إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، والصلاة و السلام على أشرف المرسلين و خاتم النبيين محمد المبعوث رحمة للعالمين، و على آله الطيبين الطاهرين، و أزواجه أمهات المؤمنين، و على جميع صحبه الأكرمين، و التابعين، و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    أما بعد:
    فإن الله جل و علا يمن على عباده بالنعم التي لا يتصورونها، و المنح التي لا يتخيلونها؛ و إن من أكبر تلك النعم التي امتن الله بها على عباده، نعمة فتح باب التوبة، قال جل و علا {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعد ذلك و أصلح فأنه غفور رحيم } و قال سبحانه { إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين } و قال صلى الله عليه و سلم { كل بني آدم خطّاء و خير الخطّائين التوابون } و لعل في الحديث نظر من حيث الصحة و الله اعلم.
    فعلى الإنسان أن يسارع في التوبة من جميع الذنوب و الخطايا، قال تعالى { و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة }.
    و لا عيب أن يقع المسلم في الخطأ أو الزلل، ولكن الإصرار عليه و عدم الرجوع منه هو عين الخطأ، قال جل و علا { و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها و نسي ما قدمت يداه } وقال سبحانه { و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون }؛
    قال ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ، أي : تناساها وأعرض عنها ، ولم يصغ لها، ولا ألقى إليها بالا {ونسي ما قدمت يداه } أي : من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة .
    و قال البغوي رحمه الله : {ومن أظلم ممن ذكر } وعظ { بآيات ربه فأعرض عنها } تولى عنها وتركها ولم يؤمن بها { ونسي ما قدمت يداه } أي : ما عمل من المعاصي من قبل .
    و الإنسان من طبيعته النسيان، فهو صفة لازمة بالمخلوق دون الخالق سبحانه، قال جل و علا { وما كان ربك نسيا } ؛ و في حق المخلوق قال سبحانه { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقال في حق فتى موسى { و ما أنسنيهُ إلا الشيطان أن أذكره } ؛ ومن طبيعته أيضا - أي المخلوق – الغفلة ، قال سبحانه حكاية عن المشركين { إن كنا عن هذا لغافلين } ، و هي أيضا صفة لازمة به دون الخالق سبحانه قال جل و علا { و ما الله بغافل عما يعملون } و قال { و ما الله بغافل عما تعملون } و قال { لا تأخذه سنة و لا نوم }.
    ومن هذا المنطلق فإن المسلم قد يتكرر منه الخطأ أو الزلل أو الذنب ، إما ذاكرا غير ناس أو غافل ، فيكون دافعه الشهوة المستحكمة ، أو الاستخفاف بحق الله و الجرأة عليه و جعله أهون الناظرين ، و إما يقترفه و هو ناس غافل عن الله و عن و عيده وعن حكمه ، و في كلتا الحالتين فإن القوارع القرآنية لمن تدبرها و الزواجر النبوية لمن تأملها تكون كافية في رده إلى الطريق المستقيم ، و جعله آيبا إلى رشده ، مقلعا عن ذنبه ، حامدا لربه ، متبعا لهدي نبيه صلى الله عليه و سلم ، إلا أن يستكبر و يعرض ، قال جل و علا { و لقد أريناه آياتنا كلَّها فكذب و أبى } و قال { و قد ءاتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يخمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه و ساء لهم يوم القيامة حملا } . و الآيات في هذا كثيرة .
    و المسلم إذا رأى أخاه قد ابتلي بالمعاصي و الذنوب فليحمد الله على أن عافاه من ذلك الزلل و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، و لا يأمن على نفسه بعد ذلك ، و لا يظهر الشماتتة بأخيه فقد يعافيه الله و يبتليه ؛ و لكن يناصحه ، و يدعو له ، و يصحبه و يلزمه بالمعروف و الابتعاد عن المنكرات ، و ليظهر له أنه مشفق عليه و خائف من المصير الذي يؤدي إليه ذلك الذنب ؛ و ليتذكر أنه لو وقع هو في ذلك الذنب أو الخطأ ، لتمنى من إخوانه أن يفعلوا معه هذا التعامل الذي ذكرته من النصح و التوجيه . كما تمنى ذلك الذي قد حكى الله عنه { ويوم يعض ظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني و كان الشيطان للإنسان خذولا } .
    قال ابن كثير رحمه الله : وقوله { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين ، الذي لا مرية فيه ، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول ، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم ، وعض على يديه حسرة وأسفا .
    وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء ، فإنها عامة في كل ظالم ، كما قال تعالى { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا } فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ، ويعض على يديه قائلا { يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } يعني : من صرفه عن الهدى ، وعدل به إلى طريق الضلالة [ من دعاة الضلالة ] ، وسواء في ذلك أمية بن خلف ، أو أخوه أبي بن خلف ، أو غيرهما .

    { لقد أضلني عن الذكر ) وهو القرآن ( بعد إذ جاءني ) أي : بعد بلوغه إلي ، قال الله تعالى : (وكان الشيطان للإنسان خذولا } أي : يخذله عن الحق ، ويصرفه عنه ، ويستعمله في الباطل ، ويدعوه إليه .
    ثم إن الذي يقع في الخطأ و لا يريد الإقلاع عنه و لا التوبة منه بدعوى أن الله هو الذي قدر عليه ذلك و كتبه عليه ، فإن هذا خطا و زلل و جرم أكبر من ذنبه ذاك ربما ، فإن زللـه و خطأه قد أضاف إليه قولا مبتدعا و قولا على الله بغير علم افتراءا عليه ، فإن هذا قول الجبرية ، و هم من يقول بأن العبد مجبور على فعله ، قال ابن القيم رحمه الله :
    وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ظهيرا على الرحمن للجبر تزعم
    فليتق الله الإنسان و ليصبر على طاعة الله و البعد عن معصيته ، و ليصبر أيضا على أقداره سبحانه ، فإنه حكيم خبير . و الله جل و علا يقول { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } .
    و التوبة لها شروط ذكرها أهل العلم ، وهي إما من ذنب في حق الله أو في حق الآدميين . وفي كلتا الحالتين فإن شروطها ثلاثة : وهي الإقلاع عن ذلك الذنب و الندم على ما سلف منه في الماضي و العزم على عدم العود في المستقبل ، و زيد في الحالة الأخرى – و هي التي يكون فيها الذنب في حق الآدميين – شرط رابع و هو إرجاع الحق أو المظلمة لمن ارتكب في حقه ذلك الجرم أو الظلم ، فإن كان عرضا تحلل منه ، أو حقا رده إليه ، و ليختر الوسيلة الصحيحة لذلك و التي لا تعرضه لمفسدة هي أعظم من تلك المصلحة التي يريد تحقيقها .
