سئل عن الإيمان بالله ورسوله هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال ؟
سئل ـ رحمه الله : عن الإيمان بالله ورسوله : هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال أم لا
؟ وهل يدخل فيه جميع المقامات والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا ؟ وهل تكون صفة
الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد ، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا ؟
وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب ـ مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم
عمل من الأعمال أو غير ذلك ؟
فإن كان لأول حصوله سبب ، فما هو ذلك السبب ؟ وما الأسباب ـ أيضًا ـ التي يقوى بها الإيمان إلى
أن يكمل ، على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه ؟ أم بالعلم حتى يرسخ فيه ؟ أم بالعبادة حتى
يجهد نفسه ، أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه
الله ورسوله ؟ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها ، التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان ، وما
وصف صاحبه ـ رضى الله عنكم ؟
فأجـاب :
الحمد لله رب العالمين . اسم الإيمان يستعمل مطلقًا ، ويستعمل مقيدًا ، وإذا استعمل مطلقًا ، فجميع
ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة ، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة
السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً ، يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية ، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه ، وهذا مذهب الجماهير من
أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه ، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً ؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا
والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك .
ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ
أو بضع وسبعون ـ شعبة ،أعلاها : قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء
شعبة من الإيمان ) . فذكر أعلى شعب الإيمان ، وهو قول لا إله إلا الله ، فإنه لا شيء أفضل منها
كما في الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الدعاء ؛ دعاء يوم عرفة ،
وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ،
وهو على كل شيء قدير ) ، وفي الترمذي وغيره أنه قال : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله
دخل الجنة ) ، وفي الصحيح عنه أنه قال لعمه عند الموت : ( يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة
أحاج لك بها عند الله ) .
وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد ، كما أن أسوأ السيئات هو الشرك ، وهو
الذنب الذي لا يغفره الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاء } [ النساء : 48 ] وتلك الحسنة التي لابد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه
حديث الموجبتين : موجبة السعادة وموجبة الشقاوة ، فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ،
وأما من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار ، وذكر في الحديث أنها أعلى شعب الإيمان .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان بالله ،
أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا
الزكاة ، وتؤدوا خمس المغنم ) ، فجعل هذه الأعمال من الإيمان ، وقد جعلها من الإسلام في حديث
جبرائيل الصحيح ـ لما أتاه في صورة أعرابي ـ وسأله عن الإيمان ، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، وسأله عن الإسلام
فقال : ( أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ،
وتصوم رمضان ، وتحج البيت ) ، وفي حديث في المسند قال : (الإسلام علانية ، والإيمان في
القلب ) .
فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان
في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على
عدمه أو ضعفه ؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في
القلب ودليل عليه وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ، لكن ما في القلب
هو الأصل لما على الجوارح ، كما قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إن القلب ملك ، والأعضاء
جنوده ، فإن طاب الملك طابت جنوده ، وإذا خبث الملك خبثت جنوده . وفي الصحيحين عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال : ( إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت
فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب ) .
ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة ، وما على الجوارح ليس داخلا في
مسماه ، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه ، حتى آل الأمر بغلاتهم ـ كجهم وأتباعه ـ إلى أن
قالوا : يمكن أن يصدق بقلبه ، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر ، مع قدرته على إظهارها ، فيكون
الذي في القلب إيمانًا نافعًا له في الآخرة ، وقالوا : حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول
فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب . وقولهم متناقض ، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء
الإيمان الذي في القلب ، امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في القلب ، مع الدليل المستلزم لنفيه ، وإن لم
يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر والباطن .
والله ـ سبحانه ـ في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة
والباطنة ، كقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }
[ الأنفال : 2 : 4 ] وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِوَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [
النور : 62 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .
فإذا قال القائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور ، لا يدل على أنها من الإيمان
، قيل : هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمورالظاهرة ، فلا يجوز أن يدعي
أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة ، لا قول ولا عمل وهو المطلوب ـ وذلك
تصديق ـ وذلك لأن القلب إذ تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر
، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور ، فإذا كان في القلب حب الله
ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] ، { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } [المائدة : 81 ]
فهذا التلازم أمر ضروري .
ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون ، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة ، مع
القدرة التامة بدون الفعل ، حتى تنازعوا : هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير
هذا الموضع ، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة ، وأن
الإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد ، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها ؛ لا
عمن أراد وفعل المقدور عليه ، وعجز عن حصول مراده ، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل
أحدهما ، فإن هذا يعاقب ؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد ، ومن عرف الملازمات التي بين
الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها
بقى أن يقال : فهل اسم الإيمان للأصل فقط ، أو له ولفروعه ؟ والتحقيق : أن الاسم المطلق
يتناولهما ، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران ، وقد لا يتناول إلا الأصل ، إذا لم يخص إلا
هو ، كاسم الشجرة ، فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت ، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة
يتناول الأصل وحده ، وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن ، وواجب ، ومستحب ،
وهو حج ـ أيضًا ـ تام بدون المستحبات ، وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم .
والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب ، بحيث ترك
ما يجب من كماله وتمامه ، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال
الواجب ، والكمال المستحب ، كما يقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى : كامل ، ومجزئ ، فإذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ، و ( لا يزني الزاني حين يزني
وهو مؤمن ) ونحو ذلك ، كان لانتفاء بعض ما يجب فيه ، لا لانتفاء الكمال المستحب ، والإيمان
يتبعض ويتفاضل الناس فيه ، كالحج ، والصلاة ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من
النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ومثقال شعيرة من إيمان ) .
وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدًا ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [
البينة : 7 ] ، وقوله : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 63 ] ، وقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ) ونحو ذلك ،
فهناك قد يقال : إنه متناول لذلك ، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام ، كقوله
تعالى : { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
وقد يقال : إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران ، كلفظ الفقير والمسكين ، فإن أحدهما إذا أفرد
تناول الآخر ، وإذا جمع بينهما كانا صنفين ، كما في آية الصدقة ، ولا ريب أن فروع الإيمان مع
أصوله كالمعطوفين ، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل ، ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه ، هل
الأعمال داخلة في الإيمان أم لا ؟ لكونها عطفت عليه .
ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية ، أو بعض أنواعه الرفيعة ؛ كاليقين ،
والعلم ، ونحو ذلك ، فيشعر العطف بالمغايرة ، فيقال : هذا أرفع الإيمان ـ أي اليقين والعلم أرفع من
المؤمن الذي ليس معه هذا اليقين والعلم ، كما قال الله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] .
ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه ، وفي عمومه وخصوصه
، وفي بقائه ودوامه ، وفي موجبه ونقيضه ، وغير ذلك من أموره ، فيخص أحد نوعيه باسم يفضل
به على النوع الآخر ، ويبقى اسم الإيمان ، في مثل ذلك متناولاً للقسم الآخر ، وكذلك يفعل في نظائر
ذلك ، كما يقال : الإنسان خير من الحيوان ، والإنسان خير من الدواب ، وإن كان الإنسان يدخل في
الدواب ، في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] .
فإذا عرف هذا ، فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان ، فإنما هو تفضيل نوع خاص
على عمومه ، أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره ، واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعًا ،
وقد يخص أحدهما كما تقدم ، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه .
؟ وهل يدخل فيه جميع المقامات والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا ؟ وهل تكون صفة
الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد ، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا ؟
وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب ـ مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم
عمل من الأعمال أو غير ذلك ؟
فإن كان لأول حصوله سبب ، فما هو ذلك السبب ؟ وما الأسباب ـ أيضًا ـ التي يقوى بها الإيمان إلى
أن يكمل ، على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه ؟ أم بالعلم حتى يرسخ فيه ؟ أم بالعبادة حتى
يجهد نفسه ، أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه
الله ورسوله ؟ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها ، التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان ، وما
وصف صاحبه ـ رضى الله عنكم ؟
فأجـاب :
الحمد لله رب العالمين . اسم الإيمان يستعمل مطلقًا ، ويستعمل مقيدًا ، وإذا استعمل مطلقًا ، فجميع
ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة ، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة
السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً ، يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية ، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه ، وهذا مذهب الجماهير من
أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه ، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً ؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا
والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك .
ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ
أو بضع وسبعون ـ شعبة ،أعلاها : قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء
شعبة من الإيمان ) . فذكر أعلى شعب الإيمان ، وهو قول لا إله إلا الله ، فإنه لا شيء أفضل منها
كما في الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الدعاء ؛ دعاء يوم عرفة ،
وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ،
وهو على كل شيء قدير ) ، وفي الترمذي وغيره أنه قال : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله
دخل الجنة ) ، وفي الصحيح عنه أنه قال لعمه عند الموت : ( يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة
أحاج لك بها عند الله ) .
وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد ، كما أن أسوأ السيئات هو الشرك ، وهو
الذنب الذي لا يغفره الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاء } [ النساء : 48 ] وتلك الحسنة التي لابد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه
حديث الموجبتين : موجبة السعادة وموجبة الشقاوة ، فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ،
وأما من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار ، وذكر في الحديث أنها أعلى شعب الإيمان .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان بالله ،
أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا
الزكاة ، وتؤدوا خمس المغنم ) ، فجعل هذه الأعمال من الإيمان ، وقد جعلها من الإسلام في حديث
جبرائيل الصحيح ـ لما أتاه في صورة أعرابي ـ وسأله عن الإيمان ، فقال : ( الإيمان أن تؤمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، وسأله عن الإسلام
فقال : ( أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ،
وتصوم رمضان ، وتحج البيت ) ، وفي حديث في المسند قال : (الإسلام علانية ، والإيمان في
القلب ) .
فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله ، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد ، وما كان
في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على
عدمه أو ضعفه ؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في
القلب ودليل عليه وشاهد له ، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ، لكن ما في القلب
هو الأصل لما على الجوارح ، كما قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إن القلب ملك ، والأعضاء
جنوده ، فإن طاب الملك طابت جنوده ، وإذا خبث الملك خبثت جنوده . وفي الصحيحين عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال : ( إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت
فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب ) .
ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة ، وما على الجوارح ليس داخلا في
مسماه ، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه ، حتى آل الأمر بغلاتهم ـ كجهم وأتباعه ـ إلى أن
قالوا : يمكن أن يصدق بقلبه ، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر ، مع قدرته على إظهارها ، فيكون
الذي في القلب إيمانًا نافعًا له في الآخرة ، وقالوا : حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول
فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب . وقولهم متناقض ، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء
الإيمان الذي في القلب ، امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في القلب ، مع الدليل المستلزم لنفيه ، وإن لم
يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر والباطن .
والله ـ سبحانه ـ في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة
والباطنة ، كقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا }
[ الأنفال : 2 : 4 ] وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِوَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [
النور : 62 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] .
فإذا قال القائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور ، لا يدل على أنها من الإيمان
، قيل : هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمورالظاهرة ، فلا يجوز أن يدعي
أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة ، لا قول ولا عمل وهو المطلوب ـ وذلك
تصديق ـ وذلك لأن القلب إذ تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر
، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور ، فإذا كان في القلب حب الله
ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه ، { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] ، { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء } [المائدة : 81 ]
فهذا التلازم أمر ضروري .
ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون ، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة ، مع
القدرة التامة بدون الفعل ، حتى تنازعوا : هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير
هذا الموضع ، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة ، وأن
الإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد ، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها ؛ لا
عمن أراد وفعل المقدور عليه ، وعجز عن حصول مراده ، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل
أحدهما ، فإن هذا يعاقب ؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد ، ومن عرف الملازمات التي بين
الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها
بقى أن يقال : فهل اسم الإيمان للأصل فقط ، أو له ولفروعه ؟ والتحقيق : أن الاسم المطلق
يتناولهما ، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران ، وقد لا يتناول إلا الأصل ، إذا لم يخص إلا
هو ، كاسم الشجرة ، فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت ، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة
يتناول الأصل وحده ، وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن ، وواجب ، ومستحب ،
وهو حج ـ أيضًا ـ تام بدون المستحبات ، وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم .
والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب ، بحيث ترك
ما يجب من كماله وتمامه ، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال
الواجب ، والكمال المستحب ، كما يقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم إلى : كامل ، ومجزئ ، فإذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ، و ( لا يزني الزاني حين يزني
وهو مؤمن ) ونحو ذلك ، كان لانتفاء بعض ما يجب فيه ، لا لانتفاء الكمال المستحب ، والإيمان
يتبعض ويتفاضل الناس فيه ، كالحج ، والصلاة ؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من
النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ومثقال شعيرة من إيمان ) .
وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدًا ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [
البينة : 7 ] ، وقوله : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 63 ] ، وقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ) ونحو ذلك ،
فهناك قد يقال : إنه متناول لذلك ، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام ، كقوله
تعالى : { وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
وقد يقال : إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران ، كلفظ الفقير والمسكين ، فإن أحدهما إذا أفرد
تناول الآخر ، وإذا جمع بينهما كانا صنفين ، كما في آية الصدقة ، ولا ريب أن فروع الإيمان مع
أصوله كالمعطوفين ، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل ، ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه ، هل
الأعمال داخلة في الإيمان أم لا ؟ لكونها عطفت عليه .
ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية ، أو بعض أنواعه الرفيعة ؛ كاليقين ،
والعلم ، ونحو ذلك ، فيشعر العطف بالمغايرة ، فيقال : هذا أرفع الإيمان ـ أي اليقين والعلم أرفع من
المؤمن الذي ليس معه هذا اليقين والعلم ، كما قال الله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] .
ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه ، وفي عمومه وخصوصه
، وفي بقائه ودوامه ، وفي موجبه ونقيضه ، وغير ذلك من أموره ، فيخص أحد نوعيه باسم يفضل
به على النوع الآخر ، ويبقى اسم الإيمان ، في مثل ذلك متناولاً للقسم الآخر ، وكذلك يفعل في نظائر
ذلك ، كما يقال : الإنسان خير من الحيوان ، والإنسان خير من الدواب ، وإن كان الإنسان يدخل في
الدواب ، في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] .
فإذا عرف هذا ، فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان ، فإنما هو تفضيل نوع خاص
على عمومه ، أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره ، واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعًا ،
وقد يخص أحدهما كما تقدم ، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه .
مجموع فتاوي ابن تيمية