***************** التحذير من الكذب ******************
"إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون "[النحل :105]
إن مما أسقط فالحا الحربي وزمرته مسائل كثيرة وكان من أساسها وأسها الكذب والذي جعلوها أصلا من أصول دعوتهم شعروا بذلك أو لم يشعروا ولعل آخرها إرسال محاضرة لذلك الأفاك فالح على بريد أعضاء سحاب يرد فيها- زعموا- على الشيخ المحدث ربيع هادي حفظه الله وإن مما يعرف به خواء هذه المحاضرة أنهم ابتدؤها بالكذب وذلك بإرسالها باسم سحاب وهي من موقعه الاشري فأحببت أن أذكر لهم { قبح الكذب }، وسوء مآله و مصيره ، و ذم المتصف به ، المُتّخِذه خصلة و وصفا في غالب قاله و قيله ، فإن الكذّاب متصف بأقبح و أشنع وصف فهو ـ أي الكذب ـ مسقط له وجاعله ضحكة يُتفكّه به ، وكاسيه عارا و شنارا .
فأقول:
لقد كان السابقون يحثون على الصدق و يربّون أولادهم عليه ، و يُحذّرون من الكذب ويضربون أبنائهم لاجتنابه وتحاشيه .
فقد قال ـ عبدالملك بن مروان ـ لمؤدب بنيه:
(( إنه - والله- ما يخفى علي ما تعلمهم وتلقيه إليهم، فاحفظ عني ما أوصيك به: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وعلمهم الشعر يسمحوا ويمجدوا وينجدوا، وجنبهم شِعرعروة بن الورد، فإنه يحمل على البخل، وأطعمهم اللحم يقووا ويشجعوا، وجز شعورهم تغلظ رقابهم، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس أدباً وهدياً، ومرهم فليستاكوا، وليمصوا الماء مصاً، ولا يعبوه عباً، ووقرهم في العلانية، وأدبهم في السر، واضربهم على الكذب كما تضربهم على القرآن، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار... ))( بهجة المجالس و أنس المجالس لابن عبد البر :ج2)
و جاء أيضا في المجلد الأول من نفس الكتاب ـ عن عبد الملك بن مروان : (( أنه كان إذا ولَّى رجلاً البريد، سأل عن صدقه وعفته وأمانته، وقال: إن كذبه يشكك في صدقه ... )) .
و كان المشركون في الجاهلية يأنفون الكذب و يستنكفونه ، حتى قال أبو سفيان ـ رضي الله عنه ـ (( عندما سأله ملك الروم و هو بالشام ، عن النبي : لولا أن يؤثروا عني كذبا لكذبت )) ، عندها أجاب بالحق والصدق .
و قال العلامة ـ ابن عثيمين ـ مُعلقا على هذه القصة :"إن أبا سفيان في حال كفره تنزّه أن يوصف بالكذب ولو مرة واحدة,مع أنه كان يرى أن له مصلحة في كذبه عما يُخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...)) ا.هـ ( الضياء اللامع من الخطب الجوامع : 479)
و قال أيضا في التحذير من الكذب : "...فالتهاون بالكذب عنوان الرذيلة, فالكذبة الواحدة تخرق السياج الحائل بينك وبين الكذب ، حتى لا يبقى دونه حائل . "ا.هـ (المصدر السابق)
و قال أيضاـ رحمه الله تعالى : " ... واحذروا من الكذب مع الناس ، لا تُخبروهم بخلاف الواقع ، ولا تُعاملوهم بخلاف الحقيقة ، إن الــمـــؤمـــن لا يُــمــكــن أن يكــــذب ؛ لأن الكذب من خصال المنافقين : "و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون "[المنافقون :1] . "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا و لهم عذاب أليم بما كانوا يكذِبون "[البقرة :10] . "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون "[النحل :105] . إن المؤمن لا يمكن أن يكذب ؛ لأنه يؤمن بآيات الله ، يؤمن برسوله ، يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الكذب يهدي إلى الفجور ، و إن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب و يتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابا )) . ما أقبح غاية الكذب !! و ما أسفل مرتبة الكاذب !! الكذب يُفضي إلى الفجور ، وهو الميل والانحراف عن الصراط السوي ، ثم إلى النار و يا ويل أهل النار ، و الكاذب سافل ؛ لأنه مكتوب عند الله كذابا ، و بئس هذا الوصف لمن اتصف به ، إن الإنسان لينفر أن يُقال له بين الناس : يا كذاب ! فكيف يُقِرّ أن يُكتب عند خالقه كذابا ؟! و إن الكاذب لمحذور في حياته لا يوثق به في خبر و لا معاملة , و إنه لموضع الثناء القبيح بعد وفاته ، و لقد قرن الله تعالى الكذب بعبادة الأوثان ، فقال تعالى : "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "[الحج : 30] . " ا.هـ (المصدر نفسه:478ـ479)
و قال الشاعر :
ما أقبح الكذب المذموم صاحبه 000وأحسن الصدق عند الله والناس
قال محمود الوراق :
اصدق حديثك إن في الصدق الخلاص من الدنس 00ودع الكـذب لـشـأنـه خير من الكذب ، الخرس
قال ـ ابن القيم ـ في زاد المعاد ( 3/576) ـ عندما تكلم عن قصة الثلاثة الذين خُلّفوا ، قال : " توفيق الله لكعب و صاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ، ولم يخذلهم حتى كذبوا و اعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم و فسدت عاقبتهم كل الفساد ، و الصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة ، والفلاح كل الفلاح ، و عل هذا قامت الدنيا و الآخرة ، فمرارات المبادي حلاوات في العواقب " اهـ.
