سئل هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبي أو الأقصى أو الثغور
هل الأفضل المجاورة بمكة ، أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو المسجد الأقصى ، أؤ بثَغْر من الثغور لأجل الغزو ، وفيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) ، و ( من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني ) ؟ وهل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب أم لا؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين ، المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة ، كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة ، بل قد اختلفوا في المجاورة : فكرهها أبو حنيفة ، واستحبها مالك وأحمد وغيرهما ، ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة ، وهذا متفق عليه بين السلف ، حتى قال أبو هريرة رضى الله عنه : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود . وذلك أن الرباط من جنس الجهاد ، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : أى العمل أفضل؟ قال : ( الإيمان بالله ورسوله ) . قيل : ثم ماذا؟ قال : ( جهاد في سبيل الله ) . قيل : ثم ماذا؟ قال : ( حج مبرور ) . وقد قال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 : 22 ] .
وأما قوله : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) : فهذا الحديث رواه الدارقطني فيما قيل بإسناد ضعيف ، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات ، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد .
وأما الحديث الآخر : قوله : ( من حج البيت ولم يزرنى فقد جفإني ) ، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث ، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه مخالف للإجماع ؛ فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر ، بل هو كفر ونفاق ، بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) .
وأما [ زيارته ] فليست واجبة باتفاق المسلمين ، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة ، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم . فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا . وأكثر ما اعتمده العلماء في [ الزيارة ] قوله في الحديث الذي رواه أبو داود : ( ما من مسلم يُسلِّم عَلَىَّ ، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) . وقد كره مالك وغيره أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وقد كان الصحابة كابن عمر وأنس وغيرهما يسلمون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ، كما في الموطأ : أن ابن عمر كان إذا دخل المسجد يقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت .
وشد الرحل إلى مسجده مشروع باتفاق المسلمين ، كما في الصحيحين عنه أنه قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) . وفي الصحيحين عنه أنه قال : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ) . فإذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه ، كما كان الصحابة يفعلون .
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده ، فهذه المسألة فيها خلاف . فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع ، ولا مأمور به ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) . ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به ، بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والاعتكاف ، فقد ذكر العلماء وجوب ذلك في بعضها في المسجد الحرام وتنازعوا في المسجدين الآخرين .
فالجمهور يوجبون الوفاء به في المسجدين الآخرين ؛ كمالك والشافعي وأحمد ؛ لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول . وأبو حنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام ؛ بناء على أنه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجبًا بالشرع . والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة ؛ لما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نَذَر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) . بل قد صرح طائفة من العلماء كابن عقيل وغيره بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وغيرها لا يقصر الصلاة في هذا السفر ؛ لأنه معصية ، لكونه معتقدًا أنه طاعة وليس بطاعة ، والتقرب إلى الله عز وجل بما ليست بطاعة هو معصية ؛ ولأنه نهى عن ذلك والنهي يقتضي التحريم .
ورخص بعض المتأخرين في السفر لزيارة القبور ، كما ذكر أبو حامد في [ الإحياء ] وأبو الحسن ابن عبدوس ، وأبو محمد المقدسي ، وقد روى حديثًا رواه الطبرإني من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جاءني زائرًا لا تنزعه إلا زيارتي كان حقًا على أن أكون له شفيعًا يوم القيامة ) . لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري ، وهو مضعف ؛ ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة . وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين ، والله أعلم .
وقال الشيخ رحمه الله :
وأما قوله : ( من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي ) وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منهاشىء صحيح ، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئا : لا أصحاب الصحيح : كالبخاري ، ومسلم . ولا أصحاب السنن : كأبي داود ، والنسائي . ولا الأئمة من أهل المسانيد ؛ كالإمام أحمد وأمثاله ، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه ، كمالك والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأمثالهم ، بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة ، كقوله : ( من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة ) ، وقوله : ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) ، فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب .
والحديث الأول رواه الدارقطني والبزار في مسنده ، ومداره على عبد الله بن عبد الله ابن عمر العمري ، وهو ضعيف ، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلا ، بل إنما اعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) . رواه أبو داود وغير . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ) . رواه النسائي . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة ، وليلة الجمعة ؛ فإن صلاتكم معروضة علي ) ، قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) . رواه أبو داود وغيره .
