إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

علاج الكرب والهم والغم والحزن (لإبن القيم الجوزية رحمه الله تعالى)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • علاج الكرب والهم والغم والحزن (لإبن القيم الجوزية رحمه الله تعالى)

    علاج الكرب والهم والغم والحزن



    أخرجا في " الصحيحين " من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند

    الكَرْب:
    " لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ

    السَّبْع ، ورَبُّ الأرْض رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ " .



    وفي " جامع الترمذيِّ " عن أنس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، " كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ ،

    قال: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ " .



    وفيه عن أبي هُريرة: " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ ، رفع طرفه إلى السماء

    فقال:
    " سُبْحَانَ الله العظيمِ " ، وإذا اجتهد في الدعاء قال: " يا حَيُّ يا قَيُّومُ " .



    وفي " سنن أبي داود " ، عن أبي بكر الصِّدِّيق ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دَعَواتُ

    المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو ، فَلا تَكِلْنِي إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لي شَأني كُلَّهُ ، لا إله إلا

    أنْتَ " .


    وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أُعلِّمُكِ

    كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو في الكَرْبِ: " اللهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ به شيئاً " .
    وفي رواية أنها تُقال سبعَ

    مرات .



    وفي " مسند الإمام أحمد " عن ابن مسعود ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " ما أصابَ عبداً

    هَمٌ ولا حُزْنٌ
    فقال: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ ، ابنُ عَبْدِكَ ، ابنُ أمتِكَ ، ناصِيَتي بيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌْ

    فيَّ قضاؤكَ ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ ، أو أنزلْتَه فِي كِتَابِكَ ، أوعَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك

    ، أو استأثَرْتَ به في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ: أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِي ، ونُورَ صَدْري ، وجِلاءَ

    حُزني ، وذَهَابَ هَمِّي ، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً " .



    وفي " الترمذيِّ " عن سعد بن أبي وَقَّاص ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " دعوةُ ذي

    النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو في بَطْنِ الحُوتِ:
    { لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، لَمْ يَدْعُ

    بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له " .



    وفي رواية: " إنِّي لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه: كَلِمَةَ أخي يُونُس " .



    وفي " سنن أبي داود " عن أبي سعيد الخدري ، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم

    المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له:
    أبو أُمَامة ، فقال: " يا أبا أُمامة ، ما لي أرَاكَ في

    المسجدِ في غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ " ؟
    فقال: هُمومٌ لَزِمَتْني ، وديونٌ يا رسولَ الله ، فقال: " ألا أُعَلِّمُكَ

    كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ " ؟
    قال: قلتُ: بلى يا رسول الله ، قال: "

    قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ ،

    وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال " ،
    قال: ففعلتُ ذلك ، فأذهب

    الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّي ، وقَضي عني دَيْنِي .



    وفي " سنن أبي داود " ، عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن لَزِمَ

    الاستغفارَ ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً ، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً ، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب "



    وفي " المسند " : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ ، فَزِعَ إلى الصَّلاة ، وقد قال

    تعالى:
    { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة } وفي " السنن " : " عَلَيْكُم بالجِهَادِ ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ

    الجَنَّةِ ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ " .



    ويُذكر عن ابن عباس ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ

    قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ " .



    وثبت في " الصحيحين " : أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة .



    وفي " الترمذي " : أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة .



    هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن ،

    فهو داءٌ قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ،ويحتاج إلى استفراغ كُلِّي . .



    الأول: توحيد الرُّبوبية .


    الثاني:
    توحيد الإلهية .


    الثالث:
    التوحيد العلمي الاعتقادي .


    الرابع: تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك .

    الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم .

    السادس: التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني

    الأسماء والصفات: الحيُّ القَيُّوم .


    السابع: الاستعانة به وحده .

    الثامن: إقرار العبد له بالرجاء .

    التاسع: تحقيقُ التوكلِ عليه ، والتفويضِ إليه ، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه في يده ، يُصرِّفُه كيف

    يشاء ، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه ، عدلٌ فيه قضاؤه .


    العاشر: أن يَرتَعَ قلبُه في رياض القرآن ، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يَسْتَضِيءَ به في

    ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات ، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت ، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة ، ويَستشفِيَ

    به من أدواء صدره ، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه ، وشفاءَ همِّه وغَمِّه .


    الحادي عشر: الاستغفار .

    الثاني عشر: التوبة .

    الثالث عشر: الجهاد .