و قال الشعبي : " من كذب فهو منافق ؛ و حكى محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقة من أهل السنة " اهـ. ( جامع العلوم والحكم ـ 2/ 443) .
وقال الحسن : " كان يُقال : النفاق اختلاف السر و العلانية ، والقول والعمل ، و المدخل والمخرج ، و كان يقال ، : أُسّ النفاق الذي يُبنى عليه النفاق الكذب " أ هـ . ( المصدر السابق ـ 2/ 481ـ 482) .
قال الحافظ ـ ابن رجب ـ ( 2/481) عند شرح حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (( أربع من كُنّ فيه كان منافقا وإن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من حدّث كذب ، ...)) .
قال:" وأصول هذا النفاق ـ أي الأصغرـ ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث وهي خمسة:
أحدها : أن يُحدث بحديث لمن يُصدقه ، و هو كاذب له " اهـ.
و قال ـ ابن القيم ـ في الزاد ( 3/590ـ591) : " و الكذب : بريد الكفر والنفاق ، و دليله ومركبه و سائقه وقائده ، و حليته ولباسه و لبه ، فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد ، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا و يطرد أحدهما صاحبه و يستقر موضعه .... فما أنعم الله على العبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ، و لا ابتلاه ببَلِيّة أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام و فساده والله المستعان " اهـ.
و الكذب كله محرم فلا يجوز الكذب على المسلم و لا الكافر ولا على الفاجر .
قال شيخ الإسلام في مجموع الرسائل و المسائل ( 5/105) : " فالكذب على الشخص حرام كله سواء كان الرجل مسلما أو كافرا أو فاجرا ، لكن الافتراء على المؤمن أشد، بل الكذب كله حرام ، و لكن يباح عند الحاجة الشرعية : المعاريض " اهـ .
قال أبو طالب : " قال أحمد في رواية حنبل : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، فقلت له : فقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إلا أن يكون يصلح بين اثنين ، أو رجل و امرأته يريد بذلك رضاها)) ؟ قال : لا بأس به ،فأما ابتداء الكذب فهو منهي عنه ، و في الحرب كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الحرب خدعة )) ، وكان النبي إذا أراد غزوة ورّى بغيرها ، لم ير بذلك بأسا في الحرب ، أما الكذب بعينه فلا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الكذب مجانب للإيمان )) أخرجه أحمد ( 1/5) موقوفا على أبي بكر الصديق ، و إسناده صحيح " اهـ. ( الآداب الشرعية (1/55) .
و قال المرّوزي : " قلت لأبي عبد الله : يجيئونني بالطعام فإن قلت : لا آكله ثم أكلت ؟ قال : هذا كذب لا ينبغي أن يفعل . و قال الأثرم : " سمعت أبا عبد الله سُئل عن الرجل يأتيه الأمّيّ الذي لا يكتب فيقول : أتكتب لي كتابا ، فيُملي عليه شيئا يعلم أنه كذب ، أيكتب له ؟ قال : لا , فلا يكتب له الكذب " أ. هـ .( المصدر السابق ـ 1/72) .
