سئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل
سئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل ، ويصلي في بيته ، ولا يشهد الجماعة ، وإذا خرج
إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه ، ثم إنه يخترع العياط من غير سبب ، وتجتمع عنده الرجال والنساء ،
فهل يسلم له حاله ؟ أو يجب الإنكار عليه؟
فأجاب :
هذه الطريقة طريقة بدعية ، مخالفة للكتاب والسنة ، ولما أجمع عليه المسلمون . والله تعالى إنما يعبد
بما شرع ، لا يعبد بالبدع ، قال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ
} [ الشورى : 21 ] ، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة ، بحيث يرى أن تركهما أفضل من
شهودهما مطلقًا كفر ، يجب أن يستتاب صاحبه منه ، فإن تاب وإلا قتل . فإنه قد علم بالاضطرار من
دين الإسلام ألا يعبد بترك الجمعة والجماعة ، بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة ، ومن جعل الانقطاع من
ذلك دينًا لم يكن على دين المسلمين ، بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات ،
والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة ، أو الشياطين بتقريبه إليهم ، أو غير ذلك نوع كشف
، وذلك لا يفيده ؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى أمر الخلق أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا ، ويعبدوه بما شرع ، وأمرأن لا يعبدوه
بغير ذلك . قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }
[ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] .
فالسالك طريق الزهادة والعبادة إذا كان متبعًا للشريعة في الظاهر ، وقصد الرياء والسمعة ، وتعظيم
الناس له كان عمله باطلا لا يقبله الله . كما ثبت في الصحيح أن الله يقول : ( أنا أغنى الشركاء عن
الشرك ، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء ، وهو كله للذي أشرك ) . وفي الصحيح
عنه أنه قال : ( من سَمَّع سَمَّع الله به ، ومن راءى راءى الله به ) .
وإن كان خالصًا في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة : مثل الذي يصمت دائمًا ، أو يقوم في
الشمس ، أوعلى السطح دائمًا ، أو يتعرى من الثياب دائمًا ، ويلازم لبس الصوف ، أو لبس الليف ،
ونحوه أو يغطى وجهه ، أو يمتنع من أكل الخبز ، أو اللحم ، أو شرب الماء ، ونحو ذلك كانت هذه
العبادات باطلة ، ومردودة . كما ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) . وفي رواية : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو
رد ) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في
الشمس فقال : ( ما هذا ؟ ) قالوا : هذا أبو إسرائيل ، نذر الصمت ، والقيام والبروز للشمس مع
الصوم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده ؛ لأنه عبادة يحبها الله تعالى ، وما عداه ليس
بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته
: ( إن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ،
وكل بدعة ضلالة ) .
وثبت عنه في الصحيح : أن قومًا من أصحابه قال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر :
أما أنا فأقوم ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء ، وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بال رجال يقول أحدهم : كيت وكيت! لكني أصوم وأفطر ،
وأنام ، وأتزوج النساء ، وآكل اللحم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، فإذا كان هذا فيما هو
جنسه عبادة ، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة ، وترك اللحم والتزويج جائز ، لكن لما خرج في ذلك
من السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع ، والتزم هذا ترك المباح ، كما يفعل الرهبان ، تبرأ النبي
صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك ، حيث رغب عن سنته إلى خلافها ، وقال : ( لا رهبانية في ا
الإسلام ) فكيف بمن يرغب عما هو من أعظم شعائر الإسلام ، وهو الصلاة في الجمعة ،
والجماعات؟!
وقد روى عن ابن عباس أنهم سألوه غير مرة عمن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يشهد جمعة ،
ولا جماعة . فقال : هو في النار . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (
لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليطبعن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين ) وقال : (
من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه ) . وفي الصحيح والسنن : إن أعمى قال
: يا رسول الله ، إن لي قائدًا لا يلائمني ، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال : ( هل تسمع
النداء؟ ) قال : نعم ، قال : ( فأجب ) . وفي رواية قال : ( لا أجد لك رخصة ) .
و [ الجمعة ] فريضة باتفاق الأئمة .
و [ الجماعة ] واجبة أيضًا ، عند كثير من العلماء ، بل عند أكثر السلف ، وهل هي شرط في صحة
الصلاة على قولين :
أقواهما كما في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سمع النداء فلم يجب
من غير عذر فلا صلاة له ) .