وقد كره مالك أن يقول الرجل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم . قالوا : لأن لفظ الزيارة قد صارت في عرف الناس تتضمن ما نهى عنه ، فإن زيارة القبور على وجهين : وجه شرعي ، ووجه بدعى .
فالزيارة الشرعية : مقصودها السلام على الميت والدعاء له ، سواء كان نبيا ، أو غير نبى . ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ، ويدعون له ، ثم ينصرفون ، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه ؛ ولهذا كره مالك وغيره ذلك ، وقالوا : إنه من البدع المحدثة . ولهذا قال الفقهاء : إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر ، بل يستقبل القبلة ، وتنازعوا وقت السلام عليه : هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر؟ فقال أبو حنيفة : يستقبل القبلة . وقال مالك والشافعي وأحمد : يستقبل القبر . وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تتخذوا قبري عيدا ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ، يحذر ما فعلوا ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) .
ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم ، ولا يتمسح به ، ولا يستحب الصلاة عنده ، ولا قصده للدعاء عنده أو به ؛ لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] . قال طائفة من السلف : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، فعبدوهم .
وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية ، وهي من جنس دين النصارى والمشركين ، وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر ، أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه ، أو يقسم به على الله في طلب حاجاته ، وتفريج كرباته . فهذه كلها من البدع التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعلها أصحابه . وقد نص الأئمة على النهى عن ذلك ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة [ قبر الخليل ] ، بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط طاعة للحديث الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدى هذا ) .
ولهذا اتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة [ قبر الخليل ] ، و [ الطور ] الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام أو جبل حراء ونحو ذلك ، لم يجب عليه الوفاء بنذره ، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
والسفر إلى هذه البقاع معصية في أظهر القولين ، حتى صرح من يقول : إن الصلاة لا تقصر في سفر المعصية بأن صاحب هذا السفر لا يقصر الصلاة ، ولو نذر إتيان المسجد الحرام لوجب عليه الوفاء بالاتفاق . ولو نذر إتيان مسجد المدينة ، أو بيت المقدس ففيه قولان للعلماء . أظهرهما : وجوب الوفاء به ، كقول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه . والثانى : لا يجب عليه الوفاء به ، كقول أبي حنيفة والشافعي في قوله الآخر ، وهذا بناء على أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع ، والصحيح وجوب الوفاء بكل نذر هو طاعة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) ، ولم يستثن طاعة من طاعة .
والمقصود هنا أن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع : لا آثار الأنبياء ، ولا قبورهم ، ولا مساجدهم ؛ إلا المساجد الثلاثة ، بل إذا فعل بعض الناس شيئاً من ذلك أنكر عليه غيره ، كما أنكروا على من زار الطور الذي كلم الله عليه موسى ، حتى إن ( غار حراء ) الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه ، وكذا الغار المأثور في القرآن .
وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في بعض الأسفار ، فرأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه ، فقال : ما هذا؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول صلى الله عليه وسلم . فقال : ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أتريدون أن تتخذوا أثر الأنبياء لكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا . من أدركته الصلاة فليصل ، وإلا فليمض . وهذا لأن الله لم يشرع للمسلمين مكانا يتناوبونه للعبادة إلا المساجد خاصة ، فما ليس بمسجد لم يشرع قصده للعبادة ، وإن كان مكان نبى أو قبر نبى .
ثم إن المساجد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ على قبور الأنبياء والصالحين ، كما قال : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) . وهذان حديثان في الصحيح . وفي المسند ، وصحيح أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد ) . بل قد كره الصلاة في المقبرة عموما ؛ لما في ذلك من التشبه بمن يتخذ القبور مساجد ، كما في السنن عنه أنه قال : ( الأرض كلها مسجد ، إلا المقبرة ، والحمام ) . وهذه المعاني قد نص عليها أئمة الدين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل العراق وغيرهم ، بل ذلك منقول عن أنس .
وَسُئِلَ رحمه الله عن قوله : ( من حج فلم يزرني فقد جفاني ) .