وهذا ظاهر لما في كتابة الكذب من نشره والإعانة على المنكر و الإثم .
و قال الشيخ ـ ابن عثيمين ـ عند قول الله عز وجل " و لا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع و البصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا "، قال : "و لا تقف"أي : لا تتبع ما ليس لك به علم .
"إن السمع والبصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا "و إذا كان هذا نهيا مما لم تحط به علما ، فما بالك بما أحطت به علما و أخبرت بخلافه ؟ يكون هذا أشد وأعظم ، و بهذا نعرف أن الإنسان إذا تكلم بكلام ، فإما أن يكون قد أحاط به علما ، فكلامه مباح في الأصل ما لم يجُرّ إلى مفسدة .
الثاني : أن يقفوا ما يعلم أن الأمر بخلافه ؛ فهذا منهي عنه ، "و لا تقف ما ليس لك به علم" ،فنهى أن يتكلم الإنسان في حالتين :
في الحالة الأولى : أن يعلم أن الأمر بخلاف ما يتكلم به .
و الحالة الثانية : أن يتكلم في أمر لا يعلمه ، هذا كله منهي عنه ، أما إذا تكلم بما يعلم فهذا أمر لا بأس به " اهـ ( شرح رياض الصالحين ـ 2/1618ـ 1619) .
و هذان الصنفان الأولان هما الغالبان على الناس إلاّ من رحم ربي ، وقليلٌ ما هم ،فقليل من يتكلم بعلم وينطق بصدق .
قال ـ ابن مفلح ـ في الآداب الشرعية ( 1/44) :" و يحرم الكذب لغير إصلاح وحرب و زوجة ، و يحرم المدح والذم بالباطل " .
و قال (1/44) :" و مهما أمكن المعاريض حرم ، و هو ظاهر كلام غير واحد و صرح به آخرون لعدم الحاجة إذاً " .
و قال أيضا (1/45) : " و قال بعض أصحابنا المتأخرين في كتاب [ الهدي] أنه يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب ـ الحجاج بن علاط ـ على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من المشركين من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب ..." اهـ.
و هذا القول غير مسلّم به و فيه نظر.
قال الشيخ ـ ابن عثيمين ـ في شرح حديث عبد الله بن مسعود : (( إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ... )) ـ الحديث ـ ، قال : " ففي هذا الحديث حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال : (( إياكم والكذب )) يعني ابتعدوا عنه واجتنبوه ، و هذا يعم الكذب في كل شيء ، و لا يصلح قول من قال : إن الكذب إذا لم يتضمن ضررا على الغير فلا بأس به ، فإن هذا قول باطل ، ؛ لأن النصوص ليس فيها هذا القول ، النصوص تحرّم الكذب مطلقا ، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكذب يهدي إلى الفجور ، يعني إذا كذب الرجل في حديثه، فإنه لا يزال فيه الأمر حتى يصل به إلى الفجور ـ والعياذ بالله ـ و هو الخروج عن الطاعة والتمرد و العصيان ، والفجور يهدي إلى النار ، قال تعالى : "كلا إن كتاب الفجّار لفي سِجّين و ما أدراك ما سِجّين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين "، ثم قال : (( و لا يزال الرجل يكذب و يتحرّى الكذب حتى يُكتَبَ عند الله كذّابا )) ـ و العياذ بالله ـ أي : من الكاذبين ، لأن الكذب نسأل الله لنا ولكم السلامة منه ، و من سائر الآثام ، إذا اعتاده الإنسان صار يكذب في كل شيء ، و صدق عليه وصف المبالغة ، فكُتِبَ عند الله كذّابا ..." ( شرح رياض الصالحين ـ 2/1621) .
و قد وردت كثيرمن الأقوال والآثار في التحذير من الكذب والكذاب ، و التحذير من مصاحبته ،
فقد قال ـ ابن عبد البر ـ في كتابه (بهجة المجالس ج :2 ) :
" قال علىّ بن أبي طالب ،رضي الله عنه: (( لا خير في صحبة من تجتمع فيه هذه الخلال :من إذا حدّثك كذبك , .... )) ، و قال أيضا ـ يعني ابن عبد البر ـ في بيان الأذلاء ؛ في نفس الكتاب :
" الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، و المديان، والفقير " ا.هـ .
