الباب السابع والعشرون: فيمن ترك محبوبه حراما فبذل له حلالا
أو أعاذه الله خيرا منه
أو أعاذه الله خيرا منه
عنوان هذا الباب وقاعدته أن من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه كما ترك يوسف الصديق عليه
السلام امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فعوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث
يشاء وأتته المرأة صاغرة سائلة راغبة في الوصل الحلال فتزوجها فلما دخل بها قال هذا خير مما
كنت تريدين فتأمل كيف جزاه الله سبحانه وتعالى على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها
حيث يشاء وأذل له العزيز امرأته وأقرت المرأة والنسوة ببراءته وهذه سنته تعالى في عباده قديما
وحديثا إلى يوم القيامة ولما عقر سليمان بن داود عليهم السلام الخيل التي شغلته عن صلاة العصر
حتى غابت الشمس سخر الله له الريح يسير على متنها حيث أراد ولما ترك المهاجرون ديارهم لله
وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها
ولو اتقى الله السارق وترك سرقة المال المعصوم لله لآتاه الله مثله حلالا قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا اتقاه بترك أخذ
مالا يحل له رزقه الله من حيث لا يحتسب وكذلك الزاني لو ترك ركوب ذلك الفرج حراما لله لأثابه الله
بركوبه أو ركوب ما هو خير منه حلالا
وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة عن حذيفة
بن اليمان رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة إلى المرأة سهم من سهام
إبليس مسموم من تركه خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه
وقال عمر بن شبة حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا عنبسة بن عبدالرحمن حدثنا أبو الحسن
المدني عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نظر الرجل في محاسن
المرأة سهم من سهام إبليس مسموم فمن أعرض عن ذلك السهم أعقبه الله عبادة تسره "
وقال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى بلغني عن بعض الأشراف أنه اجتاز بمقبرة فإذا جارية
حسناء عليها ثياب سواد فنظر إليها فعلقت بقلبه فكتب إليها
قد كنت أحسب أن الشمس واحدة والبدر في منظر بالحسن موصوف
حتى رأيتك في أثواب ثاكلة سود وصدغك فوق الخد معطوف
فرحت والقلب مني هائم دنف والكبد حرى ودمع العين مذروف
ردي الجوب ففيه الشكر واغتنمي وصل المحب الذي بالحب مشغوف
ورمى بالرقعة إليها فلما قرأتها كتبت
إن كنت ذا حسب زاك وذا نسب إن الشريف بغض الطرف معروف
إن الزناة أناس لا خلاق لهم فاعلم بأنك يوم الدين موقوف
واقطع رجاك لحاك الله من رجل فإن قلبي عن الفحشاء مصروف
فلما قرأ الرقعة زجر نفسه وقال أليس امرأة تكون أشجع منك ثم تاب ولبس مدرعة من الصوف
والتجأ إلى الحرم فبينا هو في الطواف يوما وإذا بتلك الجارية عليها درع من صوف فقالت له ما
أليق هذا بالشريف هل لك في المباح فقال قد كنت أروم هذا قبل أن أعرف الله وأحبه والآن قد شغلني
حبه عن حب غيره فقالت له أحسنت ثم طافت وهي تنشد
فطفنا فلاحت في الطواف لوائح غنينا بها عن كل مرأى ومسمع
وقال الحسن البصري كانت امرأة بغي قد فاقت أهل عصرها في الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة
دينار وإن رجلا أبصرها فأعجبته فذهب فعمل بيديه وعالج فجمع مائة دينار فجاء فقال إنك قد
أعججبتني فانطلقت فعملت بيدي وعالجت حتى جمعت مائة دينار فقالت ادفعها إلى القهرمان حتى
ينقدها ويزنها فلما فعل قالت ادخل وكان لها بيت منجد وسرير من ذهب فقالت هلم لك فلما جلس
منها مجلس الخائن تذكر مقامه بين يدي الله فأخذته رعدة وطفئت شهوته فقال أتركيني لأخرج ولك
المائة دينار فقالت ما بدا لك وقد رأيتني كما زعمت فأعجبتك فذهبت فعالجت وكدحت حتى جمعت