    و ليعلم العبد أن له ربا يأخذ بالذنب و يعفو عن الذنب ، و ليسارع في التوبة من أي ذنب كان صغيرا أو كبيرا ، وحتى و لو تكرر منه العمل أو الزللـه نفسه في مرات كثيرة ، فإن توبته مقبولة ما دامت قد تحققت فيها الشروط المذكورة ، و يعد خطأه بعد ذلك ذنبا جديدا يحتاج إلى توبة جديدة ، و الله يعلم ما في القلوب .
    و نختم بكلام لابن القيم رحمه الله آثرت أن أجعله في الأخير لتترسخ الفائدة ، و هو بخصوص ما أشرت إليه في الأخير ، قال رحمه الله :
    - فصل -
    واحتج الفريق الآخر - وهم القائلون بأنه لا يعود إليه إثم الذنب الذي تاب منه بنقض التوبة - بأن ذلك الإثم قد ارتفع بالتوبة ، وصار بمنزلة ما لم يعمله ، وكأنه لم يكن ، فلا يعود إليه بعد ذلك ، وإنما العائد إثم المستأنف لا الماضي .
    قالوا : ولا يشترط في صحة التوبة العصمة إلى الممات ، بل إذا ندم وأقلع وعزم على الترك محي عنه إثم الذنب بمجرد ذلك ، فإذا استأنفه استأنف إثمه .
    قالوا : فليس هذا كالكفر الذي يحبط الأعمال ، فإن الكفر له شأن آخر ، ولهذا يحبط جميع الحسنات ، ومعاودة الذنب لا تحبط ما تقدمه من الحسنات .
    قالوا : والتوبة من أكبر الحسنات ، فلو أبطلتها معاودة الذنب لأبطلت غيرها من الحسنات ، وهذا باطل قطعا ، وهو يشبه مذهب الخوارج المكفرين بالذنب ، والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة التي تقدمها الألوف من الحسنات ، فإن الفريقين متفقان على خلود أرباب الكبائر في النار ، ولكن الخوارج كفروهم ، والمعتزلة فسقوهم ، وكلا المذهبين باطل في دين الإسلام ، مخالف للمنقول والمعقول وموجب العدل إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما .
    قالوا : وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحب العبد المفتن التواب .
    قلت : وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه ، فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوبا للرب ، ولكان ذلك أدعى إلى مقته .
    قالوا : وقد علق الله سبحانه قبول التوبة بالاستغفار ، وعدم الإصرار ، دون المعاودة ، فقال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون والإصرار عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به ، فهذا الذي يمنع مغفرته .
    قالوا : وأما استمرار التوبة فشرط في صحة كمالها ونفعها ، لا شرط في صحة ما مضى منها ، وليس كذلك العبادات ، كصيام اليوم ، وعدد ركعات الصلاة ، فإن تلك عبادة واحدة ، لا تكون مقبولة إلا بالإتيان بجميع أركانها وأجزائها ، وأما التوبة فهي عبادات متعددة بتعدد الذنوب ، فكل ذنب له توبة تخصه ، فإذا أتى بعبادة وترك أخرى لم يكن ما ترك موجبا لبطلان ما فعل ، كما تقدم تقريره .
    بل نظير هذا أن يصوم من رمضان ويفطر منه بلا عذر ، فهل يكون ما أفطره منه مبطلا لأجر ما صامه منه ؟ .
    بل نظير من صلى ولم يصم ، أو زكى ولم يحج .
    ونكتة المسألة أن التوبة المتقدمة حسنة ، ومعاودة الذنب سيئة ، فلا تبطل معاودته هذه الحسنة ، كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات .
    قالوا : وهذا على أصول أهل السنة أظهر ، فإنهم متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين ، ويكون محبوبا لله مبغوضا له من وجهين أيضا ، بل يكون فيه إيمان ونفاق ، وإيمان وكفر ، ويكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الآخر ، فيكون من أهله ، كما قال تعالى هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان وقال وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك ، فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله ، وإن كان معه تصديق لرسله ، وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل وباليوم الآخر ، فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر .
    وشركهم قسمان : شرك خفي ، وشرك جلي ، فالخفي قد يغفر ، وأما الجلي فلا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به .
    وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة ، لما قام بهم من السببين .
    فإذا ثبت هذا فمعاود الذنب مبغوض لله من جهة معاودة الذنب ، محبوب له من جهة توبته وحسناته السابقة ، فيرتب الله سبحانه على كل سبب أثره ومسببه بالعدل والحكمة ، ولا يظلم مثقال ذرة وما ربك بظلام للعبيد .
    فصل
    وإذا استغرقت سيئاته الحديثات حسناته القديمات وأبطلتها ، ثم تاب منها توبة نصوحا خالصة عادت إليه حسناته ، ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها ، بل يقال له : تبت على ما أسلفت من خير ، فالحسنات التي فعلتها في الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقة ، وصدقة ، وصلة ، وقد قال حكيم بن خزام : يا رسول الله ، أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهلية ، وصدقة تصدقت بها ، وصلة وصلت بها رحمي ، فهل لي فيها من أجر ؟ فقال : أسلمت على ما أسلفت من خير وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة ، وصارت كأنها لم تكن ، فتلاقت الطاعتان واجتمعتا ، والله أعلم .
    - فصل -
    ومن أحكامها أن العاصي إذا حيل بينه وبين أسباب المعصية ، وعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه ، هل تصح توبته ؟ وهذا كالكاذب والقاذف ، وشاهد الزور إذا قطع لسانه ، والزاني إذا جب ، والسارق إذا أتي على أطرافه الأربعة ، والمزور إذا قطعت يده ، ومن وصل إلى حد بطلت معه دواعيه إلى معصية كان يرتكبها .
    ففي هذا قولان للناس :
    فقالت طائفة : لا تصح توبته ، لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك ، فالتوبة من الممكن ، لا من المستحيل ، ولهذا لا تتصور التوبة من نقل الجبال عن أماكنها ، وتنشيف البحار ، والطيران إلى السماء ، ونحوه .
    قالوا : ولأن التوبة مخالفة داعي النفس ، وإجابة داعي الحق ، ولا داعي للنفس هنا ، إذ يعلم استحالة الفعل منها .
    قالوا : ولأن هذا كالمكره على الترك ، المحمول عليه قهرا ، ومثل هذا لا تصح توبته .