و جاء أيضا في الكتاب نفسه (ج1) عن الشعبي أنه قال :
" قال لي عبد الملك جنبني ثلاثاً وأورد عليَّ ما شئت، لا تطرني في وجهي، فأنا أعلم بنفسي، وإياك أن تغتاب عندي أحداً،واحذر أن أجد عليك كذبة فلا أسكن إلى قولك أبداً.
وهذا مأخوذ من قول العباس لابنه عبد الله رضي الله عنهما.
قال عبد الله بن عباس،قال لي أبي:إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب- يدنيك دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجدنّ عليك كذباً، ولا تغتابن عنده مسلماً،ولا تفشين له سرّاً.
فقيل له: يا ابن عباس كل واحدة خير من ألف،فقال: كل واحدة خير من عشرة آلاف.))
و يروى فيه أيضا عن الأحنف أنه قال :
لا مروءة لكذوب ،ولا أخ لملول ، ولا سؤدد لسيئ الخلق .
و فيه أيضا : " قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النَّمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة."و فيه أيضا :
" قال الشاعر :
لا يكذب المرء إلاّ من مهانتـه000 أو عادة السّوء أو من قلّة الأدب
قال بعضهم : ما أراني أوجر في ترك الكذب. قيل له : ولم ? قال : لأني أدعه اتقاء.
قالوا : الصدق عز ، والكذب خضوع.
وقال كعب بن زهير :
ومن دعا النّاس إلى ذمّه ذمّوه بالحقّ وبالباطـل 00مقالة السّوء إلى أهليها أسرع من منحدرٍ سائل
قال لقمان لابنه : يا بني! احذر الكذب فإنه شهيّ كلحم العصفور ، من أكل شيئا منه لم يصبر عنه.
عوتب بعض الأعراب على الكذب ، فقال للذي عاتبه : واللّه لو غرغرت به لهاتك ما صبرت عنه.وقال الأصمعي : قيل لكذّاب : ما يحملك على الكذب ? فقال : أما إنك لو تغرغرت به مرة ما نسيت حلاوته." ا.هـ وقد قيل : " الكذب جماع النفاق " و قيل أيضا : " الكذب عار لازم , و ذل دائم " و قيل :" الكذب والحسد والنفاق أثافي " < >
فماذا بعد الحق يا أتباع فالح ؟
وماذا بعد الصدق؟
"إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون "[النحل :105]
إن مما أسقط فالحا الحربي وزمرته مسائل كثيرة وكان من أساسها وأسها الكذب والذي جعلوها أصلا من أصول دعوتهم شعروا بذلك أو لم يشعروا ولعل آخرها إرسال محاضرة لذلك الأفاك فالح على بريد أعضاء سحاب يرد فيها- زعموا- على الشيخ المحدث ربيع هادي حفظه الله وإن مما يعرف به خواء هذه المحاضرة أنهم ابتدؤها بالكذب وذلك بإرسالها باسم سحاب وهي من موقعه الاشري فأحببت أن أذكر لهم { قبح الكذب }، وسوء مآله و مصيره ، و ذم المتصف به ، المُتّخِذه خصلة و وصفا في غالب قاله و قيله ، فإن الكذّاب متصف بأقبح و أشنع وصف فهو ـ أي الكذب ـ مسقط له وجاعله ضحكة يُتفكّه به ، وكاسيه عارا و شنارا .
فأقول:
لقد كان السابقون يحثون على الصدق و يربّون أولادهم عليه ، و يُحذّرون من الكذب ويضربون أبنائهم لاجتنابه وتحاشيه .
فقد قال ـ عبدالملك بن مروان ـ لمؤدب بنيه:
(( إنه - والله- ما يخفى علي ما تعلمهم وتلقيه إليهم، فاحفظ عني ما أوصيك به: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وعلمهم الشعر يسمحوا ويمجدوا وينجدوا، وجنبهم شِعرعروة بن الورد، فإنه يحمل على البخل، وأطعمهم اللحم يقووا ويشجعوا، وجز شعورهم تغلظ رقابهم، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس أدباً وهدياً، ومرهم فليستاكوا، وليمصوا الماء مصاً، ولا يعبوه عباً، ووقرهم في العلانية، وأدبهم في السر، واضربهم على الكذب كما تضربهم على القرآن، فإن الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار... ))( بهجة المجالس و أنس المجالس لابن عبد البر :ج2)
و جاء أيضا في المجلد الأول من نفس الكتاب ـ عن عبد الملك بن مروان : (( أنه كان إذا ولَّى رجلاً البريد، سأل عن صدقه وعفته وأمانته، وقال: إن كذبه يشكك في صدقه ... )) .