فأجاب :
قوله : ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) كذب ؛ فإن جفاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين ، ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره ، بل هذه الأحاديث التي تروي : ( من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة ) ، وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء . وقد روي الدارقطني وغيره في زيارة قبره أحاديث ، وهي ضعيفة . وقد كره مالك وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم كره أن يقال : زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو كان هذا اللفظ ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفا عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك . وأما إذا قال : سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يكره بالاتفاق ، كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) . وكان ابن عمر يقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت! وفي سنن أبي داود عنه أنه قال : ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة على ) ، قالوا : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) .
وسُئِلَ رحمه الله عن مكة هل هي أفضل من المدينة أم بالعكس؟
فأجاب :
الحمد لله ، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة : ( والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت ) . قال الترمذي : حديث صحيح .وفي رواية : ( إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ) . فقد ثبت أنها خير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله . وهذا صريح في فضلها . وأما الحديث الذي يروي : ( أخرجتني من أحب البقاع إلى فاسكنى أحب البقاع إليك ) ، فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم ، والله أعلم .
وَسُئِلَ عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم : هل هي أفضل من المسجد الحرام؟
فأجاب :
وأما [ التربة ] التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحدا من الناس قال : إنها أفضل من المسجد الحرام ، أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى ، إلا القاضي عياض ، فذكر ذلك إجماعا ، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه . ولا حجة عليه ، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد .
وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن ، فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل ؛ فإن أحدا لا يقول : إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء ، فإن الله يخرج الحي من الميت ، والميت من الحي . ونوح نبى كريم ، وابنه المغرق كافر ، وإبراهيم خليل الرحمن ، وأبوه آزر كافر .
والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة ، لم يستثن منها قبور الأنبياء ، ولا قبور الصالحين . ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبى ، بل وكل صالح ، أفضل من المساجد التي هي بيوت الله ، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وهذا قول مبتدع في الدين ، مخالف لأصول الإسلام .
وَسُئِلَ أيضا عن رجلين تجادلا فقال أحدهما : إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض . وقال الآخر : الكعبة أفضل . فمع من الصواب؟
فأجاب :
الحمد لله ، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه ، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام ، بل الكعبة أفضل منه ، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض ، ولم يسبقه أحد إليه ، ولا وافقه أحد عليه ، والله أعلم .
هل الأفضل المجاورة بمكة ، أو بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو المسجد الأقصى ، أؤ بثَغْر من الثغور لأجل الغزو ، وفيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) ، و ( من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني ) ؟ وهل زيارة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب أم لا؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين ، المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة ، كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة ، بل قد اختلفوا في المجاورة : فكرهها أبو حنيفة ، واستحبها مالك وأحمد وغيرهما ، ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة ، وهذا متفق عليه بين السلف ، حتى قال أبو هريرة رضى الله عنه : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود . وذلك أن الرباط من جنس الجهاد ، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : أى العمل أفضل؟ قال : ( الإيمان بالله ورسوله ) . قيل : ثم ماذا؟ قال : ( جهاد في سبيل الله ) . قيل : ثم ماذا؟ قال : ( حج مبرور ) . وقد قال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 : 22 ] .
وأما قوله : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) : فهذا الحديث رواه الدارقطني فيما قيل بإسناد ضعيف ، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات ، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد .
وأما الحديث الآخر : قوله : ( من حج البيت ولم يزرنى فقد جفإني ) ، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث ، بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه مخالف للإجماع ؛ فإن جفاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الكبائر ، بل هو كفر ونفاق ، بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) .
وأما [ زيارته ] فليست واجبة باتفاق المسلمين ، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة ، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم . فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا . وأكثر ما اعتمده العلماء في [ الزيارة ] قوله في الحديث الذي رواه أبو داود : ( ما من مسلم يُسلِّم عَلَىَّ ، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) . وقد كره مالك وغيره أن يقال : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وقد كان الصحابة كابن عمر وأنس وغيرهما يسلمون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ، كما في الموطأ : أن ابن عمر كان إذا دخل المسجد يقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت .
وشد الرحل إلى مسجده مشروع باتفاق المسلمين ، كما في الصحيحين عنه أنه قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) . وفي الصحيحين عنه أنه قال : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ) . فإذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه ، كما كان الصحابة يفعلون .
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده ، فهذه المسألة فيها خلاف . فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع ، ولا مأمور به ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) . ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به ، بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والاعتكاف ، فقد ذكر العلماء وجوب ذلك في بعضها في المسجد الحرام وتنازعوا في المسجدين الآخرين .
