الأذان الأول قبل جلوس الْخَطيب على الْمِنبر يوم الْجُمعة:
بدعة مُحدثة، قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (912): حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبِي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الْجُمعة أوله إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، قال أبو عبد الله: الزوراء موضع: بالسوق بالْمَدينة.
وقال -رحِمه الله-: الْمُؤذن الواحد يوم الْجُمعة.
حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبِي سلمة الْمَاجشون عن الزهري، عن السائب بن يزيد: أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الْجُمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل الْمَدينة، ولَم يكن للنبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الْجُمعة حين يَجلس الإمام، يعني على الْمِنبر.
ورواية النسائي فِي «سننه» (ج3 ص101) بلفظ: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الْمِنبر يوم الْجُمعة، فإذا نزل أقام.
ففي هذه الرواية تعيين اسم الْمُؤذن الواحد أنه بلال، وأن ذلك فِي يوم الْجُمعة دون بقية الأيام كما فِي قوله يوم الْجُمعة، أما غير الْجُمعة فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكثر من واحد، يدل على ذلك حديث ابن عمر فِي البخاري رقم (1918، 1919)، ومسلم رقم (1092) من حديث ابن عمر قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، فقال النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت».
وقال ابن رجب -رحِمه الله- فِي شرح هذا الْحَديث من كتاب «فتح الباري»: قوله: «لَم يكن لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا مؤذن واحد». يعنِي: يوم الْجُمعة، فإن فِي غير الْجُمعة كان له مؤذنان، وأيضًا استبان من ألفاظ الْحَديث أن ذلك الْمُؤذن الواحد لَم يكن يؤذن إلا أذانًا واحدًا، كما فِي الرواية الثانية للبخاري، ورواية النسائي فِي قوله: لَم يكن للنبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤذن غير واحد، وكان النداء، وفِي الرواية الأخرى وكان يؤذن إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر.
وقوله: فلما كان عثمان زاد النداء الثالث، قال ابن رجب وغيره: الأذانان اللذان كانا على عهد النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هما الأذان والإقامة. اهـ.
فقد ثبت فِي البخاري رقم (627) ومسلم رقم (838) من حديث عبد الله بن مغفل أن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سمى الإقامة أذانًا فقال: «بين كل أذانين صلاة».
قال النووي والْحَافظ ابن حجر وغيرهما عند شرح هذا الْحَديث: الْمُراد بالأذانين: الأذان والإقامة، والْمُراد بالصلاة: صلاة نافلة، ولا يصح حَمله على أن الصلاة الْمَفروضة بين الأذانين، والْخَبر ناطق بأنها نافلة من قوله فِي آخر الْحَديث: لِمن شاء، وقد توارد الشُراح على أن هذا من باب التغليب، كقولِهم القمرين للشمس والقمر، وكقولِهم العمرين لأبي بكر وعمر، وأطلق على الإقامة أذانًا لأنها إعلام بِحضور فعل الصلاة. اهـ الْمُراد من «فتح الباري» لابن حجر -رحِمه الله- (ج2 ص132) عند شرح الْحَديث (624).
وقوله فِي الْحَديث: على الزوراء، بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء مَمدودة هكذا ضبطها الْحَافظ وغيره، وانظر «الفتح» عند الْحَديث رقم (912).
والزوراء تقدم أن أبا عبد الله البخاري -رحِمه الله- قال: هي موضع بالسوق بالْمَدينة.
قال أبو عبد الرحمن: قد اختلف أهل العلم فِي الزوراء، فقيل: هي دار فِي السوق، وقيل: هي صخرة فِي السوق كان يصعد الْمُؤذن فِي زمان عثمان عليها فيؤذن الأول، ولهذا الإمام البخاري -رحِمه الله- قال: موضع بالسوق ولَم يَجزم بأنها دار ولا صخرة.
وقد أخرج ابن ماجه رقم (1135)، وابن خزيْمة (ج3 ص1837)، والطبراني فِي «الكبير» (ج7 ص145) من طريق: مُحمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد فذكر الْحَديث بلفظ فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على دار فِي السوق يقال لَهَا الزوراء.
وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن فِي هذه الطريق.
ثم إن حديث السائب هذا قد رواه جَماعة من أصحاب الزهري، منهم ابن أبي ذئب والْمَاجشون عن الزهري بغير زيادة (على دار فِي السوق) فمما لا شك أن هذه الزيادة منكرة، انفرد بها ابن إسحاق، وهو وإن كان صدوقًا فِي نفسه لكنه مدلس، وقد عنعن فِي هذه الطريق، ومن هنا يتحصل: أن كون الزوراء موضع بالْمَدينة هذا هو الْمُعتمد يقينًا عند أهل العلم.
وعليه دل الْحَديث الذي أخرجه مسلم عن أنس بن مالك أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه كانوا بالزوراء، قال: والزوراء بالْمَدينة عند السوق، فعُلم أنها موضع كما قال البخاري ورجحه الْحَافظ فِي «الفتح» وقال: هو الْمُعتمد.
لكن لَم أجد ما يثبت تعيينها أنها دار، أو صخرة، والْحَاصل أنه موضع من الْمَواضع بذلك الْمَكان، وعدم تعيينها لا يضر.
______________________
(1) الأطلال ما شخص من الْجَسد يقال: حيَّا الله طللك، وأطلالك أي: ما شخص من جسدك، وربَّما تطلق لفظة الأطلال على الأشراف. اهـ من $لسان العرب# و $تاج العروس# فيكون الْمَعنى: كأنه يندب أشلاء الأموات الشرفاء.
(2) قلت: هذا لعله كان آنذاك فِي بلده يأتون بالأذان الأول بصوت منخفض ثُمَّ بعد ذلك يَجهرون بالتسبيح، أما الآن فإن أكثرهم استبدلوا بدله بتلك البدعة فلا يأتون به ألبتة لا بصوت مرتفع ولا مَخفوض، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه.
(3) من حديث أبِي سعيد الْخُدري (، أخرجه أبو داود (ج4 ص213) $عون الْمَعبود#، وعبد بن حُميد فِي $الْمُنتخب# (ج2 ص66) من طريق: عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي سلمة، عن أبِي سعيد الْخُدري، وهذا سند صحيح، كل رجاله ثقات.
(4) معناه: أن الوقف على من يسبح قبل الفجر لا ينعقد ولا يصح، لأنه بدعة.
ذكر من حكم بأن الأذان الأول للجمعة محدث وبدعة
1- ابن عمر رضي الله عنه:
قال الإمام أبو بكر بن أبِي شيبة -رحِمه الله- فِي الْمُصنف (ج2 ص 140): حدثنا شبابة قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: الأذان الأول يوم الْجُمعة بدعة،( وكل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنًا).
وهذا سند صحيح إلَى ابن عمر؛ فشبابة: هو ابن سوار، ثقة حافظ.
وهشام بن الغاز: ثقة.
ونافع مولَى ابن عمر: إمام مشهور.
والزيادة التِي بين القوسين من فتح الباري لابن رجب (ج8 ص219)، عزاها إلَى وكيع فِي كتابه، والظاهر أنها من قول نافع.
2- الْحَسن البصري -رحِمه الله-:
قال ابن أبِي شيبة -رحِمه الله- (ج2 ص140): حدثنا هشيم، عن منصور، عن الْحَسن -وهو البصري- قال: النداء الأول يوم الْجُمعة الذي يكون عند خروج الإمام –أي: جلوسه على الْمِنبر- والذي قبل ذلك مُحدث.
وهذا سند صحيح إِلَى الْحَسن البصري -رحِمه الله-، ورجاله ثقات.
3- الزهري -رحِمه الله-:
قال -رحِمه الله- (ج2 ص 140): حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الزهري قال: أول من أحدث الأذان الأول: عثمان ليؤذن أهل السوق. اهـ.
وهذا سند لا بأس به إِلَى الزهري.
فهشيم: ثقة.
وأشعث: هو ابن عبد الْمَلك الْحِمراني ثقة.
أما عنعنة هشيم فهي فِي الباب مع غيرها من الآثار.
4- عطاء بن أبِي رباح -رحِمه الله-:
قال عبد الرزاق فِي الْمُصنف (ج3 ص205) -لعله عن ابن جرير- قال: أخبرنا عطاء قال: إنمَا كان الأذان يوم الْجُمعة حين يطلع الإمام، وذلك حين يَحرم البيع، فأما الأذان الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه فهو باطل. وهذا سند صحيح.
5- عمرو بن دينار -رحِمه الله-:
أخرج عبد الرزاق (ج3 ص206) عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار قال: أول من زاد الأذان الأول يوم الْجُمعة: عثمان، فكانوا يؤذنون على الزوراء، أما ببلادنا مكة فالْحَجاج. وهذا سند صحيح.
6- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
قال عمرو بن دينار بالسند الْمُتقدم: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حَتَّى يَجلس على الْمِنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الْجُمعة. اهـ.
وذكره ابن رجب فِي «فتح الباري» (ج8 ص218)، وسنده صحيح إلَى عمرو بن دينار؛ فابن جريج إمام، وقد صرح بأن عمرًا أخبره، وعمرو بن دينار هذا هو الْجُمحي إمام، قال عنه تلميذه سفيان بن عيينة: ثقة، ثقة، ثقة.
7- عبد الرحْمَن بن زيد بن أسلم -رحِمه الله-:
قال ابن رجب فِي الفتح (ج8 ص219): وقال عبد الرحْمَن بن زيد بن أسلم: لَم يكن فِي زمان النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا أذانان: حين يَجلس أعلى الْمِنبر، وأذان حين تقام الصلاة، قال: وهذا الأخير –أي: أذان عثمان- أحدثه الناس بعد. خرجه ابن أبي حاتِم.
8- سفيان الثوري -رحِمه الله-:
قال ابن رجب -رحِمه الله- (ج8 ص219- فتح): وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حَتَّى تزول الشمس، وإذا أذن الْمُؤذن قام الإمام على الْمِنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر أذان واحد، وهذا الأذان الذي زادوه مُحدث.
9- الإمام الشافعي:
قال -رحِمه الله-: وأحب أن يكون الأذان يوم الْجُمعة حين يدخل الإمام الْمَسجد، ويَجلس على موضعه الذي يَخطب عليه، خشب أو جريد أو منبر أو شيء مرفوع له، أو الأرض، فإذا فعل أخذ الْمُؤذن فِي الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على الْمِنبر لا جَماعة، ثُمَّ استدل على قوله هذا بِحديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه من صحيح البخاري فِي أول هذه الْمَسألة، قال: وقد كان عطاء ينكر أن يكون أحدثه عثمان، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان؛ فالأمر الذي على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إلي. اهـ من كتابه الأم (ج1 ص173).
فأنت ترى أن الإمام الشافعي يبيِّن أن هذا الأذان مُحدث، ويقول: سواء أحدثه عثمان رضي الله عنه أو غيره فالأمر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إليه، وهذا نص صريح من مصدر موثوق معتمد لِهَذا الإمام.
10- شمس الدين أبو بكر مُحمد بن أبي سهل السرخسي -رحِمه الله-:
فِي كتابه «الْمَبسوط» (ج2 ص31) قال: والأذان يوم الْجُمعة إذا صعد الإمام الْمِنبر، فإذا نزل أقام الصلاة بعد فراغه من الْخُطبة، هكذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والْخَليفتين من بعده، إلَى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان رضي الله عنه.
11- الإمام الطحاوي -رحِمه الله-:
قال السرخسي -رحِمه الله-: واختلفوا فِي الأذان الْمُعتبر الذي يوجب السعي إِلَى الْجُمعة ويَحرم عنده البيع؛ فكان الطحاوي يقول: هو الأذان عند الْمِنبر بعد خروج الإمام؛ فإنه هو الأصل الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يَخرج فيستوي على الْمِنبر، وهكذا على عهد أبِي بكر وعمر، ثُمَّ أحدث الناس الأذان على الزوراء.اهـ من الْمبسوط (ج1 ص134)، «ومرقاة الْمَفاتيح شرح مشكاة الْمَصابيح». للملاَّ علي القاري(ج3 ص498).
12- إسحاق بن راهويه:
قال: إن الأذان الأول يوم الْجُمعة مُحدث أحدثه عثمان، ذكر هذا الأثر ابن رجب فِي فتح الباري (ج8 ص220-221).
13- نافع مولَى ابن عمر:
أخرج وكيع من طريق هشام بن الغاز قال: سألت نافعًا عن الأذان يوم الْجُمعة؛ فقال: قال ابن عمر: بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وتقدم ثبوت سندها إِلَى نافع عند أثر ابن عمر برقم (1).
14- مَحمود السبكي:
صاحب «الْمَنهل العذب الْمَورود شرح سنن أبِي داود». قال -رحِمه الله-: وأما ما يفعل الآن من وقوع الأذانين فِي مكان واحد، أو أحدهما فوق الْمَسجد والآخر داخل الْمَسجد؛ فليس موافقًا لِمَا كان عليه سيدنا عثمان، ولا ما كان عليه النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر وعمر؛ فإن الغرض الذي زاد سيدنا عثمان الأذان لأجله هو لَمَّا كثر الناس وانتشرت الْمَنازل، وكان من عند الزوراء لا يسمع الأذان الذي عند الْمَسجد، زاد أذانًا على الزوراء لإسماعهم، فإذا اجتمع الناس فِي الْمَسجد وجلس الْخَطيب على الْمِنبر أذن الْمُؤذن ثانيًا خارج الْمَسجد على الباب أو على السطح، كما كان فِي زمان النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر.
وهذا الغرض الذي أحدث سيدنا عثمان الأذان من أجله ليس موجودًا فِي زماننا، فإننا لَمْ نر أذانًا يفعل بعيدًا عن الْمَسجد؛ فإذن يُطلب الاقتصار على أذان واحد فِي الْجُمعة فِي زماننا كما فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه أبِي بكر وعمر، ومن لَمْ يقتصر على أذان واحد فقد خالف سيدنا عثمان فضلاً عن غيره، وهذا معلوم لِمَن اطلع على ما هو مقرر فِي كتب السنة.
وعلى فرض أنه وجد الغرض الذي من أجله أحدث سيدنا عثمان الأذان الأول؛ فيطلب أيضًا أن يقتصر على أذان واحد كما صرح بذلك الشافعي فِي الأم، ثم ذكر كلام الشافعي الذي ذكرناه آنفًا فِي القول رقم (9) من كتاب الأم للشافعي (ج1 ص173)، فدون خوالف مقلدي الإمام الشافعي هذا النص الْمُوثق من مصدره الْمُعتمد عن الإمام الشافعي -رحِمه الله- عسى أن يكون حافزًا لِمَن وفقه الله عز وجل منهم لنصح نفسه والتجرد عن الْهَوى، فِي أن يأخذ من حيث أخذ هذا الإمام، فيعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على بصيرة ونور دون عصبية وتقليد: ﴿قُلْإِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُوَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾; [آل عمران: 31].
