهاجر النبي-صلى الله عليه وسلم- مستحبة فقط؛ لقوله تعالىومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ثم بعد أن هاجر النبي-صلى الله عليه وسلم- صارت واجبة بعد ذلك للتعلم من النبي ولتأييده ولنصرته؛ لقوله سبحانهإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئِك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وأن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير، فلذلك صارت واجبة ثم بعد فتح مكة صارت مندوبة،
-----------------
. والمرأة لها أن تهاجر ولو بدون محرم بالإجماع، كما نقله ابن الملقن وغيره، قال تعالىيأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن، وهذا مُستثنى من حديث:((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)).
-------------------
. والمهاجر لا يجوز له الرجوع إلى بلده للبقاء فيه إلا ثلاثة أيام لحديث العلاء بن الحضرمي أن النبي أذن لهم بعد الصدر ثلاثا، ولحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((لكن البائس سعد بن خوله يرثي له رسول الله أن مات بمكة))، قال الشَّراح: أي أنه رجع إلى مكة بعد أن هاجر منها، وكان يبكي عند ما مرض بمكة خائفاً لأن يموت في مكان خرج منه،
ولذا ننصح إخواننا الذين يأتون هجرة أن يأتوا بنية طلب العلم؛ لأنهم ربما يرجعون إلى بلدانهم، أو تتغير الأحوال بعد الهجرة فيكون فاعل ذلك مرتكباً لكبيرة، أو يحصل ما يضطرهم للخروج من ذلك البلد الذي هاجروا إليه، والقوانين الدولية ما تعرف معنى مهاجر، أو يعزم أنه على ألا يعود، وجزاه الله خيرا.
--------------------
. هجرة أهل المعاصي، وهم يتفاوتون، منهم من يكون مبتدعاً، فهجره أمر مطلوب، وعليه أدلة الكتاب والسنة، وطريقة السلف رضوان الله عليهم، مثل حديث أبي موسى، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه و إما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة))،
وقوله-صلى الله عليه وسلم-:((من سمع بالدجال فلينأ عنه...))، أي: يبتعد عنه ويهجره،
وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-:((ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم))، قال بعض أهل العلم: لا ينبغي السلام على أهل الأهواء؛ لأن ذلك يدعوا إلى المحبة ولا محبة بين أهل السنة وأهل الأهواء، قال سبحانه وتعالى:{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئِك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئِك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}.
وعبد الله بن مغفل نهى قريباً له عن الخذف، وقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، وقال:((إنها لا يصاد به صيداً ولا ينكى به عدو، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين))، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له عبد الله: أحدثك أن رسول الله نهى عنه ثم عدت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا. متفق عليه. فهجر قريباً له وما هو مبتدع، ولكن حصلت منه المخالفة لهذا الدليل فَهَجَرَهُ،
والنبي-صلى الله عليه وسلم- هجر كعب بن مالك؛ وما عمل كعب بدعة،
------------------------------
. وليس في الصحابة رضوان الله عليهم مبتدع، وأما ذو الخويصرة الخارجي الذي قال لرسول الله أعدل يا محمد، والله إن هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، فقد نقل النووي وغيره أنه كان منافقاً، وأن أهل الإيمان ظاهراً وباطناً لا يتخاطبون مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الخطاب المتضمن للطعن في رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بعدم الإخلاص، وعدم العدالة وإنما حصلت من أولئك الثلاثة وهم: كعب، وهلال بن أميه، ومرارة بن الربيع الذين -تجمعهم كلمة (مكة) مخالفة- وهي أنهم ما غزوا مع النبي-صلى الله عليه وسلم- تبوك، فَهَجَرَهُم حتى نزل القرآن بتوبتهم.
أمر ابن سيرين إخراج ذلك المبتدع ولم يكلمه، وقال: ما أراك إلا مبتدعاً،
وأيوب قال للذي أراد أن يكلمه: ولا نصف كلمة اذهب إلى شاكٍ مثلك؛ فإني على ثبات من ديني. إلى آخر أقوالهم التي يطول ذكرها،
------------------
. وهجر أهل الأهواء أجمع على شرعيته أهل السنة.