فالجمهور يوجبون الوفاء به في المسجدين الآخرين ؛ كمالك والشافعي وأحمد ؛ لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول . وأبو حنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام ؛ بناء على أنه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجبًا بالشرع . والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة ؛ لما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نَذَر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) . بل قد صرح طائفة من العلماء كابن عقيل وغيره بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وغيرها لا يقصر الصلاة في هذا السفر ؛ لأنه معصية ، لكونه معتقدًا أنه طاعة وليس بطاعة ، والتقرب إلى الله عز وجل بما ليست بطاعة هو معصية ؛ ولأنه نهى عن ذلك والنهي يقتضي التحريم .
ورخص بعض المتأخرين في السفر لزيارة القبور ، كما ذكر أبو حامد في [ الإحياء ] وأبو الحسن ابن عبدوس ، وأبو محمد المقدسي ، وقد روى حديثًا رواه الطبرإني من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جاءني زائرًا لا تنزعه إلا زيارتي كان حقًا على أن أكون له شفيعًا يوم القيامة ) . لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري ، وهو مضعف ؛ ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة . وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين ، والله أعلم .
وقال الشيخ رحمه الله :
وأما قوله : ( من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي ) وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منهاشىء صحيح ، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئا : لا أصحاب الصحيح : كالبخاري ، ومسلم . ولا أصحاب السنن : كأبي داود ، والنسائي . ولا الأئمة من أهل المسانيد ؛ كالإمام أحمد وأمثاله ، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه ، كمالك والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأمثالهم ، بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة ، كقوله : ( من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة ) ، وقوله : ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) ، فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب .
والحديث الأول رواه الدارقطني والبزار في مسنده ، ومداره على عبد الله بن عبد الله ابن عمر العمري ، وهو ضعيف ، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلا ، بل إنما اعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) . رواه أبو داود وغير . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ) . رواه النسائي . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة ، وليلة الجمعة ؛ فإن صلاتكم معروضة علي ) ، قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) . رواه أبو داود وغيره .
وقد كره مالك أن يقول الرجل : زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم . قالوا : لأن لفظ الزيارة قد صارت في عرف الناس تتضمن ما نهى عنه ، فإن زيارة القبور على وجهين : وجه شرعي ، ووجه بدعى .
فالزيارة الشرعية : مقصودها السلام على الميت والدعاء له ، سواء كان نبيا ، أو غير نبى . ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ، ويدعون له ، ثم ينصرفون ، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه ؛ ولهذا كره مالك وغيره ذلك ، وقالوا : إنه من البدع المحدثة . ولهذا قال الفقهاء : إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر ، بل يستقبل القبلة ، وتنازعوا وقت السلام عليه : هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر؟ فقال أبو حنيفة : يستقبل القبلة . وقال مالك والشافعي وأحمد : يستقبل القبر . وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تتخذوا قبري عيدا ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ، يحذر ما فعلوا ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) .
ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم ، ولا يتمسح به ، ولا يستحب الصلاة عنده ، ولا قصده للدعاء عنده أو به ؛ لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] . قال طائفة من السلف : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، فعبدوهم .
وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية ، وهي من جنس دين النصارى والمشركين ، وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر ، أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه ، أو يقسم به على الله في طلب حاجاته ، وتفريج كرباته . فهذه كلها من البدع التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعلها أصحابه . وقد نص الأئمة على النهى عن ذلك ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة [ قبر الخليل ] ، بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط طاعة للحديث الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدى هذا ) .
ولهذا اتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة [ قبر الخليل ] ، و [ الطور ] الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام أو جبل حراء ونحو ذلك ، لم يجب عليه الوفاء بنذره ، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .
والسفر إلى هذه البقاع معصية في أظهر القولين ، حتى صرح من يقول : إن الصلاة لا تقصر في سفر المعصية بأن صاحب هذا السفر لا يقصر الصلاة ، ولو نذر إتيان المسجد الحرام لوجب عليه الوفاء بالاتفاق . ولو نذر إتيان مسجد المدينة ، أو بيت المقدس ففيه قولان للعلماء . أظهرهما : وجوب الوفاء به ، كقول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه . والثانى : لا يجب عليه الوفاء به ، كقول أبي حنيفة والشافعي في قوله الآخر ، وهذا بناء على أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع ، والصحيح وجوب الوفاء بكل نذر هو طاعة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) ، ولم يستثن طاعة من طاعة .