15- شيخ الإسلام ابن تيمية:
سُئل -رحِمه الله- عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الْجُمعة، هل فعله النَّبِي ص أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟
فأجاب: الْحَمد لله رب العالَمين.. أما النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لَمْ يكن يصلي قبل الْجُمعة بعد الأذان شيئًا، ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على الْمِنبر ويؤذنُ بلال، ثُمَّ يَخطب النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْخُطبتين، ثُمَّ يقيم بلال فيصلي النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالناس، فما كان يُمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من الْمُسلمين الذين يصلون معه، ولا نقل عنه أحد أنه صلّى فِي بيته قبل الْخُروج يوم الْجُمعة ... إِلَى أن قال: ولِهَذا كان جَماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الْجُمعة سنة مؤقتة بوقت مقدّرة بعدد. اهـ الْمُراد من مَجموع الفتاوى (ج24 ص 188-189)، و الكبرى (ج1 ص139).
قلت: وهذه البدعة إنمَا وُلدت من تلك الأم، بدعة الأذان الأول ولَها بنيات غير هذه سيأتي ذكرها -إن شاء الله- .
16- الإمام ابن رجب:
ونقل عدم الْخَلاف أنه مُحدث قال -رحِمه الله-: وقد دل الْحَديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على الْمِنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء...
إِلَى أن قال: ومن زعم، أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر: هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام فقد أبطل ويكذبه هذا الْحَديث(1) واجتماع العلماء على ذلك. اهـ. الْمُراد من فتح الباري (ج8 ص912).
17- الإمام ابن عبد البر النمري -رحِمه الله-:
ذكر حديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه فِي أول هذه الْمَسألة، ثُمَّ قال: فهذا نص فِي الأذان يوم الْجُمعة بين يدي الإمام، وعلى هذا العمل عند العلماء فِي أمصار الْمُسلمين بالعراق، والْحِجاز وغيرهما من الآفاق.اهـ من «الاستذكار الْجَامع لِمَذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار».(ج5 ص58).
18- ابن رشد الْحَفيد:
قال -رحِمه الله-: أما الأذان؛ فإن جُمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على الْمِنبر. اهـ الْمُراد من بداية الْمُجتهد (ج1 ص382).
19- ابن عربي الْمَالكي:
صاحب «عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي»، قال -رحِمه الله- عند شرح حديث السائب بن يزيد من سنن الترمذي (ج2 ص305) قال -وما أحسن ما قال-: الأذان الأول أول شريعة غيرت فِي الإسلام على وجه طويل ليس من هذا الشأن، وكان كما ذكر الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أذانان:
الأول: الأذان عند صعود الإمام على الْمِنبر للخطبة.
والثاني: الإقامة، قال: فأما بالْمَشرق فيؤذنون كأذان قرطبة، وأما بالْمَغرب فيؤذنون ثلاثة من الْمُؤذنين بِجهل الْمُفتين؛ فإنهم لَما سمعوا أنها ثلاثة لَمْ يفهموا أن الإقامة هي النداء الثالث، فجمعوها وجعلوها ثلاثة غفلة وجهلاً بالسنة؛ فإن الله تعالَى لا يغير ديننا ولا يسلبنا ما وهبنا من نعمة. اهـ.
قلت: وهذه بدعة تراسل الْمُؤذنين الَّتِي سيأتي ذكرها هي من بنات تلك الأم، الَّتِي تقدم ذكرها فِي القول رقم (15) عند قول شيخ الإسلام، وساعد على نشرها أولئك الفقهاء الأنكاد بسوء فهمهم.
20- ابن قدامة الْحَنبلي:
قال -رحِمه الله-: أما مشروعية الأذان عقب صعود الإمام؛ فلا خلاف فيه، فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء، والأذان الذي يَمنع البيع ويلزم السعي: هو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتعلق الْحُكم به دون غيره. اهـ من الْمُغنِي (ج3 ص162، 163).
21- الإمام أبو مُحمد بن حزم:
قال -رحِمه الله- بعد ذكر الآية: ﴿يَأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِفَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾; [الْجُمعة: 9].
قال: فافترض الله تعالَى السعي إليها إذا نودي لَها لا قبل ذلك، والنداء لَها إنمَا هو إذا زالت الشمس، فمن أمر بالرواح قبل ذلك فرضًا فقد افترض ما لَمْ يفترضه الله تعالَى فِي الآية ولا رسوله؛ فصح يقينًا أن الله تعالَى أمر بالرواح إليها إثر زوال الشمس لا قبل ذلك...
إِلَى أن قال: ويبتدئ الإمام بعد الأذان وتَمامه بالْخُطبة، فيخطب واقفًا خطبتين يَجلس بينهما جلسة. اهـ من الْمُحلى (ج3 ص262).
22- أبو عبد الله مُحمد بن مُحمد بن مُحمد بن الْحَاج الْمَالكي:
قال -رحِمه الله-: وينهى الناس عما أحدثوه من الركوع بعد الأذان الأول للجمعة؛ لأنه مُخالف لِمَا كان عليه السلف -رضوان الله عليهم -... ومضى يُحذر من هذه البدعة، ثم عاد إلَى أصلها فقال: على أن الأذان الْمَفعول اليوم أولاً لَم يكن فِي زمن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا زمن أبي بكر وعمر رضي لله عنهما، وإنما فعله عثمان رضي الله عنه. اهـ الْمُراد من الْمَدخل (ج2 ص240).
وقال فِي (ص207): إذ إن السنة فِي أذان الْجُمعة إذا صعد الإمام على الْمِنبر. اهـ.
23- العلامة الألباني -رَحْمَة الله عليه-:
فِي الْجَواب على سؤال ورد إليه من لَجنة الْجَامعة السورية، ونصه:
بسم الله الرحْمَن الرحيم، السلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته.
وبعد: فامتثالاً لقول الله تعالَى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ﴾; [النحل: 43].
وقوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاََ تَكْتُمُونَهُ﴾; [آل عمران: 187].
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وعن علمه ماذا عمل به» ..
أتينا نسألكم التكرم بتحقيق الْمَسألة التالية ولكم الأجر:
هل ترون الاقتداء بِمَا فعله عثمان رضي الله عنه يوم الْجُمعة من الأذان الثاني إطلاقًا، أما فقط عندما يتوفر السبب الذي دعا سيدنا عثمان لذلك لَما رأى الناس قد كثروا وانغمسوا فِي طلب الْمَعاش، أو بعبارة أخرى: إذا وجد مسجد لا حي قريب منه ولا سوق، وليس له إمام راتب ولا مئذنة، كالْمَسجد الذي فِي داخل الثكنة(2) فهل ترون أن يَجري فيه على سنة سيدنا عثمان، أو يكتفي بأذان واحد كما هو الْحَال فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه؟
ثم ذكروا أسئلة بعد هذا، وقالوا فِي آخرها: نرجو فِي كل ما سبق إيراد النصوص التِي استندتُم إليها فِي تَحقيقكم، ولكم منا الشكر ومن الله الثواب والأجر، وفقنا الله وإياكم إلَى العلم، والفهم والاتباع، وهو الْهَادي إلَى الرشاد؟
فأجاب -رحِمه الله-: لا نرى الاقتداء بِمَا فعله عثمان رضي الله عنه على الإطلاق ودون قيد؛ فقد علمنا مِمَّا تقدم أنه إنمَا زاد الأذان الأول لعلة معقولة، وهي كثرة الناس وتباعد منازلِهم عن الْمَسجد النبوي، فمن صرف النظر عن هذه العلة وتَمسك بأذان عثمان مطلقًا لا يكون مقتديًا به رضي الله عنه، بل هو مُخالف له؛ حيث لَمْ ينظر بعين الاعتبار على تلك العلة الَّتِي لولاها لَمَا كان لعثمان أن يزيد على سنته -عليه الصلاة والسلام- وسنة الْخَليفتين من بعده! وذكر كلامًا نفيسًا من جنس هذا.
ثُمَّ قال: والْخَلاصة: أننا نرى أن يكتفى بالأذان الْمُحمَّدي، وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على الْمِنبر؛ لزوال السبب الْمُبرر لزيادة عثمان؛ واتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو القائل: «فمن رغب عن سنتِي فليس منِّي»(3). اهـ الْمُراد من «الأجوبة النافعة على أسئلة لَجنة الْجَامعة» (ص6-11) باختصار.
24- القرطبِي -رحِمه الله-:
قال فِي تفسير سورة الْجُمعة عند الآية (9) منها: وقد كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما فِي سائر الصلوات يؤذن واحد إذا جلس النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الْمِنبر، وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة، ثُمَّ زاد عثمان أذانًا ثالثًا على داره الَّتِي تسمى بـ: الزوراء حين كثر الناس بالْمَدينة. اهـ الْمُراد.
25- الْمَاوردي -رحِمه الله-:
قال: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لِحضور الْخُطبة عند اتساع الْمَدينة وكثرة أهلها. اهـ من تفسير القرطبِي (ج18 ص100).
26- الإمام مالك -رحِمه الله-:
قال الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي -رحِمه الله-: سُئل مالك عن النداء يوم الْجُمعة هل يكون قبل أن يَحل الوقت؟ فقال: لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس.
27- العلامة مُحَمَّد بن إسماعيل الأمير:
قال -رحِمه الله- فِي أثناء كلام متعلق بالنداء الذي يوجب حضور الْجُمعة قال: وأحاديث من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له وما فِي معناه عدة أحاديث مرفوعة وموقوفة، ذكرها البيهقي فِي السنن؛ فإن الْمُراد بالنداء فيها الْمَعروف شرعًا: هو النداء عند قعود الْخَطيب على الْمِنبر، وهو الْمُراد فِي الآية، وأما هذا النداء الذي أراده الْمُصنف هنا وفِي البحر؛ فإنه شيء مُخالف للشرع الْمَعلوم، والبدعي الذي أحدثه عثمان. اهـ الْمُراد من حاشية «ضوء النهار » للجلال (ج2 ص103).
28- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي:
قال -رحِمه الله-: وهذا كما قال إن الْجُمعة لا يؤذن لَها قبل وقتها، ووقتها زوال الشمس كالظهر فِي سائر الأيام، ثُمَّ ذكر أن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَمْ يكن الأذان فِي عهده إلا إذا جلس على الْمِنبر، وأن عثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول، قال: وفعل النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحق أن يتبع. اهـ من «الْمُنتقى شرح الْمُوطأ». للباجي (ج1 ص134).
29- شيخنا العلامة الوادعي -رحِمه الله-:
سُئل هل الأذان الأول يوم الْجُمعة سنة؟
فأجاب -حفظه الله- بتقرير متين، قال فِي آخره: فعرف من هذا أن الأذان ليس بسنة، ولا ينبغي أن يفعله الْمُسلم، وإنما اجتهد عثمان، والاجتهاد قد يصيب وقد يُخطئ، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول بعد أن قال: «عليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضوا عليها بالنواجذ». قال: «وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثة بدعة».
بل يقول: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حَتَّى يدع بدعته». رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أنس.
وقال الْحَافظ الْمُنذري: إن سنده حسن. اهـ مُختصرًا من كتاب: إجابة السائل على أهم الْمَسائل (ص 414-416).
فهؤلاء نَحو ثلاثين واحدًا من جهابذة علوم هذه الشريعة الْمُطهرة، وهذا الذي ذكرناه هو قليل باعتبار ما فِي الْمَسألة من إجْمَاع متيقن نقله ابن رجب وغيره كما قدمنا، على أن الأذان الأول للجمعة لَمْ يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر، كما نص على ذلك حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه عند الإمام البخاري وغيره، وقد تنوعت عبارات أهل العلم مِمَّن ذكرنا، ومن لَمْ نذكر فِي الْحُكم على هذا الأذان، فمن قائل: إنه مُحدث، ومن قائل: إنه بدعة، ومن قائل: إنه ليس بسنة ولا ينبغي أن يفعله الْمُسلم، ومن قائل غير ذلك من العبارات الَّتِي مؤداها النهي عن فعله.
وأما من يقول: إنه مُحدث ولا بأس بفعله؛ فليس له حجة من كتاب ولا سنة على هذا القول إلا تلك الشبه الْمَوهومة، مثل ما اشتمل عليه حديث العرباض بن سارية وسيأتي لبعضها مزيد بيان، وشأن هذه الشبه وغيرها هو كما يقول ربنا (: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾; [النور: 39].
وإليك فحص تلك الزيوف.
* * * * *
______________________
(1) يعنِي: حديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه فِي أول هذا الباب.
(2) هو مسجد جامعة دمشق.
(شبه القائلين بجواز الأذان الأول والرد عليها
1- يقولون: إن أمير الْمُؤمنين عثمان بن عفان كان أحد الْخُلفاء الراشدين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضوان الله عليهم أجْمَعين-، وقد قال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «عليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين».
والْجَواب: نعم، وهذا معتقد أهل السنة -رضوان الله عليهم- كما فِي شرح الطحاوية (ص484) وغيرها.
والْحَديث الْمَذكور أخرجه أبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2678)، وأحْمَد فِي الْمُسند (ج4 ص126-127)، وابن ماجه (42)، والدارمي (ج1 ص44، 45)، والطبراني فِي معاجِمه الثلاثة من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله؛ كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا، قال: «أوصيكمبتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرىاختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضواعليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة».
زاد النسائي من حديث بسند رجاله ثقات: «وكل ضلالة فِي النار».
وحديث العرباض هذا بِمَجموع طرقه حسن كما بينته فِي تَحقيق: إصلاح الْمُجتمع للبيحاني -رحِمه الله-، لكن ينبغي أن نفهم الْحَديث فهمًا صحيحًا مدعمًا بالأدلة الصحيحة، وتوضيح ذلك يَحتاج إِلَى عدة أمور:
الأول: ما الْمَقصود بسنة الْخُلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم-؟
الثاني: أين الأحق بالتقديم: سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم اجتهاد غيره من الْخُلفاء- رضوان الله عليهم- أو غيرهم؟
الثالث: هل لأحد أن يسن سنة من نفسه غير سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
الرابع: ذم البدع وسبب الوقوع فيها.
وإليك بيان ذلك بعون الله تعالَى:
قال الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فِي الباب السادس والثلاثين من كتاب إحكام الأحكام (ج6 ص236): وأما قوله: «فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين». فقد علمنا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يأمر بِما لا يُقدر عليه، ووجدنا الْخُلفاء الراشدين بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد اختلفوا اختلافًا شديدًا، فلابد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لَها:
الوجه الأول: إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه، وهذا ما لا سبيل إليه ولا يقدر عليه، إذ فيه الشيء وضده، فلا سبيل إِلَى أن يورث أحد الْجَد والإخوة بقول أبِي بكر وعائشة، وأبو بكر الْخَليفة الأول بعد رسول الله، ويورثه الثلث فقط والباقي للإخوة على قول عمر الْخَليفة الثاني، ويورثه السدس والباقي للإخوة على قول علي الْخَليفة الرابع، وهكذا فِي كل ما اختلفوا فيه؛ فبطل هذا الوجه؛ لأنه ليس فِي استطاعة الناس أن يفعلوه، فهذا وجه.