------------------
. وبما أنه قد يصعب حصر فوائد هذا الحديث، فنذكر ما قاله الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان، قال: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه: الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام.اهـ
فأقدّم بين يدي إخواني طلبة العلم هذه الفوائد الذهبية من شرح الأربعين النووية لشيخنا العلامة المحدث أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى- اقتطفتها من ذلك الكتاب الماتع (شرح الأربعين النووية).
هذا ، وأسال الله أن ينفعنا جميعا بهذه الفوائد وأن يجزي شيخنا خيرا ويبارك فيه وفي علمه.
وستكون هذه الفوائد على شكل سلسلة ابتداءً من الحديث الأول:
----------------------------------
الحديث الأول: (حديث إنما الأعمال بالنيات)
.أول ما افتتح الإمام البخاري صحيحة به فقال رحمه الله:
حَدَّثَنَا الحُميدي عَبدُ الله بِن الزُّبيرِ قال َحَدَّثَنَا سُفيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحيَى بنُ سَعِيدٍ الأَنصَارِيُّ قَالَ أَخبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيِمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عََلْقَمَةَ بْنُ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه- عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقًُولُ:((إِنَّمَا ألأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَ إِ نَّمَا لِكُلِ امرئ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ))
. وأخرجه مسلم ولكن ليس في أول كتابه، كالبخاري وكثير من المصنفين، ولكن ذكره في كتاب الإمارة فقال: (باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((الأعمال بالنية)). )، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره،
. وقد جاء الحديث عن غير عمر، وما ثبت إلا عن عمر كما في ((جامع العلوم والحكم)) لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب رحمه الله، ونقل عن الخطابي أنه قال: لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في ذلك.
-----
. ولم يثبت إلا من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، ورواه عنه أعداد، منهم من قال:سبعمائة، ومنهم من قال: نحو مائتين، ومنهم من قال غير ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذه مبالغه، فقد جمعت طرق هذا الحديث من أول طلبي للعلم فلم أجد طرق هذا الحديث تصل إلى المائة.
قلت: الحاصل أنه رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري عدد كثير من طريق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر.
-----
. ولم يثبت سبب ورود هذا الحديث أن مهاجر أم قيس هاجر لقصد الزواج بها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث، وإنما صح أن مهاجر أم قيس هاجر فتزوج تلك المرأة، فكان يقال له: مهاجر أم قيس، لكن ورود الحديث ليس من أجله كما نبه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في ((فتح الباري)) عند هذا الحديث.
-----------------
. وقوله:(( إِنَّمَا ألأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)):(إنما) أداة حصر، والمقصود بالأعمال هنا صحتها وفسادها، أي: الأعمال الشرعية المفتقرة إلى نية.
-----
. الأعمال منها ما لا يفتقر إلى نية مثل: رد الأمانات، وكذلك رد العارية، لا تحتاج إلى نية، فإن حصلت نية للاحتساب يؤجر على احتسابه، وإلا فتصح بدون نيَّة، يمكن أن يرد الأمانة وتصح بغير نية وكذلك العارية إذا أخذ صاحب الحق حقه.
--------
. وقوله:( وَ إِ نَّمَا لِكُلِ امرئ مَا نَوَى): من حيث الأجر، والإثم، فقد ينوي فعل طاعة ولا يقدر عليها، فيؤجر، وينوي فعل معصية فيعجز عنها مع السعي لحصولها، فيأثم ، ويعمل عملاً لو نوى فيه لأُجر، فلا ينوي فيه، فلا يؤجر ولا يأثم، كما سيأتي تفصيله في حديث العباس في هذه الأربعين.
----------
. ويؤتى بالنية للتفريق بين العادات والعبادات مثل التفريق بين غسل الجنابة وغسل التبرّد،
والتفريق بين الصوم الشرعي والصوم لقصد الحمية،
والتفريق بين الرياضة وبين الصلاة ...الخ.