    قالوا : ومن المستقر في فطر الناس وعقولهم أن توبة المفاليس وأصحاب الجوائح توبة غير معتبرة ، ولا يحمدون عليها ، بل يسمونها توبة إفلاس ، وتوبة جائحة ، قال الشاعر :
    ورحت عن توبة سائلا وجدتها توبة إفلاس
    قالوا : ويدل على هذا أيضا أن النصوص المتضافرة المتظاهرة قد دلت على أن التوبة عند المعاينة لا تنفع ، لأنها توبة ضرورة لا اختيار ، قال تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما والجهالة هاهنا جهالة العمل ، وإن كان عالما بالتحريم ، ، قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة ، عمدا كان أو لم يكن ، وكل من عصى الله فهو جاهل .
    وأما التوبة من قريب فجمهور المفسرين على أنها التوبة قبل المعاينة ، قال عكرمة : قبل الموت ، وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت ، وقال السدي ، والكلبي : أن يتوب في صحته قبل مرض موته ، وفي المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وفي نسخة دراج أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني .
    فهذا شأن التائب من قريب ، وأما إذا وقع في السياق فقال : إني تبت الآن ، لم تقبل توبته ، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار ، فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ، ويوم القيامة ، وعند معاينة بأس الله .
    قالوا : ولأن حقيقة التوبة هي كف النفس عن الفعل الذي هو متعلق النهي ، والكف إنما يكون عن أمر مقدور ، وأما المحال فلا يعقل كف النفس عنه ، ولأن التوبة هي الإقلاع عن الذنب ، وهذا لا يتصور منه الإيقاع حتى يتأتى منه الإقلاع .
    قالوا : ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم ، يقترن به فعله المقدور ، والتوبة منه عزم جازم على ترك المقدور ، يقترن به الترك ، والعزم على غير المقدور محال ، والترك في حق هذا ضروري ، لا عزم غير مقدور ، بل هو بمنزلة ترك الطيران إلى السماء ، ونقل الجبال وغير ذلك .
    والقول الثاني - وهو الصواب - أن توبته صحيحة ممكنة ، بل واقعة ، فإن أركان التوبة مجتمعة فيه ، والمقدور له منها الندم ، وفي المسند مرفوعا الندم توبة ، فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه ، فهذه توبة ، وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه ، مع شدة ندمه على الذنب ، ولومه نفسه عليه ؟ ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه ، وعزمه الجازم ، ونيته أنه لو كان صحيحا والفعل مقدورا له لما فعله .
    وإذا كان الشارع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها ، إذا صحت نيته ، كقوله : في الحديث الصحيح إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما وفي الصحيح أيضا عنه : إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة ، حبسهم العذر وله نظائر في الحديث ، فتنزيل العاجز عن المعصية ، التارك لها قهرا - مع نيته تركها اختيارا لو أمكنه - منزلة التارك المختار أولى .
    يوضحه أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة ، ومنشأ المفسدة معدوم في حق هذا العاجز فعلا وعزما ، والعقوبة تابعة للمفسدة .
    وأيضا فإن هذا تعذر منه الفعل ما تعذر منه التمني والوداد ، فإذا كان يتمنى ويود لو واقع الذنب ، ومن نيته أنه لو كان سليما لباشره ، فتوبته بالإقلاع عن هذا الوداد والتمني ، والحزن على فوته ، فإن الإصرار متصور في حقه قطعا ، فيتصور في حقه ضده ، وهو التوبة ، بل هي أولى بالإمكان والتصور من الإصرار ، وهذا واضح .
    والفرق بين هذا وبين المعاين ، ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة ، والتوبة إنما تكون في زمن التكليف ، وهذا العاجز لم ينقطع عنه التكليف ، فالأوامر والنواهي لازمة له ، والكف متصور منه عن التمني والوداد ، والأسف على فوته ، وتبديل ذلك بالندم والحزن على فعله ، والله أعلم .
    فصل ومن أحكامها أن من توغل في ذنب ، وعزم على التوبة منه ، ولا يمكنه التوبة منه إلا بارتكاب بعضه ، كمن أولج في فرج حرام ، ثم عزم على التوبة قبل النزع الذي هو جزء الوطء ، وكمن توسط أرضا مغصوبة ، ثم عزم على التوبة ، ولا يمكنه إلا بالخروج ، الذي هو مشي فيها وتصرف ، فكيف يتوب من الحرام بحرام مثله ؟ وهل تعقل التوبة من الحرام بحرام ؟ .
    فهذا مما أشكل على بعض الناس ، حتى دعاه ذلك إلى أن قال بسقوط التكليف عنه في هذا الفعل الذي يتخلص به من الحرام .
    قال : لأنه لا يمكن أن يكون مأمورا به وهو حرام ، وقد تعين في حقه طريقا للخلاص من الحرام ، لا يمكنه التخلص بدونه ، فلا حكم في هذا الفعل البتة ، وهو بمنزلة العفو الذي لا يدخل تحت التكليف .
    وقالت طائفة : بل هو حرام واجب ، فهو ذو وجهين ، مأمور به من أحدهما ، منهي عنه من الآخر ، فيؤمر به من حيث تعينه طريقا للخلاص من الحرام ، وهو من هذا الوجه واجب ، وينهى عنه من جهة كونه مباشرة للحرام ، وهو من هذا الوجه محرم ، فيستحق عليه الثواب والعقاب .
    قالوا : ولا يمتنع كون الفعل في الشرع ذا وجهين مختلفين ، كالاشتغال عن الحرام بمباح ، فإن المباح إذا نظرنا إلى ذاته - مع قطع النظر عن ترك الحرام - قضينا بإباحته ، وإذا اعتبرناه من جهة كونه تاركا للحرام كان واجبا .
    نعم ، غايته أنه لا يتعين مباح دون مباح ، فيكون واجبا مخيرا .
    قالوا : وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة ، هي حرام ، وهي واجبة ، وستر العورة بثوب الحرير كذلك حرام واجب ، من وجهين مختلفين .
    والصواب أن هذا النزع والخروج من الأرض توبة ليس بحرام ، إذ هو مأمور به ، ومحال أن يؤمر بالحرام ، وإنما كان النزع - الذي هو جزء الوطء - حراما بقصد التلذذ به ، وتكميل الوطء ، وأما النزع الذي يقصد به مفارقة الحرام ، وقطع لذة المعصية ، فلا دليل على تحريمه ، لا من نص ولا إجماع ولا قياس صحيح يستوي فيه الأصل والفرع في علة الحكم .