الوجه الثاني: أن يكون مباحًا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شئنا؛ وهذا خروج عن الإسلام؛ لأنه يوجب أن يكون دين الله تعالَى موكولاً على اختيارنا، فيحرم كل واحد منا ما يشاء ويُحل ما يشاء، ويُحرم أحدنا ما يُحله الآخر، وقول الله تعالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾; [الْمَائدة: 3].
وقوله تعالَى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاََ تَعْتَدُوهَا﴾; [البقرة: 229].
وقوله تعالَى: ﴿وَلاََ تَنَازَعُوا﴾; [الأنفال: 46]. يبطل هذا الوجه الفاسد ويوجب أن ما كان حرامًا حينئذٍ فهو حرام إِلَى يوم القيامة، وما كان حلالاً يومئذٍ فهو حلال إِلَى يوم القيامة.
وأيضًا؛ فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم ولابد من ذلك، فلسنا حينئذٍ متبعين لسنتهم، فقد حصلنا فِي خلاف الْحَديث وحصلوا فيه شاءوا أم أبوا، ولقد ذكرنا هذا مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلاً فكانت عادته أن يتقدمه رجلان مدار الفتيا عليهما فِي ذلك الوقت فكان يكتب فتياهما: أقول بِمَا قاله الشيخان، فحصل أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تَحت فتياهما: أقول بِمَا قال الشيخان. قال بعض من حضر: إن الشيخين قد اختلفا! فقال: وأنا اختلف باختلافهما!
قال أبو مُحَمَّد: فإذا قد بطل هذان الوجهان؛ فلم يبق إلا الوجه الثالث: وهو أخذ ما أجْمَعوا عليه، وليس ذلك إلا فيما أجْمَع عليه سائر الصحابة -رضوان الله عليهم- معهم فِي تتبعهم سنن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والقول بِهَا.
وأيضًا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أمر باتباع الْخُلفاء الراشدين لا يَخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون أباح أن يسنوا سننًا غير سنته! وهذا ما لا يقوله مسلم، ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله؛ لأن الدين كله إما واجب، أو غير واجب، وإما حرام، وإما حلال، فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لَمْ يسنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أباح أن يُحلوا حرامًا أو يوجبوا ما لَمْ يوجبه رسول الله، أو يسقطوا فريضة فرضها رسول الله، ولَم يسقطها إِلَى أن مات، وكل هذه الوجوه من جوَّز منها شيئًا فهو كافر مشرك بإجْمَاع الأمة كلها بلا خلاف، فهذا الوجه قد بطل ولله الْحَمد.
وإما أن يكون أمر باتباعهم فِي اقتدائهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهكذا نقول وليس يَحتمل الْحَديث وجهًا غير هذا أصلاً.
ويقال لَهم فِي احتجاجهم بِمَا روي فِي الْحَديث من الأمر بالتزام سنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين: هذه حجة عليكم؛ لأن جحة الْخُلفاء الراشدين كلهم بلا خلاف منهم: ألا يقلدوا أحدًا وألا يقلد بعضهم بعضًا، وأن يطلبوا سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بِهَا.
قلت: نعم، وعلى ذلك أدلة كثيرة نذكر بعضًا منها فِي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا يبحثون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيعملون بِهَا.
1- قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- (ج11 رقم 6245): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبِي سعيد الْخُدري قال: كنت فِي مَجلس من مَجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمِنكُم أحد سمعه من النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال أُبي ابن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ذلك.
وأخرجه مسلم رقم (2153).
2- وقال الإمام البخاري -رحِمَه الله تعالَى- (رقم 3092، 3093): حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة أم الْمُؤمنين رضي الله عنها أخبرته أن فاطمة -عليها السلام- ابنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقسم لَها ميراثها مِمَّا ترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مِمَّا أفاء الله عليه، فقال لَها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة». فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مِمَّا ترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالْمَدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالْمَدينة فدفعها عمر إلَى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانتا لِحُقوقه التِي تعروه ونوائبه وأمرهما إلَى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلَى اليوم.
وأخرجه مسلم رقم (1759) مُختصرًا.
3- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (6736): حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا أبو قيس: سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتِ ابن مسعود فسيتابعنِي، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبِي موسى، فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من الْمُهتدين، أقضي فيها بِمَا قضى النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الْحَبر فيكم.
4- وأخرج الإمام البخاري فِي صحيحه (ج12 ص120) تعليقًا، وأبو داود (ج12 ص74- عون الْمَعبود) قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي لله عنهما قال: أتي عمر بِمَجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن تُرجم، فمر بها على علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مَجنونة بنِي فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير الْمُؤمنين؛ أما علمت -وفِي رواية: أما تذكر- أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الْمَجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبِي حتى يعقل»؟ قال: بلى. قال: فما بال هذه تُرجم؟ قال: لا شيء. قال: فأرسلها، قال: فأرسلها عمر وجعل يكبر.
5- وأخرج البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (5729): عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الْخَطاب رضي الله عنه خرج إِلَى الشام حَتَّى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الْجَراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي الْمُهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء.
فقال: ارتفعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعو لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل الْمُهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعو لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر فِي الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الْجَراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالَها يا أبا عبيدة!! نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الْخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الْجَدبة رعيتها بقدر الله؟
قال: فجاء عبد الرحْمَن بن عوف وكان متغيبًا فِي بعض حاجته، فقال: إن عندي فِي هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض؛ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بِهَا؛ فلا تَخرجوا فرارًا منه». قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجه مسلم رقم (2219).
6- وأخرج البخاري رقم (6117) قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي السوار العدوي قال: سمعت عمران بن حصين قال: قال النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الْحَياء لا يأتي إلا بِخير». فقال بشير بن كعب: مكتوب فِي الْحِكمة: إن من الْحَياء مِمَّا يكون وقارًا، وإن من الْحَياء سكينة، وفِي رواية: ضعفًا، فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتُحدثنِي عن صحفك!
وأخرجه مسلم رقم (37).
7- وقال الإمام البخاري رقم (1581): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن قتادة قال: حدثنِي مطرف، عن عمران رضي الله عنه قال: تَمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنزل القرآن، فقال رجل برأيه ما شاء.
وأخرجه أيضًا برقم (4518)، وأخرجه مسلم رقم (1226).
وقد هممت أن أكمل مائة حديث أو نَحو ذلك من هذا الباب الذي جل نَقَلَةِ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان سبب تَحديثهم بها هو هذا السبب.
ونسأل الله أن يعيننا على إكمال هذه الْمِائة فِي بَحث آخر، وإنما أردنا هنا الاختصار.
8- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (3401): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الْخَضر ليس هو موسى بنِي إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أُبي بن كعب عن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنموسى قام خطيبًا فِي بنِي إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتبالله عليه إذ لَم يرد العلم إليه، فقال له: بلى لي عبد بِمَجمع البحرين هوأعلم منك، قال: أي رب ومن لي به؟ -وربَّما قال سفيان: أي رب وكيف لي به؟- قال: تأخذ حوتًا فتجعله فِي مكتل حيثما فقدت الْحَوت فهو ثَمَّ...». وذكر الْحَديث بطوله.
وأخرجه مسلم رقم (2380).
9- وقال الإمام البخاري رقم (1840): حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه: أن عبد الله بن العباس والْمِسور بن مَخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل الْمُحرم رأسه، وقال الْمِسور: لا يغسل الْمُحرم رأسه، فأرسلنِي عبد الله بن العباس إلَى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلنِي إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يغسل رأسه وهو مُحرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل.
وأخرجه مسلم (1205).
10- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (956): حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا مُحمد بن جعفر قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد الْخُدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَخرج يوم الفطر والأضحى إلَى الْمُصلى؛ فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف.
قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير الْمَدينة فِي أضحى أو فطر، فلما أتينا الْمُصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة!
فقلت له: غيرتُم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مِمَّا لا أعلم، فقال: إن الناس لَم يكونوا يَجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
11- وقال الإمام البخاري -رحِمَه الله- رقم (724): حدثنا معاذ بن أسد قال: أخبرنا الفضل بن موسى قال: أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الأنصاري، عن أنس بن مالك أنه قدم الْمَدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
قال: ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف.
12- وقال الإمام مسلم -رحِمَه الله تعالَى- (ج4 رقم 845): حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: حدثنِي يَحيى بن أبي كثير، حدثنِي أبو سلمة بن عبد الرحْمَن، حدثنِي أبو هريرة قال: بينما عمر بن الْخَطاب يَخطب الناس يوم الْجُمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير الْمُؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضًا! ألَم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «إذا جاء أحدكم إلَى الْجُمعة فليغتسل»؟! وأخرجه البخاري رقم (878).
13- وأخرج الإمام مسلم رقم (864) قال: وحدثنا مُحمد بن الْمُثنى وابن بشار قالا: حدثنا مُحمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة أن كعب بن عجرة دخل الْمَسجد، وعبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم يَخطب قاعدًا فقال: انظروا إلَى هذا الْخَبيث يَخطب قاعدًا، وقال الله تعالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾; [الْجُمعة: 11].
14- وقال -رحِمه الله- رقم (874): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن حصين، عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على الْمِنبر رافعًا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين؛ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه الْمُسبحة. اهـ.
وهذا باب واسع كثير الأدلة غزير الفائدة، ولَم نرد الاستطراد فيه هنا، وإنما كان القصد ذكر جُملة من ذلك برهانًا على ما قاله الإمام ابن حزم -رحِمه الله-: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا يطلبون سنن رسول الله حيث وجدوها فيعملون بها، ولَم يكن أحدهم يقلد الآخر، ولا كان واحد من الْخُلفاء أو غيرهم يعتبر لنفسه سنة مستقلة تكون حجة للناس، وحاشاهم من ذلك.
وكما قال ابن حزم -رحِمه الله-: فمن كان متبعًا للخلفاء الراشدين فليتبعهم فيما أجْمَعوا عليه من اتباع سنن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيما نهوا عنه من التكلف. اهـ باختصار من «إحكام الأحكام». لابن حزم، الباب السادس والثلاثين.3) متفق عليه من حديث أنس بن مالك.
شبهة ثالثة أسقط من الَّتِي قبلها
استدل بعض عميان البصيرة بِحَديث: «من سن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها».
والْحَديث بتمامه أخرجه الإمام مسلم رقم (1017) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فِي صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مُجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لِمَا رأى بِهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثُمَّ خطب فقال: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾; إِلَى آخر الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾; [النساء: 1]. والآية الَّتِي فِي آخر الْحَشر: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾; [الْحَشر: 18]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تَمره حتى قال: ولو بشق تَمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت!
قال: ثُمَّ تتابع الناس حَتَّى رأيت كومين من طعام وثياب، حَتَّى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «منسن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بِهَا بعده من غير أنينقص من أجورهم شيء، ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر منعمل بِهَا من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
قال القاضي عياض: هذا الْحَديث على نَحو ما تقدم من أن الْمُعين على الفعل كمن فعله. اهـ من شرحه على مسلم عند الْحَديث بالرقم السابق.
ورد هذه الشبهة الساقطة من عدة وجوه:
الأول: أن السنة هي قول النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو فعله، أو تقريره، وكتابته، وإشارته، وهمه، وتركه(1)، فأما السنة القولية والفعلية؛ فكثيرة جدًّا، فغالب الأحاديث من هذا الباب إما قوله أو فعله.
وأما التقرير؛ فصورته: أن يسكت عن إنكار قول أو فعل وقع بين يديه، أو اطلع عليه بطريق الإخبار.
قال العمريطي -رحِمه الله-: وما جرى فِي عصره ثُمَّ اطلع عليه إن أقره فليتبع، مثال ذلك: إقراره صلى الله عليه وعلى آله وسلم لِخَالد بن الوليد رضي الله عنه بأكل الضب وهو ينظر ولَم ينكر عليه، وإقراره لأبي سعيد الْخُدري وأصحابه على أخذ الأجرة على رقية ذلك اللديغ الذي لَمْ يعطهم قراهم فرقاه بالفاتِحة على قطيع من الغنم فشفي، ولَمَّا أُخبر النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك قال لأبي سعيد: «من أخبرك أنها رقية؟! اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا».
وإقرار أبي طلحة على التصدق ببستانه (بيرحاء) كما فِي الصحيحين، وإقراره لزوجته حين أعتقت وليدتها ثم أعلمته بعد ذلك، وإقراره لسلمان حين أمر أخاه فِي الله أبا الدرداء لَما قال له: إن لنفسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه، قال: «صدق سلمان». والْحَديث فِي الصحيح.
وأما همُّ النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فقد استحب الإمام الشافعي -رحِمه الله- فِي الْجَديد للخطيب فِي الاستسقاء مع تَحويل الرداء تنكيسه، يَجعل أعلاه أسفله، مُحتجًّا بأنه عليه السلام استسقى وعليه خَميصة سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه(2).
قال الشافعي: فيستحب الإتيان بِمَا همَّ به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما إشارة النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فيستدل لذلك بقوله: «الشهر هكذا وهكذا». ثم أشار فِي الثالثة مثل ذلك: وقبض الإبهام مبينًا بذلك أن الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين.
والكتابة: مثل كتابته إلَى عماله فِي الصدقات وسائر الأحكام، ومثال ذلك: حديث أنس بن مالك الطويل فِي أحكام زكاة الأنعام، والْحَديث عند البخاري وفيه: أن أبا بكر كتب به إلَى أنس أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بذلك فِي الأنعام، وأيضًا حديث: «اكتبوا لأبي شاة».
وأما الترك: فمثل خلعه النعل خلعوا بعده نعالَهم، وخلعه الْخَاتَم فخلعوا بعده خواتِمهم، وانظر لذلك: «البحر الْمُحيط». للزركشي (ج4 ص168-214)، و«معالِم أصول الفقه». للجيزاني (122).
وليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سنة، قال ابن رجب -رحِمه الله- فِي شرح الْحَديث الثامن والعشرين من جامع العلوم (ص320) قال: والسنة هي الطريقة، فيشمل ذلك التمسك بِما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال. اهـ الْمُراد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما ما فعله النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بِحكم الاتفاق ولَم يقصده، مثل أن ينزل بِمَكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا ذلك الْمَكان بالصلاة فيه أو النزول لَمْ نكن متبعين، بل هذا من البدع الَّتِي كان ينهى عنها عمر بن الْخَطاب...
إِلَى أن قال: ومن هذا: وضع ابن عمر يده على مقعد النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمر بن حريث بالكوفة، فهذا لَما لَمْ يكن مِمَّا فعله سائر الصحابة ولَم يكن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شرعه لأمته، لَمْ يُمكن أن يقال: هذه سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مِمَّا لا ينكر على فاعله، لأنه مِمَّا يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهكذا يقول أئمة العلم فِي هذا و أمثاله تارة يكرهونه، وتارة يرخصون فيه إذا لَمْ يتخذ سنة، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، ولا يقول عالِم بالسنة: إن هذا سنة مشروعة للمسلمين؛ فإن ذلك إنمَا يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع...
إِلَى أن قال: ولا يكون فِي الدين واجبًا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبًّا إلا ما استحبه، ولا مكروهًا إلا ما كرهه، ولا مباحًا إلا ما أباحه. اهـ باختصار من مَجموع الفتاوى (ج1 ص280-282).