وكذلك لتميز العبادات بعضها عن بعض:
تمييز فرض عن فرض، كمن صلى مثلاً الظهر مع العصر،
وكذلك تمييز النافلة عن الفريضة،
وتمييز الزكاة عن صدقه التطوع، فلو أخرج مالاً لقصد التطوع لا تجزئه عن الزكاة،
وتمييز شهر رمضان عن غيره من الصيام،
وتمييز القضاء عن صيام التطوع، فلو صام تطوعاً لم يُجزئه عن قضاء صيام رمضان إلا أن ينوي قضاء رمضان،
وتمييز حج الفريضة عن النافلة.
---------------
. ويُقصد بالنية على المعنى الثاني تمييز المقصود بالعمل من غيره هل هو الله عز وجل أو غيره، وهذا الذي يُعنى به عند أهل العلم الإخلاص الذي هو شرط في صحة العمل، لقول الله تعالى في الحديث القدسي:((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وقال تعالى:(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعباده ربه أحداً)، ويقول تعالى:(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلـاها مذموماً مدحوراً(18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئِك كان سعيهم مشكوراً)، وقوله:(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون(15)أولئِِك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا وباطلٌ ما كانوا يعملون).
---------
. من شرع في العمل لا يقصد به وجه الله، فعمله محبوط وهو مشرك، قال تعالى:(إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى(20) ولسوف يرضى)، وفي حديث الثلاثة أصحب الغار كان أحدهم يقول:((إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)).
----------
. قال أبو الحسن طاهر بن مفوز المعافري الشاطبي – رحمه الله- : هذا الحديث وثلاثة أحاديث معه تُعتبر عمدة الدين، وجمعها في قوله:
عمدة الدين عندنا كلمات **** أتق الشبهات وازهد ودع
أربع من كلام خير البرية **** ما ليس يعنيك واعملن بنية
----------------------أربع من كلام خير البرية **** ما ليس يعنيك واعملن بنية
. وجاء عن الإمام أحمد: إن عمدة الدين ثلاثة أحاديث:
الأول: حديث عائِشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :(( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)).
الثاني: حديث النــعمان بن بشير،أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات)).....الخ.
الثالث: وهو أعظمها حديث:((إنما الأعمال بالنيات)) الذي نحن في صدد شرحه، ولا مانع أن تكون كلها عمدة الدين، وأكثر من ذلك، مثل حديث:((الدين النصيحة)) ونحوه.
------------
. قوله: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إِلى ما هاجر إليه)).
. والهجرة أقسام:
هجرة المعاصي،
وهجرة المتعمدين للمعاصي،
وهجرة بلد المعاصي وهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام خوف الفتنه، وطلب إقامة الدين، ولكل منها تفصيل في أبوابه من كتب الفقه.
أمَّا هجرة المعاصي فواجبة على كل مسلم، وقد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو وهو في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))، ومن حديث عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل أي الهجرة أفضل؟ قال:((أن تهجر ما كره ربك عز وجل)) ومن لم يهجر المعاصي فهو ضال بقدر اقترافه منها، قال الله تعالى:{ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا ًمبينا}.
ومنها ما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وهو حديث صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادي، فهجرة البادي أن يطيع إذا أُمر وأن يجيب إذا دعي، وهجرة الحاضر أعظم أجراً وأعظم بليَّةً))،
و ثبت عند أحمد وغيره من حديث فضالة بن عبيد أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))، قال أهل العلم عند هذا الحديث: هذه أفضل هجرة بعد الهجرة من بلد الكفر إلى بلد المعاصي،
فلهذا ممكن أن تهاجر ولو لم تتيسر لك الهجرة، تهجر ما حرم الله، فأنت مهاجر كما في الحديث، وتقبل على عبادة الله عز وجل في الفتن، كما في حديث معقل في الصحيح: ((العبادة في الهرج كهجرةٍ إلىَّ))،
-------------
. هنيئاً لمن وفق للعبادة: من طلب العلم، وقيام الليل، والدعاء لله سبحانه وتعالى في الفتن،
----------------
. والهجرة فضلها عظيم جداً، وهي من أسباب السعة في الرزق وغيره، قال سبحانه وتعالى:ومن يجاهد في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيماً.
