سئل عن رجل اذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له
سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام ، أوحد عصره ، فريد دهره ، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد
الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله ورضى عنه عن الرجل : إذا قطع الطريق وسرق ، أو أكل
الحرام ونحو ذلك ، هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له أم لا؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب :
الحمد لله ، ليس هذا هو الرزق الذي أباحه الله له . ولا يحب ذلك ولا يرضاه . ولا أمره أن ينفق
منه . كقوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] ، وكقوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ
مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ المنافقون : 1 ] ، ونحو ذلك لم يدخل فيه الحرام ، بل من أنفق من الحرام ، فإن
الله تعالى يذمه ، ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة ، بحسب دينه ، وقد قال الله : { وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] ، وهذا أكل المال بالباطل .
ولكن هذا الرزق الذي سبق به علم الله وقدره ، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة
مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب رزقه ،
وعمله ، وأجله ، وشقي أو سعيد ) ، فكما أن الله كتب ما يعمله من خير وشر ، وهو يثيبه على
الخير ، ويعاقبه على الشر . فكذلك كتب ما يرزقه من حلال وحرام ، مع أنه يعاقبه على الرزق
الحرام .
ولهذا كل مافي الوجود واقع بمشيئة الله وقدره ، كما تقع سائر الأعمال ، لكن لا عذر لأحد بالقدر ،
بل القدر يؤمن به ، وليس لأحد أن يحتج على الله بالقدر ، بل لله الحجة البالغة ، ومن احتج بالقدر
على ركوب المعاصي ، فحجته داحضة ، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول ، كالذين قالوا : { لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] ، والذين قالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا
عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 2 ] ، كما قال تعالى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي
جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ }[ الزمر : 56 ، 57 ]
وأما الرزق الذي ضمنه الله لعباده ، فهو قد ضمن لمن يتقيه أن يجعل له مخرجًا ، ويرزقه من حيث
لا يحتسب ، وأما من ليس من المتقين ، فضمن له ما يناسبه ، بأن يمنحه ما يعيش به في الدنيا ،
ثم يعاقبه في الأخرة ، كما قال عن الخليل : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ } قال الله : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
[ البقرة : 126 ] .
والله إنما أباح الرزق لمن يستعين به على طاعته ، لم يبحه لمن يستعين به على معصيته ،بل هؤلاء
وإن أكلوا ما ضمنه لهم من الرزق فإنه يعاقبهم ، كما قال : { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى
عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 126 ] ، وقال تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] ، فإنما أباح الأنعام لمن يحرم عليه
الصيد في الإحرام .
وقال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ المائدة : 93 ] ،
فكما أن كل حيوان يأكل ماقدر له من الرزق ، فإنه يعاقب على أخذ مالم يبح له ، سواء كان محرم
الجنس ، أو كان مستعينا به على معصية الله ، ولهذا كانت أموال الكفار غير مغصوبة ، بل مباحة
للمؤمنين ، وتسمى فيئًا إذا عادت إلى المؤمنين ؛ لأن الأموال إنما يستحقها من يطيع الله لا من
يعصيه بها ، فالمؤمنون يأخذونها بحكم الاستحقاق ، والكفار يعتدون في إنفاقها ، كما أنهم يعتدون
في أعمالهم ، فإذا عادت إلى المؤمنين فقد فاءت إليهم كما يفىء المال إلى مستحقه .
مجموع فتاوي ابن تيمية