قلت: فعلم بِهذا أن السنة الَّتِي أمر الله باتباعها: هي هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما تقدم من أنواعها، وأنه إن قيل سنة الْخُلفاء الراشدين فإنما الْمَقصود بِهذا اللفظ طريقتهم فِي فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما قال ربنا سبحانه: ﴿وَمَنيُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىوَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىوَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾; [النساء: 115].
وهل سبيل الْمُؤمنين إلا طريقتهم فِي اتباع كتاب الله وسنة رسوله ليس إلا؟! وارجع بصرك على ما تقدم من الأدلة فِي بيان حديث العرباض بن سارية تر أن جَميع الصحابة كانوا يعودون فيما اختلفوا فيه إِلَى ما أمرهم الله سبحانه به هم وجَميع الْمُؤمنين: ﴿فَإِنتَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنكُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌوَأَحْسَنُ تَأْوِيلاًَ﴾; [النساء: 59].
ولَم يكن أحد من الصحابة بِمَا فيهم الْخُلفاء الراشدون من يقول أن له سنة حسنة، أو يريد أن يشرع سنة حسنة! نعوذ بالله من هذا، فإنه يعتبر افتئاتًا على شرع الله عز وجل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْتُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾; [آل عمران: 31]. ﴿فَلاََوَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَوَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾; [النساء: 65]، ﴿وَمَاكَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاََ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُأَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾; [الأحزاب:36]، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾; [الأحزاب: 21]، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾; [النور: 63]. ﴿هُوَالَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاًَ مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْآيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنكَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاََلٍ مُّبِينٍ﴾; [الْجُمعة: 2].
فهذه الأدلة كلها وهي غيض من فيض تدل على أن الْخِطاب موجه فيها إِلَى أصحاب النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو شامل لِجميع الْمُؤمنين بعدهم، وأنت ترى ما فيها من الوعيد لِمن خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف يسوغ لِمسلم أن يَخترع سننًا يزعم أنها حسنة يشرع بِهَا دينًا لَمْ يأذن به الله؟ فإن السنة: هي وحي من الله تعالَى؛ قال سبحانه: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى«( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى «( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى«( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى﴾; [النجم: 1-4]. فمن ذا الذي له بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحي ونبوة؟!
لاشك أن من أراد أن يسن للناس سننًا من دين الله لَمْ يأت بِهَا الله يعتبرزنديقًا على ما ذكر الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فيما نقلناعنه فِي هذه الْمَسألة عند حديث العرباض. ومن وجوه رد هذه الشبهة الرديئة: أن السنة فِي تعريفها فِي اللغة هي الطريقة على ما ذكره جمهور الأصوليينومنه قول لبيد فِي معلقته:
من معشر سنت لَهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها
أي: طريقة يسيرون عليها، فيكون معنى الْحَديث «من سن فِي الإسلام سنة حسنة». أي: أحيا طريقة من دين الله من كتابه وسنة رسوله قد أهملها الناس؛ فيأتيهو فيجددها ويُحييها، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله يبعث لِهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يَجدد لها أمر دينها». معنى أنه يُحيي سننًا وطرقًا سلكها النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلمثم أهملت، فهذا له أجرها وأجر من عمل بها من بعده؛ لأنه أحيا سنة لرسولالله قد تركها الناس وأهملوها.
أما أن يأتي بشيء جديد لا دليل عليه ثم يَجعله سنة، فهذا يشمله حديث عائشة رضي الله عنها فِي «الصحيحين»: «من أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فهو مبتدع وسانٌّ بدعًا منكرة وليس بسانٍّ سننًا حسنة؛ فإن البدع مبغوضةإلَى الله بشتى أنواعها، قال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كل بدعة ضلالة». رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ويزيدبذلك بيانًا أنه لَم يدر فِي خلد أحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولاغيرهم من القرون الْمُفضلة أنه يسن للناس سننًا فِي الدين، وأيضًا يزيد ذلكبيانًا أن تلك الصدقة التي فعلها ذلك الرجل قبل قومه، فأتى بصرة كادت يدهأن تعجز عنها وتصدق بِها، ثم تبعه الناس على ذلك لَم يكن هو أول من سنالصدقة وشرعها فِي الإسلام، فإن الصدقة مشروعة قبل ذلك من أول البعثة، بلمشروعة فِي كل زمان وملة.
وعلى ذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة، منها: أن الله تعالَى بعد أن ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب فِي سورة الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاََةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾; [الأنبياء: 73].
وقال تعالَى فِي سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِوَكَانَ رَسُولاًَ نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاََةِوَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾; [مريم: 54-55].
وقال تعالَى: ﴿وَإِذْأَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاََ تَعْبُدُونَ إِلاََّ اللَّهَوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَىوَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَََةَوَآتُوا الزَّكَاةَ﴾; [البقرة: 83].
وقال تعالَى بعد ذكر أهل الكتاب من سورة البينة، قال: ﴿وَمَاأُمِرُوا إِلاََّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَحُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاََةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُالْقَيِّمَةِ﴾; [البينة: 5]. والزكاة: تسمى صدقة، قال تعالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾; [التوبة: 103].
وثبت من حديث سلمان فِي قصة إسلامه عند أحمد فِي «الْمُسند» (ج5 ص441): أنه كان عند نصراني راهب وكان ذلك الراهب يأمر الناس بالصدقةويَحثهم عليها فإذا تصدقوا اكتنزها لنفسه، ولَم يعط الفقراء، وكان سلمان قدعرف ذلك واطلع على خيانة ذلك الراهب، فلما مات الراهب أخبر قومه أن تلكصفته؛ فبحثوا فوجدوا الكنز، فتركوا راهبهم ذاك ولَم يدفنوه، وقالوا: واللهلا ندفنه مادام فعل ذلك.
وشاهدنا من الْحَديث: أن ذلك الراهب كان يَحثبنِي إسرائيل على الصدقة، مِمَّا يدل أنها مشروعة عليهم ولَمَّا لَم يعطهالِمستحقيها لَم يدفنوه بعد موته.
وفِي حديث سلمان ذاك: أن من صفةالنَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الَّتِي عرفه رهبان بنِي إسرائيلبِهَا أنه يأكل الْهَدية ولا يأكل الصدقة، وهذا لوصف هو متصف به صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قبل البعثة وبعدها.
وإنما ذكرنا هذا ليُعلم أن ذلكالصحابي رضي الله عنه الذي سلك طريقًا مشروعًا ومسنونًا من قبل الإسلاموبعد، وإنما هو أحيا هذه السنة فِي أولئك القوم الذين كانوا عند النَّبِيصلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث بدأ بالتصدق، ودلَّهم على ذلك الْهَدي،فكان له من الأجر بفضل الله كما لَهم فِي تلك الصدقة لا ينقص من أجورهمشيء.
وهكذا مَنْ علَّم الْمُسلمين علمًا شرعيًّا من كتاب الله وسنةرسوله، وقد اندثرت يكون قد أحيا فيهم سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آلهوسلم فيشمله هذا الْحَديث، ويَحصل له من الأجر مثل أجور من استفاد من علمهالشرعي.
فقد ثبت فِي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وقال الله تعالَى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾; [يس: 12].
ومِمَّا يدل على ما قلناه ويدحض كل قول سواه: قوله -عليه الصلاة والسلام- فِي هذا الْحَديث: «من سن فِي الإسلام سنة حسنة فله أجرها». الْحَديث.
وأنتأيها الْمُسلم الْمُستقيم تعلم أن البدع الْمُخترعة ليست من الإسلام، ولاهو منها، فالإسلام بريء من كل بدعة ومعصية، فهو دين الله الْحَق الذيارتضاه لعباده؛ قال تعالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاََمُ﴾; [آل عمران: 19].
وقال تعالَى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاََمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾; [آل عمران: 85].
وقال تعالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾; [الْمَائدة: 3].
ومِمَّا يؤيد ما قلناه ويدحض كل قول سواه: قوله فِي الْحَديث: «ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة». فهذا اللفظ يدل أن السنة: الطريقة، أي: ومن سلك فِي الإسلام طريقة سيئةومبتدعة ومُخترعة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، كقوله تعالَى: ﴿لِيَحْمِلُواأَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَيُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاََ سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾; [النحل: 25].
وإلافإن السنة على حد كونها شرعًا مرضيًّا لا تكون سيئة، ولا يتصف بالسيِّئإلا ما خالف شرع الله، فتأمل هذا واقرأ ما قرره ابن كثير فِي البدايةوالنهاية عند ترجَمة جنكيز خان حيث ألف كتابًا سماه: «إلياسا»، وبعضهم يقول:«إلياسق»،جَمع فيه بين بعض اليهودية وبعض النصرانية وبعض الاختراعات العقلية فِيالدين التِي يظنها -كما يظن بعض الناس- أنها سنة حسنة، وبعض الأمور من هذاالدين؛ فكفره ابن كثير -رحِمه الله- وهو كما قال؛ لأن هذا الْمُعتدي الأثيمشرع للناس ما لَم يأذن به الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهنا أصل عظيم تَجب معرفته: وهو أن الله عز وجل قد قال فِي كتابه الكريم: ﴿وَيَوْمَيَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَالرَّسُولِ سَبِيلاًَ * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًاخَلِيلاًَ * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِيوَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاًَ﴾; [الفرقان: 27-29]. والذكر: هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال تعالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾; [الزخرف: 44].
وقال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما ثبت من حديث أبِي واقد الليثي وغيره: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه». وانظر طرق هذا الْحَديث فِي الكفاية للخطيب -رحِمه الله-.
وقد قدمنا بعض الأدلة الْمُتعلقة بِهذا الأصل فِي مبحث هذه الْمَسألة؛ فراجعها إن شئت.
والأصلالثاني: أن قول الصحابي مُختلف فِي الاحتجاج به، ومن قال بأنه حجة اشترطلصحة هذا القول شروطًا منها: ألا يُخالف نصًّا من القرآن أو السنة، ومنها: ألا يُخالف غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم-، فإذا خالف نصًّا من الكتابأو السنة كان مردودًا عليه، وإذا خالفه غيره من الصحابة لَمْ يكن قولأحدهما حجة بلا خلاف بين أهل العلم فِي ذلك.
قال صاحب مراقي السعود:
رأي الصحابي على الأصحاب لا يكون حجة فِي قول من خلا
وقد قرر هاتين الْمَسألتين علماء أصول الفقه، ونقلوا الإجْمَاع عليهما، كما ذكرنا.
وانظر: «إعلام الْمُوقعين». للإمام ابن القيم -رحِمه الله- (ج4 ص155)، و«مذكرة أصول الفقه». للعلامة الشنقيطي -رحِمَه الله-، و«معالِم أصول الفقه». للجيزاني (ص222-227).
وبعد هذا يتوجه السؤال على القائلين بأن فعل أمير الْمُؤمنين عثمان رضي الله عنه يعتبر حجة وسنة متبعة.
فنقوللَهم: هل توفر فِي هذا الأذان هذان الشرطان أو حَتَّى أحدهما؟ لا شك أنالْجَواب: لَمْ يتوفر أحدهما، فإن فعله هذا رضي الله عنه قد خالف سنة رسولالله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وخالفه أبو بكر وعمر وغيرهما كثير، كماقدمنا ذكرهم.
تنبيه: أُشكل على بعضهم في هذه المسألة قول علي رضي اللهعنه حين جلد شارب الخمر أربعين، قال: جلد النبِي صلى الله عليه وعلى آلهوسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة وهذاأحب إلَي. أخرجه مسلم رقم (4432).
والْجَواب: هو ما تقدم أن السنة لغةهي الطريقة، وأنها إذا تعارضت طريقة رسول الله مع غيره وجب الأخذ بطريقةرسول الله، وإذا لَم يكن إلا طريقة ذلك الصحابي ولا معارض لَهَا من قولغيره فقوله سنة متبعة، ولِهَذا فإن تقرير علي تقرير جميل؛ إذ أبان أن فعلعمر سنة وأخذ بسنة رسول الله، ونَحن نقول لِهَؤلاء الْمُحتجين بقول عليافعلوا كما فعل علي رضي الله عنه وهذا لا يعنِي أن السنتين متساويتان وانهيَجوز ترك سنة رسول الله لقول أو فعل غيره فتأمل هذا تنجُ من الْخَلط بينهدي رسول الله المأمور به كل مسلم وبين اجتهاد غيره بعده.
* * * * *
______________________
(1) ذكر هذا وأوسع منه الزركشي فِي $البحر الْمُحيط#.
(2) الْحَديث أخرجه أبو داود رقم (1194)، والنسائي رقم (1507)، وابن حبان (ج7رقم 2867) إحسان، وأحْمَد فِي الْمُسند (ج4 ص41-42) من طريق عبد العزيز بنمُحمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تَميم، عن عمه عبد الله بنزيد بن عاصم. وهذا سند حسن. وقال صاحب الإلْمَام: هو على شرط الشيخين. كمافِي $التلخيص الْحَبير#.(ج2 ص204).
اتمة بحث الْمَسألة
قد يقول بعض الْمَعانيد: إذا قلتم: إن هذا الأذان بدعة، فهل كان عثمان رضي الله عنه لَمَّا فعل ذلك مبتدعًا؟
قلنا: معاذ الله؛ فعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وقد قال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما لي لا أستحيي مِمَّا تستحيي منه الْمَلائكة».
وقال: «من يشتري بئر روما وله الْجَنة». فاشتراها عثمان، وجعلها للمسلمين.
وقال لأبي موسى: «ائذن له وبشره بالْجَنة مع بلوى تصيبه».
وكل هذه الأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، منها ما هو فِي الصحيحين، ومنها ما هو صحيح فِي خارجهما، ولعثمان رضي الله عنه من الْمَناقب الكثيرة غير ذلك، وحسبه أنه مبشر بالْجَنة، كما تقدم حديث أبي موسى فِي الصحيحين: «ائذن له وبشره بالْجَنة». وحديث سعيد بن زيد وغيرهما.
لكنه رضي الله عنه اجتهد فجعل مؤذنًا بالسوق ليشعر الناس بقرب وقت الصلاة، ولَم يكن ذلك الأذان بالْمَسجد كما يفعل بعض الْمُسلمين الآن، ومع اختلاف على حال بعض الناس الآن؛ فإننا أيضًا نعتبر ذلك الأذان من أصله غير مشروع، وأن أمير الْمُؤمنين عثمان أخطأ باجتهاده هذا، فهو على اجتهاده وحسن قصده مأجور، وهو شهيد ومن العشرة الْمُبشرين بالْجَنة وذنبه مغفور، أما من تابعه على ذلك الْخَطأ بعد بيان الْحُجة فهو فِي ذلك مبتدع، لا عذر له فِي مُخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه.
هذا حاصل ما يتعلق بالأذان الأول للجمعة، وقد جهدنا ألا يكون فيه تطويل مُمل ولا اختصار مُخل، وكان قصدنا من ذلك الامتثال لقول الله تعالَى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾; [الذاريات: 55].
والْحَمد لله رب العالَمين.