مائة دينار فلما قدرت علي فعلت الذي فعلت فقال ما حملني على ذلك إلا الفرق من الله وذكرت مقامي
بين يديه قالت إن كنت صادقا فمالي زوج غيرك قال ذريني لأخرج قالت لا إلا أن تجعل لي عهدا أن
تتزوجني فقال لا حتى أخرج قالت عليك عهد الله إن إنا أتيتك أن تتزوجني قال لعل فتقنع بثوبه ثم
خرج إلى بلده وارتحلت المرأة بدنياها نادمة على ما كان منها حتى قدمت بلده فسألت عن اسمه
ومنزله فدلت عليه فقيل له الملكة جاءت بنفسها تسأل عنك فلما رآها شهق شهقة فمات فأسقط في
يدها فقالت أما هذا فقد فاتني أما له من قريب قيل بلى أخوه رجل فقير فقالت إني أتزوجك حبا لأخيك
قال فتزوجته فولدت له سبعة أبناء
وقال يحيى بن عامر التيمي خرج رجل من الحي حاجا فورد بعض المياه ليلا فإذا هو بامرأة ناشرة
شعرها فأعرض عنها فقالت له هلم إلي فلم تعرض عني فقال إني أخاف الله رب العالمين فتجلببت ثم
قالت هبت والله مهابا إن أولى من شركك في الهيبة لمن أراد أن يشركك في المعصية ثم ولت فتبعها
فدخلت بعض خيام الأعراب قال فلما أصبحت أتيت رجلا من القوم فسألته عنها وقلت فتاة صفتها كذا
وكذا فقال هي والله ابنتي فقلت هل أنت مزوجي بها فقال على الأكفاء فمن أنت فقلت رجل من تيم الله
قال كفو كريم فما رمت حتى تزوجتها ودخلت بها ثم قلت جهزوها إلى قدومي من الحج فلما قدمنا
حملتها إلى الكوفة وهاهي ذي ولي منها بنون وبنات قالفقلت لها ويحك ما كان تعرضك لي حينئذ
فقالت يا هذا ليس للنساء خير من الأزواج فلا تعجبن من امرأة تقول هويت فوالله لو كان عند بعض
السودان ما تريده من هواها لكان هو هواها
وقال الحسن بن زيد ولينا بديار مصر رجل فوجد على بعض عماله فحبسه وقيده فأشرفت عليه ابنة
الوالي فهويته فكتبت إليه
أيها الرامي بعينيه وفي الطرف الحتوف
إن ترد وصلا فقد أمكنك الظبي الألوف
فأجابها الفتى
إن تريني زاني العينين فالفرج عفيف
ليس إلا النظر الفا تر والشعر الظريف
فأجابته
قد أردناك فألفيناك إنسانا عفيفا
فتأبيت فلا زلت لقيديك حليفا
فأجابها
ما تأبيت لأني كنت للظبي عيوفا
غير أني خفت ربا كان بي برا لطيفا
فذاع الشعر وبلغت القصة الوالي فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه
وذكر أن رجلا أحب امرأة وأحبته فاجتمعا فراودته المرأة عن نفسه فقال إن أجلي ليس بيدي وأجلك
ليس بيدك فربما كان الأجل قد دنا فنلقى الله عاصيين فقالت صدقت فتابا وحسنت حالهما وتزوجت به
وذكر بكر بن عبد الله المزني أن قصابا ولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها إلى حاجة في قرية
أخرى فتبعها فراودها عن نفسها فقالت لا تفعل لأنا أشد حبا لك مني ولكني أخاف الله قال فأنت
تخافينه وأنا لا أخافه فرجع تائبا فأصابه العطش حتى كاد ينقطع عنقه فإذا هو برسول لبني إسرائيل
فسأله فقال مالك قال العطش فقال تعال حتى ندعو الله حتى تظلنا سحابة حتى ندخل القرية قال مالي
من عمل فأدعوه قال فأنا أدعوه وأمن أنت فدعا وأمن الرجل فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية
فذهب القصاب إلى مكانه فرجعت السحابة معه فرجع إليه الرسول فقال زعمت أن ليس لك عمل وأنا
الذي دعوت وأنت أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك لتخبرني ما أمرك فأخبره فقال الرسول إن التائب إلى
الله يمكان ليس أحد من الناس بمكانه
وقال يحيى بن أيوب كان بالمدينة فتى بعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه شأنه فانصرف ليلة من
صلاة العشاء فتمثلت له امرأة بين يديه فعرضت له بنفسها ففتن بها ومضت فأتبعها حتى وقف على
بابها فأبصر وجلا عن قلبه وحضرته هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فخر مغشيا عليه فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت فلم تزل هي وجارية لها
يتعاونان عليه حتى ألقياه على باب داره فخرج أبوه فرآه ملقى على باب الدار لما به فحمله وأدخله