    ومحال خلو هذه الحادثة عن حكم الله فيها ، وحكمه فيها الأمر بالنزع قطعا ، وإلا كانت الاستدامة مباحة ، وذلك عين المحال ، وكذلك الخروج من الأرض المغصوبة مأمور به ، وإنما تكون الحركة والتصرف في ملك الغير حراما إذا كان على وجه الانتفاع بها ، المتضمن لإضرار مالكها ، أما إذا كان القصد ترك الانتفاع ، وإزالة الضرر عن المالك ، فلم يحرم الله ولا رسوله ذلك ، ولا دل على تحريمه نظر صحيح ، ولا قياس صحيح .
    وقياسه على مشي مستديم الغصب ، وقياس نزع التائب على نزع المستديم من أفسد القياس وأبينه بطلانا ، ونحن لا ننكر كون الفعل الواحد يكون له وجهان ، ولكن إذا تحقق النهي عنه والأمر به أمكن اعتبار وجهيه ، فإن الشارع أمر بستر العورة ، ونهى عن لبس الحرير ، فهذا الساتر لها بالحرير قد ارتكب الأمرين ، فصار فعله ذا وجهين .
    وأما محل النزاع فلم يتحقق فيه النهي عن النزع ، والخروج عن الأرض المغصوبة من الشارع البتة ، لا بقوله ولا بمعقول قوله ، إلا باعتبار هذا الفرد بفرد آخر ، بينهما أشد تباين ، وأعظم فرق في الحس والعقل والفطرة والشرع .
    وأما إلحاق هذا الفرد بالعفو فإن أريد به أنه معفو له عن المؤاخذة به فصحيح ، وإن أريد أنه لا حكم لله فيه ، بل هو بمنزلة فعل البهيمة والنائم ، والناسي والمجنون فباطل ، إذ هؤلاء غير مخاطبين ، وهذا مخاطب بالنزع والخروج ، فظهر الفرق ، والله الموفق للصواب .
    فإن قيل : هذا يتأتى لكم فيما إذا لم يكن في المفارقة بنزع أو خروج مفسدة ، فما تصنعون فيما إذا تضمن مفسدة مثل مفسدة الإقامة ، كمن توسط جماعة جرحى لسلبهم ، فطرح نفسه على واحد ، إن أقام عليه قتله بثقله ، وإن انتقل عنه لم يجد بدا من انتقاله إلى مثله يقتله بثقله ، وقد عزم على التوبة ، فكيف تكون توبته ؟ .
    قيل : توبة مثل هذا بالتزام أخف المفسدتين ، من الإقامة على الذنب المعين أو الانتقال عنه ، فإن تساوت مفسدة الإقامة على الذنب ومفسدة الانتقال عنه من كل وجه فهذا يؤمر من التوبة بالمقدور له منها ، وهو الندم ، والعزم الجازم على ترك المعاودة ، وأما الإقلاع فقد تعذر في حقه إلا بالتزام مفسدة أخرى مثل مفسدته .
    فقيل : إنه لا حكم لله في هذه الحادثة ، لاستحالة ثبوت شيء من الأحكام الخمسة فيها ، إذ إقامته على الجريح تتضمن مفسدة قتله ، فلا يؤمر بها ، ولا هو مأذون له فيها ، وانتقاله عنه يتضمن مفسدة قتل الآخر ، فلا يؤمر بالانتقال ، ولا يؤذن له فيه ، فيتعذر الحكم في هذه الحادثة على هذا ، فتتعذر التوبة منها .
    والصواب أن التوبة غير متعذرة ، فإنه لا واقعة إلا ولله فيها حكم ، علمه من علمه وجهله من جهله .
    فيقال : حكم الله في هذه الواقعة كحكمه في الملجأ ، فإنه قد ألجئ قدرا إلى إتلاف أحد النفسين ولا بد ، والملجأ ليس له فعل يضاف إليه ، بل هو آلة ، فإذا صار هذا كالملجأ ، فحكمه أن لا يكون منه حركة ولا فعل ولا اختيار ، فلا يعدل من واحد إلى واحد ، بل يتخلى عن الحركة والاختيار ، ويستسلم استسلام من هو عليه من الجرحى ، إذ لا قدرة له على حركة مأذون له فيها البتة ، فحكمه الفناء عن الحركة والاختيار وشهود نفسه كالحجر الملقى على هذا الجريح ، ولا سيما إن كان قد ألقي عليه بغير اختياره ، فليس له أن يلقي نفسه على جاره لينجيه بقتله ، والقدر ألقاه على الأول ، فهو معذور به ، فإذا انتقل إلى الثاني انتقل بالاختيار والإرادة ، فهكذا إذا ألقى نفسه عليه باختياره ثم تاب وندم ، لا نأمره بإلقاء نفسه على جاره ، ليتخلص من الذنب بذنب مثله سواء .
    وتوبة مثل هذا إنما تتصور بالندم والعزم فقط ، لا بالإقلاع ، والإقلاع في حقه مستحيل ، فهو كمن أولج في فرج حرام ، ثم شد وربط في حال إيلاجه بحيث لا يمكنه النزع البتة ، فتوبته بالندم والعزم والتجافي بقلبه عن السكون إلى الاستدامة ، وكذلك توبة الأول بذلك ، وبالتجافي عن الإرادة والاختيار ، والله أعلم .
    فصل ومن أحكامها : أنها إذا كانت متضمنة لحق آدمي أن يخرج التائب إليه منه ، إما بأدائه وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به ، وإن كان حقا ماليا أو جناية على بدنه أو بدن موروثه ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض ، فليتحلله اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات .
    وإن كانت المظلمة بقدح فيه ، بغيبة أو قذف فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه ؟ أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه ، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا ، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه وإعتابه ؟
    على ثلاثة أقوال ، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف ، هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف ، والتحلل منه أم لا ؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم .
    والمعروف في مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، ومالك اشتراط الإعلام والتحلل ، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم .
    والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه .
    ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه ، لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره ، فلا بد من إعلام مستحقه به ، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره .
    واحتجوا بالحديث المذكور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : من كان لأخيه عنده مظلمة - من مال أو عرض - فليتحلله اليوم .
    قالوا : ولأن في هذه الجناية حقين : حقا لله ، وحقا للآدمي ، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه ، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .
    قالوا : ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه ، إن شاء اقتص وإن شاء عفا ، وكذلك توبة قاطع الطريق .
    والقول الآخر : أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه ، بل يكفي توبته بينه وبين الله ، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة ، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه ، وذكر محاسنه ، وقذفه بذكر عفته وإحصانه ، ويستغفر له بقدر ما اغتابه .
    وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية ، قدس الله روحه .

    واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة ، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما ، وقد كان مستريحا قبل سماعه ، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله ، وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه ، كما قال الشاعر :
    فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
    وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه ، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به .
    قالوا : وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل ، فلا يصفو له أبدا ، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف ، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب ، والتراحم والتعاطف والتحابب .
    قالوا : والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين :
    أحدهما : أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه ، فلا يجوز إخفاؤها عنه ، فإنه محض حقه ، فيجب عليه أداؤه إليه ، بخلاف الغيبة والقذف ، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط ، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس .
    والثاني : أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ، ولم تهج منه غضبا ولا عداوة ، بل ربما سره ذلك وفرح به ، بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا ، من أنواع القذف والغيبة والهجو ، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد ، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت ، والله أعلم .
    - فصل -
    ومن أحكامها : أن العبد إذا تاب من الذنب فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب ، أو لا يرجع إليها ؟ اختلف في ذلك .
    فقالت طائفة : يرجع إلى درجته ، لأن التوبة تجب الذنب بالكلية ، وتصيره كأن لم يكن ، والمقتضي لدرجته ما معه من الإيمان والعمل الصالح ، فعاد إليها بالتوبة .
    قالوا : لأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح ، فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته ، فحسنته بالتوبة رقته إليها ، وهذا كمن سقط في بئر ، وله صاحب شفيق ، أدلى إليه حبلا تمسك به حتى رقي منه إلى موضعه ، فهكذا التوبة والعمل الصالح مثل هذا القرين الصالح ، والأخ الشفيق .
    وقالت طائفة : لا يعود إلى درجته وحاله ، لأنه لم يكن في وقوف ، وإنما كان في صعود ، فبالذنب صار في نزول وهبوط ، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدا به للترقي .
    قالوا : ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرا واحدا ، ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه ، وصاحبه سائر ، فإذا استقال هذا رجوعه ووقفته ، وسار بإثر صاحبه لم يلحقه أبدا ، لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى .
    قالوا : والأول يسير بقوة أعماله وإيمانه ، وكلما ازداد سيرا ازدادت قوته ، وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع .
    وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يحكي هذا الخلاف ، ثم قال : والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته ، ومنهم من يعود إليها ، ومنهم من يعود إلى أعلى منها ، فيصير خيرا مما كان قبل الذنب ، وكان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة .
    قال : وهذا بحسب حال التائب بعد توبته ، وجده وعزمه ، وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرا مما كان وأعلى درجة ، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله ، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته ، وكان منحطا عنها ، وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة .
    ويتبين هذا بمثلين مضروبين :
    أحدهما : رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن ، فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ، ويستريح تارة وينام أخرى ، فبينا هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل ، وماء بارد ومقيل ، وروضة مزهرة ، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن ، فنزل عليها ، فوثب عليه منها عدو ، فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير ، فعاين الهلاك ، وظن أنه منقطع به ، وأنه رزق الوحوش والسباع ، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه ، فبينا هو على ذلك تتقاذفه الظنون ، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر ، فحل كتافه وقيوده ، وقال له : اركب الطريق واحذر هذا العدو ، فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد ، واعلم أنك ما دمت حاذرا منه ، متيقظا له لا يقدر عليك ، فإذا غفلت وثب عليك ، وأنا متقدمك إلى المنزل ، وفرط لك فاتبعني على الأثر .
    فإن كان هذا السائر كيسا فطنا لبيبا ، حاضر الذهن والعقل ، استقبل سيره استقبالا آخر ، أقوى من الأول وأتم ، واشتد حذره ، وتأهب لهذا العدو ، وأعد له عدته ، فكان سيره الثاني أقوى من الأول ، وخيرا منه ، ووصوله إلى المنزل أسرع ، وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول ، من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد ، عاد كما كان ، وهو معرض لما عرض له أولا .
    وإن أورثه ذلك توانيا في سيره وفتورا ، وتذكرا لطيب مقيله ، وحسن ذلك الروض وعذوبة مائه ، وتفيؤ ظلاله ، وسكونا بقلبه إليه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان .
    المثل الثاني : عبد في صحة وعافية جسم ، عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظا من التخليط ، ونقص بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته ، فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله ، كما قيل :
    لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
    وإن أوجب له ذلك المرض ضعفا في القوة ، وتداركه بمثل ما نقص من قوته ، عاد إلى مثل ما كان .
    وإن تداركه بدون ما نقص من قوته ، عاد إلى دون ما كان عليه من القوة .
    وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرهما .
    وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول ، لا يلوي على شيء في طريقه ، فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا ، يريد تعويقه عن الصلاة ، فله معه حالان :
    أحدهما : أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة ، فهذه حال غير التائب .
    الثاني : أن يجاذبه على نفسه ، ويتفلت منه ، لئلا تفوته الصلاة .
    ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال :
    أحدها : أن يكون سيره جمزا ووثبا ، ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة ، فربما استدركه وزاد عليه .
    الثاني : أن يعود إلى مثل سيره .
    الثالث : أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا ، فيفوته فضيلة الصف الأول ، أو فضيلة الجماعة وأول الوقت ، فهكذا حال التائبين السائرين سواء .
    فصل ويتبين هذا بمسألة شريفة ، وهي أنه هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحا ، أو هذا التائب أفضل منه ؟
    اختلف في ذلك .
    فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحا ، واحتجوا بوجوه :
    أحدها : أن أكمل الخلق وأفضلهم أطوعهم لله ، وهذا الذي لم يعص أطوع ، فيكون أفضل .
    الثاني : أن في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى فوق ، فتكون درجته أعلى من درجته ، وغايته أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه ، وذاك في سير آخر ، فأنى له بلحاقه ؟ فهما بمنزلة رجلين مشتركين في الكسب ، كلما كسب أحدهما شيئا كسب الآخر مثله ، فعمد أحدهما إلى كسبه فأضاعه ، وأمسك عن الكسب المستأنف ، والآخر مجد في الكسب ، فإذا أدركته حمية المنافسة ، وعاد إلى الكسب وجد صاحبه قد كسب في تلك المدة شيئا كثيرا ، فلا يكسب شيئا إلا كسب صاحبه نظيره ، فأنى له بمساواته ؟ .