بدعة مُحدثة، قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (912): حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبِي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الْجُمعة أوله إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، قال أبو عبد الله: الزوراء موضع: بالسوق بالْمَدينة.
وقال -رحِمه الله-: الْمُؤذن الواحد يوم الْجُمعة.
حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبِي سلمة الْمَاجشون عن الزهري، عن السائب بن يزيد: أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الْجُمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل الْمَدينة، ولَم يكن للنبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الْجُمعة حين يَجلس الإمام، يعني على الْمِنبر.
ورواية النسائي فِي «سننه» (ج3 ص101) بلفظ: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الْمِنبر يوم الْجُمعة، فإذا نزل أقام.
ففي هذه الرواية تعيين اسم الْمُؤذن الواحد أنه بلال، وأن ذلك فِي يوم الْجُمعة دون بقية الأيام كما فِي قوله يوم الْجُمعة، أما غير الْجُمعة فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكثر من واحد، يدل على ذلك حديث ابن عمر فِي البخاري رقم (1918، 1919)، ومسلم رقم (1092) من حديث ابن عمر قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، فقال النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت».
وقال ابن رجب -رحِمه الله- فِي شرح هذا الْحَديث من كتاب «فتح الباري»: قوله: «لَم يكن لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا مؤذن واحد». يعنِي: يوم الْجُمعة، فإن فِي غير الْجُمعة كان له مؤذنان، وأيضًا استبان من ألفاظ الْحَديث أن ذلك الْمُؤذن الواحد لَم يكن يؤذن إلا أذانًا واحدًا، كما فِي الرواية الثانية للبخاري، ورواية النسائي فِي قوله: لَم يكن للنبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤذن غير واحد، وكان النداء، وفِي الرواية الأخرى وكان يؤذن إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وعمر.
وقوله: فلما كان عثمان زاد النداء الثالث، قال ابن رجب وغيره: الأذانان اللذان كانا على عهد النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هما الأذان والإقامة. اهـ.
فقد ثبت فِي البخاري رقم (627) ومسلم رقم (838) من حديث عبد الله بن مغفل أن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سمى الإقامة أذانًا فقال: «بين كل أذانين صلاة».
قال النووي والْحَافظ ابن حجر وغيرهما عند شرح هذا الْحَديث: الْمُراد بالأذانين: الأذان والإقامة، والْمُراد بالصلاة: صلاة نافلة، ولا يصح حَمله على أن الصلاة الْمَفروضة بين الأذانين، والْخَبر ناطق بأنها نافلة من قوله فِي آخر الْحَديث: لِمن شاء، وقد توارد الشُراح على أن هذا من باب التغليب، كقولِهم القمرين للشمس والقمر، وكقولِهم العمرين لأبي بكر وعمر، وأطلق على الإقامة أذانًا لأنها إعلام بِحضور فعل الصلاة. اهـ الْمُراد من «فتح الباري» لابن حجر -رحِمه الله- (ج2 ص132) عند شرح الْحَديث (624).
وقوله فِي الْحَديث: على الزوراء، بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء مَمدودة هكذا ضبطها الْحَافظ وغيره، وانظر «الفتح» عند الْحَديث رقم (912).
والزوراء تقدم أن أبا عبد الله البخاري -رحِمه الله- قال: هي موضع بالسوق بالْمَدينة.
قال أبو عبد الرحمن: قد اختلف أهل العلم فِي الزوراء، فقيل: هي دار فِي السوق، وقيل: هي صخرة فِي السوق كان يصعد الْمُؤذن فِي زمان عثمان عليها فيؤذن الأول، ولهذا الإمام البخاري -رحِمه الله- قال: موضع بالسوق ولَم يَجزم بأنها دار ولا صخرة.
وقد أخرج ابن ماجه رقم (1135)، وابن خزيْمة (ج3 ص1837)، والطبراني فِي «الكبير» (ج7 ص145) من طريق: مُحمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد فذكر الْحَديث بلفظ فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على دار فِي السوق يقال لَهَا الزوراء.
وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن فِي هذه الطريق.
ثم إن حديث السائب هذا قد رواه جَماعة من أصحاب الزهري، منهم ابن أبي ذئب والْمَاجشون عن الزهري بغير زيادة (على دار فِي السوق) فمما لا شك أن هذه الزيادة منكرة، انفرد بها ابن إسحاق، وهو وإن كان صدوقًا فِي نفسه لكنه مدلس، وقد عنعن فِي هذه الطريق، ومن هنا يتحصل: أن كون الزوراء موضع بالْمَدينة هذا هو الْمُعتمد يقينًا عند أهل العلم.
وعليه دل الْحَديث الذي أخرجه مسلم عن أنس بن مالك أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه كانوا بالزوراء، قال: والزوراء بالْمَدينة عند السوق، فعُلم أنها موضع كما قال البخاري ورجحه الْحَافظ فِي «الفتح» وقال: هو الْمُعتمد.
لكن لَم أجد ما يثبت تعيينها أنها دار، أو صخرة، والْحَاصل أنه موضع من الْمَواضع بذلك الْمَكان، وعدم تعيينها لا يضر.
______________________
(1) الأطلال ما شخص من الْجَسد يقال: حيَّا الله طللك، وأطلالك أي: ما شخص من جسدك، وربَّما تطلق لفظة الأطلال على الأشراف. اهـ من $لسان العرب# و $تاج العروس# فيكون الْمَعنى: كأنه يندب أشلاء الأموات الشرفاء.
(2) قلت: هذا لعله كان آنذاك فِي بلده يأتون بالأذان الأول بصوت منخفض ثُمَّ بعد ذلك يَجهرون بالتسبيح، أما الآن فإن أكثرهم استبدلوا بدله بتلك البدعة فلا يأتون به ألبتة لا بصوت مرتفع ولا مَخفوض، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه.
(3) من حديث أبِي سعيد الْخُدري (، أخرجه أبو داود (ج4 ص213) $عون الْمَعبود#، وعبد بن حُميد فِي $الْمُنتخب# (ج2 ص66) من طريق: عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي سلمة، عن أبِي سعيد الْخُدري، وهذا سند صحيح، كل رجاله ثقات.
(4) معناه: أن الوقف على من يسبح قبل الفجر لا ينعقد ولا يصح، لأنه بدعة.
ذكر من حكم بأن الأذان الأول للجمعة محدث وبدعة
1- ابن عمر رضي الله عنه:
قال الإمام أبو بكر بن أبِي شيبة -رحِمه الله- فِي الْمُصنف (ج2 ص 140): حدثنا شبابة قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: الأذان الأول يوم الْجُمعة بدعة،( وكل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنًا).
وهذا سند صحيح إلَى ابن عمر؛ فشبابة: هو ابن سوار، ثقة حافظ.
وهشام بن الغاز: ثقة.
ونافع مولَى ابن عمر: إمام مشهور.
والزيادة التِي بين القوسين من فتح الباري لابن رجب (ج8 ص219)، عزاها إلَى وكيع فِي كتابه، والظاهر أنها من قول نافع.
2- الْحَسن البصري -رحِمه الله-:
قال ابن أبِي شيبة -رحِمه الله- (ج2 ص140): حدثنا هشيم، عن منصور، عن الْحَسن -وهو البصري- قال: النداء الأول يوم الْجُمعة الذي يكون عند خروج الإمام –أي: جلوسه على الْمِنبر- والذي قبل ذلك مُحدث.
وهذا سند صحيح إِلَى الْحَسن البصري -رحِمه الله-، ورجاله ثقات.
3- الزهري -رحِمه الله-:
قال -رحِمه الله- (ج2 ص 140): حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الزهري قال: أول من أحدث الأذان الأول: عثمان ليؤذن أهل السوق. اهـ.
وهذا سند لا بأس به إِلَى الزهري.
فهشيم: ثقة.
وأشعث: هو ابن عبد الْمَلك الْحِمراني ثقة.
أما عنعنة هشيم فهي فِي الباب مع غيرها من الآثار.
4- عطاء بن أبِي رباح -رحِمه الله-:
قال عبد الرزاق فِي الْمُصنف (ج3 ص205) -لعله عن ابن جرير- قال: أخبرنا عطاء قال: إنمَا كان الأذان يوم الْجُمعة حين يطلع الإمام، وذلك حين يَحرم البيع، فأما الأذان الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه فهو باطل. وهذا سند صحيح.
5- عمرو بن دينار -رحِمه الله-:
أخرج عبد الرزاق (ج3 ص206) عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار قال: أول من زاد الأذان الأول يوم الْجُمعة: عثمان، فكانوا يؤذنون على الزوراء، أما ببلادنا مكة فالْحَجاج. وهذا سند صحيح.
6- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
قال عمرو بن دينار بالسند الْمُتقدم: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حَتَّى يَجلس على الْمِنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الْجُمعة. اهـ.
وذكره ابن رجب فِي «فتح الباري» (ج8 ص218)، وسنده صحيح إلَى عمرو بن دينار؛ فابن جريج إمام، وقد صرح بأن عمرًا أخبره، وعمرو بن دينار هذا هو الْجُمحي إمام، قال عنه تلميذه سفيان بن عيينة: ثقة، ثقة، ثقة.
7- عبد الرحْمَن بن زيد بن أسلم -رحِمه الله-:
قال ابن رجب فِي الفتح (ج8 ص219): وقال عبد الرحْمَن بن زيد بن أسلم: لَم يكن فِي زمان النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا أذانان: حين يَجلس أعلى الْمِنبر، وأذان حين تقام الصلاة، قال: وهذا الأخير –أي: أذان عثمان- أحدثه الناس بعد. خرجه ابن أبي حاتِم.
8- سفيان الثوري -رحِمه الله-:
قال ابن رجب -رحِمه الله- (ج8 ص219- فتح): وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حَتَّى تزول الشمس، وإذا أذن الْمُؤذن قام الإمام على الْمِنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر أذان واحد، وهذا الأذان الذي زادوه مُحدث.
9- الإمام الشافعي:
قال -رحِمه الله-: وأحب أن يكون الأذان يوم الْجُمعة حين يدخل الإمام الْمَسجد، ويَجلس على موضعه الذي يَخطب عليه، خشب أو جريد أو منبر أو شيء مرفوع له، أو الأرض، فإذا فعل أخذ الْمُؤذن فِي الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على الْمِنبر لا جَماعة، ثُمَّ استدل على قوله هذا بِحديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه من صحيح البخاري فِي أول هذه الْمَسألة، قال: وقد كان عطاء ينكر أن يكون أحدثه عثمان، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان؛ فالأمر الذي على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إلي. اهـ من كتابه الأم (ج1 ص173).
فأنت ترى أن الإمام الشافعي يبيِّن أن هذا الأذان مُحدث، ويقول: سواء أحدثه عثمان رضي الله عنه أو غيره فالأمر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إليه، وهذا نص صريح من مصدر موثوق معتمد لِهَذا الإمام.
10- شمس الدين أبو بكر مُحمد بن أبي سهل السرخسي -رحِمه الله-:
فِي كتابه «الْمَبسوط» (ج2 ص31) قال: والأذان يوم الْجُمعة إذا صعد الإمام الْمِنبر، فإذا نزل أقام الصلاة بعد فراغه من الْخُطبة، هكذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والْخَليفتين من بعده، إلَى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان رضي الله عنه.
11- الإمام الطحاوي -رحِمه الله-:
قال السرخسي -رحِمه الله-: واختلفوا فِي الأذان الْمُعتبر الذي يوجب السعي إِلَى الْجُمعة ويَحرم عنده البيع؛ فكان الطحاوي يقول: هو الأذان عند الْمِنبر بعد خروج الإمام؛ فإنه هو الأصل الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يَخرج فيستوي على الْمِنبر، وهكذا على عهد أبِي بكر وعمر، ثُمَّ أحدث الناس الأذان على الزوراء.اهـ من الْمبسوط (ج1 ص134)، «ومرقاة الْمَفاتيح شرح مشكاة الْمَصابيح». للملاَّ علي القاري(ج3 ص498).
12- إسحاق بن راهويه:
قال: إن الأذان الأول يوم الْجُمعة مُحدث أحدثه عثمان، ذكر هذا الأثر ابن رجب فِي فتح الباري (ج8 ص220-221).
13- نافع مولَى ابن عمر:
أخرج وكيع من طريق هشام بن الغاز قال: سألت نافعًا عن الأذان يوم الْجُمعة؛ فقال: قال ابن عمر: بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وتقدم ثبوت سندها إِلَى نافع عند أثر ابن عمر برقم (1).
14- مَحمود السبكي:
صاحب «الْمَنهل العذب الْمَورود شرح سنن أبِي داود». قال -رحِمه الله-: وأما ما يفعل الآن من وقوع الأذانين فِي مكان واحد، أو أحدهما فوق الْمَسجد والآخر داخل الْمَسجد؛ فليس موافقًا لِمَا كان عليه سيدنا عثمان، ولا ما كان عليه النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر وعمر؛ فإن الغرض الذي زاد سيدنا عثمان الأذان لأجله هو لَمَّا كثر الناس وانتشرت الْمَنازل، وكان من عند الزوراء لا يسمع الأذان الذي عند الْمَسجد، زاد أذانًا على الزوراء لإسماعهم، فإذا اجتمع الناس فِي الْمَسجد وجلس الْخَطيب على الْمِنبر أذن الْمُؤذن ثانيًا خارج الْمَسجد على الباب أو على السطح، كما كان فِي زمان النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر.
وهذا الغرض الذي أحدث سيدنا عثمان الأذان من أجله ليس موجودًا فِي زماننا، فإننا لَمْ نر أذانًا يفعل بعيدًا عن الْمَسجد؛ فإذن يُطلب الاقتصار على أذان واحد فِي الْجُمعة فِي زماننا كما فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه أبِي بكر وعمر، ومن لَمْ يقتصر على أذان واحد فقد خالف سيدنا عثمان فضلاً عن غيره، وهذا معلوم لِمَن اطلع على ما هو مقرر فِي كتب السنة.
وعلى فرض أنه وجد الغرض الذي من أجله أحدث سيدنا عثمان الأذان الأول؛ فيطلب أيضًا أن يقتصر على أذان واحد كما صرح بذلك الشافعي فِي الأم، ثم ذكر كلام الشافعي الذي ذكرناه آنفًا فِي القول رقم (9) من كتاب الأم للشافعي (ج1 ص173)، فدون خوالف مقلدي الإمام الشافعي هذا النص الْمُوثق من مصدره الْمُعتمد عن الإمام الشافعي -رحِمه الله- عسى أن يكون حافزًا لِمَن وفقه الله عز وجل منهم لنصح نفسه والتجرد عن الْهَوى، فِي أن يأخذ من حيث أخذ هذا الإمام، فيعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على بصيرة ونور دون عصبية وتقليد: ﴿قُلْإِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُوَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾; [آل عمران: 31].