فأفاق فسأله ما أصابك يا بني فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره فلما تلا الآية شهق شهقة فخرجت
نفسه فبلغ عمر رضي الله عنه قصته فقال ألا آذنتموني بموته فذهب حتى وقف على قبره فنادى يا
فلان {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فسمع صوتا من داخل القبر قد أعطاني ربي يا عمر
وذكر الحسن هذه القصة عن عمر رضي الله عنه على وجه آخر قال كان شاب على عهد عمر
بن الخطاب رضي الله عنه ملازما للمسجد والعبادة فهويته جارية فحدث نفسه بها ثم إنه تذكر
وأبصر فشهق شهقة فغشي عليه منها فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال يا عم انطلق إلى
عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه فأخبر عمر فأتاه وقد مات فقال لك
جنتان
وفي جامع الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"كان ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد
منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال ما يبكيك أكرهتك قالت لا ولكن هذا عمل لم أعمله
وإنما حملتني عليه الحاجة قال فتفعلين هذا وأنت لم تفعليه قط ثم قال اذهبي والدنانير لك ثم قال والله
لا يعصي الله ذوالكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله لذي الكفل" قال
الترمذي هذا حديث حسن
وقال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته فقال
في خطبته : "ومن قدر على امرأة أو جارية حراما فتركها مخافة من الله أمنه الله يوم الفزع الأكبر
وحرمه على النار وأدخله الجنة"
وقال مالك بن دينار جنات النعيم بين الفردوس وبين جنات عدن فيها جوار خلقن من ورد الجنة
يسكنها الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا الله عز وجل راقبوه فانثنت رقابهم من خشية الله عز وجل
قال ميمون بن مهران الذكر ذكران فذكر الله عز وجل باللسان حسن وأفضل منه أن تذكر الله
عز وجل عندما تشرف على معاصيه
وقال قتادة رضي الله عنه ذكر لنا أن نبي الله كان يقول لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا
مخافة الله عز وجل إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك
وقال عبيد بن عمير صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله عز
وجل
وقال أبو عمران الجوني كان رجل من بني إسرائيل لا يمتنع من شيء فجهد أهل بيت من بني
إسرائيل فأرسلوا إليه جارية منهم تسأله شيئا فقال لا أو تمكنيني من نفسك فخرجت فجهدوا جهدا
شديدا فرجعت إليه فقالت أعطنا فقال لا أو تمكنيني من نفسك فرجعت فجهدوا جهدا كثيرا فأرسلوها
إليه فقال لها ذلك فقالتدونك فلما خلا بها جعلت تنتفض كا تنتفض السعفة قال لها مالك قالت إني
أخاف الله رب العالمين هذا شيء لم أصنعه قط قال أنت تخافين الله ولم تصنعيه وأفعله أعاهد الله أني
لا أرجع إلى شيء مما كنت فيه فأوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن فلانا أصبح في كتب أهل الجنة.
وذكر أن شابا في بني إسرائيل لم يكن فيهم شاب أحسن منه كان يبيع المكاتل فبينا هو ذات يوم
يطوف بمكاتله إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل فلما رأته رجعت مبادرة فقالت
لابنة الملك إني رأيت شابا بالباب يبيع المكاتل لم أر شابا قط أحسن منه قالت أدخليه فخرجت فقالت
ادخل فدخل فأغلقت الباب دونه ثم قالت ادخل فدخل فأغلقت بابا آخر دونه ثم استقبلته بنت الملك
كاشفة عن وجهها ونحرها فقال لها استتري عافاك الله فقالت إنا لم ندعك لهذا إنما ندعوك لكذا
وراودته عن نفسه فقال لها اتقي الله قالت إنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما
دخلت تكابرني على نفسي قال لها فضعي لي وضوءا فقالت أعلي تتعلل يا جارية ضعي له وضوءا
فوق الجوسق مكانا لا يستطيع أن يفر منه فلما صار في الجوسق قال اللهم إني دعيت إلى معصيتك