----------------
. وهجرة بلد المعاصي وليست الأرض كافرة؛ لأنه ممكن ذلك البلد يصير بلد إسلام، وإنما المقصود بها بلد كفر أن الأكثر فيها كفار من الحكام والمحكومين؛ الأصل فيها الكفر فيقال بلاد كفر، أو كانت بدعة لا يستطيع الإنسان أن يقيم دينه في ذلك المكان؛ فالهجرة واجبة من ذلك البلد،
جاء حديث:((أنا بريء ممن أقام بين ظهراني الكفار))، وهكذا قول الله سبحانه:إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً.
وجاء في صحيح البخاري أن هؤلاء كانوا مسلمين ولكن يُقيمون بين المشركين ويُكَثِّرُون من سوادهم ويخرجون معهم للغزو وإذا رمى المسلمون رموا فيهم، وهكذا كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم استدلوا بهذه الآية على وجوب الخروج من ظهراني الكفار،
وأنا أعتقد أن الذين يذهبون غربه في بلاد الغرب أنهم آثمون على بقائهم وعلى ذهابهم لغير حاجة مُلِحَّة، آثمون يذهبون ويخالطون المعاصي، ويتأثرون بالكفار بأقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم ولِباسهم، وأُمور يندى لها الجبين يا إخوان، من الفساد الذي لا يُستطاع تغييره، ومن ذلك ما ذكر في تلك الرسالة الصغيرة ((مشاهداتي في بريطانيا))، حسب ما رأيناه هُناك ذكَرْناه للعبرة.
------------------
. أذكر أن الشيخ مقبل رحمه الله تعالى قال:(الرجوع إلى أمريكا والموت عندي سيان)، هكذا أخبروني، قال لما فيها من الفساد، ولما فيها من الشر، والذي يذهب يرى الشر والفساد ما إن تنزل في المطار إلا وترى العراة، وأنواع الفساد.
-----------------------
. والهجرة لإقامة دين الله الحق من هدي الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه:
هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، وهاجر الصحابة إلى الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية،
هاجر إبراهيم كما في الصحيح بزوجته، وَمَرُّوا على ذلك الجبار... القصة الخ،
وهاجر أيضاً لوطفامن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم،قالوا: الضمير يعود إلى لوط،
وهاجر موسىولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل،
--------------------
. فالهجرة مشروعة، بل واجبة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام إلى ما هو أخف ضرراً ومن بلاد البدعة إلى بلاد السنة، هذا فضلها، لا يتسع الوقت لذكر فضلها، فقد جاء من حديث أبي فاطمة(( عليك بالهجرة؛ فإنها لا مثل لها)).
--------------------
. والمهاجر لابد له من نية؛ لحديث:((إنما الأعمال بالنيات))، ومن أجل ذلك ذكر البخاري هذا الحديث في مواضع منها: ]كتاب الهجرة [، والهجرة عبادة من العبادات الجليلة،
------------------
. والهجرة مستمرة إلى قيام الساعة كما في حديث معاوية بن أبي سفيان:((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))، أخرجه أبو داود في الباب الثاني من كتاب الجهاد، وصح عند أحمد في المسند من حديث جنادة بن أبي أمية أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد))، وثبت أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن وقدان ذكرته في ((صحيح المفاريد))، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)).
وأما حديث:((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)) متفق عليه من حديث أبن عباس، وعائشة، وأخرجه البخاري من حديث ابن عمر مختصرا كما في كتاب( مناقب الأنصار: باب هجرة النبي وأصحابه)،
المقصود: لا هجرة أتم ولا أكمل كتلك الهجرة التي حصلت من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
وقيل لا هجرة من مكة إلى غيرها؛ لأنها صارت دار إسلام، والأول أقوى،
وقيل: كانت قبل أن يهاجر النبي-صلى الله عليه وسلم- مستحبة فقط؛ لقوله تعالىومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ثم بعد أن هاجر النبي-صلى الله عليه وسلم- صارت واجبة بعد ذلك للتعلم من النبي ولتأييده ولنصرته؛ لقوله سبحانهإن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئِك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وأن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير، فلذلك صارت واجبة ثم بعد فتح مكة صارت مندوبة،
-----------------
. والمرأة لها أن تهاجر ولو بدون محرم بالإجماع، كما نقله ابن الملقن وغيره، قال تعالىيأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن، وهذا مُستثنى من حديث:((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)).
