بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أرسل إلي أحد إخواني الكرماء من أعضاء شبكة العلوم رسالة لبيان معاني الأبيات التي تعزى إلى الزمخشري[1]وهي:
سهري لتنقيح العلوم ألذَّ لي .... من وصل غانية وطيب عناق
وصريرأقلامى على صفحاتها * أبهى من الدوكاء والعشاق
وألذمن نقر الفتاة لدفها ... نقري لأ لقي الرمل عن أوراقي
وتمايلي طربا لحل عويصة ... أشهى وأحسن من مدام الساقي
أأبيت سهران الدجى وتبيته * نوما وتبغى بعد ذاك لحاقى
فقمت بكتابة هذا المختصر لما يعلمه الله من ضيق الوقت ولو شرحها أحد وذكر بعض مايماثلها مما في علو الهمة لكان فيه خير.
فأقول: كان الزمخشري ممن تعمق حب العلم في فواده فقدمه على أحب الإمور التي كان يرغب إليها أهل الدنيا وتميل إليها النفوس ففتح الله عليه بالعلم بالعربية وغيرها ولماجمع التفسير الذي يسمى (الكشاف [2])، فسهر فيه الليالي الطوال ، فقال هذه الأبيات تسلية لنفسه وحكاية لحاله .
ومثل هذه الأبيات ما قاله الإمام الشنقيطي رحمه الله لما خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج قال في ذلك وفي الحث على طلب العلم:
دعانيالناصحون إلى النكاح ---غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوالي تزوج ذات دل---خلوب اللحظ جائلة الوشاح
كأن لحاظها رشقات نبل----تذيق القلب آلام الجراح
ولاعجب إذا كانت لحاظ----لبيضاء المحاجركالرماح
فكم قتلا كميا ذا ولاحى----ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلتلهم دعوني إن قلبي----من العي الصراح اليوم صاح
وليشغل بأبكارعذارى----كأن وجوهها ضوء الصباح
أراهافي المهارق لابسات----براقع من معانيها الصحاح
أبيت مفكرا فيها فتضحي ----لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبرا عليها ----وما كان الحريم بمستباح
فقول :
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي ... من وصل غانية وطيب عناق
أي سهره ليحصّل العلم ألذ له من وصال الغواني: أي النساء الجميلات اللاتي استغنين بجمالهن عن الزينة.وعادة العلماء يتلذذون بالسهر في التحرير للمسائل العلمية.ومثل هذا قول الآخر :
والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
أي دع عنك البكاء في الأماكن التي تذكرك بالمواطن الذي نزلت فيه سعدى،فتنشغل بذكرها ولا تبكي من أجلها، فإنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد: أي شغل من لم يذق السعادة الحقيقية، أما من ذاق السعادة الحقيقية فإنه لا يشغل نفسه بتذكر معشوقته، لأن سعادته أنست كل محبوب، والسعادة الحقيقية هي ما سيتعلمه من مسائل العلم وتذكاره.
وقوله: وصرير أقلامى على صفحاتها * أبهى منالدوكاء والعشاق
أي صوت الأقلام عند الكتابة بها على الصفحات (أبهى من الدوكاء) أي من الطيب كما فيالتاج. وقيل الجماع. داك المرأة أي جامعها كما في اللسان.
قوله: وألذ من نقر الفتاة لدفها ....نقري لأ قي الرمل عن أوراقي
كان السلف يكتبون ثم يجففون كتاباتهم بوضع التراب عليها.فعبربنقر الأوراق لإلقاء هذا الرمل ألذ من نقر الفتات لدفها من أجل اللهو وراحة النفس لأن السرور التام لا يكون إلا بطاعة الله وما يقرب إلى رضوانه.
كماقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وَلَيْسَ لِلْقُلُوبِ سُرُورٌ وَلا لَذَّةٌتَامَّةٌ إلا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ بِمَا يُحِبُّهُ ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا اللّه اهـ. مجموع الفتاوى[28 /32].
وقوله: وتمايلي طربا لحل عويصة ... أشهىوأحسن من مدام الساقي
أي تمايلي تكرارا لحل مسألة صعبة أشهى من شرب الخمر باستمرار عند مدمنيه.
وهذايدل على أن الفائدة الواحدة عنده وكذلك عند المحب للعلم والعارف لقدره خير له من الدنياوما فيها من الملذات، بل تحصيل الفوائد لا يعادلها شيء.
وهذا كما قاله شعبة في حديث تعب في الرحلة من أجل أن يتحصل عليه، وانتهى به الأمر إلى أن الحديث من طريق شهر بن حوشب، فقال: أفسده عليّ شهر، ولوصح هذا لكان أحب إليّ من أهلي ومالي وولدي والناس أجمعين. أو بهذا المعنى. كما في "الرحلة" و "الكفاية للخطيب .
وقوله: أأبيت سهران الدجى وتبيته * نوماوتبغى بعد ذاك لحاقى
أي أبيت سهران في ظلمات الليالي لتحصيل العلم وجمع الفوائد وتبيته نوما حفاظا على الراحة والتلذذ بالأولاد والزوجات فأنى لك اللحوق بمن بات ليله في تحصيل العلم.
وفي معنى هذا قول ابن فارس:
إذا كان يؤذيك حر المصي ... ف وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن ازمان الربي ... ع فأخذك للعلم قل لي متى؟
والحاصل أن المرأ يحرص على تحصيل العلم والعمل به وتعليمة فبذلك يكون من خيرة الناس كما في حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه.وأما العلم بلا عمل فوبال على صاحبة كما في حديث أبي هريرة وحديث أسامة.
وقدأحسن من قال:
لاتنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عَظيمُ
وابْدَأْ بنفسك فانهَها عنَ غَيِّها ... فإِذا انتهت عنه فأنتَ حَكيمِ
ثم تمحق بركته فلا ينتفع به كما قيل:
مواعظ الواعظ لن تقبل حتى يعيها قلبه أول
فياقومما أظلم من واعظ خالف ما قد قاله بالمل
فنسألالله أن ينفعنا بما علمنا وأ ن يرزقنا علما ينفعنا.
والحمدالله رب العالمين.
كتبه أبومحمد عبد الكريم بن غالب الحسني الإبي
في يوم الثلثاء الخامس من شهر رمضان.
مسجد الألباني - دار السلام -تنزانيا
[1] كان شيخنا مقبل وبعض الكتاب يعزها إلى الزمخشري وهناك كثير من الكتاب يعزونها إلى الشافعي وهي موجودة في ديوان الشافعي وموجودة أيضا في بعض نسخ كتب الزمخشري ولم أجد فرصة لفصل الخطاب في ذلك والله أعلم.
[2] وهذا الكتاب من أبرز الدلائل على فساد عقيدته ونحرافه عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
تعليق