وإني أختار أن ألقي نفسي من هذا الجوسق ولا أركب معصيتك ثم قال بسم الله وألقى نفسه من أعلاه
فأهبط الله ملكا أخذ بضبعيه فوقع قائما على رجليه فلما صار في الأرض قال اللهم إن شئت رزقتني
رزقا يغنيني عن بيع هذه المكاتل فأرسل الله عليه رجلا من جراد من ذهب فأخذ منه حتى ملأ ثوبه
فلما صار في ثوبه قال اللهم إن كان هذا رزقا رزقتنيه من الدنيا فبارك لي فيه وإن كان ينقصني مما
لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي فيه فنودي إن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءا
لصبرك على إلقائك نفسك فقال اللهم فلا حاجة لي فيما ينقصني مما لي عندك في الآخرة فرجع
الجراد
وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن رجل من بعض المياسير قال بينا أنا يوما في منزلي إذ دخل علي
خادم لي فقال لي رجل بالباب معه كتاب فقلت أدخله أو خذ كتابه فأخذ الكتاب منه فإذا فيه
تجنبك الردى ولقيت خيرا وسلمك المليك من الغموم
شكون بنات أحشائي إليكم وما إن تشتكين إلى ظلوم
وسألتني الكتاب إليك فيما يخامرها فدتك من الهموم
وهن يقلن يا ابن الجود إنا برمنا من مراعاة النجوم
وعندك لو مننت شفاء سقم لأعضاء دمين من الكلوم
قال فلما قرأت الأبيات قلت عاشق فقلت للخادم أدخله فخرج فلم يره فارتبت في أمره فجعل الفكر
يتردد في قلبي فدعوت جواري كلهن فجمعتهن فقلت لهن ما قصة هذا الكتاب فحلفن لي وقلن يا
سيدنا ما نعرف لهذا الكتاب سببا فمن جاءك به فقلت قد فاتني وما أردت سؤالكن إلا أني ظننت له
هوى في بعضكن فمن عرفت منكم أنها صاحبته فهي له فلتذهب إليه ولتأخذ كتابي إليه وكتبت كتابا
أشكره على فعله وأسأله عن حاله ووضعت الكتاب في موضع من الدار فمكث الكتاب في موضعه
حينا لا يأخذه أحد ولا أرى الرجل فاغتممت غما شديدا ثم قلت لعله بعض فتياننا ثم قلت إن هذا الفتى
قد أخبر عن نفسه بالورع وقد قنع ممن يحبه بالنظر فدبرت عليه فحجبت جواري عن الخروج فما
كان إلا يوم وبعض الآخر إذ دخل علي الخادم ومعه كتاب قال أرسل به إليك فلان وذكر بعض
أصدقائي ففضضته فإذا فيه مكتوب
ماذا أردت إلى روح معلقة عند التراقي وحادي الموت يحدوها
حثثت حاديها ظلما فجد بها في السير حتى تولت عن تراقيها
حجبت من كان تحيا عند رؤيتها روحي ومن كان يشفيني ترائيها
فالنفس تجنح نحو الظلم جاهلة والقلب مني سليم ما يؤاتيها
والله لو قيل لي تأتي بفاحشة وإن عقباك دنيانا وما فيها
لقلت لا والذي أخشى عقوبته ولا بأضعافها ما كنت آتيها
لولا الحياء لبحنا بالذي كتمت بنت الفؤاد وأبدينا تمنيها
قال فبهت وقلت لا أدري ما أحتال في أمر هذا الرجل وقلت للخادم لا يأتيك أحد بكتاب إلا قبضت عليه
حتى تدخله علي ثم لم أعرف له خبرا بعد ذلك فبينا أنا أطوف بالكعبة إذا فتى قد أقبل نحوي وجعل
يطوف إلى جنبي ويلاحظني وقد صار مثل العود فلما قضيت طوافي خرجت وأتبعني فقال يا هذا
أتعرفني قلت لا أنكرك لسوء قال أنا صاحب الكتابين فما تمالكت أن قبلت رأسه وبين عينيه وقلت
بأبي أنت وأمي والله لقد شغلت قلبي وأطلت غمي بشدة كتمانك لأمرك فهل لك فيما سألت وطلبت قال
بارك الله لك وأقر عينيك إنما أتيتك أستحلك من نظرة كنت نظرتها على غير حكم الكتاب والسنة
والهوى داع إلى كل بلاء وأستغفر الله العظيم فقلت يا حبيبي أحب أن تصير معي إلى منزلي فآنس
بك وتجري الحرمة بيني وبينك قال ليس إلى ذلك سبيل فقلت غفر الله لك ذنبك وقد وهبتها لك ومعها
مائة دينار ولك في كل سنة كذا وكذا قال بارك الله لك فيها فلولا عهود عاهدت الله عليها وأشياء
أكدتها علي لم يكن في الدنيا شيء أحب غلي من هذا الذي تعرضه علي ولكن ليس إلى ذلك سبيل
والدنيا منقطعة فقلت له فإذا أبيت أن تقبل مني ذلك فأخبرني من هي حتى أكرمها لأجلك ما بقيت
فقال ما كنت لأذكرها لأحد ثم قام وتركني.