15- شيخ الإسلام ابن تيمية:
سُئل -رحِمه الله- عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الْجُمعة، هل فعله النَّبِي ص أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟
فأجاب: الْحَمد لله رب العالَمين.. أما النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لَمْ يكن يصلي قبل الْجُمعة بعد الأذان شيئًا، ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على الْمِنبر ويؤذنُ بلال، ثُمَّ يَخطب النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الْخُطبتين، ثُمَّ يقيم بلال فيصلي النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالناس، فما كان يُمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من الْمُسلمين الذين يصلون معه، ولا نقل عنه أحد أنه صلّى فِي بيته قبل الْخُروج يوم الْجُمعة ... إِلَى أن قال: ولِهَذا كان جَماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الْجُمعة سنة مؤقتة بوقت مقدّرة بعدد. اهـ الْمُراد من مَجموع الفتاوى (ج24 ص 188-189)، و الكبرى (ج1 ص139).
قلت: وهذه البدعة إنمَا وُلدت من تلك الأم، بدعة الأذان الأول ولَها بنيات غير هذه سيأتي ذكرها -إن شاء الله- .
16- الإمام ابن رجب:
ونقل عدم الْخَلاف أنه مُحدث قال -رحِمه الله-: وقد دل الْحَديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على الْمِنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء...
إِلَى أن قال: ومن زعم، أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر: هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام فقد أبطل ويكذبه هذا الْحَديث(1) واجتماع العلماء على ذلك. اهـ. الْمُراد من فتح الباري (ج8 ص912).
17- الإمام ابن عبد البر النمري -رحِمه الله-:
ذكر حديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه فِي أول هذه الْمَسألة، ثُمَّ قال: فهذا نص فِي الأذان يوم الْجُمعة بين يدي الإمام، وعلى هذا العمل عند العلماء فِي أمصار الْمُسلمين بالعراق، والْحِجاز وغيرهما من الآفاق.اهـ من «الاستذكار الْجَامع لِمَذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار».(ج5 ص58).
18- ابن رشد الْحَفيد:
قال -رحِمه الله-: أما الأذان؛ فإن جُمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على الْمِنبر. اهـ الْمُراد من بداية الْمُجتهد (ج1 ص382).
19- ابن عربي الْمَالكي:
صاحب «عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي»، قال -رحِمه الله- عند شرح حديث السائب بن يزيد من سنن الترمذي (ج2 ص305) قال -وما أحسن ما قال-: الأذان الأول أول شريعة غيرت فِي الإسلام على وجه طويل ليس من هذا الشأن، وكان كما ذكر الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أذانان:
الأول: الأذان عند صعود الإمام على الْمِنبر للخطبة.
والثاني: الإقامة، قال: فأما بالْمَشرق فيؤذنون كأذان قرطبة، وأما بالْمَغرب فيؤذنون ثلاثة من الْمُؤذنين بِجهل الْمُفتين؛ فإنهم لَما سمعوا أنها ثلاثة لَمْ يفهموا أن الإقامة هي النداء الثالث، فجمعوها وجعلوها ثلاثة غفلة وجهلاً بالسنة؛ فإن الله تعالَى لا يغير ديننا ولا يسلبنا ما وهبنا من نعمة. اهـ.
قلت: وهذه بدعة تراسل الْمُؤذنين الَّتِي سيأتي ذكرها هي من بنات تلك الأم، الَّتِي تقدم ذكرها فِي القول رقم (15) عند قول شيخ الإسلام، وساعد على نشرها أولئك الفقهاء الأنكاد بسوء فهمهم.
20- ابن قدامة الْحَنبلي:
قال -رحِمه الله-: أما مشروعية الأذان عقب صعود الإمام؛ فلا خلاف فيه، فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء، والأذان الذي يَمنع البيع ويلزم السعي: هو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتعلق الْحُكم به دون غيره. اهـ من الْمُغنِي (ج3 ص162، 163).
21- الإمام أبو مُحمد بن حزم:
قال -رحِمه الله- بعد ذكر الآية: ﴿يَأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِفَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾; [الْجُمعة: 9].
قال: فافترض الله تعالَى السعي إليها إذا نودي لَها لا قبل ذلك، والنداء لَها إنمَا هو إذا زالت الشمس، فمن أمر بالرواح قبل ذلك فرضًا فقد افترض ما لَمْ يفترضه الله تعالَى فِي الآية ولا رسوله؛ فصح يقينًا أن الله تعالَى أمر بالرواح إليها إثر زوال الشمس لا قبل ذلك...
إِلَى أن قال: ويبتدئ الإمام بعد الأذان وتَمامه بالْخُطبة، فيخطب واقفًا خطبتين يَجلس بينهما جلسة. اهـ من الْمُحلى (ج3 ص262).
22- أبو عبد الله مُحمد بن مُحمد بن مُحمد بن الْحَاج الْمَالكي:
قال -رحِمه الله-: وينهى الناس عما أحدثوه من الركوع بعد الأذان الأول للجمعة؛ لأنه مُخالف لِمَا كان عليه السلف -رضوان الله عليهم -... ومضى يُحذر من هذه البدعة، ثم عاد إلَى أصلها فقال: على أن الأذان الْمَفعول اليوم أولاً لَم يكن فِي زمن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا زمن أبي بكر وعمر رضي لله عنهما، وإنما فعله عثمان رضي الله عنه. اهـ الْمُراد من الْمَدخل (ج2 ص240).
وقال فِي (ص207): إذ إن السنة فِي أذان الْجُمعة إذا صعد الإمام على الْمِنبر. اهـ.
23- العلامة الألباني -رَحْمَة الله عليه-:
فِي الْجَواب على سؤال ورد إليه من لَجنة الْجَامعة السورية، ونصه:
بسم الله الرحْمَن الرحيم، السلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته.
وبعد: فامتثالاً لقول الله تعالَى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ﴾; [النحل: 43].
وقوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاََ تَكْتُمُونَهُ﴾; [آل عمران: 187].
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وعن علمه ماذا عمل به» ..
أتينا نسألكم التكرم بتحقيق الْمَسألة التالية ولكم الأجر:
هل ترون الاقتداء بِمَا فعله عثمان رضي الله عنه يوم الْجُمعة من الأذان الثاني إطلاقًا، أما فقط عندما يتوفر السبب الذي دعا سيدنا عثمان لذلك لَما رأى الناس قد كثروا وانغمسوا فِي طلب الْمَعاش، أو بعبارة أخرى: إذا وجد مسجد لا حي قريب منه ولا سوق، وليس له إمام راتب ولا مئذنة، كالْمَسجد الذي فِي داخل الثكنة(2) فهل ترون أن يَجري فيه على سنة سيدنا عثمان، أو يكتفي بأذان واحد كما هو الْحَال فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه؟
ثم ذكروا أسئلة بعد هذا، وقالوا فِي آخرها: نرجو فِي كل ما سبق إيراد النصوص التِي استندتُم إليها فِي تَحقيقكم، ولكم منا الشكر ومن الله الثواب والأجر، وفقنا الله وإياكم إلَى العلم، والفهم والاتباع، وهو الْهَادي إلَى الرشاد؟
فأجاب -رحِمه الله-: لا نرى الاقتداء بِمَا فعله عثمان رضي الله عنه على الإطلاق ودون قيد؛ فقد علمنا مِمَّا تقدم أنه إنمَا زاد الأذان الأول لعلة معقولة، وهي كثرة الناس وتباعد منازلِهم عن الْمَسجد النبوي، فمن صرف النظر عن هذه العلة وتَمسك بأذان عثمان مطلقًا لا يكون مقتديًا به رضي الله عنه، بل هو مُخالف له؛ حيث لَمْ ينظر بعين الاعتبار على تلك العلة الَّتِي لولاها لَمَا كان لعثمان أن يزيد على سنته -عليه الصلاة والسلام- وسنة الْخَليفتين من بعده! وذكر كلامًا نفيسًا من جنس هذا.
ثُمَّ قال: والْخَلاصة: أننا نرى أن يكتفى بالأذان الْمُحمَّدي، وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على الْمِنبر؛ لزوال السبب الْمُبرر لزيادة عثمان؛ واتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو القائل: «فمن رغب عن سنتِي فليس منِّي»(3). اهـ الْمُراد من «الأجوبة النافعة على أسئلة لَجنة الْجَامعة» (ص6-11) باختصار.
24- القرطبِي -رحِمه الله-:
قال فِي تفسير سورة الْجُمعة عند الآية (9) منها: وقد كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما فِي سائر الصلوات يؤذن واحد إذا جلس النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الْمِنبر، وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة، ثُمَّ زاد عثمان أذانًا ثالثًا على داره الَّتِي تسمى بـ: الزوراء حين كثر الناس بالْمَدينة. اهـ الْمُراد.
25- الْمَاوردي -رحِمه الله-:
قال: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لِحضور الْخُطبة عند اتساع الْمَدينة وكثرة أهلها. اهـ من تفسير القرطبِي (ج18 ص100).
26- الإمام مالك -رحِمه الله-:
قال الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي -رحِمه الله-: سُئل مالك عن النداء يوم الْجُمعة هل يكون قبل أن يَحل الوقت؟ فقال: لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس.
27- العلامة مُحَمَّد بن إسماعيل الأمير:
قال -رحِمه الله- فِي أثناء كلام متعلق بالنداء الذي يوجب حضور الْجُمعة قال: وأحاديث من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له وما فِي معناه عدة أحاديث مرفوعة وموقوفة، ذكرها البيهقي فِي السنن؛ فإن الْمُراد بالنداء فيها الْمَعروف شرعًا: هو النداء عند قعود الْخَطيب على الْمِنبر، وهو الْمُراد فِي الآية، وأما هذا النداء الذي أراده الْمُصنف هنا وفِي البحر؛ فإنه شيء مُخالف للشرع الْمَعلوم، والبدعي الذي أحدثه عثمان. اهـ الْمُراد من حاشية «ضوء النهار » للجلال (ج2 ص103).
28- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي:
قال -رحِمه الله-: وهذا كما قال إن الْجُمعة لا يؤذن لَها قبل وقتها، ووقتها زوال الشمس كالظهر فِي سائر الأيام، ثُمَّ ذكر أن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَمْ يكن الأذان فِي عهده إلا إذا جلس على الْمِنبر، وأن عثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول، قال: وفعل النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحق أن يتبع. اهـ من «الْمُنتقى شرح الْمُوطأ». للباجي (ج1 ص134).
29- شيخنا العلامة الوادعي -رحِمه الله-:
سُئل هل الأذان الأول يوم الْجُمعة سنة؟
فأجاب -حفظه الله- بتقرير متين، قال فِي آخره: فعرف من هذا أن الأذان ليس بسنة، ولا ينبغي أن يفعله الْمُسلم، وإنما اجتهد عثمان، والاجتهاد قد يصيب وقد يُخطئ، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول بعد أن قال: «عليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضوا عليها بالنواجذ». قال: «وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثة بدعة».
بل يقول: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حَتَّى يدع بدعته». رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أنس.
وقال الْحَافظ الْمُنذري: إن سنده حسن. اهـ مُختصرًا من كتاب: إجابة السائل على أهم الْمَسائل (ص 414-416).
فهؤلاء نَحو ثلاثين واحدًا من جهابذة علوم هذه الشريعة الْمُطهرة، وهذا الذي ذكرناه هو قليل باعتبار ما فِي الْمَسألة من إجْمَاع متيقن نقله ابن رجب وغيره كما قدمنا، على أن الأذان الأول للجمعة لَمْ يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبِي بكر وعمر، كما نص على ذلك حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه عند الإمام البخاري وغيره، وقد تنوعت عبارات أهل العلم مِمَّن ذكرنا، ومن لَمْ نذكر فِي الْحُكم على هذا الأذان، فمن قائل: إنه مُحدث، ومن قائل: إنه بدعة، ومن قائل: إنه ليس بسنة ولا ينبغي أن يفعله الْمُسلم، ومن قائل غير ذلك من العبارات الَّتِي مؤداها النهي عن فعله.
وأما من يقول: إنه مُحدث ولا بأس بفعله؛ فليس له حجة من كتاب ولا سنة على هذا القول إلا تلك الشبه الْمَوهومة، مثل ما اشتمل عليه حديث العرباض بن سارية وسيأتي لبعضها مزيد بيان، وشأن هذه الشبه وغيرها هو كما يقول ربنا (: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾; [النور: 39].
وإليك فحص تلك الزيوف.
* * * * *
______________________
(1) يعنِي: حديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه فِي أول هذا الباب.
(2) هو مسجد جامعة دمشق.
(شبه القائلين بجواز الأذان الأول والرد عليها
1- يقولون: إن أمير الْمُؤمنين عثمان بن عفان كان أحد الْخُلفاء الراشدين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضوان الله عليهم أجْمَعين-، وقد قال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «عليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين».
والْجَواب: نعم، وهذا معتقد أهل السنة -رضوان الله عليهم- كما فِي شرح الطحاوية (ص484) وغيرها.
والْحَديث الْمَذكور أخرجه أبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2678)، وأحْمَد فِي الْمُسند (ج4 ص126-127)، وابن ماجه (42)، والدارمي (ج1 ص44، 45)، والطبراني فِي معاجِمه الثلاثة من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله؛ كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا، قال: «أوصيكمبتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرىاختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضواعليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة».
زاد النسائي من حديث بسند رجاله ثقات: «وكل ضلالة فِي النار».
وحديث العرباض هذا بِمَجموع طرقه حسن كما بينته فِي تَحقيق: إصلاح الْمُجتمع للبيحاني -رحِمه الله-، لكن ينبغي أن نفهم الْحَديث فهمًا صحيحًا مدعمًا بالأدلة الصحيحة، وتوضيح ذلك يَحتاج إِلَى عدة أمور:
الأول: ما الْمَقصود بسنة الْخُلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم-؟
الثاني: أين الأحق بالتقديم: سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أم اجتهاد غيره من الْخُلفاء- رضوان الله عليهم- أو غيرهم؟
الثالث: هل لأحد أن يسن سنة من نفسه غير سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
الرابع: ذم البدع وسبب الوقوع فيها.
وإليك بيان ذلك بعون الله تعالَى:
قال الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فِي الباب السادس والثلاثين من كتاب إحكام الأحكام (ج6 ص236): وأما قوله: «فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين». فقد علمنا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يأمر بِما لا يُقدر عليه، ووجدنا الْخُلفاء الراشدين بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد اختلفوا اختلافًا شديدًا، فلابد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لَها:
الوجه الأول: إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه، وهذا ما لا سبيل إليه ولا يقدر عليه، إذ فيه الشيء وضده، فلا سبيل إِلَى أن يورث أحد الْجَد والإخوة بقول أبِي بكر وعائشة، وأبو بكر الْخَليفة الأول بعد رسول الله، ويورثه الثلث فقط والباقي للإخوة على قول عمر الْخَليفة الثاني، ويورثه السدس والباقي للإخوة على قول علي الْخَليفة الرابع، وهكذا فِي كل ما اختلفوا فيه؛ فبطل هذا الوجه؛ لأنه ليس فِي استطاعة الناس أن يفعلوه، فهذا وجه.
الوجه الثاني: أن يكون مباحًا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شئنا؛ وهذا خروج عن الإسلام؛ لأنه يوجب أن يكون دين الله تعالَى موكولاً على اختيارنا، فيحرم كل واحد منا ما يشاء ويُحل ما يشاء، ويُحرم أحدنا ما يُحله الآخر، وقول الله تعالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾; [الْمَائدة: 3].