-------------------
. والمهاجر لا يجوز له الرجوع إلى بلده للبقاء فيه إلا ثلاثة أيام لحديث العلاء بن الحضرمي أن النبي أذن لهم بعد الصدر ثلاثا، ولحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال:((لكن البائس سعد بن خوله يرثي له رسول الله أن مات بمكة))، قال الشَّراح: أي أنه رجع إلى مكة بعد أن هاجر منها، وكان يبكي عند ما مرض بمكة خائفاً لأن يموت في مكان خرج منه،
ولذا ننصح إخواننا الذين يأتون هجرة أن يأتوا بنية طلب العلم؛ لأنهم ربما يرجعون إلى بلدانهم، أو تتغير الأحوال بعد الهجرة فيكون فاعل ذلك مرتكباً لكبيرة، أو يحصل ما يضطرهم للخروج من ذلك البلد الذي هاجروا إليه، والقوانين الدولية ما تعرف معنى مهاجر، أو يعزم أنه على ألا يعود، وجزاه الله خيرا.
--------------------
. هجرة أهل المعاصي، وهم يتفاوتون، منهم من يكون مبتدعاً، فهجره أمر مطلوب، وعليه أدلة الكتاب والسنة، وطريقة السلف رضوان الله عليهم، مثل حديث أبي موسى، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه و إما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة))،
وقوله-صلى الله عليه وسلم-:((من سمع بالدجال فلينأ عنه...))، أي: يبتعد عنه ويهجره،
وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-:((ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم))، قال بعض أهل العلم: لا ينبغي السلام على أهل الأهواء؛ لأن ذلك يدعوا إلى المحبة ولا محبة بين أهل السنة وأهل الأهواء، قال سبحانه وتعالى:{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئِك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئِك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}.
وعبد الله بن مغفل نهى قريباً له عن الخذف، وقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، وقال:((إنها لا يصاد به صيداً ولا ينكى به عدو، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين))، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له عبد الله: أحدثك أن رسول الله نهى عنه ثم عدت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا. متفق عليه. فهجر قريباً له وما هو مبتدع، ولكن حصلت منه المخالفة لهذا الدليل فَهَجَرَهُ،
والنبي-صلى الله عليه وسلم- هجر كعب بن مالك؛ وما عمل كعب بدعة،
------------------------------
. وليس في الصحابة رضوان الله عليهم مبتدع، وأما ذو الخويصرة الخارجي الذي قال لرسول الله أعدل يا محمد، والله إن هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، فقد نقل النووي وغيره أنه كان منافقاً، وأن أهل الإيمان ظاهراً وباطناً لا يتخاطبون مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الخطاب المتضمن للطعن في رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بعدم الإخلاص، وعدم العدالة وإنما حصلت من أولئك الثلاثة وهم: كعب، وهلال بن أميه، ومرارة بن الربيع الذين -تجمعهم كلمة (مكة) مخالفة- وهي أنهم ما غزوا مع النبي-صلى الله عليه وسلم- تبوك، فَهَجَرَهُم حتى نزل القرآن بتوبتهم.
أمر ابن سيرين إخراج ذلك المبتدع ولم يكلمه، وقال: ما أراك إلا مبتدعاً،
وأيوب قال للذي أراد أن يكلمه: ولا نصف كلمة اذهب إلى شاكٍ مثلك؛ فإني على ثبات من ديني. إلى آخر أقوالهم التي يطول ذكرها،
------------------
. وهجر أهل الأهواء أجمع على شرعيته أهل السنة.
------------------
. وبما أنه قد يصعب حصر فوائد هذا الحديث، فنذكر ما قاله الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان، قال: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه: الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام.اهـ
تعليق