و كان المشركون في الجاهلية يأنفون الكذب و يستنكفونه ، حتى قال أبو سفيان ـ رضي الله عنه ـ (( عندما سأله ملك الروم و هو بالشام ، عن النبي : لولا أن يؤثروا عني كذبا لكذبت )) ، عندها أجاب بالحق والصدق .
و قال العلامة ـ ابن عثيمين ـ مُعلقا على هذه القصة :"إن أبا سفيان في حال كفره تنزّه أن يوصف بالكذب ولو مرة واحدة,مع أنه كان يرى أن له مصلحة في كذبه عما يُخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...)) ا.هـ ( الضياء اللامع من الخطب الجوامع : 479)
و قال أيضا في التحذير من الكذب : "...فالتهاون بالكذب عنوان الرذيلة, فالكذبة الواحدة تخرق السياج الحائل بينك وبين الكذب ، حتى لا يبقى دونه حائل . "ا.هـ (المصدر السابق)
و قال أيضاـ رحمه الله تعالى : " ... واحذروا من الكذب مع الناس ، لا تُخبروهم بخلاف الواقع ، ولا تُعاملوهم بخلاف الحقيقة ، إن الــمـــؤمـــن لا يُــمــكــن أن يكــــذب ؛ لأن الكذب من خصال المنافقين : "و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون "[المنافقون :1] . "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا و لهم عذاب أليم بما كانوا يكذِبون "[البقرة :10] . "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون "[النحل :105] . إن المؤمن لا يمكن أن يكذب ؛ لأنه يؤمن بآيات الله ، يؤمن برسوله ، يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الكذب يهدي إلى الفجور ، و إن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب و يتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابا )) . ما أقبح غاية الكذب !! و ما أسفل مرتبة الكاذب !! الكذب يُفضي إلى الفجور ، وهو الميل والانحراف عن الصراط السوي ، ثم إلى النار و يا ويل أهل النار ، و الكاذب سافل ؛ لأنه مكتوب عند الله كذابا ، و بئس هذا الوصف لمن اتصف به ، إن الإنسان لينفر أن يُقال له بين الناس : يا كذاب ! فكيف يُقِرّ أن يُكتب عند خالقه كذابا ؟! و إن الكاذب لمحذور في حياته لا يوثق به في خبر و لا معاملة , و إنه لموضع الثناء القبيح بعد وفاته ، و لقد قرن الله تعالى الكذب بعبادة الأوثان ، فقال تعالى : "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور "[الحج : 30] . " ا.هـ (المصدر نفسه:478ـ479)
و قال الشاعر :
ما أقبح الكذب المذموم صاحبه 000وأحسن الصدق عند الله والناس
قال محمود الوراق :
اصدق حديثك إن في الصدق الخلاص من الدنس 00ودع الكـذب لـشـأنـه خير من الكذب ، الخرس
قال ـ ابن القيم ـ في زاد المعاد ( 3/576) ـ عندما تكلم عن قصة الثلاثة الذين خُلّفوا ، قال : " توفيق الله لكعب و صاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ، ولم يخذلهم حتى كذبوا و اعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم و فسدت عاقبتهم كل الفساد ، و الصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة ، والفلاح كل الفلاح ، و عل هذا قامت الدنيا و الآخرة ، فمرارات المبادي حلاوات في العواقب " اهـ.
و قال الشعبي : " من كذب فهو منافق ؛ و حكى محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقة من أهل السنة " اهـ. ( جامع العلوم والحكم ـ 2/ 443) .
وقال الحسن : " كان يُقال : النفاق اختلاف السر و العلانية ، والقول والعمل ، و المدخل والمخرج ، و كان يقال ، : أُسّ النفاق الذي يُبنى عليه النفاق الكذب " أ هـ . ( المصدر السابق ـ 2/ 481ـ 482) .
قال الحافظ ـ ابن رجب ـ ( 2/481) عند شرح حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (( أربع من كُنّ فيه كان منافقا وإن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من حدّث كذب ، ...)) .
قال:" وأصول هذا النفاق ـ أي الأصغرـ ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث وهي خمسة:
أحدها : أن يُحدث بحديث لمن يُصدقه ، و هو كاذب له " اهـ.