وقوله تعالَى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاََ تَعْتَدُوهَا﴾; [البقرة: 229].
وقوله تعالَى: ﴿وَلاََ تَنَازَعُوا﴾; [الأنفال: 46]. يبطل هذا الوجه الفاسد ويوجب أن ما كان حرامًا حينئذٍ فهو حرام إِلَى يوم القيامة، وما كان حلالاً يومئذٍ فهو حلال إِلَى يوم القيامة.
وأيضًا؛ فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم ولابد من ذلك، فلسنا حينئذٍ متبعين لسنتهم، فقد حصلنا فِي خلاف الْحَديث وحصلوا فيه شاءوا أم أبوا، ولقد ذكرنا هذا مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلاً فكانت عادته أن يتقدمه رجلان مدار الفتيا عليهما فِي ذلك الوقت فكان يكتب فتياهما: أقول بِمَا قاله الشيخان، فحصل أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تَحت فتياهما: أقول بِمَا قال الشيخان. قال بعض من حضر: إن الشيخين قد اختلفا! فقال: وأنا اختلف باختلافهما!
قال أبو مُحَمَّد: فإذا قد بطل هذان الوجهان؛ فلم يبق إلا الوجه الثالث: وهو أخذ ما أجْمَعوا عليه، وليس ذلك إلا فيما أجْمَع عليه سائر الصحابة -رضوان الله عليهم- معهم فِي تتبعهم سنن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والقول بِهَا.
وأيضًا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أمر باتباع الْخُلفاء الراشدين لا يَخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون أباح أن يسنوا سننًا غير سنته! وهذا ما لا يقوله مسلم، ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله؛ لأن الدين كله إما واجب، أو غير واجب، وإما حرام، وإما حلال، فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لَمْ يسنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أباح أن يُحلوا حرامًا أو يوجبوا ما لَمْ يوجبه رسول الله، أو يسقطوا فريضة فرضها رسول الله، ولَم يسقطها إِلَى أن مات، وكل هذه الوجوه من جوَّز منها شيئًا فهو كافر مشرك بإجْمَاع الأمة كلها بلا خلاف، فهذا الوجه قد بطل ولله الْحَمد.
وإما أن يكون أمر باتباعهم فِي اقتدائهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهكذا نقول وليس يَحتمل الْحَديث وجهًا غير هذا أصلاً.
ويقال لَهم فِي احتجاجهم بِمَا روي فِي الْحَديث من الأمر بالتزام سنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين: هذه حجة عليكم؛ لأن جحة الْخُلفاء الراشدين كلهم بلا خلاف منهم: ألا يقلدوا أحدًا وألا يقلد بعضهم بعضًا، وأن يطلبوا سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بِهَا.
قلت: نعم، وعلى ذلك أدلة كثيرة نذكر بعضًا منها فِي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا يبحثون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيعملون بِهَا.
1- قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- (ج11 رقم 6245): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبِي سعيد الْخُدري قال: كنت فِي مَجلس من مَجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمِنكُم أحد سمعه من النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال أُبي ابن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ذلك.
وأخرجه مسلم رقم (2153).
2- وقال الإمام البخاري -رحِمَه الله تعالَى- (رقم 3092، 3093): حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة أم الْمُؤمنين رضي الله عنها أخبرته أن فاطمة -عليها السلام- ابنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقسم لَها ميراثها مِمَّا ترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مِمَّا أفاء الله عليه، فقال لَها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة». فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مِمَّا ترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالْمَدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالْمَدينة فدفعها عمر إلَى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانتا لِحُقوقه التِي تعروه ونوائبه وأمرهما إلَى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلَى اليوم.
وأخرجه مسلم رقم (1759) مُختصرًا.
3- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (6736): حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا أبو قيس: سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتِ ابن مسعود فسيتابعنِي، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبِي موسى، فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من الْمُهتدين، أقضي فيها بِمَا قضى النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الْحَبر فيكم.
4- وأخرج الإمام البخاري فِي صحيحه (ج12 ص120) تعليقًا، وأبو داود (ج12 ص74- عون الْمَعبود) قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي لله عنهما قال: أتي عمر بِمَجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن تُرجم، فمر بها على علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مَجنونة بنِي فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير الْمُؤمنين؛ أما علمت -وفِي رواية: أما تذكر- أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الْمَجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبِي حتى يعقل»؟ قال: بلى. قال: فما بال هذه تُرجم؟ قال: لا شيء. قال: فأرسلها، قال: فأرسلها عمر وجعل يكبر.
5- وأخرج البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (5729): عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الْخَطاب رضي الله عنه خرج إِلَى الشام حَتَّى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الْجَراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي الْمُهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء.
فقال: ارتفعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعو لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل الْمُهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعو لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر فِي الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الْجَراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالَها يا أبا عبيدة!! نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الْخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الْجَدبة رعيتها بقدر الله؟
قال: فجاء عبد الرحْمَن بن عوف وكان متغيبًا فِي بعض حاجته، فقال: إن عندي فِي هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض؛ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بِهَا؛ فلا تَخرجوا فرارًا منه». قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجه مسلم رقم (2219).
6- وأخرج البخاري رقم (6117) قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي السوار العدوي قال: سمعت عمران بن حصين قال: قال النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الْحَياء لا يأتي إلا بِخير». فقال بشير بن كعب: مكتوب فِي الْحِكمة: إن من الْحَياء مِمَّا يكون وقارًا، وإن من الْحَياء سكينة، وفِي رواية: ضعفًا، فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتُحدثنِي عن صحفك!
وأخرجه مسلم رقم (37).
7- وقال الإمام البخاري رقم (1581): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن قتادة قال: حدثنِي مطرف، عن عمران رضي الله عنه قال: تَمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنزل القرآن، فقال رجل برأيه ما شاء.
وأخرجه أيضًا برقم (4518)، وأخرجه مسلم رقم (1226).
وقد هممت أن أكمل مائة حديث أو نَحو ذلك من هذا الباب الذي جل نَقَلَةِ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان سبب تَحديثهم بها هو هذا السبب.
ونسأل الله أن يعيننا على إكمال هذه الْمِائة فِي بَحث آخر، وإنما أردنا هنا الاختصار.
8- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (3401): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الْخَضر ليس هو موسى بنِي إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أُبي بن كعب عن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنموسى قام خطيبًا فِي بنِي إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتبالله عليه إذ لَم يرد العلم إليه، فقال له: بلى لي عبد بِمَجمع البحرين هوأعلم منك، قال: أي رب ومن لي به؟ -وربَّما قال سفيان: أي رب وكيف لي به؟- قال: تأخذ حوتًا فتجعله فِي مكتل حيثما فقدت الْحَوت فهو ثَمَّ...». وذكر الْحَديث بطوله.
وأخرجه مسلم رقم (2380).
9- وقال الإمام البخاري رقم (1840): حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه: أن عبد الله بن العباس والْمِسور بن مَخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل الْمُحرم رأسه، وقال الْمِسور: لا يغسل الْمُحرم رأسه، فأرسلنِي عبد الله بن العباس إلَى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلنِي إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يغسل رأسه وهو مُحرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل.
وأخرجه مسلم (1205).
10- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (956): حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا مُحمد بن جعفر قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد الْخُدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يَخرج يوم الفطر والأضحى إلَى الْمُصلى؛ فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف.
قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير الْمَدينة فِي أضحى أو فطر، فلما أتينا الْمُصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة!
فقلت له: غيرتُم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مِمَّا لا أعلم، فقال: إن الناس لَم يكونوا يَجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
11- وقال الإمام البخاري -رحِمَه الله- رقم (724): حدثنا معاذ بن أسد قال: أخبرنا الفضل بن موسى قال: أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الأنصاري، عن أنس بن مالك أنه قدم الْمَدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
قال: ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف.
12- وقال الإمام مسلم -رحِمَه الله تعالَى- (ج4 رقم 845): حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: حدثنِي يَحيى بن أبي كثير، حدثنِي أبو سلمة بن عبد الرحْمَن، حدثنِي أبو هريرة قال: بينما عمر بن الْخَطاب يَخطب الناس يوم الْجُمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير الْمُؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضًا! ألَم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «إذا جاء أحدكم إلَى الْجُمعة فليغتسل»؟! وأخرجه البخاري رقم (878).
13- وأخرج الإمام مسلم رقم (864) قال: وحدثنا مُحمد بن الْمُثنى وابن بشار قالا: حدثنا مُحمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة أن كعب بن عجرة دخل الْمَسجد، وعبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم يَخطب قاعدًا فقال: انظروا إلَى هذا الْخَبيث يَخطب قاعدًا، وقال الله تعالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾; [الْجُمعة: 11].
14- وقال -رحِمه الله- رقم (874): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن حصين، عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على الْمِنبر رافعًا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين؛ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه الْمُسبحة. اهـ.
وهذا باب واسع كثير الأدلة غزير الفائدة، ولَم نرد الاستطراد فيه هنا، وإنما كان القصد ذكر جُملة من ذلك برهانًا على ما قاله الإمام ابن حزم -رحِمه الله-: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا يطلبون سنن رسول الله حيث وجدوها فيعملون بها، ولَم يكن أحدهم يقلد الآخر، ولا كان واحد من الْخُلفاء أو غيرهم يعتبر لنفسه سنة مستقلة تكون حجة للناس، وحاشاهم من ذلك.
وكما قال ابن حزم -رحِمه الله-: فمن كان متبعًا للخلفاء الراشدين فليتبعهم فيما أجْمَعوا عليه من اتباع سنن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيما نهوا عنه من التكلف. اهـ باختصار من «إحكام الأحكام». لابن حزم، الباب السادس والثلاثين.3) متفق عليه من حديث أنس بن مالك.
|
استدل بعض عميان البصيرة بِحَديث: «من سن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها».
والْحَديث بتمامه أخرجه الإمام مسلم رقم (1017) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فِي صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مُجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لِمَا رأى بِهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثُمَّ خطب فقال: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾; إِلَى آخر الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾; [النساء: 1]. والآية الَّتِي فِي آخر الْحَشر: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾; [الْحَشر: 18]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تَمره حتى قال: ولو بشق تَمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت!
قال: ثُمَّ تتابع الناس حَتَّى رأيت كومين من طعام وثياب، حَتَّى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «منسن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بِهَا بعده من غير أنينقص من أجورهم شيء، ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر منعمل بِهَا من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
قال القاضي عياض: هذا الْحَديث على نَحو ما تقدم من أن الْمُعين على الفعل كمن فعله. اهـ من شرحه على مسلم عند الْحَديث بالرقم السابق.
ورد هذه الشبهة الساقطة من عدة وجوه:
الأول: أن السنة هي قول النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو فعله، أو تقريره، وكتابته، وإشارته، وهمه، وتركه(1)، فأما السنة القولية والفعلية؛ فكثيرة جدًّا، فغالب الأحاديث من هذا الباب إما قوله أو فعله.
وأما التقرير؛ فصورته: أن يسكت عن إنكار قول أو فعل وقع بين يديه، أو اطلع عليه بطريق الإخبار.
قال العمريطي -رحِمه الله-: وما جرى فِي عصره ثُمَّ اطلع عليه إن أقره فليتبع، مثال ذلك: إقراره صلى الله عليه وعلى آله وسلم لِخَالد بن الوليد رضي الله عنه بأكل الضب وهو ينظر ولَم ينكر عليه، وإقراره لأبي سعيد الْخُدري وأصحابه على أخذ الأجرة على رقية ذلك اللديغ الذي لَمْ يعطهم قراهم فرقاه بالفاتِحة على قطيع من الغنم فشفي، ولَمَّا أُخبر النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك قال لأبي سعيد: «من أخبرك أنها رقية؟! اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا».
وإقرار أبي طلحة على التصدق ببستانه (بيرحاء) كما فِي الصحيحين، وإقراره لزوجته حين أعتقت وليدتها ثم أعلمته بعد ذلك، وإقراره لسلمان حين أمر أخاه فِي الله أبا الدرداء لَما قال له: إن لنفسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه، قال: «صدق سلمان». والْحَديث فِي الصحيح.
وأما همُّ النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فقد استحب الإمام الشافعي -رحِمه الله- فِي الْجَديد للخطيب فِي الاستسقاء مع تَحويل الرداء تنكيسه، يَجعل أعلاه أسفله، مُحتجًّا بأنه عليه السلام استسقى وعليه خَميصة سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه(2).
قال الشافعي: فيستحب الإتيان بِمَا همَّ به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما إشارة النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فيستدل لذلك بقوله: «الشهر هكذا وهكذا». ثم أشار فِي الثالثة مثل ذلك: وقبض الإبهام مبينًا بذلك أن الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين.
والكتابة: مثل كتابته إلَى عماله فِي الصدقات وسائر الأحكام، ومثال ذلك: حديث أنس بن مالك الطويل فِي أحكام زكاة الأنعام، والْحَديث عند البخاري وفيه: أن أبا بكر كتب به إلَى أنس أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بذلك فِي الأنعام، وأيضًا حديث: «اكتبوا لأبي شاة».
وأما الترك: فمثل خلعه النعل خلعوا بعده نعالَهم، وخلعه الْخَاتَم فخلعوا بعده خواتِمهم، وانظر لذلك: «البحر الْمُحيط». للزركشي (ج4 ص168-214)، و«معالِم أصول الفقه». للجيزاني (122).
وليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سنة، قال ابن رجب -رحِمه الله- فِي شرح الْحَديث الثامن والعشرين من جامع العلوم (ص320) قال: والسنة هي الطريقة، فيشمل ذلك التمسك بِما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال. اهـ الْمُراد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما ما فعله النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بِحكم الاتفاق ولَم يقصده، مثل أن ينزل بِمَكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا ذلك الْمَكان بالصلاة فيه أو النزول لَمْ نكن متبعين، بل هذا من البدع الَّتِي كان ينهى عنها عمر بن الْخَطاب...
إِلَى أن قال: ومن هذا: وضع ابن عمر يده على مقعد النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمر بن حريث بالكوفة، فهذا لَما لَمْ يكن مِمَّا فعله سائر الصحابة ولَم يكن النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شرعه لأمته، لَمْ يُمكن أن يقال: هذه سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مِمَّا لا ينكر على فاعله، لأنه مِمَّا يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهكذا يقول أئمة العلم فِي هذا و أمثاله تارة يكرهونه، وتارة يرخصون فيه إذا لَمْ يتخذ سنة، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، ولا يقول عالِم بالسنة: إن هذا سنة مشروعة للمسلمين؛ فإن ذلك إنمَا يقال فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع...
إِلَى أن قال: ولا يكون فِي الدين واجبًا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبًّا إلا ما استحبه، ولا مكروهًا إلا ما كرهه، ولا مباحًا إلا ما أباحه. اهـ باختصار من مَجموع الفتاوى (ج1 ص280-282).
