فيما يتعلق بالثلاث المهلكات
قال شيخ الإسلام : ومما يتعلق بالثلاث المهلكات والمنجيات التي ذكر أنه عند المهلكات عليك
بخُوَيْصَة نفسك . أنه قال : ( شُحَُّ مطاع ، وهَوي مُتَّبع ) فجعل هذا مطاعًا ، وهذا متبعًا ، وهذا
والله أعلم لأن الهوي هوي النفس ، وهو محبتها للشيء ، وشهوتها له ، سواء أريد به المصدر أو
المفعول . فصاحب الهوي يأمره هواه ، ويدعوه فيتبعه ، كما تتبع حركات الجوارح إرادة القلب ،
ولهذا قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا } [ المائدة : 77
] ، وقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًي مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] .
وهذا يعم الهوي في الدين ، كالنصاري ، وأهل البدع في المقال والقَدَر . كما كان السلف يسمونهم
أهل الأهواء ، من الرافضة والخوارج . وهذا الهوي موجود في كثير من الفقراء والفقهاء ، إلا من
عصمه الله .
وقد اختلف أصحابنا ، هل يدخل الفقهاء المختلفون في اسم أهل الأهواء . على وجهين ، أدخلهم في
التقسيم القاضي أبو يَعلى ، وكذلك قبله الشيخ أبو حامد الإسْفَرائيني فيما أظن ، وأنكره ابن عقيل .
وأما [ الشح المطاع ] فقد ذكرنا أن مَفْسدته عائدة إلى منع الخير ، وهذا في الأصل ليس هو
محبوبًا ، وإنما يحمل عليه الحرص على المشحوح به ، فإنه من باب النَّفَرة والبغض ، فهو يأمر
صاحبه فيطيعه ، وليس كل مطاع متبعًا ، وإن كان كل متبع مطاعًا ، فإن الإنسان يطيع الطبيب
والأمير وغيرهما في أمور خاصة ، وليس متبعًا لهم ، أما التابع لغيره فهو مطيع وزيادة ، فإنه
يذهب معه حيثما ذهب .
وفرق ثانٍ ، أن المتبع الذي يطلب في نفسه ، فغاية المتبع إدراكه ونيله ، وهذا شأن الهوي . وأما
المطاع فغاية لغيره ، وهذا شأن الشح .
وتحقيق معني الشح : أنه شدة المنع التي تقوم في النفس . كما يقال : شحيح بدينه ، وضَنِين بدينه
، فهو خلق في النفس ، والبخل من فروعه . كما في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشُح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ،
وأمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) ، وكذلك في حديث عبد الرحمن بن عوف أنه
كان يقول في طوافه : رب قني شح نفسي . فقيل له : ما أكثر ما تستعيذ من ذلك! فقال : إذا وقيت
شح نفسي ، وقيت الظلم والبخل والقطيعة ، أو كما قال ؛ ولهذا بين الكتاب والسنة أن الشح والحسد
من جنس واحد في قوله : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، فأخبر عنهم
بأنهم يبذلون ما عندهم من الخير مع الحاجة ، وأنهم لا يكرهون ما أنعم به على إخوانهم . وضد
الأول البخل ، وضد الثاني الحسد .
ولهذا كان البخل والحسد من نوع واحد ، فإن الحاسد يكره عطاء غيره ، والباخل لا يحب عطاء
نفسه ، ثم قال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، فإن الشح
أصل للبخل ، وأصل للحسد ، وهو ضيق النفس وعدم إرادتها وكراهتها للخير على الغير ، فيتولد
عن ذلك امتناعه من النفع ، وهو البخل وإضْرَار المنعم عليه وهو الظلم ، وإذا كان في الأقارب كان
قطيعة .
ولهذا في حديث أبي هريرة الذي رواه . . . النسائي من حديث محمد بن عَجْلان ، عن سهيل بن
أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا
يجتمع في النارمسلم قتل كافرًا ثم سدد وقارب ، ولا يجتمعان في جوف مؤمن : غبار في سبيل الله
وفَيْحُ جهنم ، ولا يجتمعان في قلب عبد : الإيمان والحسد ) ورواه النسائي أيضًا من حديث جرير ،
عن سهيل [ عن صفوان ] بن أبي يزيد ، عن القعقاع بن اللجلاج ، عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا ،
ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا ) .
. . فانظر كيف ذكر الشح في الروايات المشهورة ، وفي الأخري والحسد ، واللفظ الأول أجمع ،
وكيف قرن في الحديث السماحة والشجاعة ، كما قال في الحديث الآخر : ( شر ما في المرء : شح
هالع ، وجبن خالع ) فمدح الشجاعة في سبيل الله ، وذم الشح . ونظير هذا قوله : ( إن من
الخيلاء ما يحبها الله ، وهو اختيال الرجل بنفسه عند الحرب ، وعند الصدقة ) وقصد من الحديث
قوله : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] فحصر المفلحين فيمن
يوق شح نفسه ، والشحيح الذي لا يحب فعل الخير ،والذي يضر نفسه ، ويكره النعمة على غيره .
مجموع فتاوي ابن تيمية