    الرابع عشر: الصلاة .

    الخامس عشر: البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه .


    بيان جهة تأثير هذه الأدوية في هذه الأمراض



    خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه ، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم ، وجعل لِمَلِكها

    وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرتْه أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان .



    فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار ، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع ، واللِّسَانُ

    ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام ، فقدتْ كمالَها .



    والقلبُ: خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضى عنه ،

    والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ، وأن يكون

    أحبَّ إليه مِن كل ما سواه ، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه ، وأجَلَّ في قلبه مِن كل ما سواه ، ولا نعيمَ

    له ولا سرورَ ولا لذَّةَ ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة ، فإذا فَقَدَ

    غذاءه وصحته وحياته ، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه ، ورهْنٌ مقيم عليه.



    ومن أعظم أدوائه:
    الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه ، وتركُ التفويض إليه ،

    وقِلَّةُ الاعتماد عليه ، والركونُ إلى ما سواهُ ، والسخطُ بمقدوره ، والشكُّ في وعده ووعيده .



    وإذا تأملتَ أمراض القلب ، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هي أسبابُها لا سببَ لها سِواها ، فدواؤه الذي

    لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء ، فإنَّ المرضَ

    يُزال بالضد ، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل ، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية ، وأمراضُه بأضدادها .



    فالتوحيد . . يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج ، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط

    والمواد الفاسدة التي هي سببُ أسقامه ، وحِميةٌ له من التخليط ، فهي تُغْلِق عنه بابَ الشرور ، فيُفتَح

    له بابُ السعادة والخير بالتوحيد ، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار .



    قال بعض المتقدمين من أئمة الطب: مَن أراد عافية الجسم ، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب ، ومَن أراد

    عافية القلب ، فليترُكْ الآثام .



    وقال ثابت بن قُرَّةَ: راحةُ الجسم في قِلَّة الطعام ، وراحةُ الرَّوح في قِلَّة الآثام ، وراحةُ اللِّسان في قِلَّة

    الكلام . والذنوبُ للقلب ، بمنزلة السُّموم ، إن لم تُهلكْه أضعفتْه ، ولا بُدَّ ، وإذا ضعُفت قوته ، لم

    يقدرْ على مقاومة الأمراض ، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك:



    رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلوبَ * وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُها



    وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلوبِ * وَخَيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا



    فالهوى أكبرُ أدوائها ، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها ، والنفس في الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة ، فهي لجهلِها

    تظن شِفاءَها في اتباع هواها ، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها ، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح ، بل

    تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده ، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء

    ، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التي تُعيِي الأطباء ، ويتعذَّرُ معها الشفاء . والمصيبةُ

    العظمى ، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر ، فتُبرِّىء نفسَها ، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً ، وَيقوَى اللَّومُ

    حتى يُصرِّحَ به اللِّسان . وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال ، فلا يُطمَع في بُرئه إلا أن تتداركه رحمة

    من ربه ، فيُحييه حياةً جديدة ، ويرزقُه طريقةً حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس في دُعاء الكرب

    مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان

    مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلويِّ

    والسُّفليِّ ، والعرش الذي هو سقفُ المخلوقات وأعظمها . والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه ، وأنه

    الذي لا تنبغي العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمتُه المطلقة تستلزمُ

    إثباتَ كل كمال له ، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه . وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه .



    فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه ، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما

    يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه ، ويُقوِّي نفسه

    ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى ، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .



    ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمَّنها دعاءُ الكرب ، وجدته في غاية

    المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور ، وهذه الأُمورُ إنما

    يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها ،وباشر قلبُه حقائقَها .



    وفي تأثير قوله:
    " يا حيُّ يا قَيُّومُ ، برحمتِك أستغيثُ " في دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإنَّ صفة

    الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ،

    ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا دُعيَ به أجاب ، وإذا سُئِلَ به أعطى: هو اسمُ الحَيّ القَيُّوم ،

    والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام ، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا

    حَزَنٌ ولا شيء من الآفات . ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال ، وتنافي القيومية ، فكمالُ القيومية لكمال

    الحياة ، فالحيُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة ، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة

    ،فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ في إزالة ما يُضادُّ الحياة ، ويضُرُّ بالأفعال .