و قال ـ ابن القيم ـ في الزاد ( 3/590ـ591) : " و الكذب : بريد الكفر والنفاق ، و دليله ومركبه و سائقه وقائده ، و حليته ولباسه و لبه ، فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد ، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا و يطرد أحدهما صاحبه و يستقر موضعه .... فما أنعم الله على العبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ، و لا ابتلاه ببَلِيّة أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام و فساده والله المستعان " اهـ.
و الكذب كله محرم فلا يجوز الكذب على المسلم و لا الكافر ولا على الفاجر .
قال شيخ الإسلام في مجموع الرسائل و المسائل ( 5/105) : " فالكذب على الشخص حرام كله سواء كان الرجل مسلما أو كافرا أو فاجرا ، لكن الافتراء على المؤمن أشد، بل الكذب كله حرام ، و لكن يباح عند الحاجة الشرعية : المعاريض " اهـ .
قال أبو طالب : " قال أحمد في رواية حنبل : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، فقلت له : فقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إلا أن يكون يصلح بين اثنين ، أو رجل و امرأته يريد بذلك رضاها)) ؟ قال : لا بأس به ،فأما ابتداء الكذب فهو منهي عنه ، و في الحرب كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الحرب خدعة )) ، وكان النبي إذا أراد غزوة ورّى بغيرها ، لم ير بذلك بأسا في الحرب ، أما الكذب بعينه فلا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( الكذب مجانب للإيمان )) أخرجه أحمد ( 1/5) موقوفا على أبي بكر الصديق ، و إسناده صحيح " اهـ. ( الآداب الشرعية (1/55) .
و قال المرّوزي : " قلت لأبي عبد الله : يجيئونني بالطعام فإن قلت : لا آكله ثم أكلت ؟ قال : هذا كذب لا ينبغي أن يفعل . و قال الأثرم : " سمعت أبا عبد الله سُئل عن الرجل يأتيه الأمّيّ الذي لا يكتب فيقول : أتكتب لي كتابا ، فيُملي عليه شيئا يعلم أنه كذب ، أيكتب له ؟ قال : لا , فلا يكتب له الكذب " أ. هـ .( المصدر السابق ـ 1/72) .
وهذا ظاهر لما في كتابة الكذب من نشره والإعانة على المنكر و الإثم .
و قال الشيخ ـ ابن عثيمين ـ عند قول الله عز وجل " و لا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع و البصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا "، قال : "و لا تقف"أي : لا تتبع ما ليس لك به علم .
"إن السمع والبصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا "و إذا كان هذا نهيا مما لم تحط به علما ، فما بالك بما أحطت به علما و أخبرت بخلافه ؟ يكون هذا أشد وأعظم ، و بهذا نعرف أن الإنسان إذا تكلم بكلام ، فإما أن يكون قد أحاط به علما ، فكلامه مباح في الأصل ما لم يجُرّ إلى مفسدة .
الثاني : أن يقفوا ما يعلم أن الأمر بخلافه ؛ فهذا منهي عنه ، "و لا تقف ما ليس لك به علم" ،فنهى أن يتكلم الإنسان في حالتين :
في الحالة الأولى : أن يعلم أن الأمر بخلاف ما يتكلم به .
و الحالة الثانية : أن يتكلم في أمر لا يعلمه ، هذا كله منهي عنه ، أما إذا تكلم بما يعلم فهذا أمر لا بأس به " اهـ ( شرح رياض الصالحين ـ 2/1618ـ 1619) .
و هذان الصنفان الأولان هما الغالبان على الناس إلاّ من رحم ربي ، وقليلٌ ما هم ،فقليل من يتكلم بعلم وينطق بصدق .
قال ـ ابن مفلح ـ في الآداب الشرعية ( 1/44) :" و يحرم الكذب لغير إصلاح وحرب و زوجة ، و يحرم المدح والذم بالباطل " .
و قال (1/44) :" و مهما أمكن المعاريض حرم ، و هو ظاهر كلام غير واحد و صرح به آخرون لعدم الحاجة إذاً " .
و قال أيضا (1/45) : " و قال بعض أصحابنا المتأخرين في كتاب [ الهدي] أنه يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب ـ الحجاج بن علاط ـ على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من المشركين من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب ..." اهـ.
و هذا القول غير مسلّم به و فيه نظر.