    الثالث : أن غاية التوبة أن تمحو عن هذا سيئاته ، ويصير بمنزلة من لم يعملها ، فيكون سعيه في مدة المعصية لا له ولا عليه ، فأين هذا السعي من سعي من هو كاسب رابح ؟ .
    الرابع : أن الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره ، ففي مدة اشتغال هذا بالذنوب كان حظه المقت ، وحظ المطيع الرضا ، فالله لم يزل عنه راضيا ، ولا ريب أن هذا خير ممن كان الله راضيا عنه ثم مقته ، ثم رضي عنه ، فإن الرضا المستمر خير من الذي تخلله المقت .
    الخامس : أن الذنب بمنزلة شرب السم ، والتوبة ترياقه ودواؤه ، والطاعة هي الصحة والعافية ، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة تخللها مرض وشرب سم أفاق منه ، وربما أديا به إلى التلف أو المرض أبدا .
    السادس : أن العاصي على خطر شديد ، فإنه دائر بين ثلاثة أشياء ، أحدها : العطب والهلاك بشرب السم .
    الثاني : النقصان من القوة وضعفها إن سلم من الهلاك .
    والثالث : عود قوته إليه كما كانت أو خيرا منها بعيد .
    والأكثر إنما هو القسمان الأولان ، ولعل الثالث نادر جدا ، فهو على يقين من ضرر السم ، وعلى رجاء من حصول العافية ، بخلاف من لم يتناول ذلك .
    السابع : أن المطيع قد أحاط على بستان طاعته حائطا حصينا لا يجد الأعداء إليه سبيلا ، فثمرته وزهرته وخضرته وبهجته في زيادة ونمو أبدا ، والعاصي قد فتح فيه ثغرا ، وثلم فيه ثلمة ، ومكن منه السراق والأعداء ، فدخلوا فعاثوا فيه يمينا وشمالا ، أفسدوا أغصانه ، وخربوا حيطانه ، وقطعوا ثمراته ، وأحرقوا في نواحيه ، وقطعوا ماءه ، ونقصوا سقيه ، فمتى يرجع هذا إلى حاله الأول ؟ فإذا تداركه قيمه ولم شعثه ، وأصلح ما فسد منه ، وفتح طرق مائه ، وعمر ما خرب منه ، فإنه إما أن يعود كما كان ، أو أنقص ، أو خيرا ، ولكن لا يلحق بستان صاحبه الذي لم يزل على نضارته وحسنه ، بل في زيادة ونمو ، وتضاعف ثمرة ، وكثرة غرس .
    والثامن : أن طمع العدو في هذا العاصي إنما كان لضعف علمه وضعف عزيمته ، ولذلك يسمى جاهلا ، قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة ، وكذلك قال الله تعالى في حق آدم ولم نجد له عزما وقال في حق غيره فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وأما من قويت عزيمته ، وكمل علمه ، وقوي إيمانه لم يطمع فيه عدوه ، وكان أفضل .
    التاسع : أن المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئا ولا بد إما هلاكا كليا ، وإما خسرانا وعقابا يعقبه إما عفو ودخول الجنة ، وإما نقص درجة ، وإما خمود مصباح الإيمان ، وعمل التائب في رفع هذه الآثار والتكفير ، وعمل المطيع في الزيادة ، ورفع الدرجات .
    ولهذا كان قيام الليل نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فإنه يعمل في زيادة الدرجات ، وغيره يعمل في تكفير السيئات ، وأين هذا من هذا ؟ .
    العاشر : أن المقبل على الله المطيع له يسير بجملة أعماله ، وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم ، وهو بمنزلة من سافر فكسب عشرة أضعاف رأس ماله ، فسافر ثانيا برأس ماله الأول وكسبه ، فكسب عشرة أضعافه أيضا ، فسافر ثالثا أيضا بهذا المال كله ، وكان ربحه كذلك ، وهلم جرا ، فإذا فتر عن السفر في آخر أمره ، مرة واحدة ، فاته من الربح بقدر جميع ما ربح أو أكثر منه ، وهذا معنى قول الجنيد رحمه الله : لو أقبل صادق على الله ألف عام ثم أعرض عنه لحظة واحدة كان ما فاته أكثر مما ناله ، وهو صحيح بهذا المعنى ، فإنه قد فاته في مدة الإعراض ربح تلك الأعمال كلها ، وهو أزيد من الربح المتقدم ، فإذا كان هذا حال من أعرض ، فكيف من عصى وأذنب ؟ وفي هذا الوجه كفاية .
    فصل وطائفة رجحت التائب ، وإن لم تنكر كون الأول أكثر حسنات منه ، واحتجت بوجوه :
    أحدها : أن عبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله ، وأكرمها عليه ، فإنه سبحانه يحب التوابين ، ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه ، فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة ، وزيادة محبته لعبده ، فإن للتائبين عنده محبة خاصة ، يوضح ذلك :
    الوجه الثاني : أن للتوبة عنده سبحانه منزلة ليست لغيرها من الطاعات ، ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يقدر ، كما مثله النبي صلى الله عليه وسلم بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة ، بعد ما فقدها ، وأيس من أسباب الحياة ، ولم يجئ هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة ، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيرا عظيما في حال التائب وقلبه ، ومزيده لا يعبر عنه ، وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد ، فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية ، فيصير حبيبا لله ، فإن الله يحب التوابين ويحب العبد المفتن التواب ، ويوضحه :
    الوجه الثالث : أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار ، والخضوع ، والتملق لله ، والتذلل له ، ما هو أحب إليه من كثير من الأعمال الظاهرة ، وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة ، فإن الذل والانكسار روح العبودية ، ومخها ولبها ، يوضحه :
    الوجه الرابع : أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكمل منها لغيره ، فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر ، والعبودية ، والمحبة ، وامتاز عنه بانكسار قلبه كما في الأثر الإسرائيلي : يا رب أين أجدك ؟ قال : عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ، ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه .
    وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة : يا ابن آدم ، استطعمتك فلم تطعمني ، قال : يا رب ، كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، ابن آدم ، استسقيتك فلم تسقني ، قال : يا رب ، كيف أسقيك ، وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي ، ابن آدم ، مرضت فلم تعدني ، قال : يا رب ، كيف أعودك ، وأنت رب العالمين ؟ قال : أما إن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما لو عدته لوجدتني عنده فقال في عيادة المريض " لوجدتني عنده " وقال في الإطعام ، والإسقاء " لوجدت ذلك عندي " ففرق بينهما ، فإن المريض مكسور القلب ولو كان من كان ، فلا بد أن يكسره المرض فإذا كان مؤمنا قد انكسر قلبه بالمرض كان الله عنده .