    ونظير هذا توسلُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه

    لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه ، فإنَّ حياة القلب بالهداية ، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة

    بالحياة ، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحي الذي هو حياةُ القلوب ، وميكائيل بالقَطْر الذي هو حياةُ الأبدان

    والحيوان ، وإسرافيل بالنَّفْخ في الصُّور الذي هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها ،

    فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير في حصول المطلوب .



    والمقصود: أن لاسم الحيّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات ، وكشف الكُربات .



    وفي " السنن " و " صحيح أبي حاتم " مرفوعاً: " اسمُ اللهِ الأعْظَم في هاتَيْنِ الآيتين: { وَإلهُكُمْ

    إلهٌ وَاحِدٌ ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }
    [ البقرة: 163 ] ، وفاتحةِ آلِ عمران: { آلم اللهُ لاَ

    إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
    [ آل عمران: 1-2 ] ، قال الترمذيُّ: حديث صحيح



    وفي " السنن " و " صحيح ابن حِبَّان " أيضاً: من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا ، فقال: اللَّهُمَّ إنِّي

    أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ياذا الجلال والإكرام ، يا حيُّ

    يا قَيُّومُ ،
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذي إذا دُعِيَ به أجابَ ،

    وإذا سُئِلَ به أعْطَى " . ولهذا كان
    النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء ، قال: " يَا حيُّ

    يا قَيُّومُ " .



    وفي قوله: " اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو ، فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لي شأني كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ

    أنتَ " من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده ، وتفويضُ الأمر إليه ،

    والتضرع إليه ، أن يتولَّى إصلاح شأنه ، ولا يَكِلَه إلى نفسه ، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ

    قوي في دفع هذا الداء ،
    وكذلك قوله: " اللهُ ربِّي لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً " .


    وأما حديث ابن مسعود: " اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ " ، ففيه من المعارف الإلهية ، وأسرارِ

    العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب ، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته ، وأنَّ ناصيته

    بيده يُصرِّفها كيف يشاء ، فلا يملِك العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ، ولا نُشوراً

    ، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره ، فليس إليه شيءٌ من أمره ، بل هو عانٍ في قبضته ، ذليل تحت سلطان

    قهرِه .



    وقوله:
    " ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قضاؤكَ " متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد .



    أحدهما: إثباتُ القَدَر ، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ في عبده ماضيةٌ فيه ، لا انفكاكَ له عنها ، ولا

    حِيلةَ له في دفعها .



    والثاني:
    أنه سبحانه عدلٌ في هذه الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل

    والإحسان ، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم ، أو جهلُه ، أو سفهُه ، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل

    شيء عليمٌ ، ومَن هو غنيٌ عن كل شيء ، وكلُّ شيء فقيرٌ إليه ، ومَنْ هو أحكم الحاكمين ، فلا

    تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده ، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته ، فحِكمته نافذة حيثُ

    نفذتْ مشيئته وقُدرته ، ولهذا قال نبيُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم ، وقد خَوَّفه قومُه

    بآلهتهم:
    { إنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ

    إنِّي تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
    [

    هود: 54-57 ] ، أي مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على

    صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والإحسان والرحمة . فقوله: " ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ

    " ،
    مطابقٌ لقوله: { مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } ، وقولُه: " عَدْلٌ فِيَّ قضاؤكَ " ، مطابقٌ

    لقوله:
    { إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود: 57 ] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التي سمَّى

    بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا . ومنها: ما استأثره في علم الغيب عنده ، فلم يُطلع عليه

    مَلَكاً مُقرَّباً ، ولا نبيّاً مرسلاً ، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل ، وأحبُّها إلى الله ، وأقربُها تحصيلاً

    للمطلوب . ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذي يرتَع فيه الحيوانُ ، وكذلك القرآنُ ربيعُ

    القلوب ، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه ، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذي يستأصِلُ الداء ، ويُعيدُ البدن

    إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذي يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها ، فأحْرَى بهذا

    العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يُزيلَ عنه داءه ، ويُعقبه شفاءً تاماً ، وصحةً وعافيةً . . والله

    الموفق .



    وأما دعوةُ ذي النون . . فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى ، واعترافِ العبد بظلمه

    وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه في قضاء الحوائج ،

    فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه . والاعترافُ

    بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله ، واستقالته

    عثرتَه ، والاعترافَ بعبوديته ، وافتقاره إلى ربه ، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها: التوحيد

    ،والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف .



    وأما حديث أبي أمامة: " اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ " ، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية

    أشياء ،
    كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان ، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان ، والعجزُ والكسلُ أخوان ، والجُبنُ

    والبُخلُ أَخوان
    ، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان ، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ، فإما أن

    يكون سببهُ أمراً ماضياً ، فيُوجب له الحزن ، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل ، أوجب الهم ،

    وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز ، أو من عدم

    الإرادة وهو الكسل ، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه ، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه ،

    فهو الجُبن ، أو بماله ، فهو البخل ، وقهرُ النَّاس له إما بحق ، فهو ضَلَعُ الدَّيْن ، أو بباطل فهو غَلبَةُ

    الرِّجال ، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ .



    وأما تأثيرُ الاستغفار في دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّيق ، فلِمَا اشترَكَ في العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة

    أنَّ المعاصيَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ ، والخوفَ والحُزن ، وضيقَ الصدر ، وأمراض القلب ، حتى

    إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم ، وسئمتها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يَجِدُونه في صدورهم من

    الضيق والهَمِّ والغَمِّ ، كما قال شيخُ الفسوق: وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ * وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا



    وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب ،فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار .



    وأما الصَّلاةُ . . فشأنها في تفريح القلب وتقويته ، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن ، وفيها من

    اتصالِ القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والابتهاجِ بمناجاته ، والوقوفِ بين يديه ،

    واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته في عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظَّه منها ، واشتغالهِ عن التعلُّق

    بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحتِه من عدوِّه

    حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التي لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة .

    وأمَّا القلوبُ العليلة ، فهي كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة .



    فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهي

    منهاةٌ عن الإثم ، ودافعةٌ لأدواء القلوب ، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد ، ومُنوِّرةٌ للقلب ، ومُبيِّضَةٌ للوجه

    ، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس ، وجالِبةٌ للرزق ، ودافعةٌ للظلم ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامِعةٌ لأخلاط

    الشهوات ، وحافِظةٌ للنعمة ، ودافِعةٌ للنِّقمة ، ومُنزِلةٌ للرحمة ، وكاشِفة للغُمَّة ، ونافِعةٌ من كثير من

    أوجاع البطن .



    وقد روى ابن ماجه في " سننه " من حديث مجاهد ، عن أبي هريرة قال: رآني رسولُ الله صلى الله

    عليه وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطني ، فقال لي:
    " يا أبا هُرَيْرَة ، أشِكَمَتْ دَرْدْ " ؟ قال: قلتُ:

    نعم يا رسولَ الله ،
    قال: " قُمْ فَصَلِّ ، فإنَّ في الصَّلاةِ شِفَاءً " .




    وقد رُوي هذا الحديثُ موقوفاً على أبي هُرَيرةَ ، وأنه هو الذي قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبهُ . ومعنى

    هذه اللفظةِ بالفارسي:
    أيوجعُكَ بطنُكَ ؟ فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيُخاطَبُ

    بصناعة الطب ، ويقالُ له: الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمِلُ على حركات

    وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورُّك ، والانتقالات وغيرها من الأوضاع

    التي يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل ، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة ، كالمَعِدَة ، والأمعاء ، وسائر

    آلات النَّفَس ، والغذاء ، فما يُنكر أن يكونَ في هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد ، ولا سِيَّما بواسطة

    قوةِ النفس وانشراحِها في الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم .



    ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ

    تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } .



    وأمَّا تأثيرُ الجهادِ في دفع الهم والغم ، فأمرٌ معلوم بالوجدان ، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل

    وصَوْلته واستيلاءَه ، اشتد همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ

    والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ

    وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ }
    [ التوبة: 14-15 ] ، فلا شيءَ أذهبُ لجوَى

    القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد . . والله المستعان .


    وأمَّا تأثيرُ
    " لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله " في دفع هذا الداءِ ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ ، والتبرِّي

    من الحَوْل والقُوَّة إلا به ، وتسليمِ الأمر كله له ، وعدمِ منازعته في شيء منه ، وعموم ذلك لكلِّ

    تحوُّلٍ من حَال إلى حال في العالَم العُلويِّ والسُّفليِّ ، والقوةِ على ذلك التحول ، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ

    وحدَه ، فلا يقوم لهذه الكلمة شيء .


    وفي بعض الآثار: إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء ، ولا يَصعَدُ إليها إلا ب " لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله "

    ، ولها تأثيرٌ عجيب في طرد الشيطان . . والله المستعان .




    كتاب الطب النبوي لابن القيم الجوزية




يعمل...
X