قال الشيخ ـ ابن عثيمين ـ في شرح حديث عبد الله بن مسعود : (( إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ... )) ـ الحديث ـ ، قال : " ففي هذا الحديث حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال : (( إياكم والكذب )) يعني ابتعدوا عنه واجتنبوه ، و هذا يعم الكذب في كل شيء ، و لا يصلح قول من قال : إن الكذب إذا لم يتضمن ضررا على الغير فلا بأس به ، فإن هذا قول باطل ، ؛ لأن النصوص ليس فيها هذا القول ، النصوص تحرّم الكذب مطلقا ، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الكذب يهدي إلى الفجور ، يعني إذا كذب الرجل في حديثه، فإنه لا يزال فيه الأمر حتى يصل به إلى الفجور ـ والعياذ بالله ـ و هو الخروج عن الطاعة والتمرد و العصيان ، والفجور يهدي إلى النار ، قال تعالى : "كلا إن كتاب الفجّار لفي سِجّين و ما أدراك ما سِجّين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين "، ثم قال : (( و لا يزال الرجل يكذب و يتحرّى الكذب حتى يُكتَبَ عند الله كذّابا )) ـ و العياذ بالله ـ أي : من الكاذبين ، لأن الكذب نسأل الله لنا ولكم السلامة منه ، و من سائر الآثام ، إذا اعتاده الإنسان صار يكذب في كل شيء ، و صدق عليه وصف المبالغة ، فكُتِبَ عند الله كذّابا ..." ( شرح رياض الصالحين ـ 2/1621) .
و قد وردت كثيرمن الأقوال والآثار في التحذير من الكذب والكذاب ، و التحذير من مصاحبته ،
فقد قال ـ ابن عبد البر ـ في كتابه (بهجة المجالس ج :2 ) :
" قال علىّ بن أبي طالب ،رضي الله عنه: (( لا خير في صحبة من تجتمع فيه هذه الخلال :من إذا حدّثك كذبك , .... )) ، و قال أيضا ـ يعني ابن عبد البر ـ في بيان الأذلاء ؛ في نفس الكتاب :
" الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، و المديان، والفقير " ا.هـ .
و جاء أيضا في الكتاب نفسه (ج1) عن الشعبي أنه قال :
" قال لي عبد الملك جنبني ثلاثاً وأورد عليَّ ما شئت، لا تطرني في وجهي، فأنا أعلم بنفسي، وإياك أن تغتاب عندي أحداً،واحذر أن أجد عليك كذبة فلا أسكن إلى قولك أبداً.
وهذا مأخوذ من قول العباس لابنه عبد الله رضي الله عنهما.
قال عبد الله بن عباس،قال لي أبي:إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب- يدنيك دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجدنّ عليك كذباً، ولا تغتابن عنده مسلماً،ولا تفشين له سرّاً.
فقيل له: يا ابن عباس كل واحدة خير من ألف،فقال: كل واحدة خير من عشرة آلاف.))
و يروى فيه أيضا عن الأحنف أنه قال :
لا مروءة لكذوب ،ولا أخ لملول ، ولا سؤدد لسيئ الخلق .
و فيه أيضا : " قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النَّمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة."و فيه أيضا :
" قال الشاعر :
لا يكذب المرء إلاّ من مهانتـه000 أو عادة السّوء أو من قلّة الأدب
قال بعضهم : ما أراني أوجر في ترك الكذب. قيل له : ولم ? قال : لأني أدعه اتقاء.
قالوا : الصدق عز ، والكذب خضوع.
وقال كعب بن زهير :
ومن دعا النّاس إلى ذمّه ذمّوه بالحقّ وبالباطـل 00مقالة السّوء إلى أهليها أسرع من منحدرٍ سائل
قال لقمان لابنه : يا بني! احذر الكذب فإنه شهيّ كلحم العصفور ، من أكل شيئا منه لم يصبر عنه.
عوتب بعض الأعراب على الكذب ، فقال للذي عاتبه : واللّه لو غرغرت به لهاتك ما صبرت عنه.وقال الأصمعي : قيل لكذّاب : ما يحملك على الكذب ? فقال : أما إنك لو تغرغرت به مرة ما نسيت حلاوته." ا.هـ وقد قيل : " الكذب جماع النفاق " و قيل أيضا : " الكذب عار لازم , و ذل دائم " و قيل :" الكذب والحسد والنفاق أثافي " < >
فماذا بعد الحق يا أتباع فالح ؟
وماذا بعد الصدق؟
تعليق