وعند طائفة من العلماء : أنها واجبة على الكفاية .
و [ أحد الأقوال ] أنها سنة مؤكدة ، ولا نزاع بين العلماء أن صلاة الرجل في جماعة تزيد على
صلاته وحده خمسًا وعشرين ضعفًا .
كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولا نزاع بينهم أن من جعل صلاته وحده أفضل من
صلاته في جماعة فإنه ضال مبتدع ، مخالف لدين المسلمين .
وهذه البدع يذم أصحابها ، ويعرف أن الله لا يتقبلها ، وإن كان قصدهم بها العبادة ، كما أنه لا يقبل
عبادة الرهبان ، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة لأنهم لم يعبدوه بما شرع ، بل ببدعة
ابتدعوها ، كما قال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } [ الحديد : 27 ] ، فإن المتعبد بهذه البدع قصده أن
يعظم ويزار ، وهذا عمله ليس خالصًا لله ، ولا صوابًا على السنة ، بل هو كما يقال : زغل ، وناقص
، بمنزلة لحم خنزير ميت ، حرام من وجهين .
والواجب على كل مسلم التزام عبادة الله وحده لا شريك له ، وطاعة رسوله ، والأمر بذلك لكل أحد ،
والنهي عن ضد ذلك لكل أحد ، والإنكار على من يخرج عن ذلك ، ولو طار في الهواء ، ومشى على
الماء وليس تحت أديم السماء أحد يقر على خلاف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إن
كان مقرًا بالإسلام ألزمه بطاعة الرسول ، واتباع سنته الواجبة ، وشريعته الهادية ، وإن كان غير
مقر بالإسلام كان كافرًا ، ولو كان له من الزهد والرهبان ماذا عسى أن يكون . والكافر إن كان من
أهل الذمة فله حكم أمثاله ، وإن كان من أهل الحرب فله حكم أمثاله ، ويجب الإنكار على هذا المبتدع
وأمثاله بحسن قصد ، بحيث يكون المقصود طاعة الله ورسوله ، لا اتباع هوى ، ولا منافسة ولا غير
ذلك . قال الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .
فالمقصود أن يكون الدين كله لله ، ولا دين إلا ماشرعه الله تعالى على ألسن رسله ، وفي الصحيحين
: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : يارسول الله ، الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل
رياء . فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله )
فيكون المقصود علو كلمة الله ، وظهور دين الله . وأن يعلم المسلمون كلهم إن ما عليه المبتدعون
المراؤون ليس من الدين ، ولا من فعل عباد الله الصالحين ، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك
بالله تعالى ، الذين يخرجون عن توحيده ، وإخلاص الدين له ، وعن طاعة رسله .
و [ أصل الإسلام ] : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله . فمن طلب بعباداته الرياء
والسمعة ، فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله ، ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد
بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدًا رسول الله .
وإنما يحقق هذين [ الأصلين ] من لم يعبد إلا الله ، ولم يخرج عن شريعة رسول الله صلى الله عليه
وسلم التي بلغها عن الله ، فإنه قال : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) ،
وقال : ( ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به ، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا
وقد حدثتكم به ) . وقال ابن مسعود : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا ، وخط خطوطًا
عن يمينه ، وشماله ثم قال : ( هذا سبيل الله ، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) ثم
قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًافَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153
] .
فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم : الذي أمرنا
الله أن نسأله هدايته ، هو ما دل عليه السنة هي سبل الشيطان ، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان
، فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء : أمطري فتمطر ، وللأرضا انبتي فتنبت ،
وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة . وهو مع هذا عدو الله ، كافر بالله ،
وأولياء الله هم المذكورون في قوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62 ، 63 ] فهم المؤمنون المتقون ، والتقوى فعل ما أمر الله به ،
وترك ما نهى الله عنه ، فمن ترك ما أمر الله ، واتخذ عبادة نهى الله عنها ، كيف يكون من هؤلاء ؟
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله
تعالى : من عادى لي وليًا ) الحديث . فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض
عليه .
والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين ، ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل
هو طريق السابقين المقربين ، والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله : أمرإيجاب ، أو أمر استحباب
، دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
مجموع فتاوي ابن تيمية رحمه الله