    و هذا - والله أعلم - هو السر في استجابة دعوة الثلاثة : المظلوم ، والمسافر ، والصائم ، للكسرة التي في قلب كل واحد منهم ، فإن غربة المسافر وكسرته مما يجده العبد في نفسه ، وكذلك الصوم ، فإنه يكسر سورة النفس السبعية الحيوانية ، ويذلها .
    والقصد : أن شمعة الجبر والفضل والعطايا ، إنما تنزل في شمعدان الانكسار ، وللعاصي التائب من ذلك أوفر نصيب ، يوضحه :
    الوجه الخامس : أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات ، وهذا معنى قول بعض السلف : قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة ، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه ، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه ، فيحدث له انكسارا ، وتوبة ، واستغفارا ، وندما ، فيكون ذلك سبب نجاته ، ويعمل الحسنة ، فلا تزال نصب عينيه ، إن قام وإن قعد وإن مشى ، كلما ذكرها أورثته عجبا وكبرا ومنة ، فتكون سبب هلاكه ، فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات وحسنات ، ومعاملات قلبية ، من خوف الله والحياء منه ، والإطراق بين يديه منكسا رأسه خجلا ، باكيا نادما ، مستقيلا ربه ، وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة ، وكبرا ، وازدراء بالناس ، ورؤيتهم بعين الاحتقار ، ولا ريب أن هذا الذنب خير عند الله ، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته ، الصائل بها ، المان بها ، وبحاله على الله عز وجل وعباده ، وإن قال بلسانه خلاف ذلك ، فالله شهيد على ما في قلبه ، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه ويرفعوه ، ويخضعوا له ، ويجد في قلبه بغضة لمن لم يفعل به ذلك ، ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامنا ، ولهذا تراه عاتبا على من لم يعظمه ويعرف له حقه ، متطلبا لعيبه في قالب حمية لله ، وغضب له ، وإذا قام بمن يعظمه ويحترمه ، ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا فتح له باب المعاذير والرجاء ، وأغمض عنه عينه وسمعه ، وكف لسانه وقلبه ، وقال : باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود ، وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تكفر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه .
    فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به ، ويعرفه قدره ، ويكفي به عباده شره ، وينكس به رأسه ، ويستخرج به منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده ، فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة ، ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال ، كما قيل بلسان الحال في قصة آدم وخروجه من الجنة بذنبه :
    يا آدم ، لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك ، فقد استخرج بها منك داء لا يصلح أن تجاورنا به ، وألبست بها حلة العبودية .
    لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
    يا آدم ، إنما ابتليتك بالذنب لأني أحب أن أظهر فضلي ، وجودي وكرمي ، على من عصاني لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم .
    يا آدم ، كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك ، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك .
    يا آدم ، إذا عصمتك وعصمت بنيك من الذنوب ، فعلى من أجود بحلمي ؟ وعلى من أجود بعفوي ومغفرتي ، وتوبتي ، وأنا التواب الرحيم ؟ .
    يا آدم ، لا تجزع من قولي لك اخرج منها فلك خلقتها ، ولكن اهبط إلى دار المجاهدة ، وابذر بذر التقوى ، وأمطر عليك سحائب الجفون ، فإذا اشتد الحب واستغلظ ، واستوى على سوقه ، فتعال فاحصده .
    يا آدم ، ما أهبطتك من الجنة إلا لتتوسل إلي في الصعود ، وما أخرجتك منها نفيا لك عنها ، ما أخرجتك منها إلا لتعود .
    إن جرى بيننا وبينك عتب وتناءت منا ومنك الديار
    فالوداد الذي عهدت مقيم والعثار الذي أصبت جبار
    يا آدم ، ذنب تذل به لدينا ، أحب إلينا من طاعة تدل بها علينا .
    يا آدم ، أنين المذنبين ، أحب إلينا من تسبيح المدلين .
    " يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم ، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة " .
    يذكر عن بعض العباد أنه كان يسأل ربه في طوافه بالبيت أن يعصمه ثم غلبته عيناه فنام ، فسمع قائلا يقول : أنت تسألني العصمة ، وكل عبادي يسألونني العصمة ، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل وأجود بمغفرتي وعفوي ؟ وعلى من أتوب ؟ وأين كرمي وعفوي ومغفرتي وفضلي ؟ ونحو هذا من الكلام .
    يا ابن آدم ، إذا آمنت بي ولم تشرك بي شيئا ، أقمت حملة عرشي ومن حوله يسبحون بحمدي ويستغفرون لك وأنت على فراشك ، وفي الحديث العظيم الإلهي حديث أبي ذر يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا ، فمن علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .
    يا عبدي ! لا تعجز ، فمنك الدعاء وعلي الإجابة ، ومنك الاستغفار وعلي المغفرة ، ومنك التوبة وعلي تبديل سيئاتك حسنات " يوضحه :
    الوجه السادس : وهو قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح ، وهو حقيقة التوبة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت ، وفرحه بنزول إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
    واختلفوا في صفة هذا التبديل ، وهل هو في الدنيا ، أو في الآخرة ؟ على قولين :
    فقال ابن عباس وأصحابه : هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها ، فبدلهم بالشرك إيمانا ، وبالزنا عفة وإحصانا ، وبالكذب صدقا ، وبالخيانة أمانة .
    فعلى هذا معنى الآية أن صفاتهم القبيحة ، وأعمالهم السيئة ، بدلوا عوضها صفات جميلة ، وأعمالا صالحة ، كما يبدل المريض بالمرض صحة ، والمبتلى ببلائه عافية .
    وقال سعيد بن المسيب ، وغيره من التابعين : هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة ، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة .
    واحتج أصحاب هذا القول بما روى الترمذي في جامعه : حدثنا الحسين بن حريث قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار ، يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخبأ عنه كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا كذا وكذا ، وهو مقر لا ينكر ، وهو مشفق من كبارها ، فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة ، فيقول : إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا ، قال أبو ذر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه .
    فهذا حديث صحيح ، ولكن في الاستدلال به على صحة هذا القول نظر ، فإن هذا قد عذب بسيئاته ودخل بها النار ، ثم بعد ذلك أخرج منها ، وأعطي مكان كل سيئة حسنة ، صدقة تصدق الله بها عليه ابتداء بعدد ذنوبه ، وليس في هذا تبديل تلك الذنوب بحسنات ، إذ لو كان كذلك لما عوقب عليها كما لم يعاقب التائب ، والكلام إنما هو في تائب أثبت له مكان كل سيئة حسنة ، فزادت حسناته ، فأين في هذا الحديث ما يدل على ذلك ؟
    والناس استقبلوا هذا الحديث مستدلين به في تفسير هذه الآية على هذا القول ، وقد علمت ما فيه ، لكن للسلف غور ودقة فهم لا يدركها كثير من المتأخرين .