وذكر عبدالملك بن قريب قال هوي رجل من النساء جارية فاشتد حبه لها فبعث إليها يخطبها فامتنعت
وأجابته إلى غير ذلك فأبى وقال لا إلا ما أحل الله ثم إن محبته ألقيت في قلبها فبذلت له ما سأل فقال
لا والله لا حاجة لي بمن دعوتها إلى طاعة الله ودعتني إلى معصيته وحكى المبرد عن شيخه أبي
عثمان المازني أنه قصده بعض أهل الذمة ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار فامتنع ورده
فقلت له أترد هذا القدر مع شدة فاقتك فقال إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من
كتاب الله ولست أرى تمكين هذا الذمي منها غيرة على القرآن فاتفق أن غنت جارية بحضرة الوائق
يقول العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
فاختلف أهل مجلسه في إعراب رجل فمنهم من قال هو نصب وجعله اسم إن ومنهم من رفعه على
أنه خبرها والجارية أصرت على النصب وقالت لقنني إياه كذلك شيخي أبو عثمان المازني فأمر
الواثق بإحضاره إلى بين يديه قال فلما مثلت بين يديه قال ممن الرجل قلت من بني مازن قال أي
الموازن أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة قلت من مازن ربيعة فكلمني بكلام قومي فقال لي
بااسمك وقومي يقلبون الميم باء والباء ميما فكرهت أن أواجهه بلفظة مكر فقلت بكر يا أمير
المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجب به فقال ما تقول في قول الشاعر
أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب يا أمير المؤمنين فقال ولم ذلك فقلت لأن مصابكم مصدر
بمعنى إصابتكم فأخذ البزيدي في معارضتي فقلت هو بمنزلة قولك إن ضربك زيدا ظلم فرجلا مفعول
مصابكم ومنصوب به والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وقال هل
لك من ولد قلت نعم يا أمير المؤمنين بنية قال فما قالت لك عند مسيرك إلينا قلت أنشدت قول
الأعشى
قالت نعم فما تريد قال لو كان غير هذا لكان لنا رأي قالت على ذلك وما هو قال عرض بقلبي من
أمرك عارض قالت وما يمنعك من إنقاذه قال وتتابعيني على ذلك قالت نعم فحلت به في موضع فلما
رأته مجدا في الذي سأل قالت رويدك يا مسكين لا يسقط جاهك عنده فانتبه لها وذهب عنه ما كان
يجد فقال لا حرمك الله ثواب فعلك ثم تنحى ناحية فقال لنفسه اختاري إما عمى العين وإما الجب وإما
السياحة مع الوحوش فاختارت السياحة مع الوحوش فكان كذلك إلى أن مات.
وأحب رجل جارية من العرب وكانت ذات عقل وأدب فما زال يحتال في أمرها حتى اجتمع معها في
ليلة مظلمة شديدة السواد فحادثها ساعة ثم دعته نفسه إليها فقال يا هذه قد طال شوقي إليك قالت
وأنا كذلك فقال هذا الليل قد ذهب والصبح قد اقترب قالت هكذا تفنى الشهوات وتنقطع اللذات فقال لها
لو دنوت مني فقالت هيهات أخاف البعد من الله قال فما الذي دعاك إلى الحضور معي قالت شقوتي
وبلائي قال لها فمتى أراك قالت ما أنساك وأما الاجتماع معك فما أراه يكون ثم تولت قال فاستحييت
مما سمعت منها وأنشد
توقت عذابا لا يطاق انتقامه ولم تأت ما تخشى به أن تعذبا
وقالت مقالا كدت من شدة الحيا أهيم على وجهي حيا وتعجبا
ألا أف للحب الذي يورث العمى ويورد نارا لا تمل التلهبا
فأقبل عودي فوق بدئي مفكرا وقد زال عن قلبي العمى فتسربا
وقال ابن خلف أخبرني أبو بكر العامري قال عشقت عاتكة المرية
أيا أبتا لا ترم عندنا فإنا بخير إذا لم ترم
ترانا إذا أضمرتك البلاد بجفى وتقطع منا الرحم
قال فما قلت لها قال قلت قول جرير
ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال علي النجاح إن شاء الله ثم أمر لي بألف دينار وردني إلى البصرة مكرما فقال أبوالعباس المبرد
فلما عاد إلى البصرة قال لي كيف رأيت يا أبا العباس رددنا لله مائة دينار فعوضنا الله ألفا
ابن عم لها فأرادها عن نفسها فامتنعت عليه وقالت
فما طعم ماء من السحاب مروق تحدر من غر طوال الذوائب
بمنعرج أو بطن واد تطلعت عليه رياح الصيف من كل جانب
ترقرق ماء المزن فيهن والتقت عليهن أنفاس الرياض الغرائب
نفت جرية الماء القذى عن متونه فليس به عيب تراه لشارب
بأطيب مما يقصر الطرف دونه تقى الله واستحياء تلك العواقب
منقول من كتاب" روضة المحبين ونزهة المشتاقين " لابن القيم رحمه الله تعالى