والمقصود هنا أن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع : لا آثار الأنبياء ، ولا قبورهم ، ولا مساجدهم ؛ إلا المساجد الثلاثة ، بل إذا فعل بعض الناس شيئاً من ذلك أنكر عليه غيره ، كما أنكروا على من زار الطور الذي كلم الله عليه موسى ، حتى إن ( غار حراء ) الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه ، وكذا الغار المأثور في القرآن .
وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في بعض الأسفار ، فرأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه ، فقال : ما هذا؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول صلى الله عليه وسلم . فقال : ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أتريدون أن تتخذوا أثر الأنبياء لكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا . من أدركته الصلاة فليصل ، وإلا فليمض . وهذا لأن الله لم يشرع للمسلمين مكانا يتناوبونه للعبادة إلا المساجد خاصة ، فما ليس بمسجد لم يشرع قصده للعبادة ، وإن كان مكان نبى أو قبر نبى .
ثم إن المساجد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ على قبور الأنبياء والصالحين ، كما قال : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) . وهذان حديثان في الصحيح . وفي المسند ، وصحيح أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد ) . بل قد كره الصلاة في المقبرة عموما ؛ لما في ذلك من التشبه بمن يتخذ القبور مساجد ، كما في السنن عنه أنه قال : ( الأرض كلها مسجد ، إلا المقبرة ، والحمام ) . وهذه المعاني قد نص عليها أئمة الدين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل العراق وغيرهم ، بل ذلك منقول عن أنس .
وَسُئِلَ رحمه الله عن قوله : ( من حج فلم يزرني فقد جفاني ) .
فأجاب :
قوله : ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) كذب ؛ فإن جفاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين ، ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره ، بل هذه الأحاديث التي تروي : ( من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة ) ، وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء . وقد روي الدارقطني وغيره في زيارة قبره أحاديث ، وهي ضعيفة . وقد كره مالك وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم كره أن يقال : زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو كان هذا اللفظ ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفا عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك . وأما إذا قال : سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يكره بالاتفاق ، كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) . وكان ابن عمر يقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت! وفي سنن أبي داود عنه أنه قال : ( أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة على ) ، قالوا : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) .
وسُئِلَ رحمه الله عن مكة هل هي أفضل من المدينة أم بالعكس؟
فأجاب :
الحمد لله ، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة : ( والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت ) . قال الترمذي : حديث صحيح .وفي رواية : ( إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ) . فقد ثبت أنها خير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله . وهذا صريح في فضلها . وأما الحديث الذي يروي : ( أخرجتني من أحب البقاع إلى فاسكنى أحب البقاع إليك ) ، فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم ، والله أعلم .
وَسُئِلَ عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم : هل هي أفضل من المسجد الحرام؟
فأجاب :
وأما [ التربة ] التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحدا من الناس قال : إنها أفضل من المسجد الحرام ، أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى ، إلا القاضي عياض ، فذكر ذلك إجماعا ، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه . ولا حجة عليه ، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد .
وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن ، فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل ؛ فإن أحدا لا يقول : إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء ، فإن الله يخرج الحي من الميت ، والميت من الحي . ونوح نبى كريم ، وابنه المغرق كافر ، وإبراهيم خليل الرحمن ، وأبوه آزر كافر .
والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة ، لم يستثن منها قبور الأنبياء ، ولا قبور الصالحين . ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبى ، بل وكل صالح ، أفضل من المساجد التي هي بيوت الله ، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وهذا قول مبتدع في الدين ، مخالف لأصول الإسلام .
وَسُئِلَ أيضا عن رجلين تجادلا فقال أحدهما : إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض . وقال الآخر : الكعبة أفضل . فمع من الصواب؟
فأجاب :
الحمد لله ، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه ، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام ، بل الكعبة أفضل منه ، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض ، ولم يسبقه أحد إليه ، ولا وافقه أحد عليه ، والله أعلم .
مجموع فتاوي ابن تيمية