    فالاستدلال به صحيح ، بعد تمهيد قاعدة ، إذا عرفت عرف لطف الاستدلال به ودقته ، وهي أن الذنب لا بد له من أثر ، وأثره يرتفع بالتوبة تارة ، وبالحسنات الماحية تارة ، وبالمصائب المكفرة تارة ، وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة ، وكذلك إذا اشتد أثره ، ولم تقو تلك الأمور على محوه ، فلا بد إذا من دخول النار لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث ، ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه ، فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب أدخل كير الامتحان ، ليخلص ذهب إيمانه من خبثه ، فيصلح حينئذ لدار الملك .
    إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح ، وهي أقوى الأسباب ، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار ، فإذا تطهر بالنار ، وزال أثر الوسخ والخبث عنه ، أعطي مكان كل سيئة حسنة ، فإذا تطهر بالتوبة النصوح ، وزال عنها بها أثر وسخ الذنوب وخبثها ، كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة ، لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار ، وأحب إلى الله ، وإزالة النار بدل منها ، وهي الأصل ، فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول ، يوضحه :
    الوجه التاسع : وهو أن التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة ، إذ هو توبة تلك السيئة ، والندم توبة ، والتوبة من كل ذنب حسنة ، فصار كل ذنب عمله زائلا بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة ، فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار ، فتأمله فإنه من ألطف الوجوه .
    وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة ، وقد تكون دونها ، وقد تكون فوقها ، وهذا بحسب نصح هذه التوبة ، وصدق التائب فيها ، وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحته ونفعه على مفسدة تلك السيئة ، وهذا من أسرار مسائل التوبة ولطائفها ، يوضحه :
    الوجه العاشر : أن ذنب العارف بالله وبأمره قد يترتب عليه حسنات أكبر منه وأكثر ، وأعظم نفعا ، وأحب إلى الله من عصمته من ذلك الذنب من ذل وانكسار وخشية ، وإنابة وندم ، وتدارك بمراغمة العدو بحسنة أو حسنات أعظم منه ، حتى يقول الشيطان : يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه ، ويندم الشيطان على إيقاعه في الذنب ، كندامة فاعله على ارتكابه ، لكن شتان ما بين الندمين ، والله تعالى يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه ، كما تقدم أن هذا من العبودية من أسرار التوبة ، فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة والتدارك ، وحصول محبوب الله من التوبة ، وما يتبعها من زيادة الأعمال هنا ، ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة بل حسنات .
    وتأمل قوله : يبدل الله سيئاتهم حسنات ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل .
    وأما في الحديث فإن الذي عذب على ذنوبه لم يبدلها في الدنيا بحسنات من التوبة النصوح وتوابعها ، فلم يكن له ما يجعل مكان السيئة حسنات ، فأعطي مكان كل سيئة حسنة واحدة ، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن كبار ذنوبه ، ولما انتهى إليها ضحك ، ولم يبين ما يفعل الله بها ، وأخبر أن الله يبدل مكان كل صغيرة حسنة ، ولكن في الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذا التبديل يعم كبارها وصغارها من وجهين :
    أحدهما : قوله : أخبئوا عنه كبارها ، فهذا إشعار بأنه إذا رأى تبديل الصغائر ذكرها وطمع في تبديلها ، فيكون تبديلها أعظم موقعا عنده من تبديل الصغائر ، وهو به أشد فرحا واغتباطا .
    والثاني : ضحك النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر ذلك ، وهذا الضحك مشعر بالتعجب مما يفعل به من الإحسان ، وما يقر به على نفسه من الذنوب ، من غير أن يقرر عليها ولا يسأل عنها ، وإنما عرضت عليه الصغائر .
    فتبارك الله رب العالمين ، وأجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، البر اللطيف ، المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان ، وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم .
    فصل وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب ، وبالإقلاع عنه في الحال ، وبالندم عليه في الماضي ، وإن كان في حق آدمي فلا بد من أمر رابع ، وهو التحلل منه .
    وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها ، وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله - كما تتضمن ذلك - تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبا ، حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور ، والإتيان به ، هذا حقيقة التوبة ، وهي اسم لمجموع الأمرين ، لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه ، فإذا أفردت تضمنت الأمرين ، وهي كلفظة التقوى التي تقتضي عند إفرادها فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى الله عنه ، وتقتضي عند اقترانها بفعل المأمور الانتهاء عن المحظور .
    فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب ، وترك ما يكره ، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب ، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها ، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر ، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها ، فقال وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون فكل تائب مفلح ، ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه ، وقال تعالى ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون وتارك المأمور ظالم ، كما أن فاعل المحظور ظالم ، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين ، فالناس قسمان : تائب وظالم ليس إلا ، فالتائبون هم العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله فحفظ حدود الله جزء التوبة ، والتوبة هي مجموع هذه الأمور ، وإنما سمي تائبا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه ، وإلى طاعته من معصيته ، كما تقدم .
    فإذا التوبة هي حقيقة دين الإسلام ، والدين كله داخل في مسمى التوبة وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه .
    فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ويدخل في مسماها الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، وتتناول جميع المقامات ، ولهذا كانت غاية كل مؤمن ، وبداية الأمر وخاتمته ، كما تقدم ، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق ، والأمر والتوحيد جزء منها ، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها .
    وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها ، فضلا عن القيام بها علما وعملا وحالا ، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه .
    ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم ، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها . انتهى كلامه رحمه الله و غفر له .
    يا عباد الله توبوا فهو قصد التائبين
    أي مقصودهم ، و قد قاله أحمد شوقي بلفظ { فهو كهف التائبين } و هو كما قال شيخنا الحجوري { أحمد شوقي فاسق } .
    و الحمد لله رب العالمين .
    كتبه أبو حسان مروان العشيري المغربي
    ليلة الخميس 20 محرم 1433 للهجرة
    و الله و لي التوفيق .



  • #2
    جزاك الله خيرا وبارك فيك أخي أبا حسان على هذا الموضوع .

    تعليق

    يعمل...
    X