قلت: فعلم بِهذا أن السنة الَّتِي أمر الله باتباعها: هي هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما تقدم من أنواعها، وأنه إن قيل سنة الْخُلفاء الراشدين فإنما الْمَقصود بِهذا اللفظ طريقتهم فِي فهم سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما قال ربنا سبحانه: ﴿وَمَنيُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىوَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىوَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾; [النساء: 115].
وهل سبيل الْمُؤمنين إلا طريقتهم فِي اتباع كتاب الله وسنة رسوله ليس إلا؟! وارجع بصرك على ما تقدم من الأدلة فِي بيان حديث العرباض بن سارية تر أن جَميع الصحابة كانوا يعودون فيما اختلفوا فيه إِلَى ما أمرهم الله سبحانه به هم وجَميع الْمُؤمنين: ﴿فَإِنتَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنكُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌوَأَحْسَنُ تَأْوِيلاًَ﴾; [النساء: 59].
ولَم يكن أحد من الصحابة بِمَا فيهم الْخُلفاء الراشدون من يقول أن له سنة حسنة، أو يريد أن يشرع سنة حسنة! نعوذ بالله من هذا، فإنه يعتبر افتئاتًا على شرع الله عز وجل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْتُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾; [آل عمران: 31]. ﴿فَلاََوَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَوَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾; [النساء: 65]، ﴿وَمَاكَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاََ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُأَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾; [الأحزاب:36]، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾; [الأحزاب: 21]، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾; [النور: 63]. ﴿هُوَالَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاًَ مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْآيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنكَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاََلٍ مُّبِينٍ﴾; [الْجُمعة: 2].
فهذه الأدلة كلها وهي غيض من فيض تدل على أن الْخِطاب موجه فيها إِلَى أصحاب النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو شامل لِجميع الْمُؤمنين بعدهم، وأنت ترى ما فيها من الوعيد لِمن خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف يسوغ لِمسلم أن يَخترع سننًا يزعم أنها حسنة يشرع بِهَا دينًا لَمْ يأذن به الله؟ فإن السنة: هي وحي من الله تعالَى؛ قال سبحانه: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى«( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى «( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى«( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى﴾; [النجم: 1-4]. فمن ذا الذي له بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحي ونبوة؟!
لاشك أن من أراد أن يسن للناس سننًا من دين الله لَمْ يأت بِهَا الله يعتبرزنديقًا على ما ذكر الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فيما نقلناعنه فِي هذه الْمَسألة عند حديث العرباض. ومن وجوه رد هذه الشبهة الرديئة: أن السنة فِي تعريفها فِي اللغة هي الطريقة على ما ذكره جمهور الأصوليينومنه قول لبيد فِي معلقته:
من معشر سنت لَهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها
أي: طريقة يسيرون عليها، فيكون معنى الْحَديث «من سن فِي الإسلام سنة حسنة». أي: أحيا طريقة من دين الله من كتابه وسنة رسوله قد أهملها الناس؛ فيأتيهو فيجددها ويُحييها، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله يبعث لِهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يَجدد لها أمر دينها». معنى أنه يُحيي سننًا وطرقًا سلكها النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلمثم أهملت، فهذا له أجرها وأجر من عمل بها من بعده؛ لأنه أحيا سنة لرسولالله قد تركها الناس وأهملوها.
أما أن يأتي بشيء جديد لا دليل عليه ثم يَجعله سنة، فهذا يشمله حديث عائشة رضي الله عنها فِي «الصحيحين»: «من أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فهو مبتدع وسانٌّ بدعًا منكرة وليس بسانٍّ سننًا حسنة؛ فإن البدع مبغوضةإلَى الله بشتى أنواعها، قال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كل بدعة ضلالة». رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ويزيدبذلك بيانًا أنه لَم يدر فِي خلد أحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولاغيرهم من القرون الْمُفضلة أنه يسن للناس سننًا فِي الدين، وأيضًا يزيد ذلكبيانًا أن تلك الصدقة التي فعلها ذلك الرجل قبل قومه، فأتى بصرة كادت يدهأن تعجز عنها وتصدق بِها، ثم تبعه الناس على ذلك لَم يكن هو أول من سنالصدقة وشرعها فِي الإسلام، فإن الصدقة مشروعة قبل ذلك من أول البعثة، بلمشروعة فِي كل زمان وملة.
وعلى ذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة، منها: أن الله تعالَى بعد أن ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب فِي سورة الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاََةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾; [الأنبياء: 73].
وقال تعالَى فِي سورة مريم: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِوَكَانَ رَسُولاًَ نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاََةِوَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾; [مريم: 54-55].
وقال تعالَى: ﴿وَإِذْأَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاََ تَعْبُدُونَ إِلاََّ اللَّهَوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَىوَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَََةَوَآتُوا الزَّكَاةَ﴾; [البقرة: 83].
وقال تعالَى بعد ذكر أهل الكتاب من سورة البينة، قال: ﴿وَمَاأُمِرُوا إِلاََّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَحُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاََةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُالْقَيِّمَةِ﴾; [البينة: 5]. والزكاة: تسمى صدقة، قال تعالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾; [التوبة: 103].
وثبت من حديث سلمان فِي قصة إسلامه عند أحمد فِي «الْمُسند» (ج5 ص441): أنه كان عند نصراني راهب وكان ذلك الراهب يأمر الناس بالصدقةويَحثهم عليها فإذا تصدقوا اكتنزها لنفسه، ولَم يعط الفقراء، وكان سلمان قدعرف ذلك واطلع على خيانة ذلك الراهب، فلما مات الراهب أخبر قومه أن تلكصفته؛ فبحثوا فوجدوا الكنز، فتركوا راهبهم ذاك ولَم يدفنوه، وقالوا: واللهلا ندفنه مادام فعل ذلك.
وشاهدنا من الْحَديث: أن ذلك الراهب كان يَحثبنِي إسرائيل على الصدقة، مِمَّا يدل أنها مشروعة عليهم ولَمَّا لَم يعطهالِمستحقيها لَم يدفنوه بعد موته.
وفِي حديث سلمان ذاك: أن من صفةالنَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الَّتِي عرفه رهبان بنِي إسرائيلبِهَا أنه يأكل الْهَدية ولا يأكل الصدقة، وهذا لوصف هو متصف به صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قبل البعثة وبعدها.
وإنما ذكرنا هذا ليُعلم أن ذلكالصحابي رضي الله عنه الذي سلك طريقًا مشروعًا ومسنونًا من قبل الإسلاموبعد، وإنما هو أحيا هذه السنة فِي أولئك القوم الذين كانوا عند النَّبِيصلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث بدأ بالتصدق، ودلَّهم على ذلك الْهَدي،فكان له من الأجر بفضل الله كما لَهم فِي تلك الصدقة لا ينقص من أجورهمشيء.
وهكذا مَنْ علَّم الْمُسلمين علمًا شرعيًّا من كتاب الله وسنةرسوله، وقد اندثرت يكون قد أحيا فيهم سنن رسول الله صلى الله عليه وعلى آلهوسلم فيشمله هذا الْحَديث، ويَحصل له من الأجر مثل أجور من استفاد من علمهالشرعي.
فقد ثبت فِي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وقال الله تعالَى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾; [يس: 12].
ومِمَّا يدل على ما قلناه ويدحض كل قول سواه: قوله -عليه الصلاة والسلام- فِي هذا الْحَديث: «من سن فِي الإسلام سنة حسنة فله أجرها». الْحَديث.
وأنتأيها الْمُسلم الْمُستقيم تعلم أن البدع الْمُخترعة ليست من الإسلام، ولاهو منها، فالإسلام بريء من كل بدعة ومعصية، فهو دين الله الْحَق الذيارتضاه لعباده؛ قال تعالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاََمُ﴾; [آل عمران: 19].
وقال تعالَى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاََمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾; [آل عمران: 85].
وقال تعالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾; [الْمَائدة: 3].
ومِمَّا يؤيد ما قلناه ويدحض كل قول سواه: قوله فِي الْحَديث: «ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة». فهذا اللفظ يدل أن السنة: الطريقة، أي: ومن سلك فِي الإسلام طريقة سيئةومبتدعة ومُخترعة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، كقوله تعالَى: ﴿لِيَحْمِلُواأَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَيُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاََ سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾; [النحل: 25].
وإلافإن السنة على حد كونها شرعًا مرضيًّا لا تكون سيئة، ولا يتصف بالسيِّئإلا ما خالف شرع الله، فتأمل هذا واقرأ ما قرره ابن كثير فِي البدايةوالنهاية عند ترجَمة جنكيز خان حيث ألف كتابًا سماه: «إلياسا»، وبعضهم يقول:«إلياسق»،جَمع فيه بين بعض اليهودية وبعض النصرانية وبعض الاختراعات العقلية فِيالدين التِي يظنها -كما يظن بعض الناس- أنها سنة حسنة، وبعض الأمور من هذاالدين؛ فكفره ابن كثير -رحِمه الله- وهو كما قال؛ لأن هذا الْمُعتدي الأثيمشرع للناس ما لَم يأذن به الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهنا أصل عظيم تَجب معرفته: وهو أن الله عز وجل قد قال فِي كتابه الكريم: ﴿وَيَوْمَيَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَالرَّسُولِ سَبِيلاًَ * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًاخَلِيلاًَ * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِيوَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاًَ﴾; [الفرقان: 27-29]. والذكر: هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال تعالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾; [الزخرف: 44].
وقال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما ثبت من حديث أبِي واقد الليثي وغيره: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه». وانظر طرق هذا الْحَديث فِي الكفاية للخطيب -رحِمه الله-.
وقد قدمنا بعض الأدلة الْمُتعلقة بِهذا الأصل فِي مبحث هذه الْمَسألة؛ فراجعها إن شئت.
والأصلالثاني: أن قول الصحابي مُختلف فِي الاحتجاج به، ومن قال بأنه حجة اشترطلصحة هذا القول شروطًا منها: ألا يُخالف نصًّا من القرآن أو السنة، ومنها: ألا يُخالف غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم-، فإذا خالف نصًّا من الكتابأو السنة كان مردودًا عليه، وإذا خالفه غيره من الصحابة لَمْ يكن قولأحدهما حجة بلا خلاف بين أهل العلم فِي ذلك.
قال صاحب مراقي السعود:
رأي الصحابي على الأصحاب لا يكون حجة فِي قول من خلا
وقد قرر هاتين الْمَسألتين علماء أصول الفقه، ونقلوا الإجْمَاع عليهما، كما ذكرنا.
وانظر: «إعلام الْمُوقعين». للإمام ابن القيم -رحِمه الله- (ج4 ص155)، و«مذكرة أصول الفقه». للعلامة الشنقيطي -رحِمَه الله-، و«معالِم أصول الفقه». للجيزاني (ص222-227).
وبعد هذا يتوجه السؤال على القائلين بأن فعل أمير الْمُؤمنين عثمان رضي الله عنه يعتبر حجة وسنة متبعة.
فنقوللَهم: هل توفر فِي هذا الأذان هذان الشرطان أو حَتَّى أحدهما؟ لا شك أنالْجَواب: لَمْ يتوفر أحدهما، فإن فعله هذا رضي الله عنه قد خالف سنة رسولالله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وخالفه أبو بكر وعمر وغيرهما كثير، كماقدمنا ذكرهم.
تنبيه: أُشكل على بعضهم في هذه المسألة قول علي رضي اللهعنه حين جلد شارب الخمر أربعين، قال: جلد النبِي صلى الله عليه وعلى آلهوسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة وهذاأحب إلَي. أخرجه مسلم رقم (4432).
والْجَواب: هو ما تقدم أن السنة لغةهي الطريقة، وأنها إذا تعارضت طريقة رسول الله مع غيره وجب الأخذ بطريقةرسول الله، وإذا لَم يكن إلا طريقة ذلك الصحابي ولا معارض لَهَا من قولغيره فقوله سنة متبعة، ولِهَذا فإن تقرير علي تقرير جميل؛ إذ أبان أن فعلعمر سنة وأخذ بسنة رسول الله، ونَحن نقول لِهَؤلاء الْمُحتجين بقول عليافعلوا كما فعل علي رضي الله عنه وهذا لا يعنِي أن السنتين متساويتان وانهيَجوز ترك سنة رسول الله لقول أو فعل غيره فتأمل هذا تنجُ من الْخَلط بينهدي رسول الله المأمور به كل مسلم وبين اجتهاد غيره بعده.
* * * * *
______________________
(1) ذكر هذا وأوسع منه الزركشي فِي $البحر الْمُحيط#.
(2) الْحَديث أخرجه أبو داود رقم (1194)، والنسائي رقم (1507)، وابن حبان (ج7رقم 2867) إحسان، وأحْمَد فِي الْمُسند (ج4 ص41-42) من طريق عبد العزيز بنمُحمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تَميم، عن عمه عبد الله بنزيد بن عاصم. وهذا سند حسن. وقال صاحب الإلْمَام: هو على شرط الشيخين. كمافِي $التلخيص الْحَبير#.(ج2 ص204).
اتمة بحث الْمَسألة
قد يقول بعض الْمَعانيد: إذا قلتم: إن هذا الأذان بدعة، فهل كان عثمان رضي الله عنه لَمَّا فعل ذلك مبتدعًا؟
قلنا: معاذ الله؛ فعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وقد قال النَّبِي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما لي لا أستحيي مِمَّا تستحيي منه الْمَلائكة».
وقال: «من يشتري بئر روما وله الْجَنة». فاشتراها عثمان، وجعلها للمسلمين.
وقال لأبي موسى: «ائذن له وبشره بالْجَنة مع بلوى تصيبه».
وكل هذه الأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، منها ما هو فِي الصحيحين، ومنها ما هو صحيح فِي خارجهما، ولعثمان رضي الله عنه من الْمَناقب الكثيرة غير ذلك، وحسبه أنه مبشر بالْجَنة، كما تقدم حديث أبي موسى فِي الصحيحين: «ائذن له وبشره بالْجَنة». وحديث سعيد بن زيد وغيرهما.
لكنه رضي الله عنه اجتهد فجعل مؤذنًا بالسوق ليشعر الناس بقرب وقت الصلاة، ولَم يكن ذلك الأذان بالْمَسجد كما يفعل بعض الْمُسلمين الآن، ومع اختلاف على حال بعض الناس الآن؛ فإننا أيضًا نعتبر ذلك الأذان من أصله غير مشروع، وأن أمير الْمُؤمنين عثمان أخطأ باجتهاده هذا، فهو على اجتهاده وحسن قصده مأجور، وهو شهيد ومن العشرة الْمُبشرين بالْجَنة وذنبه مغفور، أما من تابعه على ذلك الْخَطأ بعد بيان الْحُجة فهو فِي ذلك مبتدع، لا عذر له فِي مُخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه.
هذا حاصل ما يتعلق بالأذان الأول للجمعة، وقد جهدنا ألا يكون فيه تطويل مُمل ولا اختصار مُخل، وكان قصدنا من ذلك الامتثال لقول الله تعالَى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾; [الذاريات: 55].
والْحَمد لله رب العالَمين.
تعليق